الثلاثاء، 15 يناير 2013

السيرة النبوية: الكرة في ملعبِنا الآن!

السيرة النبوية: الكرة في ملعبِنا الآن!

لم أُعجب بشخصيّة الرسول محمد مثلما أُعجبتُ بها بعد أن قرأتُ "كتاب الشخصية المحمدّية" لمعروف الرصافي (منشورات الجمل، ٢٠٠٢): 
كتابٌ يُخاطِب العقل غالباً، يحترمُه. يبدو محمد من خلاله إنساناً حسّاساً عاشقاً عبقريّاً، مُدهِشاً في مختلف أوجهِ حياته اليومية، جذّاباً في قلقهِ وانتصاراته، ضعفهِ وقوّتِه
يتركُ الكتابُ لدى القارئ إنطباعات معجَبةً بإنسانٍ استثنائي. بقائدٍ عسكريٍّ نادر غيّرَ مجرى التاريخ، قلّما تنجبُ الحياة رجلاً مثله ذا مشروع إنسانيٍّ هائل، عرف كيف يُحوّلهُ بمهارةٍ أسطوريّة إلى واقعٍ حيٍّ ملموس...

نسيتُ بفضل كتاب الرصافي أطلال ما ظلّ في ذاكرتي من كتاب "السيرة النبويّة لابن هشام" الذي درسناه في الصغر: كتابٌ عتيقٌ أُلِّفَ بعد حوالي قرنين من وفاة الرسول، دون أدنى استنادٍ إلى مراجع  تاريخيّة تستحقُّ الاعتماد. لم يمتلك مؤلِّفُه أدنى رغبة كما يبدو في احترام عقل القارئ، ناهيك عن أن الكتاب لم يُحلَّل أو يُنتقد بعدُ حتّى اليوم!

ثمّ عدتُ لقراءةِ كتاب ابن هشام مؤخّراً في ظلّ الجدلِ عن سيرة النبي محمد، الذي بدأ حديثاً في الغرب، وسيزداد بشدّة في الأيام القادمة، لأسبابٍ سأشرحُها بعد قليل.
لم أستطع أن أتقدّم في سيرة ابن هشام، بعد حوالي خمسة عشرة صفحة، لأني واجهتُ، فيما واجهتُ، قصصاً كثيرة أتركُ اثنتين منها، كنموذج صغير، دون تعليق:
القصة الأولى:
((قال ابن اسحاق: وحدّثني ثور بن يزيد عن بعض أهل العِلم، ولا أحسبه إلا خالد بن معدان الكلاعي، أن نفراً من أصحاب رسول الله قالوا له: اخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاء لها قصور الشام، واسترضعتُ في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعي بهما لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثيابٌ بيض بِطستٍ من ذهب مملوءة ثلجاً، ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقةً سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج فأنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمّته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألفٍ من أمّته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: دعهُ عنك، فوالله لو وزنته بأمّته لوزنها.))
القصة الثانية:
((قال ابن اسحاق: وحدّثني ابن حكيم مولى آل زبير أنه حدّث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي ياتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به.
فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني. قالت: قم يا بن عم، فاجلس على فخذي اليسرى. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها. قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فاتحول، فاجلس على فخذي اليمنى. فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى. قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فاتحول، فاجلس في حجري. فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها. قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها. قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: يا بن عم، اثبت وابشر، فوالله إنه لملَكٌ وما هذا بشيطان.))

ثمّة إشكاليّةٌ جوهريّة وضررٌ كبير في أن ترتبط شخصيّة الرسول محمد بقصصٍ كهذه لم تخضع للقراءة النقديّة التاريخيّة والتحليل والتمحيص والرفض المنهجيّ.
فمن مجموعِ مثل هذه القصص السيرياليّة أو الرديئة، التي تعجُّ بها أمهات كتب السيرة النبويّة التقليديّة ككتاب ابن هشام، استلهمَتْ مجموعةٌ من الرسّامين الكاريكاتوريين والمخرجين السينمائيين في الغرب مادتَها الخامّ الغنيّة
أضافتْ لها أحياناً توابل من السخريّة السوداء وجرعاتٍ من الكاريكاتورية الحامضة، قادت إلى ما حصل من إثارةٍ عنيفة لحساسيات بعض المسلمين، ومن حالات شغبٍ وتوتّرٍ واعتداءات ماديّة ودمويّة جسيمة.

من الملاحظ أن عدداً كبيراً من الغربيين لم يهتم بِبعض كتب تلك الرسومات الكاريكاتورية أو الأفلام الهزيلة، لِمسِّها المقدسَ بطريقةٍ متطرّفةٍ أحياناً، جارحةٍ لكثيرٍ من المسلمين في كلّ الأحوال.
بطبيعة الحال، ظلّ مسُّ المسيحيّة بنفس تلك الطريقة الكاريكاتورية أليفٌ جدّاً في غربِ حريّةِ التعبير وتراثِ قرن التنوير، لا يُثير امتعاض أحدٍ هناك تقريباً...

حدث شيءٌ جديدٌ مؤخّراً: عادت قصص سيرة كتاب ابن هشام، وغيره من أمّهات كتب السيرة النبويّة، إلى الجدل العام في فرنسا من منظورٍ آخر، لِتستقطب اهتمام الكثيرين هذه المرّة!...
إذ قامت مجلة شارلي إبدو الفرنسية مؤخّراً (في سلسلةٍ خاصّة بعنوان: حياة محمد. ظهر عددها الأوّل لِشهر ينايرـ فبراير 2013 بعنوان: بداية النبوة) بتحويلها إلى رسومات كاريكاتورية، دون إضافة أية سخريّةٍ جارحة أو تعليقٍ مشين، دون أية توابل، غير ما تنصّ عليه قصص كتبِنا التقليديّة.

انتشر العدد الأول بشكل ملحوظ في كل واجهات المكتبات الفرنسية، دون رفضٍ إسلاميٍّ يستحقُّ الذكر. ويُنتظَرُ أن تنتشر السلسلة بشكلٍ كبير يصعبُ مقاومتُه هذه المرة، أو تحجيمُ مفعولهِ وتأثيرهِ على القارئ الغربيّ الذي يرغب في التعرّفِ على شخصيّة الرسول محمد، والدين الإسلامي: ثاني ديانةٍ في فرنسا، وإن لم يعد للمسيحيّة في حياة المواطن الفرنسي موقعٌ محسوسٌ بسبب فصلِ الدّين عن الدولة...

النتيجة: رسوماتٌ كاريكاتوريّة لِشخصيّة الرسول محمد تصلُ لِمتناول الجميع في فرنسا، ومنها إلى الغرب لاحقاً، بِهدوءٍ مهنيٍّ هذه المرة، لِتنتشرَ في كل مكان
رسوماتٌ كاريكاتوريّة "حلال"، مثلما تقول المجلة، لأنها تُترجِمُ بكلِّ بساطة السيرةَ الرسميّة للرسول كما تسردُها كتبُنا ومراجعُنا التقليدية.

لعل الأوان قد آن لأن نرفض نحن أوّلاً كلَّ القصصِ الرديئة التي اعتدنا طوال قرون قراءتها من أمّهات كتبِنا، وترديدَها دون نقدٍ أو تمحيص، دون استخدام العقل
آن أوان أن نُقدِّمَ سِيَر أكثر عقلانية مثل كتاب الرصافي (الذي يبدو أنه مُحَاربٌ أو ممنوعٌ أحياناً) أو رواية حياة محمد، لمحمد حسين هيكل (وهو للتوضيح غير محمد حسنين هيكل) أو غيرها من الدراسات المُحمديّة المستندةِ على المناهج العلمية والتاريخية الحديثة.

 فقد صار جليّاً جدّاً، في عصر العولمةِ واختلاطِ الاقتصاد والثقافات، أنه "إذا لم تحلق شعركَ المملوء بالقمل، فثمّة من سيحلقهُ نيابةً عنك!"...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق