السبت، 14 ديسمبر 2013

رسالة إلى رائد “جمهورية الكوكب الأزرق”

رسالة إلى رائدجمهورية الكوكب الأزرق
حبيب سروري

عزيزي نيلسون مانديلا،
أكتب لك هذه الرسالة من مقهىً في مدينة هوشي منه (سايجون سابقاً)، أسمع فيه أغنيةً بموسيقى الراب بالفيتنامية، وأنا في طريقي لمؤتمرٍ علميٍّ في استراليا، قادماً من أسبانيا وبولندا.
حيثما أطبّ في هذا العالم أرى أمامي شباباً واعداً يحيى بنفس الوتيرة والإيقاع، يضع سمّاعات الآيبود في الأذن ويصغي لِنفس الموسيقى، يلبس بنطلوناته بنفس الطريقة، يقبع في نفس مقاعد المقاهي ويتناجى بنفس الكلمات، يفكِّر ويحلم بنفس المنوال، ويتعانق في أركان الشوارع بقُبلٍ عميقةٍ حميمية بنفس الطقوس والمنهجيّة...

أتساءل وأنا أرى هذه الوحدة الوجدانية لشباب الكوكب إن لن يأتي ذلك اليوم الذي سوف يعيشون فيه في جمهوريةٍ واحدة، متعددة الثقافات والأعراق اسمها: جمهورية الكوكب الأزرق، ينتهي فيها وإلى الأبد أسخف اختراعٍ بشريٍّ حديثٍ جدّاً ومقيتٍ جدّاً: الحدود الجغرافية، جوازات وتأشيرات السفر، وتفاهات بليدة كثيرة من نفس الطراز!...

لم تداهمني، في الحقيقة، يوماً رغبةٌ في كتابة رسالة لإنسانٍ لم تجمعني به علاقةٌ مباشرة إلا اليوم وأنا أقرأ على الآيفون، من داخل هذا المقهى، خبرَ خروجك المحمود من المستشفى بصحّةٍ أفضل، قبيل أسابيع فقط من استعداد شاشات سينما العالَم لِعرض فيلمٍ، في ٢٨ نوفمبر، يُصوِّر أحداث كتابِ سيرتك الذاتية الشاسعة مسيرةٌ طويلةٌ نحو الحريّة التي تسرد فيه حياة أهمِّ وأعظمِ عمالقةِ العصر الحديث، مؤسسِأمّة قوس قزح، نواةِجمهورية الكوكب الأزرق التي أحلم بها: ماديبا، قِبلتي في دِين الإنسانية، أنت!...

أعترف أني في لحظاتٍ سعيدة كهذه (نادرةٍ جدّاً، في الحقيقة) أتصوّرُ العالَم بعد ستّة قرون: وطناً واحداً يسكنه الإنسان الأعلى، إنسان نيتشه، في جمهوريةٍ واحدة أسمّيها جمهورية الكوكب الأزرق”.
تتعايش في هذه الجمهورية كل شعوب العالَم وتجمّعاته البشرية بتناغمٍ وتعاضدٍ ومساواة، تُنظّمها مؤسساتٌ دولية تستجيب لحاجات كل شعب بصدقٍ وعدلٍ خالص، حسب عباراتك، عزيزي نيلسون.

أمام باب مركزِ مراكز هذه المؤسسات يقبع تمثالٌ واحد، شامخٌ جدّاً: تمثالك...
لن يكون لك تمثالٌ آخر غيره، لكن لن يكون لأحدٍ في جمهورية الكوكب الأرزق تمثالٌ عداك، أو بحجم تمثالك على الأقل، في نفس ذلك الموقع...

لست أدري لماذا أعطي لرمزية هذا التمثال الشامخ الأوحد كلّ هذا الإهتمام الخاص. ربما لأني عندما طفت وعائلتي جنوب أفريقيا ، في صيف ٢٠٠٤، أثارتني هذه الرمزية وأعجبتُ بِحِذقها النادر: 
الحق أني بحثت طوال تلك الرحلة عن صورةٍ لك على جدران مدن جنوب أفريقيا ومؤسساتها، أو عن تمثالٍ صغير واحد. لكني لم أجد...
ثمّ في آخر يومٍ من الرحلة، إتّجهنا إلى حيّ كبار الأغنياء البيض وتجار الألماس، الذي كان ممنوعاً على السود بالطبع مجرّد الاقتراب منه، في منطقة محصّنة في جواهنسبورج.
 في المركز العصبي لذلك الحي ساحةٌ فيها أفخر المطاعم ومعارض السيّارات الأرستقراطية.
 في قلب هذه الساحة التي لم تطؤها قبل سقوط نظام التفرقة العنصرية (الأبارتايد) رِجلُ مواطنٍ أسود، يشرئب تمثالك الوحيد. كان شامخاً كما لم أر تمثالاً مثله، كان على مقاسك...
يكفي في عبقرية بلاغة صنّاع سقوط الأبارتايد تمثالٌ واحدٌ في كل جنوب أفريقيا يرمز لذلك السقوط النهائي، شريطة أن يكون شامخاً هائلاً، وفي قدس أقداس كعبة الأبارتايد!... بلاغةٌ فذّةٌ من طرازٍ جديد!...

يلزمني أن أقول، عزيزي ماديبا، إن تلك الرحلة إليك وإلى جنوب أفريقيا غيّرت طريقة رؤيتي للحياة، ولك الفضل في ذلك...
عندما أتذكّرها يعود لذهني حواران (نقلاني من القطب الشمالي للطبيعة الإنسانية، إلى القطب الجنوبي منها)
الأول مع صاحب فندق من بِيض جنوب أفريقيا (أفريكانير)، قبيل مغادرتنا الفندق... كان عنصريّاً بدرجةٍ لم أتخيلها. تحدّثَ معنا مُنبِّهاً من مخاطر السود، ناعتاً إيّاهم بعبارات تحت حيوانية، فريدةٍ في لاإنسانيّتها ونتانتها... 
كان حيواناً معتوهاً مريضاً في الجوهر. غادرناهُ والفندقَ غاضبِين متنرفزِين تماماً.

ثم كان الحوار الثاني بعد ذلك بيومٍ أو بيومين، مع شابّة سوداء تدخّن سيجارة في استراحةٍ قرب باب مدرسة.
سألتنا عن إنطباعاتنا عن بلدها، جنوب أفريقيا الساحرة. حكينا لها تفاصيل ذلك الحوار مع صاحب الفندق، ثم سألتُها ببراءة: “كيف تقبلون بقاء هؤلاء في بلدكم؟”.
نظرَتْ لي بشزر كما لو ارتكبتُ جرماً خطيراً لا يقلُّ عن جرم صاحب الفندق، قائلةً: هي بلدهم أيضاً!، مستطردةً بالحرف الواحد
نحن أسمى منهم أخلاقيّاً... أقصدُ من العنصريين بيضاً كانوا أو سوداً... إنتصرنا عليهم لأننا أرقى منهم أخلاقيّاً، لا غير!”...

لم تفارقني هذه العبارة التي أنت، عزيزي ماديبا، ملهمُها:كي تنتصر على خصمك يلزم أن تنتصر عليه أخلاقيّاً!”...

٢٧ عاماً من التأمل والتفكير في السجن قادتك لهذه الفلسفة الأخلاقية النبيلة الراقية، أنت الذي كنتَ يوماً إشتراكيّاً علميّاًمن هواة الكفاح المسلح!... اكتشفتَ خلال سنوات السجن الطويل، وأنت تراقب جلّاديك العنصريين بأعين ثاقبة، أنهم يرتجفون بصمت، وأن ما يحرّكهم  هو الخوف من الانتقام والسقوط المريع، لا غير. وأدركت أن هناك أملاً في أن تنهض الروح النبيلة كعنقاء، في أي إنسانٍ كان، شريطة أن تعزف أمامه موسيقى فاضلة تحوِّله إلى ثعبانٍ راقص
موسيقى المقاومة السلميّة والنضال الأرقى أخلاقيّاً!

٢٧ عاماً قادتك لأن تدرس تاريخ الأفريكانير ولغتهم كي تعلّمهم بها بعد ذلك دروساً في الديموقراطية والأخلاق والإنسانية؛ ولأن تقول للسود والبيض معاً في خطابٍ تاريخيٍّ شهير: “إرموا بأسلحتكم في البحر!”؛ ولأن تتوجّه يوماً إلى أرملة مؤسس القوانين العنصرية، لمصافحتها في مدينتها، معقل الأبارتايد والعنصريين التي لا يقطنها أسود واحد؛ ولِلبس فانيلا الفريق الوطني للروجبي (الذي يمقته كل السود في جنوب أفريقيا لأنه ممنوعٌ عليهم)، أمام مئات آلاف من جماهير البيض، مشجعيي ذلك الفريق، لتدوّي هذه الجماهير من البيض بلا وعي: “نيلسون، نيلسون...، ولِتنفجر فرحةُ السود بعد ذلك، في كل غيتو في جنوب أفريقيا، بفوز فريقٍ عنصريٍّ طالما كرهوه وحقدوا عليه؛ ولتبدأ هكذا صفحة جديدة من تاريخ بلدك!...

دروسٌ في الإنسانية لا تُنسى، شيّدتَ بفضلها مداميك أمّة قوس قزح، ومداميك حلمي الكبير: جمهورية الكوكب الأزرق!... 
ما أحوجنا، نحن العرب، للتأمّل في كلِّ ذلك!...

دروسٌ حضاريّةٌ في نبذ العنف غيّرتْ مجرى تفكيري أنا الذي ولدتُ في عدَن، وشاهدتُ فيها في صباي جموع الثائرينترقص محمومةً على إيقاع الثورة الثقافية الماوية، في ما كانت تسمّى الأيام السبع المجيدة في عام ١٩٧٢، وهي تغني مُحتفلةً بالعنف، لا شيء غير العنف
عادت الأرض بالقوة وبالانتفاضاتْ
عنف بالعنف لولا العنف الاقطاع ما ماتْ
ولولا بالعنف ما ماتت جميع الحثالاتْ
ولولا بالعنف ما العالم تفجّر بثورات!”...

مدينتي عدَن، عزيزي ماديبا، دفعت الثمن: نضبت دماؤها في حرب ١٣ يناير ١٩٨٦، ثم غزاها الظلاميون والقبائل الناهبة في حرب ١٩٩٤ ليلتهموا شرايينها القاحلة بحقدٍ ظلاميٍّ دفين، ليطيحوا بما بقى فيها من مدنيّة، وها هي اليوم تحتضر مثل اليمن عموماً.
أكتب لك هذه الكلمات وأنا أصغي في هذا المقهى في سايجون لأصداء نداءات المساجد اليمنية، تصلني من خلف البحار، تُحرِّضُ الناس على الحروب الطائفية المجنونة التي تدور الآن (وأنا أكتب هذه الرسالة!) بين الحوثيين والسلفيين في دمّاج...

 أتعرف، عزيزي ماديبا، أني تمنّيت قبل قليل وأنا أقرأ خبر خروجك من المستشفى أن تزور بلدي اليمن التي دمّرها العنف والظلامية! من يدري، لعل بركات روحك الإنسانية ومدد فكرك السامي ستخرجها من سكرة العنف والطائفية والجهل وحروب داحس والغبراء التي لا تنتهي فيها!...

كي تنتصر على خصمك يلزم أن تنتصر عليه بالثقافة والفن هي أيضاً من أهم دروس تجربة حياتك النضالية التي غيّرت مجرى رؤيتي للحياة.
تعلّمتُ ذلك الدّرس العظيم في يوليو ١٩٨٨، عندما توجّه كبار فناني العالم إلى ميدان ملعب ويملبي بلندن، ومعهم مئات الآلاف من الشباب الذين أتو من كل فجٍّ عميقٍ في أوربا للاحتفال غناءً خلال ١٢ ساعة متواصلة، بِعيد ميلادك السبعين وأنت في السجن، يُرافقهم أمام الشاشات مئات الملايين من البشر، في نفس اللحظة، من أقصى الأرض إلى أقصاها...
صلاةٌ جماعيّة واحدة اشترك فيها كل بشر الكوكب الأزرق، امتزج فيها الأمل بالفن بالحرية خلال ساعاتٍ إنسانيّةٍ لا مثيل لها، ردّدت فيها البشريّة بنفس الصوت أغنية: Free Nilson Mandela...
لعلّ الأبارتايد سقط في تلك الليلة إلى الأبد!

كنتُ منهم أعيش سكرة تلك الليلة الإنسانية الخالدة حتّى الفجر، أمام الشاشة. عشقتُ أوريثميكس وستينج منذ ذلك اليوم، وصارا قبلتين من قبلات وجداني الفنيّ، بنفس مقام من أعشقهم من الفنّانين العرب والفرنسيين!...

لعل حلم جمهورية الكوكب الأزرق راودني في تلك الليلة بالضبط، ليلة عيد ميلادك السبعين. ترعرع بعدها وترسّخ...

 لذلك أكتب لك اليوم ممتنّاً شاكراً، متمنيّاً لك بمفعولٍ رجعيٍّ مئة عيد ميلادٍ سعيدٍ آخر!...


الاثنين، 2 ديسمبر 2013

لنتعلم كيف نفرك "خاتم سليمان" العصر الحديث!


لنتعلم كيف نفرك "خاتم سليمان" العصر الحديث!

حبيب عبدالرب سروري

(كلمة مقدمة للقاء تيدكس عدَن، ١١ ديسمبر ٢٠١٣)

======
(( ملاحظة هامة: عندما طلب مني الأعزاء في فريق تيدكس عدَن إعداد كلمتي للقاء تيدكس عدن الأول (حول تجربة ذاتية ملهمة)، كتبتُ الكلمة التالية.

لكن عند أوّل بروفة مع المايسترو عمرو جمال، لاحظ أني ركيك في الحديث عن تجاربي الذاتية، فاتفقنا على إلغاء الحديث كلية عن الجانب الشخصي، وعن الوصايا الخمس المكتوبة هنا

كانت الكلمة (في صيغتها الأخيرة التي ألقيتها ارتجالاً) معرفية ثقافية بحتة. أي أن ثلثي ما مكتوب في هذا النص لم أقله شفويّاً، واستبدلته بمواضيع لن تعرفوها إلا عند سماع نص الكلمة في الفيديو الذي سيضعه على يوتوب فريق تيدكس عدن الرائع قريباً، أتمنى…

لم تكن تجربة تيدكس عدن عادية بالنسبة لي، لأنها ليست محاضرة علمية، بل أداء فني مسرحي إلى حدٍّ ما. 

ويعلم عمرو جمال كم أنا ركيك في الأداءات المسرحية، رغم أني أعشق المسرح بهوس، أقضّي أهم وأجمل ساعات الشهر في مسرح الكوميداء الفرنسية، وأعيش العام بانتظار شهر يوليو، شهر مهرجان أفينيون المسرحي!))
=======


في أحد دروس الفصل الأول من سنة ثانية جامعة (١٩٧٩) تحدث الأستاذ عن اجتماع عقدهُ بعض كبار علماء الكمبيوتر في ١٩٥٦ في ال M.I.T بغرض تأسيس علم "الذكاء الاصطناعي"، ورسم مشروع لجعل الكمبيتوتر في نهاية القرن العشرين يمتلك كل ذكاء الإنسان، بل يتجاوزه!...

قال أيضاً إنه يعتقد أن الكمبيوتر سيهزم الإنسان في الشطرنج بعد حوالي عشر سنوات!...

لم ينم صاحبنا تلك الليلة من فرط ذهوله. جذبه كل ذلك بعنف. وقرر ليلتها أن يكون تخصصه في السنوات القادمة: الذكاء الاصطناعي وعلوم الكمبيوتر (التي كانت حينها جزءاً من الرياضيات التطبيقية)!...

كان مشروع اجتماع العلماء في ال M.I.T طوباويا إلى حدٍّ ما: يصعب في أقل من نصف قرن فهم واختزال وتمثّل وتجاوز ملكات الدماغ الفكرية التي تشكلت خلال ملايين السنين من التطور البيولوجي.

صحيح أن كمبيوتر اليوم تجاوز الإنسان في بعض المجالات، لكننا ما زلنا بعيدين عن الموعد التاريخي الذي سيكتب فيه الكمبيوتر لوحده رواية أفضل من فيكتور هيجو، أو مسرحية أفضل من شكسبير. ليس لأنه لن يستطيع ذلك يوماً، بل لأن الأبحاث العلمية لم تستوعب بعد الطرق المعقدة جدّاً جدّاً لعمل الدماغ وإنتاجاته الإبداعية، كي يُمكن برمجتها وتحويلها إلى ملكات كمبيوترية أيضاً...

الأهم هنا والأكثر ارتباطا بحياتنا اليومية المعاصرة (بانتظار ذلك الموعد الجليل بعد قرون قليلة، ربما): اكتسح الكمبيوتر اليوم كل مجالات حياتنا، وصار أملنا في الخروج من تخلفنا وهاويتنا.

صار مثل استعارة "خاتم سليمان" في الفلكلور الشعبي: بمجرد فركه يخرج منه مارد لا نهائي المقدرات (تزداد قوته، مع ذلك، يوماً بعد يوم!) يقول: شبيك لبيك عبدك بين يديك!...

قبل الحديث عن مارد العصر، يلزم تلخيص تجربة صاحبنا من البدء، ليس بهدف أي سردٍ لسيرةٍ ذاتيّة بالطبع، ولكن لِنستخلص منها ما سيسمّيها: "الوصايا السرورية الخمس!" التي يودّ أن تكون مفيدة وملهمة في هذا اللقاء الأول في مدينتهِ عدَن، معشوقتنا الخالدة:

وصل صاحبنا فرنسا، قادماً من عدَن، في منحة فرنسية لدراسة الهندسة الكهربائية، في نهاية ١٩٧٦.

كل المنح الدراسية الجامعية (غير العليا) إلى فرنسا كانت علمية (هندسة غالباً) تتطلب بعد أول سنتين جامعيتين عمل ليسانس فيزياء.
كان ذلك يناسب المبعوثين اليمنيين لأن الرياضيات في فرنسا كانت رياضيات حديثة: بعبع الجميع، لا علاقة لها برياضيات اليمن. يهربون منها، والغالبية الساحقة منهم كانت تتعثّر وتعود لليمن بسببها
وكانت دفعة صاحبنا (عشرة طلاب، لم ينجح منهم ٨) هي آخر دفعة ترسل لفرنسا في دراسة جامعية غير عليا، بسبب محنة الرياضيات.

أحب صاحبنا الرياضيات من أول نظرة، وقرر من أول سنة جامعية أن يعمل بعد السنتين الأوليتين ليسانس رياضيات تطبيقية، دون الاكتراث بقرار الإلزام بعدم تغيير التخصص، المفروض من إدارة التربية بِعدَن، تحت حجة "التخطيط المركزي لمستقبل الكوادر"، الذي كان سيؤدي إلى عراقيل بيروقراطية قاضية!...


هذه الجرأة في حرية الاختيار لعبت دوراً أساسيّاً في حياته!

بفضل شغفهِ ارتبط صاحبنا بالرياضيات بعلاقة صوفيةعشقها كعلم، كفكر، كلغة، كفلسفة، كشِعر، كفن

ثمّ قضّى صاحبنا جزءاً كبيراً من سنة رابعة جامعة (قبل الماجستير والدكتوراه) يقارن بين كل مقررات الماجستيرات في فرنسا باحثاً عن حضنٍ جديد يغْني ويرفد بقوّة معارفه وتجربته العلمية.

وجدهُ!... قرر مغادرة مدينته، روان، وخوض الدراسة في ماجستير نخبويٍّ جدّاً في جامعة باريس ٦، رغم أنه كان يستطيع البقاء في جامعة روان، التي كان من مبرّزيها، لِعمل ماجستير مغرٍ جدّاً فيها ينسجم أكثر مع تجربته.


كان اختيارا شديد الإيجابية في حياته لأنه عمل الدكتوراه بعد ذلك بين جامعتين في باريس وروان، واستفاد بقوة من تلاقحهما وتكاملهما العلمي واندماج مختبريهما

أرسى بعد ذلك تدريجيّاً حاجة جديدة في مختبر جامعته الأولى لمهاراته الحديثة وفتح فيها تخصصات بحثية جديدة كان وحده الأقدر على قيادتها...

منذ أول سنة دكتوراه حصل على وظيفة مهندس أبحاث في علوم الكمبيوتر، في الجامعة. تفجّر في البحث العلمي بشكل كليّ. مرّ دكتورته في مارس ١٩٨٧:


تعيّن محاضراً في الجامعة بعدها مباشرة. نشر بعدها كتابه العلمي الأول:


de Common Lisp à la Programmation par objets 
الذي يُدرَّس في بعض تخصصات سنة رابعة.

وفي فترة قياسية (٤ سنوات فقط، لعلها لم تتكرر في فرنسا بعد ذلك، حتّى اليوم!) دافع عن الدكتوراه الثانية: "التأهيل لقيادة الأبحاث" (التي حضر لجنة الإشراف عليها علماء كبار من أمريكا، روسيا، جنوب وشرق فرنسا، تشيكوسلوفاكيا، باريس وروان):

صور الدفاع:

تقدم إلى مسابقات منصب بروفيسور في أربع جامعات فرنسية. جاء الأول في كلٍّ منها. اختار البقاء في جامعته التي كانت له فيها مشاريع وبرامج أبحاث وظروف أكاديمية مناسبة جداً...

هكذا، بعد أن وصل من عدَن وهو أمّي في الرياضيات الحديثة، صار، بعد حوالي ١٥ سنة فقط بروفيسورا (في عام ١٩٩٢ وعمره ٣٥ سنة) فيما لم يتحوّل بعض الفرنسيين الذين درّسوه في سنة أولى جامعة إلى بروفيسورات إلا بعده بعدة سنوات (ساهم في الإشراف على الدكتوراه الثانية لبعضهم)...

استمر بالطبع يواصل أعماله العلمية: التدريس الجامعي، البحث العلمي والإشراف على المشاريع والمؤتمرات العلمية والعديد من أبحاث الدكتوراه (بعض طلابه صاروا بروفيسورات في أكثر من بلد!)، وله حوالي ٩٥ مقالاً علميّاً في مجلات أو مؤتمرات علمية دولية:


عاد بعد ١٩٩٢، وحتى اليوم، إلى مزاولة نشاطٍ موازٍ للنشاط العلمي، ظلّ يعشقه بجنون منذ طفولته: الكتابة الأدبية.
كتب حتّى الآن عشرة أعمال أدبية وفكرية. منها ستّة روايات، طُبِعتْ إحداها بالفرنسية، والخمس الأخرى في أهم دور نشر بيروت:



بنفس مقدار عشقه لمغامرته العلمية، يعشق صاحبنا مغامرته الأدبية التي تحتاج لمحاضرة أخرى ليس محلّها هنا.
بعض كتبه يمكن تحميلها من موقعه الأدبي القديم:
http://abdulrab.free.fr
وبعضها من موقع جودريدس:
https://www.goodreads.com/author/show/4842687._
وبعضها (لاسيما التي طبعت في بيروت) لا يمكن العثور عليها إلا ورقيّاً بسبب الاتفاق مع دور النشر.


يعرف صاحبنا اليوم، من وحي تجربته العلمية، أن الخروج من هاوية تخلفنا الحضاريّ المتأبد لن يتأتى إلا إذا تناغمنا مع "الوصايا الخمس"، وتعلمنا كيف نفرك خاتم سليمان العصر الحديث: الكمبيوتر، ونطوِّع مارده!...

لهذا المارد جناحان جباران شاسعان (هما أهم ما اخترعه الإنسان بامتياز طوال تاريخه):

 ١) الجناح الأول: النص الرقمي متعدد الوسائط، وانتولوجيا معارفه.
النص الرقمي: هو النص الموجود على الكمبيوتر (كتب، محاضرات، مقالات، براءات اختراع، مدوّنات، تقارير خبراء، حوارات ونقاشات في الشبكات الاجتماعية… أكان نصّاً مكتوباً، مسموعاً، أم مرئيّاً). لهُ خصائص مدهشة منها: هو "هوائي" التواجد، يمكن ربطه بأي نص رقمي آخر في أي مكان في العالم عبر "روابط النصوص الفائقة"، hypertext. لا وزن له: يمكن وضع مليون كتاب في مفتاح U.S.B خفيف كقطعة نقدية دون أن يتغيّر وزنه!…

يستطيع الكمبيوتر أن يتعامل مع النص الرقمي المكتوب: ينطقه، يفهرس كلماته لموتورات الأبحاث، يترجمه (دون أن يعرف معناه!).

يلزم هنا التميز بين النص المطبوع على الكمبيوتر من ناحية، وصورة سكانير لِنصٍّ مطبوع أو مخطوط على ورق من ناحية ثانية: الثاني مجرد شخاطيط في أعين الكمبيوتر (يراه مثل قطة تشاهد صفحة من الإلياذة).
لذلك تمتلك كل لغة (عدا العربية حتّى الآن!) "متعرف ضوئي على الأحرف" يحول صورة السكانير إلى نص رقمي من النوع الأوّل.

مثال عبقري هام على النص الرقميموسوعة ويكيبيديا التي يشترك بشر المعمورة في كتابتها بشكل جماعي، والتي صارت بوابة المعارف الإنسانية اليوم.
حجم النص الرقمي يقاس اليوم بالزيتابايتات (الزيتابايت يساوي ألف مليون مليون مليون حرف. أي: ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ حرف! أكثر من عدد حبات رمل الكرة الأرضية!).
حجم النصوص الرقمية على إنترنت لعام ٢٠١٢ فقط يساوي ٢٫٨ زيتابايت
الأرهب: يتضاعف حجم النص الرقمي كل عامين. أي أنه يكبر بشكل "أُسِّيٍّ"، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات تتجاوز كل الحدود. 
يتوقّع أن يصل حجم نصوص عام ٢٠٢٠ إلى خمسين زيتابايت، أي: ٧٥ عدد حبّات رمل الكرة الأرضية!...

يطبع الناس (أو الكمبيوتر نفسه) هذه النصوص الرقمية مباشرة، أو يحوِّلون إليها الكتب التي طبعت قبل ولادة عصر النص الرقمي، وكذلك المخطوطات القديمة في المتاحف والمكاتب...

أصبح النص الرقمي اليوم كنز البشرية، ذهبها الأسود. 
شفطهُ من كل مكان في العالم وبكل اللغات، ونسخهُ وأرشفتهُ محليّاً يوماً بعد يوم، يمثّل أحد أكبر مشاريع الدول المتطورة: Big Data
الهدف: استخلاص المعارف والمعلومات منه بشكل أوتوماتيكي، لأن من يسيطر عليهما سيسيطر على المستقبل!

أنتولوجيا المعرفة: هي نمذجة كمبيوترية للمفاهيم في أي مجال أو موضوع، بِبُنيةٍ تعطيها معنى دقيقاً يمكن أن يتعامل معه الكمبيوتر.
هدفها الجبار: استيعاب الكمبيوتر لمعاني النصوص، لتحليلها ومعالجتها أتوماتيكيّاً!

DbPedia :مثال لأنتولوجيا معارف موسوعة ويكيبيديا 
:يستخدمها الكمبيوتر كبوابة لمعالجة المعارف اتوماتيكيا




٢) الجناح الثاني: التطبيقات والبرمجيات في كل مجالات الحياة 
تشمل هذه التطبيقات والبرمجيات كل مجالات العلم والحياة، من ال G.P.S (المرتبط بالسفن الفضائية) على الهاتف المحمول والذي يقودك إلى العنوان الذي تريده في أي مكان جغرافي في الغرب، وحتّى تطبيقات وبرمجيات في كل مجالات الحياة اليومية...

مثال شديد الأهمية: موتور بحث جوجول: تطبيق تُقدِّم له مجموعة كلمات، لِيحضرَ لك روابط كل نصوص الدنيا التي تحتوي على هذه الكلمات!...

الخطوة القادمة: جوجول المستقبل سيفهم معنى الكلمات ويجيب عليه
مثال: عندما تقدّم لجوجول اليوم هذه الكلمات: "ما هي الأماكن الجغرافية في العالم التي لها أسماء رومانسية؟": 
سيتلو لك (بشكل مثير جدّاً للخيبة) النصوص التي تحتوي على هذه الكلمات، دون الرد على مدلول السؤال
لكن جوجول الغد سيرد أيضاً بقائمة طويلة مثل
ساحل العشاق (عدَن)، جامع النهدين (صنعاء)، وادي الحب (تركيا)...

بالإمكان أيضاً أن تطلب منه مستقبلاً "الأماكن الجغرافية التي لها أسماء مضحكة" (السؤال هنا أكثر تعقيدا لأن كلمة "مضحكة" ترتبط أكثر بالسياق: اللغة، مزاج وثقافة كل شخص على حدة... هناك مثلاً نهر روماني: "بروت" لن يُضحك اسمه إلا الأطفال الفرنسيين فقط٬ لأنه يعني بالفرنسية: "ضراط"!)


طبعاً، فرك خاتم سليمان اليوم يختلف عن فرك خاتم سليمان الأساطير. الأول يعني: إجادة لغة التخاطب مع الكمبيوتر، تطبيقاته، شبكاته...
من يمتلك هذه المقدرة اليوم يستطيع أن يطير على جناح مارد الحضارة الحديثة، لِيحقق مشاريعه وأحلامه...

أستطيع أن أؤكّد لكم: نحن في عالمٍ جديد. البقاء فيه لم يعد للأغنى. لم يعد للأذكى أيضاً (لسوء الحظ). 
بل صار بكل بساطة: لمن يجيد السيطرة على المعارف الرقمية، لمن يجيد فرك الخاتم!...

الأهم جدّاً: بالنسبة لدولنا العربية وواقعنا اليمني المتخلف، لاسيّما بالنسبة لعدَن المنكوبة منذ حرب ١٩٩٤، بإمكان هذا الخاتم أن يكون اليوم طوق النجاة المنقذ من الهاوية التي نهرول فيها
لأن الجناحين ملك أي إنسان، في أي بلد، شريطة أن يجيد فرك الخاتم!...

الحق أن الحضارة الحديثة وفّرت مجاناً لكل بشر المعمورة، بشكل ديموقراطي، النصوص الرقميّة ومعارفها والتطبيقات والبرمجيات: ويكيبيديا، دروس الجامعات، برامج تمثّل التجارب العلمية، التواصل بالمراسلة الإلكترونية والحديث المرئي...

لذلك يحتاج سكان الدول المتخلفة والنامية الاستفادة منها بشكل مضاعف، وبمثابرة أكبر، لردم هوة التخلف، واللحاق بالحضارة.

إذ يمكن لأي طالب في أي قرية نائية (طور الباحة مثلاً!) أن يُحمِّل على كمبيوتره كل برمجيات لغة جافا وتطبيقاتها الخاصّة بإنترنت، مثله مثل أي طالب أو شركة غربية، ويُصمِّم ويُنفِّذ بها مشاريعه العلمية والتكنولوجية الخاصّة!

سيتطلب منه ذلك بالطبع أن يستوعب بشكل شخصي دروساً سيجدها على إنترنت، لا تُدرَّس في اليمن... 
ليس ذلك سهلاً بالطبع، لكنه إن نجح وبرّز وجدّد، سوف يستطيع أن يكون مرموقاً جدّاً في سوق العمل المحلي أو العالمي!...

خاتم سليمان العصر الحديث إذن فرصةُ عمرِنا للنجاة من مأساة حياتنا وتخلفنا.

بواسطة طوقه بإمكاننا دراسة الآخر، ثقافته، تاريخه، كيف يفكر وكيف خرج من تخلفه. مشاريعه القادمة. بإمكاننا أن نتفاعل معه كَنَدٍّ وليس كظل… 
لن نعرف أنفسنا، في الحقيقة، إلا عبر التعرّف على الآخر، التفاعل والتلاقح معه بكل الوسائل، وليس عبر الدوران الخذروفي حول ذواتنا المترنّحة.
كل الذين هزموا تخلّفَهم قبلنا ودخلوا الحضارة، كاليابان والصين وعددٍ هامٍّ آخر من الدول، استطاعوا ذلك لأنّهم درسوا الآخر وترجموه، وعرفوا وطوّروا أنفسهم من هذه الزاوية.

لذلك ستكون الوصية الأولى: إعرف الآخر، تعرف نفسك!…
نحن في الحقيقة بأمسّ الحاجة إلى ثورة ثقافية تغيّر أسس رؤيتنا للحياة يكون مفتاحها هذه الوصيّة!…

بواسطة طوق النجاة العصري الذي أتاحته لنا الحضارة الحديثة يمكننا مثلاً دراسة اللغات الأجنبية، عبر تطبيقات تعلّمِها أو من خلال مشاهدة أفلامها على إنترنت والقراءة الدائمة والترجمة الآلية لنصوصها أحياناً.

بإمكاننا النهل اليومي من حوض المعرفة الممتد إلى ما لانهاية: النصوص والموسوعات الرقمية، الكتب والمقالات العلمية المتخصصة، الأفلام والمحاضرات المرئيّة... 

بإمكاننا تحميل وتجريب التطبيقات التكنولوجية وامتلاك الحد المعرفي الأدنى، الضروري لإنسان القرن الواحد والعشرين، من الثقافة والخبرة الإلكترونية التي بدونها لن يستطيع فك شفرة خاتم سليمان العصر الحديث وفركه

الأهم: بإمكاننا أن نستغلّ كل ذلك كحوض، كمادة خامّة، نبتكر بواسطتها حلول جديدة لمعضلات وهموم حياتنا، للتنمية والتطور الاقتصادي والثقافي، للإنسانية 
يتطلب ذلك أن نقطع الصلة بثقافة الاكتفاء بالطبخات المستوردة والنقل، ونستبدلها بثقافة خلق الطبخات المحليّة الطازجة بالمواد البلديّة، ثقافة الإبداع والابتكار المتجددين على الدوام 

لن يتأتى ذلك لسوء حظنا إلا بشبكة متعاضدة من الجهود الذاتية لا غير: ليس هناك أمل في مشروع نهضةٍ يخرج من قبعة واقع الفساد السياسي المستشري في اليمن وبؤس التعليم فيه.

ليكن ملهمنا في ذلك الفيلم الإيطالي "بادر بادرون" ("الأب الراعي"، من إخراج الأخوين تافياني، نال جائزة كان في ١٩٧٧) الذي شاهده صاحبنا بعد سنةٍ من وصولهِ إلى فرنسا، تأثر به كثيرا، والذي يحكي قصّةً حقيقيّة!

بطله، جافيانو ليدا، كان أميّاً حتى الواحدة والعشرين من العمر، يعيش في ريف جزيرة ساردينيا الإيطالية، عبداً تحت سطوة أبيه الظالم الذي منعه من الدراسة الابتدائية بعد شهرين فقط، وأجبره على العمل معه كراعي بمعزل عن العالم...

بجهودٍ ذاتيه جبّارة تحرّر الشاب من أميّته أثناء الخدمة العسكرية، وأصبح أستاذاً جامعيّاً في إيطاليا وهو في الأربعين!...

خلاصة القول: ثمّة دوماً طوق نجاة لمن يصمِّم على اللحاق بالحضارة. وخاتم سليمان العصر الحديث هو الملاذ الأخير لمن فاته قطارها!

=======

الوصايا السرورية الخمس!

الوصية ١: إعرفْ الآخر، تعرف نفسك!

الوصية ٢: لتكن خطوتك الأولى في طريق الألف كيلومتر: أن تختار بحريّة ما تصبو لممارسته دراسيّاً وفكريّاً ومهنيّاً، وأن لا تسمح لأحد بأن يعترض خياراتك.

الوصية ٣: سافر وتفاعل وتلاقح بشدّة مع الآخر، لا تتقوقع فتتخثر... 
وإذا لم تعد "أرض الله واسعة" بسبب ظروف وتأشيرات جوازات هذه الأيام، فهناك السفر من نافذة التكنولوجيا الحديثة!

الوصية ٤الشغف الذي لا يتوقف هو جذر الإبداع. والانفتاح والتجديد المستمر هما نسغ العطاء المثمر!


الوصية ٥: العقل، العلم، والسيطرة على التكنولوجيا هم طوق نجاتنا، هم "خاتم سليمان العصر الحديث"، هم الحل!