الاثنين، 28 فبراير 2011

دفاعاً عن مُعمّر القذافي!

دفاعاً عن مُعمّر القذافي!

حبيب عبدالرب سروري

اعترف منذ البدء أني لا أكنُّ عشقاً خاصّاً لِملِك ملوك أفريقيا، الذي اعتبره في الحقيقة صعلوكَ صعاليك الكرة الأرضية!...

لم أتلكأ في الحقيقة، منذ أن بدأتُ الكتابة، عن التعبير عن مقتٍ جذريٍّ لِمعظم القادة العرب الذي احتلَّ القذافي موقعاً متميّزاً فريداً في طليعتهم.

لعله كان وحيدَهم الذي تمنيتُ في قرارة نفسي، وقبلتُ ولو على مضض، أن يرحل عن السلطة قبيل علي عبدالله صالح (بلطجيّ بلاطجة رؤساء العرب بامتياز) الذي تعلمُ اليمن كم جوّعها ونهبها ودمّرها وأوصلها لحضيض التخلف والتشظّي والانهيار!...

بعد هذه المقدمة التي تبرئُ عنوان مداخلتي من كل شبهة، أقول إن طيفَ سقوط معمر القذافي (الذي ربطتني به في أواخر التسعينات من القرن المنصرم علاقةٌ حميميةٌ خاصةٌ جدّاً، سأتحدث عنها بعد قليل!) راود دماغي منذ أن بدأتْ جماهير الثورة العربية المعاصرة تُردِّدُ كلّ يوم أقدس وأنصع الآيات: «ارحل»، «الشعب يريد إسقاط النظام»...

(2)

يلزمني أن أقول أوّلاً إني، مثل كلِّ من فقد الأمل بثورةٍ عربية تنقلُ شعوبنا المهانة من عوالم الظلمات والاستبداد إلى عوالم الحريّة والعقل ومواكبة العصر، انتقلتُ من دهشةٍ لدهشةٍ أكبر، مع تقدُّمِ يوميات الثورة العربية:

عشتُ أوّلاً مخاض ولادةٍ جديدة حال هروبِ بن علي وانتصار الشعب التونسي. استيقظتْ حينها في دماغي أحلامٌ أمستْ لا تتجرأ حتى مراودتي في المنام!...

ثمّ جاءت ثورة مصر لأحيى ولادةً ثانيةً جبّارةً فعلاً!... يكفي أن أتذكّرَ تفاصيل كيف عشتُ عن بُعْد يوميّات ميدان التحرير، ثمّ كيف قضّيتُ دقيقةً دقيقة مساء خطاب حسني مبارك الأخير حتّى اللحظة الإلهية في عصر جمعة الرحيل، وكيف لم استطع أن أمتلك نفسي من فرط السعادة حال تنحّي الرئيس المخلوع... يكفي أن أستعيد هذا الشريط لأستوعب أخيراً ما تُمثِّلهُ بالنسبة لي مصرُ، «أمّنا التي عادت إلينا» كما يقول سعدي يوسف، ولأدركَ كم أعشقها عشقاً فريداً لا حدّ له!...

ثمّ ما إن رحل بن علي واقترب موعدُ سقوطِ حسني مبارك حتى تذكّرتُ علاقتي الخاصةّ جدّاً، في التسعينات من القرن المنصرم، بالقذافي الذي كنت أتوجّه نحوه ساعةً كلّ مساء لأغادر يوم العمل الجامعي نحو عالَمٍ أكثر فانتيزية، يختلطُ فيه الواقع بالخيال!...

لأشهر طويلة في أواخر التسعينات كنتُ في الحقيقة أواظبُ كلّ ليلةٍ على مشاهدة القناة الليبية لمدةٍ تقتربُ من الساعة أحياناً: ساعتي السيريالية، كما كنتُ أسمّيها!...

كانت خاتميَ السليماني الذي بمجرّد أن أفركه أرحل بلمحة البرق إلى كوكبٍ بعيد ينسيني كل مشاغل والتزامات الحياة العملية واليومية!...

أحطُّ على ذلك الكوكبٍ الفنتازيّ حالما أسمع مثلاً محاضرةً للقذافي يشرح فيها للملأ أن أمريكا ستنقرض بعد خمس سنوات لأن قبائل تكساس ستتحالف مع قبائل كاليفورنيا للقضاء على قبائل نيويورك، ثمّ ستتقاتل فيما بينها وتدمّر نفسها؛

أو عندما أسمعه يُقسِّمُ تاريخ البشرية إلى ثلاثة عصور: عصر حضارة الصفر (الصين)، ثم عصر حضارة البيض (الغرب)، قبل عصر حضارة السود الذي بدأ أخيراً، لأن الكتاب الأخضر قال: «السود ستسود»!... أراقبُ ببهجةٍ ماكرة ساحةَ المحاضرة وهي تدوي بتصفيقٍ محموم حال استدلالهِ بآية الكتاب الأخضر المفحمة؛

أو عندما أسمع المذيع في القناة الليبية يتلو في النشرة المسائية أخباراً عن أمجاد رواية العقيد-الروائي: «الأرض الأرض، القرية القرية، وانتحار رائد الفضاء»... (أتساءل: إلهي، ماذا تبقّى لنا؟ ماذا تبقّى لنا؟... حتّى الرواية صارت مملكته أيضاً!)...

تحوّلَتْ علاقتي الساخرة بالقذافي سريعاً إلى قرفٍ وقهر وأنا أرى عبر شاشة القناة الليبية كيف تُهدَرُ أموالُ ليبيا بمشاريع عملاقة فاشلة: عشرات مليارات الدولارات تبدّدتْ مثلاً في مشروعٍ اعتبرَهُ الخبراءُ الدوليّون من أفشل وأسخف المشاريع الدوليّة: «النهر الصناعيّ العظيم» الذي خامر نزوات القذافي ذات ليلةٍ قارسةِ الهوَس، لِمجرد أنه لا يمكن أن «يوجد شعبٌ عظيم بدون نهرٍ عظيم» حسب قناعاته المسكونة بأشباح جنون العظمة!...

ثمّ تحوّلَتْ علاقتي المقهورة بالقذافي إلى معينِ أسىً خالص وأنا أشاهد كيف يسحق هذا الطاغية جسدَ وروحَ المواطن الليبي ويحوِّله إلى أداة تصفيقٍ لرجلٍ مزركشٍ بالأمراض، يزيده مرُّ السنين بطشاً وجنوناً ونرجسيّةً وأوهاما...

توقّفتُ بعد أشهر عن مشاهدة قناة القذافي لأنها صارت تثير أعصابي وغثياني: لم تعد تلك الساعة السيريالية الأثيرة إجازةً عابثة أو لحظةَ بهجةٍ ماكرة بقدر ما أمست بؤرة قرفٍ وغضبٍ وتوتّرٍ وأحزان!...

ثمّ نجحتُ بشكلٍ لا بأس به، خلال أكثر من عقدٍ من الزمان، أن أنسى ظاهرةَ القذافي وهلوساته الفريدة، حتّى جاءت صرخةُ من ضحّى بروحه في صليب الحريّة لنحيا، قديس العرب الأمجد محمد أبو عزيزي، التي أيقظتْ أمّةً عربيةً كنتُ اعتقد أنها خرجت من التاريخ وقُرِّر لها أن تظلّ خارج عصر العقل والحريّة إلى أبد الآبدين...

سقط جدار الخوف.

هرب بن علي.

تهاوى حسني مبارك.

انفتح باب الحلم على مصراعيه...

(3)

كنتُ في القطار الذي يغادرُ باريس نحو الجنوب عندما كان القذافي يلقي خطابه الأخير، أصغي له على شاشةِ جهاز الآيباد، من قناة الجزيرة... تنسابُ من نافذة عربة القطار على يساري مناظر شتائية بديعةٌ صماء صامتة...

كان تنافرُ ضجيجِ خطاب القذافي مع المناظر التي تنزلق أمامي حادّاً جدّاً: على الشاشة رجلٌ سيكوباتيٌّ نرجسيّ، يردّد أنه المجد، وأنه يقود ليبيا التي تقود كلَّ القارات...

السيّدة التي كانت تواجهني في القطار (التي ربما سمعَتْ ذات يوم أن هناك بهلواناً اسمه القذافي!) كانت تستغرب وهي تراني أحملق بالشاشة متوتراً مرتبكاً، لاسيما أثناء المرور بنفق تحت أرضيّ يحرمني من سماعِ بعضِ كلمات الخطاب...

أمامي إنسانٌ جبانٌ خائف، يرتجف وهو يستجدي «من يحبون القذافي»، كما قال، بالخروج للزحف العظيم، يهدِّدُ شعبَهُ بتنظيف ليبيا «دار دار، بيت بيت، زنجة زنجة» (حوّلَ شبابُ إنترنت، الذي يجيدُ مواجهةَ هذيانِ الطاغية بالتهكّمِ والاستهزاء، هذه الكلمات إلى عنوان أغنيةٍ يوتوبيّةٍ ساخرة!)...

هذا الرجل، الذي طالما سمعتهُ يتكلّمُ ببرودةٍ تثير القرف دون إكمال عباراته غالباً، يرتعشُ الآن أمامي، تتزاحمُ عباراته، يُلخبِط، يُذكِّرُ أنه ليس رئيساً «ولا يمتلك أية صلاحيات!»، يقول إن عدد المتمرّدين «واحد على مليون من الشعب الليبي» (أي ثمانية أشخاص تقريباً!)، إن عدد حافظي القرآن مليون ليبي... (رثيتُ أوجاع «نظريّة الأرقام» وأنا أصغي له!...)

ملكُ ملوك أفريقيا عارٍ تماماً، يرتعشُ كدجاجة تشمُّ رائحة السكين!...

شعرتُ نحوه بشفقةٍ مداهمةٍ لا أستطيع وصفها!...

الطاغوت يرتجفُ أمامي، يتصنّعُ القوّةَ والثقةَ بالنفس والشجاعة. لكن نبراته وحركاته وإيقاع صراخه كانت تخدعه تماماً لتبرهن عكس ذلك!... شعرتُ حقّاً برأفةٍ عميقة بهذا الرجل رغم كل جرائمه الصمّاء، رغم وحشيّته ودمويّته!...

(4)

كنت قبل ذلك بيوم قد دافعتُ عن معمّر القذافي عندما أفتى الشيخ القرضاوي على قناة الجزيرة بقتله!... شعرتُ حينها بالتقزز حالما سمعتُ حضرةَ الشيخ يفتي بذلك بكلِّ برودة!...

شرحتُ مشاعري في نقاشٍ تفجّر مباشرةً بعد ذلك في قائمة عناوينٍ إلكترونية أساهم فيها. كتبتُ حينها بشكلٍ مباشر:

(حتى وإن كان القذافي صعلوك صعاليك الكرة الأرضية فإن قتلَهُ جريمة...

لا نريد أن نسلك نفس سلوك الطاغية البشع في القتل...

تكفي محاكمةٌ عادلةٌ!...

ناهيك أنه بفضل تلك المحاكمة (التي أتمناها بضراوةٍ أيضاً لعلي عبدالله صالح، لحسني مبارك، وبن علي) ستصيرُ «السلطة مغرم وليست مغنم» العبارة الوحيدة الصادقة التي سيكون قد قالها علي صالح خلال 33 سنة من الكذب والنهب وصناعة الخراب والتخلف!...)

دار بعد ذلك جدلٌ في قائمتنا الالكترونية مفاده أن قتل القذافي سيوفّر أكثر من حياة...

كان ردّي المباشر:

(لا أظن أن قتله سيوفّر حيوات أكثر مما سيوفره القبض عليه...

نحن بحاجة إلى تقديم نموذجٍ لِسلوكٍ إنسانيٍّ يبدو فيه القتل خطّاً أحمر، أيّاً كان المجرم!...

مفهومُ الانتقام البدائي والقصاص ليس فقط مفهوماً همجيّاً، لكنه سيريحُ الجلّادَ بشكلٍ أو بآخر، وسيحرمُ الضحيّةَ من وأدٍ ضروريٍّ، مفيدٍ نفسيّاً، لا يخلو من أناقةٍ أيضاً، لجراحهِ وأوجاعهِ ومآتمهِ اللانهائية...

سجنُ القذافي في نفس الجحور التي بناها لمعارضيه (الذي يسميهم «جرذاناً»)، ومحاكمته طويلا على كل نفسٍ قتلها أو عذّبها، حلٌّ أحمدُ وأنسبُ وأفضلُ في رأيي من رصاصات القرضاوي، لاسيّما للضحيّة التي سترى جلّاداً كالقذافي، مصاباً بمرض جنون العظمة، «يتجرجر» يوماً بعد يوم، عارياً إلا من أربعة قرونٍ من أبشع الجرائم!...

ثمّ إنّ مسّ حياة البشر وتقريرَ مصائرهم بفتاوٍ لِرجال دين، من داخل قناةٍ رائعةٍ كالجزيرة، مهزلةٌ في رأيي، لا محلّ لها اليوم من الأعراب:

الشيخ القرضاوي يبدو كمن جاء من القرن السادس الميلادي ليتسلل قرب الهدف في مباراة كرة قدم تدور في القرن الواحد والعشرين!...