أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2009
(9)
- ◄ فبراير 2009 (1)
-
▼
مارس 2009
(8)
- فصل من «كتاب اليوميات»: قطط شارعنا
- التعليم العربي: بناءٌ فوقيٌّ غربيّ، وتحتيٌّ تأسّسَ...
- اللغة العربية في الزمن الرقميّ: ستُّ فجائع، وثلاثة...
- نظرية داروين: فرضيةٌ غبراء أم حقيقةٌ ساطعة؟
- تأملات من وحي «سبعة أجيال من قاطعي الرقاب»!
- تعليقي حول حفل تنصيب أوباما:
- اليمن الجديد: يمن الشرب من ماء البحر!...
- الانفصال الحَميد وحدةٌ يمنيّة أخرى!
-
◄
2011
(20)
- ◄ يناير 2011 (5)
- ◄ فبراير 2011 (1)
- ◄ يونيو 2011 (3)
- ◄ سبتمبر 2011 (4)
- ◄ أكتوبر 2011 (2)
-
◄
2012
(24)
- ◄ فبراير 2012 (1)
- ◄ أبريل 2012 (10)
- ◄ يوليو 2012 (1)
- ◄ سبتمبر 2012 (3)
- ◄ أكتوبر 2012 (1)
- ◄ نوفمبر 2012 (2)
- ◄ ديسمبر 2012 (2)
-
◄
2013
(33)
- ◄ يناير 2013 (6)
- ◄ أبريل 2013 (1)
- ◄ يونيو 2013 (5)
- ◄ يوليو 2013 (5)
- ◄ أغسطس 2013 (3)
- ◄ سبتمبر 2013 (1)
- ◄ أكتوبر 2013 (5)
- ◄ ديسمبر 2013 (2)
-
◄
2014
(27)
- ◄ يناير 2014 (3)
- ◄ فبراير 2014 (2)
- ◄ أبريل 2014 (3)
- ◄ يونيو 2014 (5)
- ◄ يوليو 2014 (3)
- ◄ سبتمبر 2014 (4)
- ◄ ديسمبر 2014 (6)
الثلاثاء، 31 مارس 2009
الانفصال الحَميد وحدةٌ يمنيّة أخرى!
الثلاثاء، 24 مارس 2009
اليمن الجديد: يمن الشرب من ماء البحر!...
اليمن الجديد: يمن الشرب من ماء البحر!...
حبيب عبدالرب سروري
أثارت عبارة الرئيس علي عبدالله صالح وهو يقول لِليمنيين: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر!» في نفسي خواطر ومشاعر كثيفة وغزيرة. لاسيما وأني كنتُ حين سماعها أنهلُ من «بلوج» الكاتب والروائي الفرنسي الكبير الرائع ايريك أورسينا على أنترنت، حول «مستقبل الماء»!... سأحاول هنا تلخيص بعض ما داهم دماغي إثر سماع تلك العبارة، تفاعلاً مع ذلك البلوج الثريّ!...
للرئيس بوتفليقة رؤيةٌ بَحْريّةٌ من طرازٍ آخر!...
ذات صباح جميل مشرق، قبل حوالي أربعة سنوات، شعر الرئيس الجزائري بوتفليقة أن شعب الجزائر (الذي كان يعاني من مشاكل مائية خانقة، أقل بكثير، مع ذلك، من مشاكل اليمن حاليا) ذاق الأمرّين من شحة المياه واختفائها عن الحنفيات في بعض ساعات اليوم!
التقى بكبار المسئولين الجزائريين. لم تداهمه عواطف مائيةٌ داكنة ليقول لهم: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر!»، بل قال لهم إن عهد المؤتمرات والاجتماعات والضجيج ومكاتب الدراسات حول نضوب موارد المياه في الجزائر قد انتهى: على الحكومة تحقيق هدف «الماء للجميع طوال 24 ساعة في اليوم» قبل سبتمبر 2009!... هدّد بالعقوبات إذا لم يتحقق ذلك!...
نهضَتْ بعد ذلك في الجزائر مصانع تحلية ماء البحر التي تنتج حاليا مليون ونصف مليون متراً مكعباً يوميا!... هاهي جزائر اليوم ثاني بلدٍ محاذٍ للبحر الأبيض المتوسط، بعد اسبانيا مباشرة، في كمية إنتاج المياه!...
الدرس الكبير المستفاد من ذلك: تفاقمُ آلام نقص المياه في اليمن ليس فقط لعدم امتلاك نظامها المقدرة على اتخاذ قرار كهذا، أو بسبب مؤهلات رئيسها، بل بسبب رؤيته الشخصية لماء البحر أداةَ انتقامٍ من مخالفيه، أكثر من كونها أحد مفاتيح حل آلام شعبه!...
لِلماء في سنغافورة مدلولٌ أكثر نبلاً وقدسيّةً!...
لعلّ أدق تعريف للنظام الذي يحكم اليمن هو أنه «العكس النموذجي لنظام سنغافورة في مجالي الإدارة والاقتصاد»! لِنظام سنغافورة ميزتان مرموقتان: 1) عداؤه الشرس للفساد وعقوباته الرادعة لمرتكبيه، 2) ورؤيته الاقتصادية الإستراتيجية الذكية التي تترجمها تطبيقات عملية حكيمة ناجحة!...
أثارت إعجابي عند زيارتي لهذا البلد، قبل سنوات، 1) نظافته الصارمة: مجرد البصق في الشارع يكلف دفع عقوبةٍ مقدارها 300 دولار! 2) وكراهيته الصارمة للتقاعس والكسل: رغم اتفاقه مع جارته ماليزيا على معاهدة مياه تضمن لسنغافورة ما يلزم من الماء حتى عام 2060، قرر النظام السنغافوري صناعة المياه للاكتفاء الذاتي أوّلاً، وللصناعة الإستراتيجية أيضاً، لأن الماء، حسب تقديراته الصائبة، سيصير قريباً من أثمن السلع، «قطاع المستقبل» أو «الذهب الازرق»!...
هاهي سنغافورة اليوم تمتلك 17 خزّاناً حديثاً للمياه، تتباهى بها أمام العالم! تمتلك أيضاً ستة مصانع لإنتاج ما يسمى «الماء الجديد»، المستخرجِ من الماء المستخدَمِ القذر بعد إعادة تنقيته! المصنع السابع الحديث مذهلٌ بشكل خاص: تصله مجاري الماء المستهلَك عبر قنوات طويلة، أوسع من قنوات محطات المترو. ينتج يوميّاً (صدِّقوا أو لا تصدِّقوا!) مليونين ونصف مليون متراً مكعباً من هذا الماء الجديد المدهش!...
الماء في سنغافورة كنايةٌ عن التعاضدِ وِوحدةِ المواطنين ورمزٌ للحب، وليس للانتقام والتهديد!... الأغاني السنغافورية وشعارات الحكومة المخطوطة في منعطفات المدينة ليست: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر»! بل: «لنزرع الثقة بمائنا وحسّنا بالمسئولية!»، «إنضموا لجمعية عشاق الماء!»، «لتجمعنا الصداقة واحترام الماء!»...
مسابح «قراصنة الماء» في صنعاء، ومسابح الإسرائيليين في المستعمرات الفلسطينية!...
عبارة الرئيس اليمني (التي لا يمكن أن يقولها إلا...) وسياسةُ نظامه تدلّان بوضوح على أن «اليمن الجديد» هو يمن «الأتناك» والشرب من ماء البحر! يمنٌ يهدر مواردَه أعداءُ الماء الذين ضربوا آبار عدَن بطائراتهم وصواريخهم لِقتلِ سكّان عدَن بالعطش في حرب 1994: جريمة إنسانية سافلة لم تتجرأ إسرائيل على ارتكابها في فلسطين حتى اليوم!...
يكفي في الحقيقة قراءة التقارير السنوية التي تصدرها منظمة الفاو (منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) على أنترنت، حول حالة مصادر المياه في كل دولة. واقع اليمن فيها يغلي الدم و«يُكلسِنُه»: مياهه الجوفية (التي هي ملكٌ للأجيال القادمة أيضا) تنضب بسرعة جنونية جرّاء الاستخدام الفاحش لها، بسبب النمو السكاني العشوائي، وعدم توليد أي مصادر جديدة للمياه!...
تلجأ كل الدول تقريباً، عندما تلوح مشاكل نضوب المياه في الأفق، إلى البحث عن مصادر جديدة لتوليد المياه، بجانب تقنين استخدام كل مواطنٍ لها بعقل وتورع وحذر، بأسلوبِ مدنيٍّ متكافئ ومنظَّم. لأن الماء ليس سلعةً عادية أو ملكاً لأحد. هو حقٌّ جوهري للإنسان، يتقاسمه مع كل الكائنات البيولوجية الحيّة، ومع الأجيال القادمة أيضاً!...
توليد مصادر جديدة للمياه لا يهزّ شعرة للنظام اليمني كما يبدو، رغم أن التوقعات تنذر بكارثة تلوح في الأفق!... الأبشع: نافذو النظام وأغنياء فسادِه يستخدمون المياه الجوفية بِتبذيرٍ يثير التقزز! من يُصدِّق مثلاً أنهم يتجرأون على تشييد مسابح شخصية في فيلاتهم في صنعاء؟... أيوجدُ بلدٌ شحيحُ المواردِ المائية يمكن أن يجرؤ بعض نافذيه على اقتراف سلوكٍ كهذا، عدا بعض الإسرائيليين في مستعمرات أراضي الدولة الفلسطينية التي تشكو هي أيضا من فقر موارد المياه (التي تنهبها إسرائيل كلية تقريباً)؟
مسابحهم «التي تتلألأ بِزُرقةٍ خيالية» في المستعمرات، حسب تعبير ايريك أورسينا، تذكي جراح الفلسطينيين وحقدهم، وشعورهم بالامتهان. ألم يقل المهندس المائي فاضل خواش، ممثل السلطة الفلسطينية في لجان المياه الفلسطينية - الإسرائيلية: «متى ستعي إسرائيل أن كل مسبح يصنع مائة إرهابي؟»...
لم يجد نافذوا صنعاء غير تقليد هذا السلوك المجرم للمستعمرين الإسرائيليين! كان بإمكانهم بدل ذلك استيراد الطرق العبقرية «للريّ قطرةً قطرة» التي اخترعها بعض العلماء الإسرائيليين، والتي توصل الماء لجذور النبات مباشرة، دون إهدار قطرة منه، لتوفيرِ كميات هائلة من مياه الري. كان بإمكانهم تقليد إسرائيل في تشييد مصنعين لتحلية المياه قرب تل أبيب يولّدان مليون وعُشر المليون مترا مكعبا يومياً، أو مصانع إعادة تنقية المياه المستخدمة والتي تنتج 300 مليون مترا مكعبا سنوياً! أو ربما استلهام أفكار «جامعة الصحراء» التي تمّ تشييدها في قلب الصحراء انطلاقاً من تعليمات بن جوريون الذي قال لهم: «إذا لم تُرَوِّض أسرائيلُ الصحراءَ فهي هالكة!» والذي كان يأتي للتأمل في نفس موقع الجامعة، قبل أن يُقبرَ في نفس الموضع أيضاً، حسب طلبه!...
تتطوّر في هذه الجامعة (التي يأتي للدراسة فيها طلاب من دول شتّى، لاسيما الأردن) يوماً بعد يوم أبحاث علمية طليعية! ثمة مثلاً مختبرات تدرس كيف يمكن استخدام حرارة الصحراء لتبريد المنازل! كيف يمكن توليد نباتات تقاوم الجفاف، لا تحتاج للمياه أو تحتاج فقط لكميّةٍ ضئيلةٍ جدّاً منه! كيف يمكن التنبؤ بتلوث المياه الجوفية وتلافي ذلك قبل حدوثه!... ناهيك عن استخدامات عبقرية للطحالب في مجالات شتى مثل إبادة بويضات البعوض للقضاء على الملاريا، ومقاومة الشيخوخة!...
فضّل نافذو النظام، بدلاً من كل ذلك، محاكاةَ المستعمر الإسرائيلي وهم يشفطون آخرَ قطرات جوف صنعاء لإشباع نزواتهم الخاصة!...
سأتوقف هنا! ثمة خواطر كثيرة أخرى انبلجت من عبارة الرئيس اليمني، ربما أعود إليها ذات يوم... أغنية العطروش: «للماء، للماء! يا غُصين البان» تدغدغني الآن قبل النوم! أسألكَ اللهمّ أحلاماً مائيّةً رقيقة!...
تعليقي حول حفل تنصيب أوباما:
سعادتان صغيرتان، حزنٌ كبير، وأملٌ طفيفٌ جدّاً...
حبيب عبدالرب سروري
(1)
اقتلاع بوش من واجهة أمريكا، هو منبعُ سعادتي الأولى، دون شك!
كان (صاحبُ سجنِ أبو غريب وجوانتنامو) بامتياز أبشعَ وأسوأ وأجهل وأقبح رئيس أمريكي في تقديري!...
رؤيةُ إبنِ المهاجر: حسين أوباما، حفيدِ توماي ولوسي (أجداد إنسان الأرضِ الحديث، «الأومو سابيان»، اللذين وجد الأركيولوجيون رفاتهما في شرق أفريقيا، قبل ملايين السنين) ببريقهِ الأسمر، وهو ينتصُّ على عرش أمريكا، يبهجني شخصيّاً كثيراً جدّاً!... يوقظ أحلامي الطوباوية القديمة بعالَمٍ بلا حدود، تتضاجعُ وتمتزجُ فيه الثقافات والألوان والأعراق، دون تمييزٍ أو تفضيلٍ أو عنصرية!...
تصلني من الإذاعة، في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، عبارةٌ مؤثّرة لأوباما وهو يلقي خطابه في حفلة التنصيب قائلاً إن والده، حسين أوباما، (الذي كانت المطاعم الأمريكية تُغلِق أبوابها في وجهه، قبل 60 عاماً، بسبب لونه الأسود!) ما كان لِيُصدِّق أن ابنَهُ سيكون يوماً رئيساً لأمريكا!...
وصول شابٍّ له بعضُ اسودادِ مستضعفيّ ومسحوقيّ العالم، لرأس أقوى دولةٍ فيه، هو رمزٌ إنسانيٌّ تاريخيٌّ عظيم، يثيرُ فيّ نشوةً شبيهةً بتلك التي اجتاحتني يوم وصل العظيم الخالد نيلسون مانديلا لرأس الحكم في جنوب أفريقيا على أنقاض الأبارتايد البشع!...
(2)
ثمة حزنٌ دفينٌ يستيقظ أيضاً وأنا أرى، في هذه اللحظة بالذات، مافيات معظم دول العالم الثالث (تحت غلاف ديموقراطيةٍ زائفة) تستغرقُ في كذبها السحيق وتستفحلُ في نهبها وتركيعها لشعوبها، بديمومةٍ منقطعة النظير!
خذ اليمن مثلا: يحكمُها عسكريٌّ قديم منذ أكثر من 30 عاماً، سيظلُّ رئيساً لها (بقوة القبيلة والنهب، وثقافة الإخضاع والتواطؤ) حتى عام 2030 (من يدري؟)! إذا لم يصل إبنه، العسكري أيضاً، للحكم قبل ذلك!...
(3)
غير أن الأمل في تغيير أوباما لواقع أمريكا ومستقبل العالم طفيفٌ جدا في رأيي!...
لا أظنه أكثر من شابٍ وسيمٍ، بهيج الطلعة، استقطبَ لفريقهِ بعضَ القامات العلمية والاقتصادية الممتازة، دون شك.
غير أن «الأخ الوسيم» محاطٌ قبل هذا وذاك بدناصير «الليبرالية الاقتصاديّة» التي تهمُّها مصالح البورصة وبقاء هيمنتها الاقتصادية والعسكرية على العالم، أكثر من أحوال فقراء الكون، أو واقع النشاط الشعريّ في الكرة الأرضية، أو عدد الأميين في اليمن!...
لعلّ عمق الأزمة الاقتصادية الكونية الحالية، وتفجّر المشاكل السياسية والبيئية التي تهدد مستقبل الكرة الأرضية، ستؤديان بعد شهر عسلٍ سريع إلى خيبةٍ أكيدة!... لاسيما وأن برنامجه السياسيّ ليس يساريّاً إطلاقاً، كما يعتقد البعض. غامضٌ إلى حدٍّ ما، أيضاً!... ناهيك أن ضراوة التطلعات والآمال، التي فتح انتصارُهُ الساحقُ أبوابَها، ستضيق الخناق عليه كثيراً بالتأكيد...
أتمنى لِ«أخينا الوسيم» حظّاً سعيداً مع ذلك!...
تأملات من وحي «سبعة أجيال من قاطعي الرقاب»!
تأملات من وحي «سبعة أجيال من قاطعي الرقاب»!
حبيب عبدالرب سروري
(1) مدخل
ماذا يدور في رأس الإنسان في السويعات الأخيرة التي تسبق شنقه أو إعدامه؟... داهمني هذا السؤال عندما رأيت على الشاشة الخطوات الأخيرة لِصدام حسين نحو المشنقة!...
سكنتني مُذّاك أسئلةٌ متفرِّعةٌ تابعةٌ عدّة: ما هي آخر المشاعر والذكريات التي تضطرم في دماغ الإنسان حينذاك؟ أيسكنه هاجس الرغبة في الهروب من السجن، أم أمل الخلاص بمعجزةٍ ميتافيزيقيّةٍ ما أو بقرارِ عفوٍ مفاجئ، أم يحلم (يا له من حلم!) بتحوُّلِ عقوبة الإعدام إلى عقوبة أشغال شاقّةٍ مؤبّدة؟...
أتراودهُ، بعدم اكتراثٍ ارستقراطيٍّ رفيع، «طزززٌّ» هادئة صمّاء ترنَّمَ بها شاعرٌ يَمنِيٌّ أبيّ:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيرهِ تعدّدتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
أم أنّه يتمتمُ بدل ذلك، بيأسٍ قاتل، عبارةَ فيكتور هيجو: «وداعاً أيها الأمل! وداعاً أيتها الورود والطبيعة والريح! كلّ ذلك لم يعد لي! ومريم، مريمي الصغيرة المسكينة! من سيحبك بعد الآن؟... قلبي يدمي كل ثائرته»...
أيشتعلُ دماغهُ ندماً وأسى حال يقينه بأنه لن يجلس بعد اليوم في بلكونةٍ مفتوحة على الطبيعة، المحيط، العصافير، الكثبان البيضاء، السفن البعيدة؟ لن يستنشق عطراً أنثوياً رقيقاً تتخلّله نسماتٌ من «عرَقِ الآلهة»! لن يُقبِّلَ خصراً رشيقاً لميسَ البشرة، ينساب في نهايتهِ وَركٌ رهيفُ التكوّر!...
أيحلمُ أن يبقى يوماً إضافيّاً واحداً، ساعةً واحدة، دقيقةً فقط، في هذه الحياة الفانية (التي فضّلها أوليس، بطل الأوديسيا، على حياة الآلهة، عندما رفض الخلودَ الذي عرضته له كاليبسو، الإلهةُ الخارقة الجمال، الأبديّةُ الشباب، التي تحيى في جنّة تكتظُّ بكل ما يحلمُ به الإنسان!)؟
أتعتوره أحلام سوداء يرى نفسه فيها يحملُ رأسَهُ بيده؟ هذا الرأس الذي سيجزره السفّاح بعد لحظات، لِيرتطم بالأرض وتتطاير خصلات دماغه ودمائه (قبل أن تلعقها كلاب آخر الليل وفئرانه وصراصيره)!...
«سبعة أجيال من قاطعي الرقاب» عنوان كتاب كبير، فريدٍ ومثيرٍ جدا وقع في يدي بالصدفة قبل أيام. نشره في 1862 هنري كليمان سانسون، آخر سلالةٍ من سبعة سيافين، قَطعَتْ رقاب آلاف ممن حَكمتْ عليهم محكمة باريس بالإعدام، منهم: الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت، قادة الثورة الفرنسية: دانتون، روبيسبيير ورفاقهم... وأسماء أخرى متنوعة كثيرة: «مجرمون ستتقيؤهم جهنم»، أبرياء، عشّاق متهمون بجرائم غرامية!... رسم الكتاب بإيقاعٍ مدهش تفاصيل «يتوبسياء» ساعاتهم الأخيرة!...
تختلط في الكتاب ثلاثة روافد:
1) دراسة تفصيلية مفيدة لتاريخ الإعدام تسرد صنوف التعذيب والتنكيل وطقوس احتفالات الإعدام منذ قرون، حتى مرحلة الإعدام «الناعم» بالمقصلة دون تعذيب، غداة الثورة الفرنسية.
2) تفاصيل السيرة الذاتية لحياة سبعة جلادين، كتبوا في مذكراتهم، بأسلوب أدبي شيق وحساسية عالية، يوميات حياتهم الحميمية التي تناقلوها بكل تفاصيلها الصغيرة. بدأت هذه السلالة بشارل سانسون (سانسون الأوّل!) الذي وُلِدَ في 1635، وانتهت بهنري سانسون (سانسون السابع، أو السيّاف الأخير!) مؤلف الكتاب، مروراً بسانسون الرابع (سانسون الأكبر!)، السيّاف-الكاتب الذي كان يقضي كل ليلة في كتابة يومياته وانطباعاته الشخصية، والذي بتر لوحدهِ أكثر من 2700 رأساً، في الحقبة المسعورة التي سبقت وتلت الثورة الفرنسية!...
3) سردٌ أدبيٌّ شديدُ الإنسانية والرقة كتبه هؤلاء السفّاحون (قد يبدو ذلك غريباً جدا، لكنه كذلك!) لوصف دقائق الساعات الأخيرة التي سبقت جزْرَهم لرقاب من حَكَمْتْ عليهم محكمة باريس بالإعدام بالشنق أو بحدّ السيف أو المقصلة! وثّق هؤلاء السبعة كل إعدامٍ نفّذوه في يومياتٍ كتبوا فيها انطباعاتهم وأحاسيسهم بشكل مذهلٍ آسر!...
(2) طقوس التعذيب والتنكيل قبيل الإعدام
سأنطُّ فوق القسم الأول رغم أهميته الشديدة. تلزم لقراءته مقدرةٌ فوق إنسانية على عدم الغثيان والطرش!... لعلّ الفصل الخاص بإعدام سامسون الثالث لِداميان، الذي حاول اغتيال الملك لويس الخامس عشر، مرعبٌ بشكل خاص! ثمّة ساديّةٌ لا حدّ لها عند الانتقال من صنف تعذيبٍ لآخر، بعد تخمين وحساب ما يتبقّى للمتهم من قوةٍ وإمكانيةِ حياة، من أجل مواصلة بقية أصناف التعذيب الأخرى في ضوء ذلك الحساب الشنيع (دون نسيان أي صنفٍ يخطر أو لا يخطر ببال)!... يُجلي ذلك الفصل بوضوح خصوبةَ همجية الخيال البشري وثراء وحشيته! تبدو جهنم بالمقارنة بما عاناه داميان روضةً من رياض الجنّة!...
ثمّة لحظة مهمة في ذلك الفصل: مرحلة إدخال الإعدام بالمقصلة («الجيوتين» بالفرنسية، نسبة لإسم الدكتور جيوتين الذي أقترح ذلك، بتأييد روبيسبيير، على البرلمان، بعد انتصار الثورة الفرنسية) كأسلوبٍ «حضاريٍّ» متكافئ وعادل يؤدي لإعدام المتهمين دون التنكيل بهم أو تعذيبهم. يساعد ذلك أيضاً على تلافي إمكانية هفوات السيافين وأخطاء ضربات سيوفهم أثناء بتر الرأس، التي تهشِّمُ الفك أو تعبث بالصدر أحياناً!...
المقصلة عمودان تفصلهما شفرة عريضة، مائلة الحد. يضطجع المتهم أفقيا أسفلها وهو موثوق الجسد بالحبال، قبل أن تسقط على رقبتهِ شفرتُها المرعبة بلمحة برق!... «دقيقة ألمٍ فقط»، كما كان يُقال! دقيقةٌ واحدة ربما، لكن «كل ثانية تسبقها تساوي عاماً من الرعب والرجفات»، كما يقول السفّاحُ الأخير!...
لعلّ مقصلة الثورة الفرنسية مثّلت خطوة متقدّمةً لِ«حضارةٍ جديدة تبحث عن صياغة عَالمٍ جديد»، لاسيما بعد إنهاء طقوس التعذيب والتنكيل التي تسبق الإعدام، وإدخال قوانين وحقوق أكثر إنسانية في التعامل مع المُدانين بالموت!... غير أن تقاليد احتفالات الإعدام لم تتغيّر: يحتشد المتفرجون لرؤية طقوس الإعدام، يشترون مواقعهم بثمنٍ غالٍ أحياناً. تأسرهم السعادة والنشوة لرؤية ذلك، يا للفظاعة! يُحمَلُ الرأسُ بعد سقوطه في السلّة الحمراء لِيُعرضَ أمامهم! يُصفّقون بهرج ومرج! (الرعاع تصفِّقُ دوماً)! ضحكات ضباع تدوّي ملئَ ساحة الكونكورد!... ما أقبح الإنسان!...
انتقد برودوم (رفيق دانتون) بشدّة، في برلمان الثورة الفرنسية، هذه التقاليد «غير اللائقة بشعبٍ مضيءٍ إنسانيٍّ حرّ»، كما قال!... ثمّ اختفت أوّلا بأول بعد الثورة الفرنسية كلُّ طقوس الإعدام التي كانت تُستهلُّ ببرنامج تعذيب متنوِّعٍ خاص للأيام التي تسبق الإعدام، ثم بطقوس احتفالية متميّزة في يوم الإعدام نفسه: تبدأُ بتجوال المُدَانِ في عربةٍ لِعرضهِ على الملأ في شوارع باريس، حتى حلقِ شعره وخلعِ ثيابه من قبل غلمان وأعوان السيّاف، قبل لقاء الاعتراف الأخير مع القديس الذي يلقي خطبته المنافقة الجوفاء الشهيرة...
(3) سيرات الجلّادين
سير حياة السفاحين السبعة تحتل حيزاً كبيراً في الكتاب! أوّلهم شارل سانسون، رأس السلالة، الذي كان يتيماً منذ فجر طفولته. سقط في بدء شبابه في غرامٍ لم يكتب له النجاح. تلاهُ غرامٌ آخر مع مارجريت، ابنة سيّافٍ اشترط عليه للزواج منها أن يكون سيّافاً بعده، «كي لا يتجرأ بالسخرية من مهنة عَمِّه أمام أبنائه»!...
ثم توارث إبن شارل سانسون وأحفاده نفس المهنة، معتبرين أنفسهم «ورثةَ سيفِ القانون»، يتوارثوه كما يتوارث الملوك صولجاناتهم!... يعرفون مع ذلك أنها أصعب وأبشع مهنة!... السيّاف في الوعي الجمعي وحشٌ لا ترقُّ له قناة! «السياف رديفٌ للشيطان، مجرّد رؤيته تملأ الإنسان هلعاً»، كما قال بطل رواية فيكتور هيجو «آخر يومٍ لِمحكومٍ بالإعدام»!...
السيّافون (أو «منفِّذو الأعمال الكبرى» حسب التسمية الرسمية في النظام القديم، «المنتقمون للشعب» حسب بلاغةِ الثورة الفرنسية) شريحةٌ اجتماعية مغلقة، مُحصَّنة، يهابها وينبذها المجتمع. تتوارث مهنتها أباً عن جد!...
المدهش جدا أن السيافين من سلالة سانسون رجالٌ ذوو أحاسيس إنسانية رقيقة، كما تبرهن كتابتهم!... كان الفقراء يخرجون لتأبين جنازاتهم بأعداد كبيرة!... في مجمل ذلك ما يفسّر بشكل أو بآخر استغراب بطل رواية فيكتور هيجو عند رؤية الجلّادِ أمامه يُحدِّثه برقة، يسأله وهو يربط وثاقه إن لم يؤلمه قليلاً، يعتذر له بلغة وأحاسيس خالفت كل توقّعاته: «عفواً سيّدي! أآلمتكَ قليلاً؟»!... «لم أتصوّر أن السفّاحين رجالٌ ناعمون!»، يقول بطل فيكتور هيجو!...
لعلّ الأسطوريّ والواقعيّ يختلطان في هذه الصورة الإنسانية المفرطة لهذه السلالة من الجلّادين. لعب سانسون الأول في ذلك دوراً خاصاً كما يبدو، لاسيما بعد تقاعده وانعزاله، وتكريس حياته للحب والتقوى ودعم الفقراء (لطلب المغفرةِ من «جرائمه القانونية»؟). استطاع في كل الأحوال أن يؤسس سلالةً وسمعةً فرضت نفسها، ليكون أحفادُه مثله: «إنسانيون قبل الإعدام مباشرة، وإنسانيون بعد الإعدام مباشرة»، على حدّ تعبير المؤرخ برنار لوشاربونيه!
وصفُ هنري سانسون للصعوبة الاستثنائية لأول إعدامٍ يقوم به الجلّاد ملفتٌ للنظر تماماً! لعله، مثل العشق الأول، لحظةٌ تلتصق بالذاكرة بعنف! أثارنيٍ هذا التماثل الرهيب في تجربتين إنسانيتين شديدتي التنافر!... سقوط بعض أفراد سلالة هؤلاء السفّاحين مغشياً عليهم، عند ممارسة أول إعدامٍ لهم، يؤكد أننا أمام جلّادين أقل فظاظة مما نتصوّر، أكثر رومانسية ورقّة مما نتوقعه بكثير!...
ناهيك أن هذا الكتاب الذي لخّص فيه آخر السيافين يوميات أجداده وتجربته الشخصية، وصيّةٌ أدبية (يسميها هنري سانسون: «وصية السفّاح الأخير») تنادي بأقوى وأشد العبارات الصارخة بإلغاء عقوبة الإعدام معتبرةً إياها «آخر قلاع الهمجية والبربرية الإنسانية»!... اقترح إلغاء هذه العقوبة، لأول مرة، الكاتبُ الايطالي سيزار بيساريا في كتاب سريٍّ في 1764. لم يتحّقق ذلك في فرنسا إلا في 1981 فقط، بعد وصول اليسار إلى السلطة!... لم يفلح روبيسبيير على سبيل المثال، قبل ذلك بقرنين، في تمرير مقترح إلغاء عقوبة الإعدام على برلمان الثورة الفرنسية!...
الجسد البشري، كما يقول السفّاح الأخير، «صنع الإله! هو وحده من يمتلك الحقّ بإلغائه!»... لا يخلو الكتاب أيضاً من نقدٍ وسخرية عنيفة من «العدالة الإنسانية» وهي تتحدث باسم «العدالة الإلهية»!...
لعلّ إلغاء عقوبة الإعدام مؤخراً في حوالي 75 بلداً (الفضاء الأوربي لا يسمح لدولة بالانضمام إليه دون ذلك) يمثّل رمزا حضاريّاً دون شك! غير أن الوحشية والعنف الإنساني لم يضمحلا إثر ذلك إطلاقاً!... تعجُّ العقود الأخيرة بمجازر زاخرة: الإبادات الجماعية في هيروشيما وناجازاكي، رصاصات النازية في معسكرات التعذيب والقتل الجماعية لاسيما أوزفيتش، الإعدامات السوفيتية والصينية للمخالفين للسلطة، كل الحروب الاستعمارية الإقليمية والعرقية الوحشية في السنوات الأخيرة!...
لعل الاتجاه العام لتقبّل الإنسان الحديث للإعدام صار ملطّخاً بالمفارقات، مثيراً للحيرة: يغشى الإنسانَ المتحضّرَ التقززُ (هو رائعٌ في ذلك) عند أي إعدامٍ مباشر، وجهاً لوجه! لكنه ينظر بعدم اكتراث للإعدام التقنيّ الحديث الذي تقوم به الدول القوية بمعدات تكنولوجية تضرب عن بُعد، تسحق الأطفال والشيوخ والأبرياء بكميات تجارية!... كأنه لا يميّز بين هذا السحق الفعليّ الملموس عندما يراه على الشاشة، ومشاهدة فيلمٍ مجرّد عن حرب خيالية في نفس الشاشة. كأنه يخلط بين فسيفساء ألعابٍ نارية، وفسيفساءِ صواريخ مثل تلك التي ملأت سماء بغداد!...
أو لعله يرى قبحاً في الإعدام اليدويّ القروسطي، وجماليةً ما في الإعدام التكنولوجي الحديث! يكفي استرجاع مآسي فلسطينييّ غزة، للشعور بالخيبة من شدّة نفاق هذا الإنسان الحديث الذي ألغى عقوبة الإعدام مع ذلك!... السحل الجماعي بأحدث الأسلحة التكنولوجية، والحرب «المُطْلَقة» التي تحصدُ أكبر عددٍ من الأبرياء بأسرع وقت (على الطريقة النازية) لا تثيران غضبه وتقزّزه كثيراً! ألا يحتاج أحياناً لتذكيره بحقيقةٍ صغيرةٍ فاقعة: «أن ترى طائرة تغير على شاشة تلفزيون غير أن تراها بالعين الهلعة، أن تسمع صوت الانفجار على الشاشة غير أن ترتج بك الأرض ويتطاير حولك الكون كله»، حسب تعبير أمجد ناصر في مقالٍ له في «القدس العربي»؟...
لأسمح لنفسي بالقول: لا يحق للإنسان الحديث إدعاء التحضر طالما سالت قطرة دمٍ واحدة، لأي إنسانٍ كان، في أي بلدٍ كان، بأيِّ سلاحٍ كان، ولأي سببٍ كان!...
(4) آخر ساعات المحكومين بالإعدام
الجزء الأكبر من الكتاب يسرد سيرورة الأيام والساعات الأخيرة من حياة رتلٍ متنوّعٍ من المحكومين بالإعدام يتنقّل بين «مجرمين ستتقيؤهم جهنم» حتّى عشّاقٍ جميلين رائعين قُتلوا بسبب ما آلت إليه تداعيات العشق من «جرائم»!...
لا تفوت على «السفّاح الأخير» ملاحظة «جمالية الجريمة» فيما ارتكبه بعض المحكومين عليهم بالإعدام أحياناً! ثمّة جماليةٌ ما، في الحقيقة، حتى في أكثر الأحداث شناعة!... (تحدّثتُ في مؤتمر العجيلي للرواية بالرَّقة (سوريا، ديسمبر 2008)، الذي تخصّص بدراسة جماليات الرواية، عن جماليات الخراب، انطلاقاً من نص الإلياذة: «إحدى تجليات عبقرية الإلياذة تكمن في قدرتها على رؤية الجمال في أشنع وأقبح نشاط إنساني: الحرب! لا أدري من قال: «ليسمو الفن حتى في تدمير العالم!». هكذا حال حرب طروادة التي تدور حولها كلُّ الإلياذة: سيمفونية من قرعات السيوف، التحام الأجساد، صرخات الموت... سفنٌ مدمّرة، صهيلٌ وأبواق، سيولُ دماء... سيمفونيةٌ محبوكةٌ من نبرات العنف والخراب، لكنها شديدةُ الجمال أوّلاً وأخيراً!...»).
لعلّ أكثر ما يلفت النظر عند قراءة تفاصيل الساعات الأخيرة لطابور الرقاب المبتورة هو أن سلوك المدانين في تلك الساعات الحاسمة شديد التنوّع والاختلاف، يصعب حصره أو استشرافه، غامضٌ غالباً، معاكسٌ أيضاً لما نتوقعه أحياناً... يصعب فعلاً سبر النفس البشرية، وتصنيف وأرشفة تنوعات أحاسيسها، لاسيما عندما يكون الموت على بعد مليمتر فقط، أقرب من حبل الوريد!...
رهبة الموت، عندما يبدو أكيدا بعد دقائق، تجعل بعض من صمدوا أمام كل أنواع التعذيب يستسلمون ويعترفون ويكشفون هويّة رفاقهم قبيل الموت بدقائق! كأنهم لا يستطيعون مقاومة ظمأً الحياة ولو لِهنيهات قليلة إضافية. في حين أن آخرين تكتسحهم الثقة حتى آخر لحظة بأن القبر الذي سيخرّون فيه هو عرشٌ ينتظرهم، يحنّون للوصول إليه بأسرع وقت!...
بين أولئك وهؤلاء تتنوّع الحالات كثيراً: نفوسٌ من فولاذ «ذات أعين خلقت لئلا تبكي» تنهمر دموعها فجأة في آخر اللحظات! (ما هي الذكريات أو الأحاسيس التي كهربت أدمغتها في تلك اللحظة بالذات؟) فيما آخرون عاديون جداً، لم يُعرفون بِشجاعةٍ متميّزةٍ أو جرأة خاصة في حياتهم، يتقدَّمون نحو الموت بنفس هادئة، تصرّ أن يكون ديكور آخر لحظات وداعها للأرض فخوراً (أيُّ مدلولٍ جبّار يمثله الفخر بالنسبة لهم، ليطغى على كل الأحاسيس الأخرى؟)...
بين هؤلاء وأولئك حالات كثيرة «طبيعيةٌ جدا»، إن جاز القول: مدانون تبدو عليهم رجفة الموت، تَصلُّب الرقبة، صعوبة بلع الريق، اضطرابُ الرموش...
تزدحم، خارج هذه الدائرة، حالاتٌ كثيرةُ التفرد والخصوصية:
ثمّة من يصرخ وسط أبشع أنواع التعذيب متحدّياً: «مزيداً! مزيداً!» وكأنه يتلذّذُ فعلاً بما تسمى «سكرة الألم»!...
ثمّة، مثل دانتون، من ظلّ وفيّاً لشخصه بدقّة كبيرة: ظلّ فظّاً غليظ القلب بذيئاً يشتم أعداءه بتعالٍ هائل حتى لحظة بترِ رأسه!... فيما فَابْر، رفيقه، تمتم قبل موته هذه العبارة الجميلة المذهلة: «لأتعلّمَ كيف أموت! لأتعلّمَ كيف أموت!...»
ماذا يحدث عندما يسقط الجلاد في غرام من سيبترُ رأسَها بعد لحظات؟...
مدام انجيليك تيكيت في الثانية والأربعين من العمر، «مخلوقةٌ ساحرة»، كما قال شارل سانسون! كانت أجمل وأروع وأذكى نساء باريس حينها، كما يقال! أُتُهِمَتْ بقتل زوجها بعد تدهور علاقتهما، وسقوطها في عشق آخر...
يحكي شارل سانسون دقائق عبورها ساحة الإعدام بمعطفها الوثير الأبيض، بقوامٍ بديع وخطوات ملوكية. تشكر القسيس بصوتٍ ساحر ولغة متعالية حصيفة على «مواساته وسلوانه بكلماتٍ طيّبة ستحملها معها للرب»! يصف السيّاف لمساتها الأخيرة لِشعرها الراقص على كتفيها، وكأنها ستقابل عاشقها بعد لحظات! تسأل السفّاح قرب خشبة بتر الرأس، بلغةٍ ارستقراطية: «أيمكنكم، أيها السيّد الطيب، أن تشرحوا لي في أي وضعٍ تحبون أن أكون!»...
أمام ذوبان شارل سانسون وهو يرى هذه المخلوقة الساحرة تواجه الموت بهذه النعومة، تضع انجيليك رأسها لوحدها على خشبة البتر! «أأنا كما يلزم أيها السيّد؟»، تضيف!... هاهي تواصل إثراء حياتها الأنيقة حتى آخر لحظة!...
«سيف العدالة» يخرّ بكل عنفهِ وبشاعته على جِيد هذه المخلوقة الجميلة! يتفجّر الدم عنيفاً، غير أن الرأس لم يسقط!... ضربة سيفٍ ثانية فوق نفس هذا الرأس الفاتن!... تصلُّبٌ غير أليف، لرأسٍ بالغ الرقة! سيل الدمِ أعمى الجزّار، كما يبدو! أو أن ضرباته تتلعثمُ وترِقُّ أمام جمالِ هذا الرأس الذي لا يستطيع جزَّه!... ما زال لم يسقط! الجماهير تدويّ و«تُصفّر» بين نشوةٍ وسخط من هذه المجزرة، بين تهديدٍ ووعيد للسيّاف!...
الضربة الثالثة: الرأس الذي يُقدِّسُه الجلّاد يهوي أمام رجليه!...
شارل سانسون الذي يصاب بعد كل إعدام بحالة هذيان، كان في دوّامة تذمّر وغثيان لا توصف! «رأس انجيليك الذي ظلَّ وقتاً طويلا فوق خشبة الإعدام، باتجاه «بلدية باريس»، حافظ، كما يقول من رأوه، على نُبلِهِ وجماله!» كلمات الجلّاد هذه لا تخلو من عدم موضوعية العاشق!...
« تحققت العدالة الإنسانية!»، قالت الصحف حينها! «أريد أن أسأل العدالة الإلهية رأيها في ذلك»، قال الجلّاد!...
لعلّ أكثر حالات الإعدام إدهاشاً هي حالة ذلك المُدان الذي ظلَّ يقرأُ بحماسة واهتياج، دون توقّف، طوال الأيام التي سبقت لحظة إعدامه!... ثمّ، بصَلفٍ ارستقراطيٍّ نبيل وتعالٍ لا حدّ لرهافته، توقّف عن القراءة، «أثْنَى» زاويةَ رأس الصفحة التي كان يقرأها (يا للسحر! يا للعظمة!)، قبل أن يضطجع أسفل المقصلة!...
انحنيتُ إعجاباً أمام جلال هذا المشهد!...
إمرأة ترى في نفس العربة التي تحملها إلى المقصلة شاباً حزيناً مداناً مثلها، يكاد يقتله الشوق والأحزان والهلع. تتحدّث معه برقة وعطفٍ وروح فكاهة! تتمكن من إضحاكه أيضاً!... يُبَشِّرُها السيافُ حال وصولهما بأنها «ستمرُّ» قبل الشاب! ترفض ذلك حتى لا تتفجّر أحزان الشاب من جديد بعد فراقها! يرفض الجلّاد بشدّة، لأن ذلك ترتيبُ المحكمة! تردّ عليه بِكياسةٍ ثاقبة لا أستطيع وصف سِحرِها: «أيها السيد! كيف لكم أن ترفضوا لِإمرأةٍ طلبَها الأخير؟»!...
ينحني السفّاح عند رغبتها ويدعها للدور الثاني، كما طلَبَتْ، ولو خالف ذلكَ المزاجَ الحضاري: «المرأةُ أوّلاً، Ladies First»!...
نظرات لويس السادس عشر في زوايا ساحة الإعدام قبيل قطع رأسه، وكأنه ينتظر مجيء مواليه لإنقاذه، تُذكِّرُ بزيغ نظرات تشاوشيسكو (حاكم رومانيا السابق) وزوجته، في زوايا المكان، بحثاً عن منقذٍ يصلُ قبل إعدامهما! الملوك كما يبدو تعتقد دوماً أنه لا يمكنها أن تنتهي مثل ضحاياها!...
ردّد لويس السادس عشر في لحظةٍ ما، مثل تشاوتسكو وصدام حسين، بنفس المنطق الأعمى، هذه العبارة الجوفاء التي تثير الرثاء: «إنها خيانة!»...
لم يفشل لويس السادس عشر، رغم ضعف واهتراء شخصيّته، في الموت بلياقة خلال سيناريو ساعاته الأخيرة، كما يبدو من قراءة نص سانسون الرابع.
صدام حسين، هو الآخر، لم يفشل في إخراجٍ أشَم لِسيناريو ساعاته الأخيرة وهو يتوجّه نحو المشنقة واثق الخطوة هادئ الابتسامة، رغم أن حياته كانت سلسلةً نقيّةً متواصلةً من العنف والفشل والهزائم التي حوّلت العراق العظيم إلى مستعمرةٍ للأمريكان (سقط نظامُه كقصرٍ من وَرق، ضاعت ثرواتُ بلده عبثاً في سياسات وحروبٍ سخيفةٍ فاشلة، ورمى طاغوتُه الملايينَ من شعبهِ في أحضان الموت والدمار والشتات)!... بالعكس من ذلك، كانت لحظةُ إعدامِه هديّةً قدّمها له خصومُه لِبعد مماته: أثاروا غضبَ الجميع، بما فيهم ضحاياه، من ذلك الإعدام غير الإنساني الحقير، وأثبتوا أنّهم يتمتعون بنفس البشاعة وروح الانتقام السافل!...
لا أدري، يبدو كلُّ شيء كما لو أن السفّاحين المنتصرين يعملون كل ما بوسعهم كي يتم إعدام الحكام المخلوعين بسيناريو فخورٍ لائق! كأن في ذلك عهداً سريّاً قطعه السفّاحون بينهم منذ الأزل!...
(5) خاتمة: أدب السفاحين لسان العرب؟
كتاب سانسون أثار ضجّة واهتماما كبيرين عند نشره في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ما زال إلى اليوم حاضراً في الوجدان الفرنسي، يُستلهمُ في بعض الأعمال الأدبية بأكثر من شكل، رغم أن الحياة المعاصرة تجاوزت سياقَه تماماً!
ماذا لو كتب السفّاحون العرب مذكراتهم ويوميات ضحاياهم أيضاً؟ لماذا لا يحقّ لنا، على الأقل، أن نقرأ مجازر إباداتنا الجماعية اليومية؟ أليس لنا في هذا التراث الحيّ النابض المتأبد صاعٌ وباعٌ نفوق به الأمم؟ ألا يجدر ل «أدب السفاحين» أن يكون «لسان العرب»، قبل أيِّ نوعٍ أدبيٍّ آخر؟ أنحتاج لجوائز أدبية، بأسماء سفاحينا التاريخيين والمعاصرين، ليزدهر هذا النوع الأدبي، الذي يلزمنا تحريره لنتحرر منه؟...