الخميس، 31 أكتوبر 2013

الحلم غواية الملائكة، والنسيان غواية الشيطان



الحلم غواية الملائكة، والنسيان غواية الشيطان
حبيب سروري
(١)
علاقة الحلم بالنسيان (والموت، كأعلى مقاماته) عميقةٌ ومثيرةٌ جدّاً. من هذه العلاقة العضوية تأسست مداميك رؤية الإنسان للكون والحياة.

فكما يرى علماء الدماغ: مفهومُ سَفر "الروح" إلى "الحياة الأخرى" بعد الموت، على سبيل المثال، اختراعٌ بدائيٌّ للدماغ البشري (عند فجر تأنسنِهِ البيولوجي) راوَدَه كَحُلم. يمكن تفسير ظهور هذا المفهوم كالتالي:
ثمّة في الحقيقة لخبطةٌ ذهنيةٌ في آليات عمل دماغِ من يَفقدُ أحد أقربائه الحميمين: الفقيد موجودٌ وغير موجود في نفس الآن. موجودٌ ككينونةٍ لها شكلها ومزاجها وطريقتها في الحياة، لا يفارق ذاكرةَ أقربائه، وتمثّلَهم لما كان سيعمله في هذا الظرف أو ذاك. وغير موجودٍ لأنه صار جثّةً، جماداً لا غير
تزداد الفوضى الذهنية عندما يمر طيف الفقيد في الأحلام الليلية لأقاربه: يشعرون حينها كما لو كان حيّاً «في مكانٍ ما». عندما يتذكرونه في أحلام اليقظة يختلجهم أيضاً مثلُ شعورٍ دائم بأنه حيٌّ «في مكانٍ ما»!... 
ثمةّ شيءٌ غادر الجسدَ لحظة الموت إذن، موجودٌ حالياً «في مكانٍ ما»، يعودُ بين الحين والحين... 
لم يجد الدماغ البشري، للإنسان الأول، تشبيهاً لذلك أفضل من استعارة «النفخة»، نفخة الهواء التي تغادر الجسد أثناء الزفير!...

هكذا، من عناق الموت والحلم وُلِدَ عالَمُ الأرواح والكائنات الخفيّة. أو بعبارة أخرى: العالَمُ الآخر منتوجٌ اشتقاقيٌّ لعناق الموت والحلم!... 

(٢)
رقصة فالس الحلم والنسيان يوميّة دائمة. تتكثّف وتتركّز أثناء النوم بشكلٍ خاص.
ثمّة مفارقة: عندما ننام يكون الدماغُ (مايسترو الجسد، روحُه، وهيئةُ أركانه) في أوج يقظته، يشتغل بصفاء وتركيز!
ماذا يعمل؟
يمارس الحلم والنسيان معاً، طوال الليل تقريباً. الأول لتأثيث الذاكرة وربط مفاصلها، والثاني لتنظيفها من كل التفاصيل والأحداث اليومية الصغيرة الكثيرة.
الأول للأرشفة والتأثيث: الأحداث والرغبات والذكريات تتفاعل، تتداخل، تتأرشف، تتبلور، تستشرف، تكسر كل القيود والرقابات، تسافر إلى عالمٍ آخر، تهرب من بؤسِ وقساوة الواقع... 
والثاني لمحو كل التفاصيل الآتية من يوميات العالم الخارجي والحياة الخاصة، والتي لا أهمية لها، حتّى لا يُغرِق بها ذاكرته. يرميها في بئرٍ بلا قاع، بئر النسيان.
خلال الحلم، يدمج الدماغ بعض يوميّات حياتنا، ومكنونات إرشيف اللاوعي الكامن في قاعه، ويربطها بعلاقاتٍ تبدو غامضة جدّاً أحياناً، مستعصيةً على الإستيعاب كليّةً في أحيان أخرى.

كلاهما، الحلم والنسيان، حاجةٌ عضويّة جوهرية جذَّرَها التطوّر البيولوجي للإنسان...
فالحلم، لاسيما حلم اليقظة، طاقة إيجابية لها فوائد لا حصر لها: بفضله نرسم تصورات للسعي لمواجهة المعضلات والتحرر من الخوف. هو حوضٌ عبقريٌّ للخلق والإبداع الفني. فيه تشكّلت لوحات فنيّة وأعمال موسيقية كبيرة. أثناءه يمارس الدماغ رياضيات الكلمات، يقلّبها في كل الاتجاهات، قبل أن تأخذ خلاله أشكالها النهائية. ثمة روايات أدبيّة هامّة انطلقت من مجرد سرد حلمٍ في صفحتها الأولى...

والنسيان طاقة سلبية ضرورية مكملة لطاقة الحلم الإيجابية (يتكاملان كقطبٍ سالبٍ وموجب). له فوائد عظيمة أيضاً: نسيان بعض الآلام الشخصية القديمة ضرورة سيكولوجية حيوية. لولاه مثلاً لما أرادت كثير من النساء، اللواتي تألمن أثناء الإنجاب، أن يحبلن مرة ثانية!...

هكذا، "النسيان غواية الشيطان"، و"الحلم غواية الملائكة"، كما تقول عبارات شعبيّة أدركت عمق العلاقة العضوية المثيرة بين الحلم والنسيان. غوايتان متلاحمتان، لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً بدونهما!...
(٣)
أربك الحلمُ الإنسانَ على الدوام كل الإرباك. اعتبره إشارات وأسرار تحدّد مصائر البشر، لحظةَ تفاعلٍ مع العالَم الآخر: عالَم "النفخات" المسافرة والآلهة. اعتقد أن من يمتلك المقدرة على فكّ شفراته (كيوسف مع فرعون) يمتلك قوّةً إلهية خاصّة.
أثارهُ الحلم لدرجةٍ استفسر فيها نفسه إذا لم يكن الحلم هو الحقيقة والواقع الحلم! مثل ذلك الفيلسوفِ الصيني الذي حلم ذات يوم أنه فراشة، ثم تساءل عندما استيقظ من حلمه إن كان قد حلم فعلاً أنه فراشة، أو إذا كان هو نفسهُ فراشةً تحلمُ حالياً أنها فيلسوف!...
(٤)
أمام ساطورِ الموتِ القاهر، وضنك الحياة وآلامها، لا ملجأَ للإنسان غير الحلم! («إجازتهُ أحلامُه»).
يهرب عبره مثل "ثاقب تذاكر محطة لِيلا" (في أغنية الشاعر الغنائي الفرنسي سيرج جانسبورج) الذي يقضي حياته يشتغل بثقب التذاكر في غرفة تحت أرضية في محطة مترو. (أُطلِق اسم هذه الأغنية على حديقة باريسية مجاورة للمحطّة، وعلى خطّ مترو).
في دماغهِ "مهرجان وريقات ثقوب: ثقوب درجة أولى، ثقوب درجة ثانية، ثقوب لا تنتهي...". منها يتسلّل الحلم: "في الضباب، في نهاية الرصيف، أرى أمواجاً، وسفناً تأتي تبحث عنّي...".
(٥)
أمام ثقل الذكريات الموجعة التي تقاوم النسيان، يُطلُّ الحلم أحياناً لتخفيف عبء تلك الذكريات ومجابهتها. 
ثمّة غالباً صراعٌ دفين في اللاوعي بين الحلم الحميد، والوجع العتيق الذي يرفض أن يندمل.
في روايتي "وميض" (قيد الإكمال) يستعيد الرواي ذكريات أمٍّ استثنائية، ملاكٍ حقيقي، ينبوعِ إسعادٍ لا ينتهي، غادرت الحياة وهو في الثلاثين.
لكنها وقفت ذات يوم حجرةً عثرة عندما اكتشفت علاقة الراوي الغرامية العنيفة في مراهقَته بِجارةٍ خرجتْ للتو من زواجٍ فاشل.
صدّتهُ الأم عن مقابلة معشوقته قبيل موعدٍ سِرّي لِلقاءٍ جسديٍّ لهما إستعدّا له بخفاء ودهاء، وعشقٍ خالص... 
لم يهضم الراوي موقف أمّه، كما يبدو، حتّى وهو يتجاوز الخمسين من العمر...
يراوده ذات يوم حلم غريب، يسرده بهذه الكلمات:

((كنتُ في ذلك الحلم وإيّاها في سريرٍ واسع، تُغطّينا جزئيّاً ملايةٌ قطنيّةٌ بيضاء، غارقَين في قبلةٍ حميميّة. رقصةُ فالس لِسانَينا طويلةٌ لا تنتهي
نُرتِّل كلّ أنواع بسملات العناق ببطءٍ لا حدّ له. نؤجِّلُ الالتحام والتوحّد بِعنادٍ وصمودٍ باسل، بِشهوةٍ قاتلة... لم يكن في ذلك الحلم للمساحةِ حدود، للكتلةِ ثقلٌ أو وَزْن. كنّا خلاله عصفورَين يطيران تحت سماءٍ مفتوحة، بنفس الجناحين.))

يستأنف:
((لم أقل إن الحلمَ جوهريٌّ جدّاً، عبقريٌّ جدّاً، لهذه الأسباب فقط. لم أقل ذلك لأن قوانين "الهندسة الفراغية" خلال ممارستنا العشق في ذلك الحلم كانت مرنةً، ليّنةً، هوائيّةً، لا نمَطيّة، مجنونةً، بديعةً جدّاً... ليس لأن بُعد الزمن أثناءه كان ممتدّاً، مطّاطيّاً، بلا نهايات أو قيود...
ليس لأن حركة الجسد، التماوجات، الشقلبات، الموسيقى، الوثبات، البيولوجيا، المبادرات، الابتكارات... تحرّرتْ فيه من أيّ تقليدٍ محافظ، من كلِّ مُحرّمٍ أو عائق... ليس لأن الحلم كان، من بدايته إلى نهايته، هاويةً من اللذّات الإلهية...

بل لأن امرأةً في منتصف العمر (لعلّها أمّ من كانت بين أحضاني؟ أمّي التي كانت عكس أمّي في الواقع؟) عبرت الرواق المتاخم لِباب غرفتِنا المفتوح على مصراعيه، وهي تؤدّي بعض مهامها اليومية لتنظيم المنزل. اتّجهتْ نحو ثلّاجة المطبخ...
عادت بكأسَي كوكا كولا بالثلج. دخلتْ بابَ غرفتنا دون أدنى اهتمامٍ بأوبرا السرير (الذي لم تكن ملايتهُ البيضاء تُغطّي أكثر من رِجْلي العاشقَين). وضعتْ الكأسين في طرفِ لوحِ أعلى السرير.

كأسان حميدان لِلحظة استراحة، قبل جولةٍ جديدةٍ من العشق؟...

ثمّ خرجتْ لِتواصل مهامها المنزلية في الرواق والغرف المجاورة، دون أدنى نظرةٍ تلصُّصية أو فضولية، أو حتّى عابرة، لأوركيسترا تماوج جسد العاشقَين، كما لو كانا يسبحان في نومٍ عميق، كلٌّ في طرفٍ من أطراف الغرفة...))

لم يستطع الراوي، كما يبدو، محو ذكريات كبت الأم لِعشق طفولته ولِعرقلتها لِلقاء موعد غرامهِ الأول. لكنه تصالح مع أمِّهِ الحبيبة بهذا الحلم المضاد الذي قلب ذكريات صدِّها لِعشقه الأوّل ١٨٠ درجة في الاتجاه المعاكس، من يدري!... 

ليس غريباً أن يقول الراوي بعد ذلك:
«كان هاملت يخشى ويكرَهُ الأحلام، أما أنا فأدعو قبل النوم أن تتكاثر وتتبارك!».


الاثنين، 28 أكتوبر 2013

أطلبوا العلم ولو في أستراليا


أطلبوا العلم ولو في أستراليا

حبيب سروري (*)

لا بد من فيتنام وأستراليا وإن طال السفر.
الهدف: مؤتمر علمي مهم عن "السيمانتيك ويب" في سيدني، في بدء الأسبوع القادم.

ويب: كلمة يعرف مدلولها الجميع، شبكة إنترنت الدولية.
سيمانتيك: تعني: ذو دلالة (مدلولي)، مرتبط بالمعنى
بعكس: سانتاكسيك التي تعني: لفظي.

يعلم الجميع أن الويب الحالي: لفظي.
عندما يوجه الواحد لجوجول جملة يرد عليه جوجول، في الجوهر، بمجموع الملفات على الويب التي تحوي كلمات الجملة، كمجرد ألفاظ.

ويب المستقبل سيكون: مدلولي خالص، مرتبط بالمعنى.

قصة عائلية صغيرة تشرح فحوى ذلك، أفضل من محاضرة:

بنتي الصغيرة عنبرين شافت، وهي بالابتدائية، في خارطة جغرافيا، نهر في رومانيا اسمه: بروت.
(بروت تعني بالفرنسية: ضراط!)...
ضحكت، بالطبع!...

ولإنها، من جيل جوجول، مثل كل أصحابها، راحت مباشرة للعم جوجول توجه السؤال التالي:

"ما هي كل الأماكن الجغرافية في العالم اللي لها أسماء مضحكة؟"

جوجول الحالي (لأنه لفظي) جاب لها كل الملفات التي تحوي كلمات سؤالها، كألفاظ مجردة، دون أن يرد على السؤال.

لاحظتُ خيبتها الكبيرة من رد ولي انترنت الصالح، جوجول.

شرحتُ لها بكلمات مبسطة أن سؤالها أصعب بكثير جدا من مجرد البحث عن ملفات تحتوي على كلمات معينة (كما هو حال جوجول). 
سؤالها يتطلب أن يكون على إنترنت "أنتولوجيا" للأماكن الجغرافية، بطريقة دقيقة يستوعبها أي كمبيوتر.
ذلك ليس صعبا في الجوهر.

الأصعب: تحليل السؤال للإجابة عليه كسؤال، لأن ما هو "مضحك" في هذه اللغة غير مضحك في تلك، وما هو مضحك لهذا الشخص ليس مضحكا بالضرورة لذلك، وإن كانا يتحدثان نفس اللغة...

يلزم في حالة سؤال عنبرين أن يعطي جوجول ردا على غرار:

هذا الاسم الجغرافي مضحك لسبعين في المأئة من الناس، وهذا الاسم لعشرين في المائة،... وهكذا دواليك!

لا أدري ماذا سوف يقول جوجول السيمانتيكي حول: طور الباحة؟!...

-------


في الطريق إليها: سايجون (هوشي منه، حاليا)، عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا (معقل الاستعمارين الأمريكي وقبله الفرنسي).

عندما سقطت على أيدي الثوار الفيتناميين في منتصف سبعينات عدن انفجرنا فرحا.

لا يوجد اليوم ما سيبرر شرب نخب "بأثر رجعي" على سقوطها، لأنها صارت (مثل دول شرق آسيا، ودول المعسكر الشرقي سابقاً) أكثر رأسمالية من دول الرأسمالية الغربية.

يلزم بدل ذلك، ربما، قراءة الفاتحة على العبارة اللي كنا نسمعها الف مرة باليوم في سبعينات عدن:

سمة العصر هو سقوط الرأسمالية وانتصار الاشتراكية!...
(بانتظار عصر محترم، واشتراكية محترمة، طبعا).

أما الرأسمالية فستظل كما هي: حسناء ذكية، ماكرة، شديدة الأنانية، تحتقر الجياع والفقراء

الأهم من كل ذلك بالتأكيد
سايجون مسرح إحدى أهم وأشهر روايات نهاية القرن السابق: "العاشق"، لمارجريت دوراس.

ذلك هو الأهم والأبقى، لأن سمة العصر، وكل العصور، هو انتصار الكلمة على الجهل والظلمات.

-------

العالم كله (عدانا) في طريقه لأن يتحول إلى "جمهورية الكوكب الأزرق".

ملحوظة: الكوكب الأزرق اسم الأرض، بسبب بحارها التي تجعله يبدو أزرق من بعيد.

أقول ذلك وأنا اسمع حاليا موسيقى الراب بالفيتنامية، في مقهى في سايجون.

بدأت الوحدة الوجدانية العالمية، عبر الموسيقى والفنون.
المراهقون يمشون في كل أنحاء العالم بنفس البنطلونات، يضعون في آذانهم نفس الموسيقى، ويقبلون أصدقاؤهم من الجنس الآخر في وضح النهار، بنفس النوع من القبل...

الوحدة الاقتصادية، لا تتوقف عن فرض نفسها، واكتملت من زمان في أوربا.
الوحدة التعليمية تم بناؤها تماما في أوربا: نفس نظام العلامات مثلا. بإمكانك (ويلزمك أكثر فأكثر) أن تعمل السنة بفصلين دراسيين في دولتين مختلفتين. تجمع مثلا علامات الفصل الأول من جامعة ألمانية والثاني من جامعة فرنسية...

الوحدة السياسية في أوربا، وفي كينونات أخرى، تتقدم بخطى حثيثة...

الوجدانية والاجتماعية: نفس المقاهي في كل مكان. إذا انتقلت مثلا بين مقاهي ستار بوك من طرف الدنيا إلى طرفها، فأنت أمام نفس الطقوس والعادات والتقاليد والموسيقى والديكور والبشر...

في مركز كل مدينة نفس العمارة التي تضع عليها شركة آبل أحدث كمبيوتراتها وارهبها للاستخدام المجاني للناس...

العالم كله، إلا نحن.
مش كذا وبس، بإمكاننا في اليمن نقدم للعالم فريق ٨٠-٨٠ يضم ١٦٠ قربوع، لا ينطقوا الا لغة واحدة وبالغلط، يجلسوا في اجتماع لمدة ست سنوات يجزروا فيه خريطة الكوكب الأزرق ويحولوها "لحم دقة" من الفيدراليات والأقاليم...

الشاطر في هذا العالم هو من يجد حلا لرفع معدلات النمو في بلده، مش معدلات عدد الأقاليم...

-------

أسئلة ساذجة جداً (من واحد "بغران" بعد ٢٠ ساعة طيران من باريس إلى سيدني):

هناك عبارة عربية شهيرة، نسمعها دائماً: "اطلبوا العلم ولو في الصين!"

عبارة طيّبة، حسنة النوايا، بس:
لماذ لم يقل صاحبها "ولو في استراليا"؟

ألأنه لم يكن يعرف أن هناك ما هو أبعد من الصين بكثير؟

هل هذه العبارة موجّهة فقط لأهل منطقتنا (لأنها لا تعني شيئاً لمواطنٍ يعيش في الصين أو في مناطق مجاورة لها، ونقول له "أطلب العلم ولو في الصين")؟

ولماذا لم تُقال تلك العبارة بصيغة تصلح في كل مكان، مثل:
"أطلبوا العلم ولو في أقصى النصف الآخر من الكرة الأرضية."؟

ألأن قائلها لم يكن يعرف حينها أن الأرض كرويّة؟

في كل الأحوال، هي عبارة مرتبطة، بالضرورة، بسياقها الثقافي والزمني العتيق الذي تجاوزناه اليوم.

فقهاء اللغة ومستنطقو الكلمات يعرفون أفضل مني كيف يستخلصون معارفهم من الأحشاء الغائرة لكلمات النصوص...

كانت بالتآكيد عبارة ملهمة، لاسيما وأن العرب في عصرهم الذهبي "طلبوا العلم" من الهند (التي استلهموا منها مفهوم "الصفر" وأدخلوه في الرياضيات)، إلى الإغريق اللي ترجموا كتبها للعالم أجمع

لكنّا اليوم في عصر رقميٍّ آخر
تغيّر مفهوم المسافة في هذا العصر، وصار القرب من العلم ليس قرباً جغرافياً، ولكن قرباً رقميّاً وتكنولوجيا في الأساس

ثمّ لم يعد "طلب العلم" هو الهدف، ولكن ابتكاره وصناعته.
وذلك يتطلب عقلية علمية حديثة مختلفة، وقطيعة معرفية مع عقلية العصور الوسطى التي لم نتزحزح منها كما هو جليٌّ جدّاً

-------

عدد سكان كل قارة استراليا الشاسعة ٢٤ مليون، لا أكثر.
من أصول كوسموبوليتية شديدة التنوع: شرق آسيوية، أسترالية قديمة، أوربية... يعيشون بسعادة ووئام، في دولة هائلة التطور (الثانية في رأس قائمة دول العالم بعد النرويج، في مؤشرات التنمية والتطور البشري).

نفس عدد سكان اليمن. يعني: هناك "نفَس" ومساحة لاستيعاب كل "أبو يمن" فيها، وحل كل كوارثه.
بس، نحن في عالم كل شيء فيه بمقابل. ومش ممكن إعطاء الأرض ل ٢٤ مليون يمني هنا بدون مقابل.

الحل: ندخل معهم بصفقة تاريخية اسمها: "الأرض مقابل الحوار".

يعني مقابلنا لهم سيكون لجنة ٨-٨ من كبار أوغاد اليمن يلتقون في فندق خمسة نجوم عدة أشهر، يعلموا استراليا مفهوم الحوار (لا سيما بحزب سلفي اسمه "أنصار الله" يبني "الدولة المدنية"، كما ذكر آخر منشور لمولانا سامي غالب!) ويدخلوها عصر الفساد والحروب والفوضى من أوسع أبوابه...

-------

لأني أكتشفها لأول مرة، أعتذر لو شخططت حولها كلمتين كل يوم
قصدي: استراليا.

الحقيقة أستراليا تعيش في كوكب لوحدها، على بعد آلاف الكيلومترات من العالم الآخر (عالمنا)،
لا تهمها من قريب أو بعيد طوائفنا المتناحرة، حروبنا الميتافيزيقية، صراعاتنا اليومية، ثقل أدياننا وجنونها، وكل مشاكلنا التي لا تعد ولا تحصى.

الناس تعيش هنا في جنة، مش فقط بسبب ثروتهم واختلاطهم العرقي البهيج وعلمانية دولتهم.
بس أيضاً لأن طقسهم بديع، لا علاقة له بطقس الغرب.
أجساهم طليقة، في تهوية يومية طوال العام تقريبا (وأدمغتهم أيضاً، بالضرورة).
يضحكون كثيرا، حتّى الشيوخ
لم تسعفني كاميرتي بتصوير شيخة مسنة جدّاً كانت تنفجر من الضحك مع رفيقها لدرجة أنها كادت تسقط...

كنت أظن أن فرنسا "بلد المليون مقهى"، بس استراليا (قصدي سيدني) تجاوزتها مقاهٍ،
لأن الناس (بسبب الطقس الرائع) تعيش في المقاهي والمطاعم والشوارع 
من بعد الشغل (في الرابعة عصراً)، وحتّى وقت متأخر من الليل

عين استراليا فقط على أندنوسيا (على بعد آلاف الكيلومترات منها) حيث يتسلّل من يحاولون اللجوء سرّاً إليها، عبر سفن تغامر باختراق المحيط
لذلك:
مشروعي لليمن الذي تحدثت عنه في منشور سابق: "الأرض مقابل الحوار
مابيستويش، لأنه طموح جدّاً، طوباويٌّ جدّاً!...


-------
عملت لفّة في سيدني لمؤتمر علمي، يدور بعيدا عن المؤتمر الذي جئت لأجله، اسمه:
"اتجاهات الويب في الجنوب"

طبعاً، "الجنوب" في اسم ذلك المؤتمر هو بالمعنى الذي يستخدمه الناس في كل أنحاء العالم:
النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.

في هذا النصف بيئة مشتركة: رطوبة، حرارةوأوضاع اجتماعية واقتصادية متشابهة.

الدراسات في مؤتمر "اتجاهات الويب في الجنوب" متنوعة
من استخدام الويب للحفاظ على البيئة، حتّى الحفاظ على اللوحات الفنية في متاحف الدول ذات الرطوبة العالية.

ما يهمني هنا هو تكرار بديهية ما زالت العقول المغلقة التي ذقنا من تاريخها الأمرّين ترفض احترامها:
كلمة "الجنوب" محجوزة في القاموس الدولي.

لذلك مصطلح "شعب الجنوب" لا محل له من الإعراب، لأن هناك شعوب جنوبية كثيرة.

كنت في مقال سابق قد نوّهت أيضاً إلى عنوان صحيفة اللوموند، عندما تم انتخاب البابا الحالي (الأرجنتيني الأصل):
"انتخاب البابا من الجنوب"…

مصطلح "الجنوب العربي" محجوز أيضاً من زمان: يعني كل جنوب الجزيرة العربية، من نجران إلى شرق عمان

خلاصة القول: بإمكان المرء أن يقول ما يريد: جنوب اليمن، ج.ي.د.ش سابقاً. أو يبحث عن اسم جديد إذا صار يمقت كلمة اليمن.
لكن مصطلحي "الجنوب" و"الجنوب العربي" لا يمكن استخدامهما لتسمية بلاد ج.ي.د.ش سابقاً.

تذكروا: اللغة بيت مشترك للإنسان في كل المعمورة. من يعبث بها، من يشرخها، يعبث بنا، يهيننا.

-------

في طريق العودة، الطائرة تعبر محوريا استراليا (٣ مرات مساحة أوربا، واقل من عدد سكان اليمن) من مدينة سيدني في جنوب الشرق، إلى مدينة داروين في شمال الغرب.

مدينة داروين تحمل اسم "قاتل الميتافيزيقيا"، لأن سفينة يبجل التي طاف بها العالم لمدة خمس سنوات (سفينة نوح العلم) عبرت تلك المدينة، في تلك الرحلة التاريخية.

اسم داروين يرفرف في الغرب في كل مكان. 
بالنسبة للعلم، سيظل داروين الاسم الاهم والاعظم. هناك ما قبل داروين، وهناك ما بعد داروين. 

كليتي في الجامعة عبارة عن خمسة عمارات. عمارتها الأرهب واللي في القلب (فيها المحاضرات والمعارض الكبرى، قاعات الاجتماعات، المطاعم والكافتيريا...) اسمها: عمارة داروين.

في ٢٠٠٩ (عام مرور قرنين على ميلاده، و١٥٠ سنة على كتابة "اصل الأنواع") كان عاما استثنائيا في الغرب، لاسيما فرنسا، في فعالياته الثقافية والعلمية.
فاق (كما قلت سابقا) احتفالات عام ١٩٨٩ بمرور قرنين على الثورة الفرنسية!...

رغم كل ذلك، لا يوجد بعد شارع اسمه "شارع داروين" في طور الباحة!...

-------

كلمتان لإغلاق ملف استراليا:

وأخيرا حققت حلما قديما في العوم في تلك الزاوية الجنوبية من المحيط العملاق: المحيط الهادي.
أكبر المحيطات، أكبر من ثلث الكوكب، أكبر من حجم اليابسة بكثير، به الفجوات العميقة العملاقة...

كنت أتذكر فجوة في طرفه الآخر المحاذي للأطلسي، قرب خليج المكسيك، تهم نوعنا البشري كل الأهمية.
لولاها لما وجدنا!...

اللعنة، أعود مجددا للحديث في الموضوع الذي يهرب اللايكات، ويدوخ بالشياطين: داروين.

إذ، في الحقيقة، قبل ٦٥ مليون سنة من الآن (أيام حضارة الديناصور، عندما لم يكن الانسان موجودا بعد على كوكب الارض)، سقط نيزك ضخم على كوكبنا، قطره ٢٠ كيلومترا، قرب خليج المكسيك.

كانت احدى الكوارث الأرضية الأربع أو الخمس العملاقة التي عرفها كوكبنا منذ تشكله قبل أربعة ونص مليار عام.

بعد سقوط ذلك النيزك ارتفعت درجة حرارة الأرض بشكل عال، وماتت كل دناصيره التي كانت سيدة كوكب الأرض حينذاك.

لم ينج من هذه الكارثة إلا بعض الانواع التي تكيفت مع ما حدث. منها حيوان صغير، بحجم الثعلب تقريبا، كان يختفي في أعلى أشجار الغابات. حمته ظروفه الرطبة الباردة تلك من وطأة سخونة الأرض.

بعد حوالي ٦٠ مليون عام من التطور والانتقاء صار هذا الحيوان: هومو سابيانس، نحن...

هذه معلومات أولية، 
مبرهنة علميا بألف طريقة وطريقة، 
يعترف بها الجميع، 
يدرسها الطلاب في صغرهم هنا، 
فيما نحن ما زلنا في عصر آدم وحواء والتفاحة!

وداعا المحيط الهادئ!...


(*) منشورات فيسبوكية للكاتب.