الحلم غواية الملائكة، والنسيان غواية الشيطان
حبيب سروري
(١)
علاقة الحلم بالنسيان (والموت، كأعلى مقاماته) عميقةٌ ومثيرةٌ جدّاً. من هذه العلاقة العضوية تأسست مداميك رؤية الإنسان للكون والحياة.
فكما يرى علماء الدماغ: مفهومُ سَفر "الروح" إلى "الحياة الأخرى" بعد الموت، على سبيل المثال، اختراعٌ بدائيٌّ للدماغ البشري (عند فجر تأنسنِهِ البيولوجي) راوَدَه كَحُلم. يمكن تفسير ظهور هذا المفهوم كالتالي:
ثمّة في الحقيقة لخبطةٌ ذهنيةٌ في آليات عمل دماغِ من يَفقدُ أحد أقربائه الحميمين: الفقيد موجودٌ وغير موجود في نفس الآن. موجودٌ ككينونةٍ لها شكلها ومزاجها وطريقتها في الحياة، لا يفارق ذاكرةَ أقربائه، وتمثّلَهم لما كان سيعمله في هذا الظرف أو ذاك. وغير موجودٍ لأنه صار جثّةً، جماداً لا غير.
تزداد الفوضى الذهنية عندما يمر طيف الفقيد في الأحلام الليلية لأقاربه: يشعرون حينها كما لو كان حيّاً «في مكانٍ ما». عندما يتذكرونه في أحلام اليقظة يختلجهم أيضاً مثلُ شعورٍ دائم بأنه حيٌّ «في مكانٍ ما»!...
ثمةّ شيءٌ غادر الجسدَ لحظة الموت إذن، موجودٌ حالياً «في مكانٍ ما»، يعودُ بين الحين والحين...
لم يجد الدماغ البشري، للإنسان الأول، تشبيهاً لذلك أفضل من استعارة «النفخة»، نفخة الهواء التي تغادر الجسد أثناء الزفير!...
هكذا، من عناق الموت والحلم وُلِدَ عالَمُ الأرواح والكائنات الخفيّة. أو بعبارة أخرى: العالَمُ الآخر منتوجٌ اشتقاقيٌّ لعناق الموت والحلم!...
(٢)
رقصة فالس الحلم والنسيان يوميّة دائمة. تتكثّف وتتركّز أثناء النوم بشكلٍ خاص.
ثمّة مفارقة: عندما ننام يكون الدماغُ (مايسترو الجسد، روحُه، وهيئةُ أركانه) في أوج يقظته، يشتغل بصفاء وتركيز!
ماذا يعمل؟
يمارس الحلم والنسيان معاً، طوال الليل تقريباً. الأول لتأثيث الذاكرة وربط مفاصلها، والثاني لتنظيفها من كل التفاصيل والأحداث اليومية الصغيرة الكثيرة.
الأول للأرشفة والتأثيث: الأحداث والرغبات والذكريات تتفاعل، تتداخل، تتأرشف، تتبلور، تستشرف، تكسر كل القيود والرقابات، تسافر إلى عالمٍ آخر، تهرب من بؤسِ وقساوة الواقع...
والثاني لمحو كل التفاصيل الآتية من يوميات العالم الخارجي والحياة الخاصة، والتي لا أهمية لها، حتّى لا يُغرِق بها ذاكرته. يرميها في بئرٍ بلا قاع، بئر النسيان.
خلال الحلم، يدمج الدماغ بعض يوميّات حياتنا، ومكنونات إرشيف اللاوعي الكامن في قاعه، ويربطها بعلاقاتٍ تبدو غامضة جدّاً أحياناً، مستعصيةً على الإستيعاب كليّةً في أحيان أخرى.
كلاهما، الحلم والنسيان، حاجةٌ عضويّة جوهرية جذَّرَها التطوّر البيولوجي للإنسان...
فالحلم، لاسيما حلم اليقظة، طاقة إيجابية لها فوائد لا حصر لها: بفضله نرسم تصورات للسعي لمواجهة المعضلات والتحرر من الخوف. هو حوضٌ عبقريٌّ للخلق والإبداع الفني. فيه تشكّلت لوحات فنيّة وأعمال موسيقية كبيرة. أثناءه يمارس الدماغ رياضيات الكلمات، يقلّبها في كل الاتجاهات، قبل أن تأخذ خلاله أشكالها النهائية. ثمة روايات أدبيّة هامّة انطلقت من مجرد سرد حلمٍ في صفحتها الأولى...
والنسيان طاقة سلبية ضرورية مكملة لطاقة الحلم الإيجابية (يتكاملان كقطبٍ سالبٍ وموجب). له فوائد عظيمة أيضاً: نسيان بعض الآلام الشخصية القديمة ضرورة سيكولوجية حيوية. لولاه مثلاً لما أرادت كثير من النساء، اللواتي تألمن أثناء الإنجاب، أن يحبلن مرة ثانية!...
هكذا، "النسيان غواية الشيطان"، و"الحلم غواية الملائكة"، كما تقول عبارات شعبيّة أدركت عمق العلاقة العضوية المثيرة بين الحلم والنسيان. غوايتان متلاحمتان، لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً بدونهما!...
(٣)
أربك الحلمُ الإنسانَ على الدوام كل الإرباك. اعتبره إشارات وأسرار تحدّد مصائر البشر، لحظةَ تفاعلٍ مع العالَم الآخر: عالَم "النفخات" المسافرة والآلهة. اعتقد أن من يمتلك المقدرة على فكّ شفراته (كيوسف مع فرعون) يمتلك قوّةً إلهية خاصّة.
أثارهُ الحلم لدرجةٍ استفسر فيها نفسه إذا لم يكن الحلم هو الحقيقة والواقع الحلم! مثل ذلك الفيلسوفِ الصيني الذي حلم ذات يوم أنه فراشة، ثم تساءل عندما استيقظ من حلمه إن كان قد حلم فعلاً أنه فراشة، أو إذا كان هو نفسهُ فراشةً تحلمُ حالياً أنها فيلسوف!...
(٤)
أمام ساطورِ الموتِ القاهر، وضنك الحياة وآلامها، لا ملجأَ للإنسان غير الحلم! («إجازتهُ أحلامُه»).
يهرب عبره مثل "ثاقب تذاكر محطة لِيلا" (في أغنية الشاعر الغنائي الفرنسي سيرج جانسبورج) الذي يقضي حياته يشتغل بثقب التذاكر في غرفة تحت أرضية في محطة مترو. (أُطلِق اسم هذه الأغنية على حديقة باريسية مجاورة للمحطّة، وعلى خطّ مترو).
في دماغهِ "مهرجان وريقات ثقوب: ثقوب درجة أولى، ثقوب درجة ثانية، ثقوب لا تنتهي...". منها يتسلّل الحلم: "في الضباب، في نهاية الرصيف، أرى أمواجاً، وسفناً تأتي تبحث عنّي...".
(٥)
أمام ثقل الذكريات الموجعة التي تقاوم النسيان، يُطلُّ الحلم أحياناً لتخفيف عبء تلك الذكريات ومجابهتها.
ثمّة غالباً صراعٌ دفين في اللاوعي بين الحلم الحميد، والوجع العتيق الذي يرفض أن يندمل.
في روايتي "وميض" (قيد الإكمال) يستعيد الرواي ذكريات أمٍّ استثنائية، ملاكٍ حقيقي، ينبوعِ إسعادٍ لا ينتهي، غادرت الحياة وهو في الثلاثين.
لكنها وقفت ذات يوم حجرةً عثرة عندما اكتشفت علاقة الراوي الغرامية العنيفة في مراهقَته بِجارةٍ خرجتْ للتو من زواجٍ فاشل.
صدّتهُ الأم عن مقابلة معشوقته قبيل موعدٍ سِرّي لِلقاءٍ جسديٍّ لهما إستعدّا له بخفاء ودهاء، وعشقٍ خالص...
لم يهضم الراوي موقف أمّه، كما يبدو، حتّى وهو يتجاوز الخمسين من العمر...
يراوده ذات يوم حلم غريب، يسرده بهذه الكلمات:
((كنتُ في ذلك الحلم وإيّاها في سريرٍ واسع، تُغطّينا جزئيّاً ملايةٌ قطنيّةٌ بيضاء، غارقَين في قبلةٍ حميميّة. رقصةُ فالس لِسانَينا طويلةٌ لا تنتهي.
نُرتِّل كلّ أنواع بسملات العناق ببطءٍ لا حدّ له. نؤجِّلُ الالتحام والتوحّد بِعنادٍ وصمودٍ باسل، بِشهوةٍ قاتلة... لم يكن في ذلك الحلم للمساحةِ حدود، للكتلةِ ثقلٌ أو وَزْن. كنّا خلاله عصفورَين يطيران تحت سماءٍ مفتوحة، بنفس الجناحين.))
يستأنف:
((لم أقل إن الحلمَ جوهريٌّ جدّاً، عبقريٌّ جدّاً، لهذه الأسباب فقط. لم أقل ذلك لأن قوانين "الهندسة الفراغية" خلال ممارستنا العشق في ذلك الحلم كانت مرنةً، ليّنةً، هوائيّةً، لا نمَطيّة، مجنونةً، بديعةً جدّاً... ليس لأن بُعد الزمن أثناءه كان ممتدّاً، مطّاطيّاً، بلا نهايات أو قيود...
ليس لأن حركة الجسد، التماوجات، الشقلبات، الموسيقى، الوثبات، البيولوجيا، المبادرات، الابتكارات... تحرّرتْ فيه من أيّ تقليدٍ محافظ، من كلِّ مُحرّمٍ أو عائق... ليس لأن الحلم كان، من بدايته إلى نهايته، هاويةً من اللذّات الإلهية...
بل لأن امرأةً في منتصف العمر (لعلّها أمّ من كانت بين أحضاني؟ أمّي التي كانت عكس أمّي في الواقع؟) عبرت الرواق المتاخم لِباب غرفتِنا المفتوح على مصراعيه، وهي تؤدّي بعض مهامها اليومية لتنظيم المنزل. اتّجهتْ نحو ثلّاجة المطبخ...
عادت بكأسَي كوكا كولا بالثلج. دخلتْ بابَ غرفتنا دون أدنى اهتمامٍ بأوبرا السرير (الذي لم تكن ملايتهُ البيضاء تُغطّي أكثر من رِجْلي العاشقَين). وضعتْ الكأسين في طرفِ لوحِ أعلى السرير.
كأسان حميدان لِلحظة استراحة، قبل جولةٍ جديدةٍ من العشق؟...
ثمّ خرجتْ لِتواصل مهامها المنزلية في الرواق والغرف المجاورة، دون أدنى نظرةٍ تلصُّصية أو فضولية، أو حتّى عابرة، لأوركيسترا تماوج جسد العاشقَين، كما لو كانا يسبحان في نومٍ عميق، كلٌّ في طرفٍ من أطراف الغرفة...))
لم يستطع الراوي، كما يبدو، محو ذكريات كبت الأم لِعشق طفولته ولِعرقلتها لِلقاء موعد غرامهِ الأول. لكنه تصالح مع أمِّهِ الحبيبة بهذا الحلم المضاد الذي قلب ذكريات صدِّها لِعشقه الأوّل ١٨٠ درجة في الاتجاه المعاكس، من يدري!...
ليس غريباً أن يقول الراوي بعد ذلك:
«كان هاملت يخشى ويكرَهُ الأحلام، أما أنا فأدعو قبل النوم أن تتكاثر وتتبارك!».