الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

ستة أيام بعد نهاية العالم


ستة أيام بعد نهاية العالم


سينتهي العالم يوماً بالتأكيد، بس مش بكرة ٢١ ديسمبر  ٢٠١٢، (حسب التقويم الزمني لحضارة المايا).
حسب حسابات علماء الفيزياء: بعد أقل من خمسة مليار عام فقط ستصطدم مجرّتنا الحبيبة: "درب اللبانة" بجارتها الغالية: اندروميد. (كل الكلمات تتقزّم، تتلاشى، عندما أتصوّر هذا الاصطدام.)...
أو ربما قبل ذلك الموعد بكثير: إذا لم تتغير السياسة البيئية الأنانية للدول الرأسمالية الغنيّة، سينتهي العالم جرّاء أهم المشاكل التي تعانيها كرتنا الأرضية حاليا: الانتاج المفرط لغازات الاحتباس الحراري، وإزدياد سخونة الكوكب...
***
بعد ستة أيام من نهاية العالم سيتم حفل عقد زفاف العزيزين شذى العليمي ونشوان العثماني في عدَن
سيكون ذلك اليوم حسب اختيارهما المسبق: ٢٧ ديسمبر ٢٠١٢، عيد ميلاد أبي العلاء المعرّي. عيد ميلاد صاحب عبارة: "لا إمام سوى العقل"، (عنوان كتابي القادم الذي سيظهر في بداية العام القادم عن دار رياض الريس)...
 من يدري، عندما تضمحل العقلية الظلامية في مجتمعاتنا العربية، ونبدأ عصر "لا إمام سوى العقل"، سيكون لنا تقويم زمني جديد يبدأ ب ٢٧ ديسمبر ٩٧٣، يوم ميلاد أبي العلاء...

عندها سنقول: كان موعد زفاف شذى العليمي ونشوان العثماني رأس عام ١٠٣٩ بعد الميلاد، بتقويم لا إمام سوى العقل!...

الاثنين، 17 ديسمبر 2012

جنوب ماذا؟



جنوب ماذا؟
حبيب عبدالرب سروري

عندما يسمع أي إنسان خارج اليمن الاسماء الرسمية الكاملة لِبعض الكيانات الجديدة (مثل: "اتحاد أدباء وكتاب الجنوب"، "مؤتمر شعب الجنوب"...) فلن يفهم في أي بقعة جغرافية في العالم توجد هذه الكيانات
لأن كلمة "الجنوب" وحدها نَكِرَةٌ معرفيّاً: لكلِّ بلدٍ جنوب، لكل قارةٍ جنوب، لكلِّ كينونةٍ جغرافيةٍ جنوب، وللعالَمِ جنوبٌ أيضاً...
سيكون سؤاله الطبيعي: "جنوبُ ماذا؟"...

أتذكَّرُ أنه كان يكفي، في جنوب اليمن في الثمانينات من القرن المنصرم، قول "الحزبليفهم الجميع أن ذلك يعني "الحزب الاشتراكي اليمني". 
كان يكفي مثلاً قراءة هذه العبارة الستالينية المريعة: "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب" ليفهم الجميع عن أي حزبٍ تتحدث العبارة!...
لكن التسمية الرسمية "للحزب": الحزب الاشتراكي اليمني، كانت ومازالت كاملةً ورائعةً لغويّاً، لا غبار عليها: للموصوف فيها صفة، وللمضافِ مضافٌ إليه... إذا سمعها أي إنسانٍ في العالم خارج اليمن فلن يسأل: "أي حزب؟" (على غرار "جنوب ماذا؟")...
***
وحدهم "علماء نفس اللغة" من يستطيعون تفسير إطلاق هذه التسميات الناقصة (أو أنصاف التسميات)، مع علم مؤلّفيها (وهم جهابذة في علوم اللغة أحياناً!) بأن في ذلك النقص خطأ لغويّاً أساسيّاً، قد لايقبلونه هم أنفسهم من طالبٍ في مدرسةٍ ابتدائية.
***
أظن شخصيّاً أن من يطلق هذه التسميات الناقصة يريد أن يُعبِّر بشكلٍ أو بآخر عن أنهُ: "يتحامق" (أي: يعبس، أو يُقاطع) مثل الطفل عندما يكون غضباناً من شيءٍ ما.
فمقاطعةُ جنوب اليمن لوحدة حرب ١٩٩٤ شيءٌ مفهومٌ ورائعٌ لأنّها وحدة القبيلة المنتصرة، وحدة تحالف عصابة علي عبدالله صالح وعائلته، علي محسن، عائلة الشيخ الأحمر، والزنداني وبقية اللصوص والمجرمين ومُطلقي الفتاوي التي أهانت جنوب اليمن وبرّرت سفك دماءِ سُكّانه...
وعداءُ معظمِ سكّان جنوب اليمن لهذه العصابة الكبرى جليٌّ ومبرّرٌ جدّاً: سيظلّ ثمّة جُرحٌ لن يندمل طالما لم يستعد الجنوب منهم كلَّ ما نهبوه، وطالما لم يتم إيداعهم ذات يوم في سجون اللصوص والمجرمين والقتلة...
ومن نافل القول أن مَدَنِيّي جنوب اليمن يشتركون في عدائهم لهذه العصابة مع كل المدنيّين في شمال اليمن الذين يقاومونها، هم أيضاً، ببسالةٍ وثبات...

لكن ما علاقة هذه العصابة باليمن، ليسقطَ ظلماً اسم هذه الأخيرة من بعض التسميات الجديدة، دون احترام القواعد اللغوية؟ (أليسوا هم تحديداً حلفاء السعودية التاريخيين؟ أليسوا من استنزفَ اليمن وفرّطَ بحدودها التاريخية؟...)
باختصار: ما ذنب كلمة "اليمن" لتختفي من تسميات بعض الكيانات الجديدة؟

خلاصة القول: أن ترمي بالماء القذر (وحدة حرب ١٩٤٩) من حوض الغسيل فذلك شيء طبيعيٌّ ورائع، لكن أن ترمي الطفل الذي يغتسل في الحوض، مع الماء القذر والحوض في نفس الوقت، ففي ذلك تطرُّفٌ في "التحامق" يزعجُ اللغة العربية، ويضاعف آلام الطفلِ الجريح الذي لا ناقة له ولا جمل في جرائم ذابِحه!...

الأحد، 25 نوفمبر 2012

مقاطع من المقدمة التي كتبتها لديوان الشاعر أحمد على عبداللاه


مقاطع من المقدمة التي كتبتُها لديوان الشاعر أحمد على عبداللاه
حبيب عبدالرب سروري
كان بإمكان صديقي الأثير، أحمد علي عبداللاه، أن يُفتِّت هذا الديوان في دواوين عديدة، حسب مراحل كتاباتها، أو مواضيعها، أو سقوفِها الشعريّة المختلفة
لكنه لم يفعل
فضّل (هو الخبير الدوليّ في الجيولوجيا) أن يكون ديواناً "كُليّاً" يتنقّلُ عبره في مختلف الطبقات الجيولوجية لِوَعيه ولاوعيه، لحياته الخاصة والعامة...
باختصار: صمّم ديوانَهُ ليكونَ صورةَ سكانير لأحمد علي عبداللاه...

فالشِّعر من وجهة نظر أحمد، كما يبدو جليّاً لقارئ هذا الديوان، هو همسٌ يوميٌّ لِمناجاة الحياة، تفاعلٌ لغويٌّ مع كلِّ أبعادها وتقلّباتها وعلاقاتها وتفاصيلها الصغيرة.
هكذا يلزم قراءةُ هذا الديوان الذي تختلط فيه بفوضى لذيذة أناشيد الغرام لِمدنٍ عشقَها الشاعر، لاسيما عدَن التي يضاجعُها تارةً كمعشوقة في قصيدته "همسٌ شتويٌّ لِعدَن"، أو ينادمُها حيناً آخر، في قصيدة "نداء القادمين" كمقهورٍ مطعونٍ بالظهر مثلها:
يا عدَنَ العمر
كأسي فارغة
صُبّي حزنكِ كي أنجو
من عطش الروح
وأحمل عنك كثيرَ الصبر
كي تغربَ عنك الأنّات

ديوان أحمد أناشيد غرام لِعدَن ولِكثيرٍ من مدن اليمن أيضاً. لِأطفالهِ، لا شك. أترك هنا هذه الكلمات التي قالها لابنته نورا تتحدثُ بدلاً عنّي:
الليلُ يتركني وحيداً
كلما أغفو يفيضُ دمي
أصحو قليلاً كي أقبِّلَ وجهَ نورا
وتمرّ كفي فوق خدّيها
لأدرك أنني ما زلتُ حيّاً

ديوان أحمد أناشيدُ غرام لِمريم: الاسم التنظيمي للبهجة، كما يلزم قراءته
أقصد الاسم الذي يكثِّفُ كلَّ ذكريات الصبا وغرامات ما قبل الميلاد، "رفيقةُ الزمنِ الجميل"، تلك التي "ضحكاتُها البيضاءُ نائمةٌ هناك"، تلك التي تُقاوم سهمَ الزمن وتقدّمَهُ الخطّيّ الأعمى:
تتقادمُ الدّنيا ومريمُ لم تزلْ
تلك الصغيرة
مريم، ملكةُ الزمن المطّاطي، تبدو في قصائد أحمد أزليّةَ العشق والأشواق، أبديّةَ الإخلاص واللوعة:
لم تزل ترجو كما كانت
لقاءً آخراً بعد الوداع

ديوان أحمد أناشيد غرام لِلايبزج التي قضّى فيها سنوات دراساته العليا في الجيلوجيا. لإسميرالد الأسبانية: كريس، أو كريستينا التي شاركتْهُ هناك البعدَ عن أرضِهم الواحدة: غرناطتها، عدَنِه:
ونحن البعيدون عن أرضنا
نشدُّ نسيجَ الغرائز
ونشعلُ حمّى التسامي للحظةِ عُمْر!...
يا لهُ من "تسامٍ" مباركٍ مقدّسٍ نبيل! يالها من "لحظة عمْرٍ" بحجم الأبدية!... قبل أن تنتهي القصيدة ب:
وداعاً كريس
ونمضي بعيداً...
وقبل أن نجدها، هي أو مريم أو من يدري، بشكل أو بآخر، في قصيدةٍ أخرى عنوانها: سراب...

يتضرّجُ ديوان أحمد بالدّم الذي لا ينفك عن النزيف من جسدِه (يعانى أحمد من مرضٍ عضال: نوبات نزيف تداهمهُ وتجبرهُ على البقاء في المستشفى في حالات إغماءٍ متواترة). 
نزيفُ أحمد لا يختلف كثيراً عن نزيف كلماته على طول وعرض هذا الديوان: كلاهما ينبعان من نفس الأحشاء، بنفس الآلية...
هيموجلوبينات دم أحمد تتدفّق في صفحات هذا الديوان: وجدنَاها، قبل قليل، في حديثهِ لابنته نورا:
كلما أغفو يفيضُ دمي
ونجدهُا شفّافةً رقراقة في قصيدةٍ أرجوانية كثيفة أهداها لصديقه حبيب سروري، يحملُها الأخيرُ كصليبٍ في العنق:
ذات يومٍ سوف يخذلني دمي
فارتجل بعض المراثي إن عصاك الصمت
وأذكرْ كرمةَ الماضي وأغصانَ الطفولة
وليالٍ كم سهرنا طولَها
نحرسُ القمر الأخير
......
سوف يغفو رمشي الذابل خلفك
فَأَمِلْ وجهكَ عنّي
كي لا تراني بارد العينين
محمولاً إلى صمتي الجميل...

لا أعرف شخصيّاً من منّا الاثنين سيسافر إلى بلد "الصمت الجميل" قبل الآخر، لكني أعرف أن أحمد أفضلُ مني في "ارتجال المراثي إن عصاهُ الصمت"...
ربما لذلك أسرِّبُ هنا طلباً صغيراً لأحمد في أن "يرتجل المراثي إن عصاهُ الصمت"، لاسيّما وأني أتمنّى أن يعصيَهُ فعلاً إذا ما نلتُ قبلَهُ فيزة السفر لأصقاع بلد "الصمت الجميل". 
أتمنّى ذلك من أجل انتصار الشِّعر قبل هذا وذاك. من أجل أمجاد "الثرثرة" الشِّعرية، الأكثر جمالاً وسناءً وأناقةً وخلوداً من كلِّ صمتٍ جميل. من أجل الانتصار الجذريِّ المطلق للحياة على الموت، لللانهاية على النهاية!...

تتنوّع مواضيع ملحمة هذا الديوان لتسرد أحياناً تراجيديات فريدة (تُلخِّص آلام اليمن بشكلٍ أكثر تعبيريةً من ألف كتاب) مثل تراجيدية قصيدة "الفتى عبدالرحيم"، الذي كان رفيقاً لأحمد في صباه ودراسته في عدَن، قبل أن تلتهمَها جيوش الظلاميين القراصنة الذين غزوها في حرب ١٩٩٤...
الفتى عبدالرحيم الذي كان ابن المدِّ الثوري في عدَن، "فنار الاشتراكية العلمية" في سبعينات وثمانينات العالم العربي، تحوّلَ تحت المدّ السلفي الظلامي إلى إنسانٍ آخر: مهووسٍ بمجيئ المهدي المنتظر!...
 حلَمَ عبدالرحيم ذات يوم (أربطوا أحزمتكم جيّداً!) أن السماء تطلبُ منه أن يغتالَ ابنَهُ الأكبر، قبيل صلاة الفجر، ليصيرَ عبدالرحيم بفضلِ هذهِ الأضحية الإبراهيمية: المهدي المنتظر!...
هكذا، عند أذانِ فجرٍ دامسٍ لعين، في منتصف تسعينات جنوب اليمن الصريع، أيقظَ عبدالرحيم ابنَهُ الأكبر ليأخذه لصلاة الفجر في المسجد المجاور لبيته، قبل أن يضعَ في رأسه، قرب باب المسجد، رصاصة مسدس!...
من يستطيع هكذا أن يُكثِّفَ ويوحّدَ دماءَ الأساطير (من كبش إبراهيم حتى المسيح الدجّال) التي أضحت تهيمنُ اليوم (من يُصدِّق ذلك؟) على ثقافةِ واقعنا اليمني المعاصر، أكثر من أي وقتٍ مضى؟
من دفع حياتَه ثمناً لِعودةِ سلطةِ أساطيرِ ما قبل التاريخ، في يمَنِ عصْر ما بعد الحداثة، بشكلٍ أكثر مأساويّة من "إسماعيل" بن عبدالرحيم، أضحية "الفتى عبدالرحيم"، فلذّة كبده؟

لم تتوقّف أصداء نزيف ذلك اليوم التراجيدي في رجِّ بيوت جيران عبدالرحيم والشوارع المتاخمة لهم، حتّى اللحظة: يصحو عبدالرحيم كل يوم، قبيل أذان الفجر مباشرة، إثر كابوسٍ يداهمه بعنفٍ وضراوة: يصرخ حينها بنداءات باكية مرتعشة (تهزّ أصداؤها الشوارع، قبل أن تتوحّدَ وتذوب في أذان المساجد) يخاطب بها ابنَهُ الغائب الذي رحل وتوغَّلَ بعيداً في أرض كباش إبراهيم ومعارك المهدي المنتظر:
كل يومٍ يصحو الفتي عبدالرحيم قبل الأذان
لِيزلزلَ الأرضَ القريبةَ صوتُهُ
فتضجُّ أصواتُ المآذن حولَه
لا صوت يعلو فوق أصوات الدعاء!...

سقط الطفل الأول للفتى عبدالرحيم هكذا ضحيّةَ توغُّلِ الأفكار الظلامية في حياة اليمن المعاصر...
ثم تقدّمَ الزمنُ "في خريفٍ واحد" ليحينَ موعد سقوط الابن الثاني، وتتضاعف تراجيدية عبدالرحيم، بشكلٍ جديدٍ لا يقلُّ كارثيّة:
تمضي سنينٌ في خريفٍ واحدٍ
والأرض تسقطُ شهوةً حمراء في زحف الجنود...

يسقط الطفل الثاني لعبدالرحيم هذه المرة ضحية جنود طاغيةِ اليمن الغاشم وهي تطلق النار على شباب الحراك السلمي في جنوب اليمن، عند بدء انتفاضتهم الثائرة ضد نظامِ "الثعبان"، علي عبدالله صالح
تسردُ القصيدة سقوطهُ المرّوع بإيقاعٍ "مطرقيٍّ" متسارع:
والأرض جمرٌ من سعار رصاصهم
هذا قتيلٌ آخر
دمَهُ الطريّ تنالهُ أقدامُهم
......
سقط الصبيّ
كلُّ الرصاص هوَتْ عليه...
عبدالرحيم يئنُ فوق صبيّهِ
حملَ الرُّفاة...

قصيدة "الفتى عبدالرحيم" روايةٌ شعريّة صغيرة لِقصّةٍ واقعيّةٍ حقيقية، تستحقّ أن تتحوّل إلى سردٍ روائيٍّ مطوّل، لأنها تُلخّص تراجيدية اليمن المعاصر، وجنوبه المنكوب، أفضل من ألف مقال...





الأحد، 18 نوفمبر 2012

فن الهزيمة



فن الهزيمة
حبيب عبدالرب سروري

(١)
نظام إسرائيل يمينيٌّ متطرف، عنصريٌّ إجراميٌّ وحشيّ…
لكن قادة حماس العسكريين، الذين يطلقون الصواريخ الإيرانية على مدنيي إسرائيل، مجرمون أيضاً. وجهلة في نفس الوقت. 
هم، بوعي أو بدون وعي، أداة تحقيق سيناريو ناتنياهو ويمينه المتطرف الذي لجأ لِتأجيج شرارة هذه الحرب الجديدة، لينجح في انتخاباته البرلمانية القريبة القادمة.

إطلاق هذه الصواريخ على إسرائيل هي ما تَوقَّعهُ سيناريو إسرائيل، وأرادَهُ قادتُها! 
إذ يسمح لهم ذلك (مثل المرة السابقة، في بداية ٢٠٠٩) باجتياح غزّة (بحجّةٍ بديهية: لا توجد دولة في العالم تقبل أن تسقط على سكّانها صواريخ تنطلق من مدينة مجاورة!)؛ بتدمير بنيتها التحتية واغتيال قادة حماس العسكريين؛ بخنق  المواطن الفلسطيني البريء الذي تتراكم عليه الويلات يومياً؛ وبخلق عثرات جديدة تؤجل من موعد ولادة دولته الفلسطينية… 

(٢)
سؤال جوهري: لماذا خرجت شعوب الغرب للشارع للتضامن مع سود جنوب أفريقيا ضد نظام الأبارتايد (الذي ارتبط بشدة، مثل إسرائيل، بأنظمة الغرب)، فيما لا ينزل أحد في الغرب تقريباً للشارع للتضامن مع فلسطينيّ الأراضي المحتلة؟

لعل جزءاً هاماً من الإجابة على هذا السؤال يكمن في أن مانديلا وحزبه خاضوا حربهم ضد الأبارتايد بعقلية القرن العشرين، فيما تخوضها حماس بعقلية "حرب داحس والغبراء"

ما يعتقدُ قادة حماس أنها شجاعة ومواجهة للعدو ليست أكثر من هرولة انتحارية نحو الهزيمة والموت المجاني للمواطن الفلسطينيّ
ليست أكثر من تحقيق هدف أسرائيل بتأجيل حل القضية الفلسطينية، ليزداد أثناء ذلك الاستيطان الإسرائيلي، وليصبح تغيير خارطة فلسطين أمراً يفرضهُ الواقع، ولِتواصل إسرائيلُ (التي أسست تطورها على البحث العلمي الحديث) خلال ذلك تقدّمها العلمي والتقني والعسكري الذي يضعها في مصاف أرقى دول العالم، فيما يواصل العرب مزيداً من اعتناق الجهل والحياة خارج العصر…

بهذه الصواريخ التي لا تسمن أو تغني من جوع (تلتقفُ المضادات الإسرائيلية أكثر من نصفها. وتطوّرُ إسرائيل، بفضل هذه التجارب المشتركة مع حماس، أبحاثها العلمية لالتقافها كليّةً عما قريب…) يُسيئ عسكريو حماس لعبارة "الله أكبر" وهم يردّدونها عند إطلاق كلِّ صاروخ باتجاهِ مواطنٍ إسرائيلي بريء. 
ناهيك عن أنهم يضعون "الله أكبر!" في موقف حرج وصراعٍ خاسر مع عقليّة "العلم أكبر!" الذي تُحرّك إسرائيل والغرب وتصنع انتصاراتهم المتواصلة…

(٣)
أمس، في أحد حوائط فيسبوك، كتب أحدهم: "لا تنسوا الدعاء لأخواننا في غزّة!"…
سألته: أتعتقد أن نتائج هذه الحرب ستتغيرُ لصالحنا إذا ضاعفنا عدد دعواتنا عشر مراّت، أو مليار مرة؟
لماذا نحن من يضرب الرقم القياسي الدولي في الدعاء والتضرع من ناحية، وفي حصد الهزائم في نفس الوقت من ناحية أخرى؟
مشكلتنا العتيقة: لم نستوعب بعد، رغم كل هزائمنا، أن الشعوب تنتصر عندما تتكئ على العلم وعقلية العصر الحديث، وليس على التهليل والدعوات الخاشعة…

(٤)
من المعروف للجميع أن الفكر الاستراتيجي الغربي في خوض الحروب ما زال، منذ عصر الإغريق، يستند على نموذجي: أشيل وعولس، بطلي الإلياذة.
أشيل: رمز القوة، 
وعولس (صاحب فكرة خديعة "حصان طروادة"، وبطل الأوديسة): رمز الذكاء والعبقرية
أي أن الحرب تُكسب بالقوة والدهاء معاً…

الفكر الإستراتيجي الصيني في الحرب أرقى من ذلك بكثير:
الحرب في الفكر الاستراتيجي الصيني لا يتم كسبها إلا بالذكاء والدهاء فقط:
يلزم كسبها في لحظة مفاجئة، بدون مواجهة، بدون ضياع قطرة دم، بدون أدنى خسارة… 
يلزم كسبها بشكل ناعم مباغت، أو كضربة برق مفاجئ. 
أي: ما إن تعلِنَ الحربَ على العدو إلا وتكون قد كسبتَها مسبقاً!

يُلخِّص هذه الفكرة العبقرية ويُقدِّمها ويشرح كلّ قواعد لعبتها (مدعوماً بقصص مذهلة من تاريخ الصين، في غاية الروعة والذهاء) كتاب "فن الحرب" للعبقري الداهية سان تزو (الذي كُتِبَ في نفس أيام حضارة الإغريق تقريباً، خمسة قرون قبل الميلاد، مُلخِّصا كل تجارب عصور "المملكات المتصارعة" في حضارة الصين).
يعتبر هذا الكتاب حالياً أهم وأعظم كتاب في الاستراتيجية والذكاء… 
تتمحور حوله الوركشوبات والدراسات المكثّفة، يُدرَّس في كليات الإدارة والتخطيط، ولا يوجدُ قائدٌ عسكري أو إقتصادي غربيّ اليوم  لم يقرأه، أو لا يتفاخر في القول إن "فن الحرب" كتاب سرير نومه المفضّل!
أدعو الجميع هنا لِقراءة هذا الكتاب المذهلِ جدّاً…

ترتكز عليه سياسة الصين واستراتيجيتها الحديثة (التي لم يعد هناك شك من أنها تنتصر يوماً بعد يوم في حربها الكونية، وفي إستراتيجيتها لقيادة دفّة القرن الواحد والعشرين)
ذلك موضوع طويلٌ جدّاً، الحديث حوله متشعبٌّ وذو شجون!

مفهوم الحرب ذاته في الفلسفة الصينية أرقى من مفهومه التقليديّ في الفلسفات الأخرى بكثير. 
كل شيء من وجهة النظر الصينية حربٌ تقريباً: الحرب التقليدية، العشق، الجنس، جهاد النفس، الشِّعر…

ما يُهمِّني هنا هو أن استراتيجية العرب الحالية في الحرب (الذي كان صّدام حسين رمزها الأكبر، وربما قبله المذيع المصري الشهير في إذاعة "صوت العرب": أحمد سعيد) عكس ذلك تماماً!
تُلخِّصها عبارة: "الهنجمة نصف القتال!". (الهنجمة تعني: الضجيج في الصراخ قبل العراك).
أي: النقيض الكليّ لاستراتيجيات سان تزو. 
يعني: الفشل المؤكد تماماً!
عقلية "الهنجمة" تشرح فعلاً كم نحن - العرب - ظاهرة صوتية بالفعل!
لأن الانتصار في الحرب، حسب أفكار سان تزو، يتطلب عقليّةً مغايرة تماماً. 

قادني للحديث عن كل ذلك: الصواريخ التي يطلقها عسكريو حماس كرد فعل على إسرائيل، وبمعرفة مسبقة أنها لن تفيد قضية فلسطين في شيء، ودون اكتراث لما ستسبِّبه من خسائر فلسطينية في الأرواح والبناء التحتي…
لعلها صواريخ "فن الهزيمة"، إذا جاز التعبير!

خلاصة القول: أدعو القادة العسكريين لحماس لقراءة سان تزو والتأمل في كتابه طويلاً!