أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2011
(20)
- ◄ يناير 2011 (5)
- ◄ فبراير 2011 (1)
- ◄ يونيو 2011 (3)
- ◄ سبتمبر 2011 (4)
- ◄ أكتوبر 2011 (2)
-
◄
2012
(24)
- ◄ فبراير 2012 (1)
- ◄ أبريل 2012 (10)
- ◄ يوليو 2012 (1)
- ◄ سبتمبر 2012 (3)
- ◄ أكتوبر 2012 (1)
- ◄ نوفمبر 2012 (2)
- ◄ ديسمبر 2012 (2)
-
◄
2013
(33)
- ◄ يناير 2013 (6)
- ◄ أبريل 2013 (1)
- ◄ يونيو 2013 (5)
- ◄ يوليو 2013 (5)
- ◄ أغسطس 2013 (3)
- ◄ سبتمبر 2013 (1)
- ◄ أكتوبر 2013 (5)
- ◄ ديسمبر 2013 (2)
-
◄
2014
(27)
- ◄ يناير 2014 (3)
- ◄ فبراير 2014 (2)
- ◄ أبريل 2014 (3)
- ◄ يونيو 2014 (5)
- ◄ يوليو 2014 (3)
- ◄ سبتمبر 2014 (4)
- ◄ ديسمبر 2014 (6)
الثلاثاء، 31 مايو 2011
الثوراتُ العربية وسقوطُ نظريةِ صراع الحضارات
السبت، 14 مايو 2011
لنفصل الدين عن مدرسة الدولة المدنية!
أضواء على مباراة شطرنج بين صالح وشعب اليمن
أضواء على مباراة شطرنج بين صالح وشعب اليمن
ثمّة مفارقة يكررها الكثيرون: تبدو ثورة اليمن أعمق وأنضج الثورات العربية حتى الآن، في بلدٍ يوشك على الانهيار، رئيسه أضعف حلقات قادة العرب... فيما لم يسقط نظام الرئيس صالح حتى اللحظة!
ثمة في الحقيقة طلاسم يلزم فكّها لفهمِ خصوصيات الثورة اليمنية وتعقيداتها، وإجلاءِ خطأ هذه المفارقة.
صحيحٌ أن نظام صالح، بخلاف بقية أنظمة العرب، فشل جذريّاً وعلى كل الأصعدة: تمكّن صالح بنجاحٍ مذهل من أن يكون مهندسَ تدميرِ اليمن في كل المجالات: التنمية، التعليم، السياحة، الثقافة، المدنيّة، الأمن، الخدمات الكهربائية والمائية... لتصير اليمن «بفضلهِ» على شفير الانهيار والصوملة.
وصحيحٌ أن اليمنيين يهندسون اليوم أروع وأعظم الثورات العربية. أثبتوا أنهم يمتلكون إرادةً خارقةً صارت مضرب الأمثال: أكثر من ثلاثة أشهر من الإعتصامات والمسيرات المتصاعدة، التي لم تقتصر على بعض المدن الكبرى (مثل حالتي مصر وتونس)، بل شملت كل مدن اليمن وقراها من جزيرة سوقطرة حتى أطراف صعدة.
ليس ذلك فحسب، لكنهم ثاروا قبل كل ذلك على أنفسهم، صانعين ثورات اجتماعية وثقافية داخل ثورتهم السلميّة المذهلة: خرجت المرأة التي كانت أشبه بشمّاعةٍ منزليّةٍ في الغالب، لتحتلّ اليوم قلب الساحات إن لم تكن جذوتها أحيانا. ترك اليمنيّون أسلحتهم في البيوت (من كان يتوقع أن يحدث ذلك؟) ليحملوا الورود بدلاً منها ويواجهوا الطاغية بصدور عارية. حوّلوا ساحاتهم إلى كومونات تاريخية يتعلمون فيها الحياة المدنيّة، يكتشفون فيها أخيراً أنفسهم وملكاتهم، يكتبون فيها أحلامهم على البالونات ويطلقونها ببراءة أطفال، يرتّبون ساحاتهم وينظفّونها وينمقّونها لتكون نواة مدن المستقبل الزاهرة، يمارسون فيها الاختلاط الحضاري والفن والأدب والجدل والضحك حتى سقوط النظام!...
من قال عنهم صالح إنهم أصيبوا بـ«أنفلونزا البلدان المجاورة» هم في الحقيقة شبابُ شعبٍ فتك به وباءٌ عضال: وباءُ الحرية، الذي لن يطيح إلا بطبيب الزور الذي أخطأ التشخيص.
وصحيحٌ أخيراً أن صالح شخصيّةٌ فريدةٌ جدّاً: يحتقر التعليم والعلم بصدق وإخلاص. لا يحتقر شيئاً قدر ذلك: بعكس كل القادة العرب، لم «يخطئ» ولو مرة واحدة بتوجيه أحد أبنائه أو بناته للتعليم، في الداخل أو الخارج، أو حتى شراء شهادات ملفقة له!...
يكفي سماع شذرات من خطاباته لنستوعب مدى جهله وبلطجيته معا. لن أتحدث عن انتهاكه الدائم لإعراب جمع المذكر السالم فذلك ترفٌ لغويٌّ في حالته. سأذكر على سبيل المثال فقط عبارته التي تتردد كل ساعة في قناة الجزيرة والتي يقرأها من ورقة (وليس شفوياً):
«تُشكَّلُ لجنةً (بدلاً من لجنةٌ) من مجلس النواب والشورى لإعداد دستوراً (بدلاً من دستورٍ) جديداً (بدلاً من جديدٍ)»... لا يُسكِّن لِيسلم، كما اعتاد ناطقو العربية، لدرء ارتكاب خطأٍ في قواعد نحوها. يقرأ ببلطجيّة: ينصب كلّ الكلمات لمجرد أنه لا يعرف قراءة الضمّتين والكسرتين. من نصب على اليمن وشعبه طوال 33 عاماً لا يعرف إلا النصب، حتى في اللغة العربية...
الأسوأ أنه مستعدٌّ أن يُهزّئ أو يصفع أيّ مستشارٍ يتجرأ على مراجعته، كما حصل عندما تجرأ أحد مستشاريه، كما يقال، أن يشرح له الفرق بين «لم» و «لن»، الذي لا يعرف التمييز بينهما عند الحديث بعد 33 عاماً من الحكم!... يقضي اليمنيّون وقتهم في السخرية منه عند سماعه يستخدم «لن» في محل «لم» في كل عبارة!...
أنتقلُ الآن، بعد تذكير هذه البديهيات، إلى ما سيفسر إشكالية المفارقة الرئيسة التي استهلُّ بها مقالي هذا:
ليس صالحُ قطعاً أضعفَ حلقةٍ في الرؤساء العرب كما يقال. هو أصعبهم ولا شك، لأنه يكثّف في شخصهِ برعونةٍ مراوغة أبشعَ مساوئهم جميعاً كما سأحاول التوضيح. صالح داهيةٌ في صناعة الخراب، وفي صناعة الخراب فقط.
فالقوات المسلحة اليمنية أوّلاً (بعكس حالتي مصر وتونس) لاسيما الحرس الجمهوري والأمن المركزي، يقودها أبناؤه وأخوته وأبناء أخوته. ويعلم المراقب السياسي أن إسقاط النظام في هذه الحالة (كما هو الحال في ليبيا) يزداد صعوبةً وتعقيداً بكثير، لاسيما وأن الثورة اليمنية تفتقدُ (بعكس ليبيا أو سوريا) للدعم أو الضغط الخارجي. ليس ذلك فحسب، بل هي تثير في الجوهر مخاوف دول الخليج التي لا يعرفُ قاموسُها كلمتي: «الشعب يريد»، والتي لا تكنُّ عشقاً عارماً للثورات: تفضِّلُ قطعاً «الرئاسات الملكية» المتأبدة على الأنظمة الديمقراطية، خوفاً من تسلُّلِ عواصف رغبات التغيير والحريّة إلى شعوبها!...
ولعلّ الصعوبة الرئيس الثانية تكمن في أن أحدَّ أهم معالم صالح هو براعته الشديدة في تنفيذ شعارٍ يلخِّصُه أفضل تلخيص: كي تحكم اليمن 33 عاماً يلزمك أن تكون ثعباناً يرقص فوق هامات جياع!...
لذلك حرص علي صالح منذ بدء حكمه على تطبيق شعار الاستعباد العتيق: «جوّعْ كلبك يتبعك!». استولى وأتباعه على كل ثروة اليمن، لدرجة أن مثلاً يمنيّاً شهيراً ممتعاً يلخص ذلك (عند الحديث عن مصير موارد بترول اليمن الذي يُصدَّرُ من ميناء «بئر علي» في شبوة): «من بئر علي، إلى جيب علي»!...
يقضّى صالح وقته مثل شيخ قبيلة في دار الرئاسة، يوزّع ثروة اليمن كما يريد: يجوّع من يريد، يغْني من يريد، يقتل ويشتري من يريد... ليس له مشروعٌ في الحياة غير ذلك، لدرجة أوصلَتْ قطاعاً واسعاً من شعب اليمن إلى تحت خطّ الفقر والجوع، بجانب أميّتهم التي تضرب رقما قياسياً.
يزيد كل ذلك من تعقيدات الثورة اليمنية. فالأميّ الجائع، الذي لا يجد الماء والخبز النظيف في يمن اليوم، لا يميل لقضاء وقته في ساحات الاعتصام، أو في الانهماك في تنظيم الثورات عبر الفيسبوك.
ناهيك أن صالح، الذي صار اليوم متفرّغاً طوال الأسبوع لعمله الجديد كـ«مقاول مسيرات مضادة»، يجيد جلب هؤلاء الجياع من كل مدن وقرى اليمن النائية، بجانب من تبقى له من أنصار وخائفين من التغيير ومتذبذين ومطبلين وتنابلة وفاسدين سيفقدون مصالحهم بانتصار الثورة، إلى تجمُّعٍ أسبوعيٍّ يتيم في ساحة واحدة: ساحة السبعين بصنعاء (التي لا يمكنها أن تتجاوز رياضيّا المائة ألف شخص). في حين تمتلئ ساحات التغيير والحرية وشوارع مدن اليمن وقراه بأكثر من أربعة مليون متظاهر، ملأ منظرهم المدهش، وهم يرفعون سواعدهم المتلاحمة في لوحة فريدة، الصفحة الأولى من صحيفة اللوموند الفرنسية قبيل أسبوعين.
يطلق صالح في تجمعاته الأسبوعية خطابات رديئة مسعورة، تدوم دقيقتين، يشتم فيها الشعب بأشنع الأوصاف، على طريقة معمر القذافي. تتجلى في تلك الدقيقتين شخصيّته الظلامية المجرمة: يسبُّ مثلاً باسم الشريعة الإسلامية، على الطريقة الطاليبانية، تواجدَ المرأة في ساحات التغيير والحرية واختلاطها بالرجل، لتنطلق بعد ذلك مسيرات بلاطجته في صنعاء باتجاه ساحة التغيير قرب الجامعة مردِّدةً: «الجامعة الجامعة، عند القحاب الصائعة!» شاتمةً ببذاءة طليعة نساء اليمن الرائعات المتواجدات في الساحة!...
أجزم هنا أن صالح أسوأ من القذافي لكنه أكثر خبثاً وأقلّ ضجيجاً: لم يكن أقلّ دموية من القذافي عندما فجّر حرب 1994 أو حروب صعدة الستة، أو غيرها من الحروب على شعبه التي أزهقت أرواح عشرات آلاف اليمنيين. يكفي تذكُّرُ مناواراته عند توقيع «وثيقة العهد والاتفاق» مع الحزب الاشتراكي اليمني وغيره من القوى الشعبية قبيل حرب 1994 (التي تشبه مناوراته هذه الأيام للتهرب من توقيع معاهدة الصلح الخليجية مع اللقاء المشترك)، قبل التنصل من ذلك الاتفاق لشنِّ حربٍ طاحنة حوّل بعدها جنوب اليمن إلى غنيمة حرب، دمّر كل تقاليده المدنية وإدارته المتطوّرة، وعامل أبناءه كمواطنين ممتهَنين من الدرجة الثانية...
بعكس القذافي، عندما يقتل صالح خصومه منذ 33 عاماً، يخرج دوماً في جنازاتهم على رأس المشيّعين. لا يُسمي من أمر قناصتَهُ بقتلهم في ساحة التغيير في مجزرة 18 مارس «جرذاناً» كما فعل القذافي، ولكن «شهداء الديموقراطية»، متهماً، بكل برودة، سكان منازل تخوم ساحة التغيير الطيبين بقتلهم!... وعندما سئلَ: لماذا أصابت الرصاصات رؤوسَ أولئك الستّين شهيداً وأعناقَهم، بتلك المهنيّة المليمترية، أجاب، ببرودة أكبر، بأن كلَّ شعب اليمن قناصةٌ بالفطرة!...
يعرف صالح، كرئيس عصابةٍ محترف، كيف يكذب ويغيّر التزاماته ويقلب أقواله في كل لحظة، كيف يماطل ويناور. يسمّي ذلك «الرقص فوق رؤوس الثعابين». ناهيك أن تشبُّثَهُ وهوسَه بالبقاء في السلطة لا يقلّ عن معمر القذافي...
ثمّ لا يهمّ صالح، مثل القذافي، أن يكون مؤلف «نظرية ثالثة»، ولا تساوره الرغبة ببناء تماثيل شخصيّة له. هذه أمورٌ شكليّة من منظوره. تُهمُّه السلطةُ الكليّة والاستيلاء الكامل على الثروة وتوريثها لأبنائه، لا غير. يعتبر اليمنَ، بعد 33 عاماً من الحكم، «غنيمته» الشخصية التي لن ينتزعها منه ومن أبنائه أحد.
ما زاد من تعقيد ظروف الثورة اليمنية أخيراً هو أن صالح يحاول أن «تخرج عن النص»، وأن تبدو أزمةً بين حزبه الحاكم والمعارضة.
فهذه الثورة، من وجهة نظر شطرنجية (أي كمباراة بين الشعب وصالح: يريد الأول فيها إخراج الثاني من الحكم، ويريد الثاني إخراج الأول من الحياة)، وصلت إلى نقلاتها النهائية: لم يتبق لصالح إلا الملِكَ وبضعة بيادق، فيما يسيطر الشعب على كل أجنحة رقعة الشطرنج ومركزه.
أيُّ لاعب شطرنج يحترم نفسه كان سيستلم في هذه اللحظة ويترك المباراة. لكن صالح يلجأ اليوم إلى حركاتٍ بهلوانية لإرباك خصمه. يشتمه ويشتم أنصاره في قاعة المباراة. يهدد باستخدام المسدس لاغتياله. يراوغ، يركل بقدميه خصمه أسفل طاولة الشطرنج. يطلب من جيران صالة المباراة بالتوسط لإنهاء المباراة، يتركهم يتدخّلون بها ويمسّون قطعها... يريد فركشة اللعبة بأية طريقة قبل هزيمته...
ازداد تعقيد هذه المباراة اليوم بشكلٍ جليّ. ستطول كما يبدو، وستكون نتائج ذلك وخيمةً على الجميع، إذا لم يمارس المجتمع الدولي ضغوطه على نظام صالح...
لكن شعباً اكتسحهُ وباء الحرية بهذه القوة العاتية قادرٌ حتماً، في كلِّ الأحوال، على الصبر ومواصلة ثورته السلمية حتى النصر.
استدراك: كنتُ أتصفح قبيل قليل بعض صفحات الفيسبوك. وجدتُ فيها هذا الدعاء الأنيق لعزت القمحاوي الذي كتبه قبل شهرين: «يارب كل الوحوش: خلِّصْ سورية من فم الأسد، وخلِّصْ ليبيا من فم السلعوة، أما علي عبدالله صالح فاتركه لليمنيين، فهو أضعف من أن نشغلك به يا قادر يا كريم»... لعلّ الشيخ عزت يعيدُ صياغة دعائه بعد هذا المقال!...
الأربعاء، 11 مايو 2011
تفاصيل الساعة الأولى من لقائي برائدِ العلمانية الأول: أحمد جابر عفيف!
تفاصيل الساعة الأولى
من لقائي برائدِ العلمانية الأول: أحمد جابر عفيف!
(مارس 2010، حديث المدينة + الثوري + كيكا)
سأروي في هذا المقال تفاصيلَ الساعةِ الأولى من لقائي بالأستاذ أحمد جابر عفيف، وسأشرحُ كيف غيَّرتْ تلك الساعةُ برنامجَ اختياراتي وحياتي الثقافية تماماً!...
يلزمني أوّلا أن أذكِّرَ أن العلمانية (التي تأسستِ الحضارةُ والعلمُ الحديثين على صرحِها) تعني فصلَ الدينيّ عن الدنيوي: أي فصل العلمِ عن الدين، فصل السياسةِ عن الدين!...
رتّبَ لقائي بالأستاذ أحمد صديقي على محمد زيد، على هامش دعوةٍ استلمتُها من المركزِ الثقافي الفرنسي في أواخر التسعينات لزيارةِ صنعاء لإلقاء محاضرة عن روايتي: «الملكة المغدورة» التي كتبتُها بالفرنسية والذي أنهى علي محمد زيد ترجمتها حينذاك.
توجّهتُ مشياً نحو مؤسسةِ العفيف الثقافية! كان ذلك أوّل تجوّلٍ أقومُ به لوحدي في صنعاء التي لم تكن بالنسبة لي، قبل ذلك، أكثر من محطّةِ عبورٍ سريعٍ لعدَن!
عندما وصلتُ إلى الشارع المواجهِ عمودياً ل«مخبازة الشيباني» التي تقع المؤسسة على يساره والسفارة الفرنسية على يمينه، رأيتُ، على جدار ركن الشارع، عبارةً غريبةً جدّاً، جميلةَ الإيقاع، مذهلةَ التركيز، فاجأتني تماماً: «أمةٌ لا تنهض لصلاةِ الفجر، لا تستحقُ النصر!»...
هزَّتْني هذه العبارةُ التي تُكثِّفُ، أكثرَ من أية عبارة أخرى، سببَ تخلِّفِنا تماماً!... تساءلتُ: ما علاقةُ «صلاة الفجر» بـ«النصر»؟... النصرُ الكليّ الذي حقّقتهُ الشعوب المتطورةُ (التي لا تعرف غالباً ما هي صلاة الفجر) جاء بالتعليم والمعرفة والتنمية فقط، ولأنها استطاعَتْ في البدء الفصلَ بين الدينيّ والدنيويّ... فيما تكرِّسُ هذه العبارة السلفيّة الظلامية عكسَ ذلك تماماً!...
سأكتشفُ، ابتداءً من تلك اللحظة، أن هذه العبارة تلخِّصُ بشكلٍ عجيبٍ واقعَ اليمنِ المعاصر!... يلزمني أن أضيف (هذا ما سأدركهُ إثر انتهاء الساعةِ التاريخيةِ الأولى بلقائي بأحمد جابر عفيف): واقعَ اليمنِ المعاصرِ الموجودِ خارج أسوار مؤسسة العفيف الثقافية!...
بعد طرقي لِبابِ المؤسسةِ ورؤيةِ لوحةِ مدخلِها التي تمنع مضغ القات وحمل السلاح فيها، شعرتُ أنني أدخل مكاناً آمناً، غيرَ اعتياديٍّ جدّاً في هذا البلد، ينسجمُ كثيراً ومزاجي، يُشبِهُ مدخل اليمنِ التي أبحثُ عنها بصعوبة!...
رأيتهُ أخيراً بوجهِهِ الأبويّ الودود، بإيقاعه الودّي اللطيف، بصوتِهِ الهادئ الرخيم، بهندامهِ الأنيق الذي تفوح منه رائحةٌ خفيفة لِعطرٍ شرقيٍّ أصيل!... تحدّثنا لِوحدنا بهدوء! طاف بي في أنحاء المؤسسة، قدّمَ لي مكتبَتها، أثاثها، صورَها، أجهزتَها، قاعةَ محاضراتها... كان مُبرمِجاً مراحل الزيارة دقيقةً بدقيقةً!...
أكثرُ ما أثار انتباهي دقّةُ نظام المؤسسةِ وانسجام بُنيتِها مع أحدث المبادئ الثقافية في العالم المتقدم! على سبيل المثال: تحترمُ المؤسسةُ المبدأَ الجوهريّ الذي يؤكدُ استقلالية المؤسسات الثقافية عن النظام السياسي كما تمارسهُ المؤسسات الثقافية التي تحترمُ نفسها، لاسيما مؤسسات الشعوب المتطورة! الرمزُ الرائع لذلك: لم أر أي صورة لحاكمٍ يمنيٍّ في جدران المؤسسة!...
تنفّستُ الصعداء!... بدأتُ أشعرُ بأمانٍ عميق، براحةٍ أكبر!... بدأتُ أحبُّ كثيراً اليمنَ الموجودَ داخل جدران مؤسسة العفيف الثقافية!...
ثم بعد نصف ساعة تقريباً توجّهتُ إلى الحمام! فوجئتُ بعبارةٍ مكتوبةٍ على جدارهِ أذهلتني هي الأخرى (مثل عبارةِ ركن الشارع) لكن بشكلٍ عكسيّ: «ممنوع الوضوء! المسجد الأقرب في الشارع المجاور!»...
ماذا دار في خاطري حينها؟...
تذكّرتُ كم تعتبِرُ الثقافةُ الغربيةُ (باستعلاء وفخر) أنها وصلتْ إلى ذروةِ الانجازات: العلمانية (الذي تأسَّستْ في فرنسا بفضل مفكريّ التنوير: فولتير، ديدرو... وكثيرون غيرهما حرّروها، بعد قرونٍ من الكفاح الفكريّ، من هيمنة الكنيسة)! تذكّرتُ كم يعتبِرُ هؤلاء المثقفون أن العربَ يحتاجون لِعشرةِ قرونٍ للوصول إلى هذا الإنجاز الحضاري الحديث. دولُهم عاجزةٌ كليّةً عن الفصل الضروري بين العلم والدين، بين السياسة والدين. وكلُّ مفكريهم لا يمتلكون الشجاعةَ الشخصيّة الكافيةَ لممارسةِ هذا الفصل!...
بعد حوالي ساعة من اللقاء قال لي: «أودّ أن أسألك سؤالاً»!...
كنّا لوحدنا تماماً في مكتبه!...
نظرتُ إلى تقاسيم وجههِ باهتمام، أدركتُ منها ومن طريقةِ تقديمهِ لسؤالهِ أنه يقذف بي عموديّاً نحو مركزِ القضية الجوهرية الذي كرّس لها مشروعه الثقافي وهدف حياته! بعد ثوانٍ قال لي: «لماذا نحن مدانون في اليمن، وفي العالم العربي، بتخلُّفٍ يزداد أكثر فأكثر؟ ما الحل في رأيك؟»...
كان السؤال الأول مفاجئاً!... لم أرتّب أفكاري للإجابة عليه! تلعثمتُ كثيراً... بدأتُ أعزي كلّ شيء لِعدمِ وجودِ الديمقراطية!... (كان ينظر إلي بفتورٍ نوعاً ما، كمن يقول إنني لم أمسّ الجذر!)... ثم استرسلتُ متحدِّثاً عن التاريخ (لم يزد اهتمامه أكثر، فيما زاد تلعثمي!)...
ثم علّقَ: «تقول لي ذلك، أنت الآتي من فرنسا؟»...
لم أفهم!... كان من الأجدى بي أن أتذكّرَ العبارة التي قرأتُها في ركن الشارع والتي تلخِّصُ جوهرَ أزماتنا، وأقول له بكلماتٍ رمزيّةٍ مركّزة: «السبب مختزلٌ في عبارةٍ مكتوبةٍ في ركن شارعك، والحل ينطلق من عبارةٍ مكتوبةٍ في حمام مؤسستك!»
لم أمتلك، لسوء حظي، الألمعيّةَ اللازمة لذلك!...
ثم تساءلتُ لماذا ذكرَ فرنسا؟ هل بسببِ قانونها التاريخي في 1905 الذي حدّد العلمانيةَ أساسا للتعليم والنظامِ الفرنسي (المدرسةُ فيه لا تعترفُ بأيِّ دِينٍ كان، بما فيه المسيحية!)...
ثم أسعفني الأستاذ أحمد هو نفسه بالرد: «سببُ تخلفنا هو إقحامِ السلفية والدين في التعليم والسياسة والحياة العامة! نحن بحاجةٍ إلى تعليمٍ حديثٍ مستقل عن الدين، إلى نظامٍ سياسيٍّ مدنيٍّ حديثٍ حضاريّ، إلى حاكمٍ مدنيٍّ مثقف...» استغرقَ يتحدثُ بدقّةٍ ووضوحٍ عن هذه الفكرةِ المحورية، عن مشروعهِ الشخصي، عن مؤسسةِ العفيف الثقافية... عن مشروعه المستقبلي الهائل: «الموسوعة اليمنية» الذي موّلتهُ مؤسستَهُ خلال السنين التي تلت ذلك اللقاء، وأنهتهُ فعلاً بمجهودٍ جبّار استهلكَ كثيراً من مواردهِ الشخصية، وسنواتٍ من طاقته!...
انسابتْ كلماتُهُ ببطءٍ وهدوءٍ وسحر!... شعرتُ فجأة أنني بدأتُ فعلاً أعشقُ اليمنَ الموجودة داخلَ جدرانِ مؤسسةِ العفيف الثقافية!...
ما إن انتهى من حديثهِ حتى أيقنتُ أنني أوشك أن أبدأ منعطفاً جديداً من حياتي، بفضل تلك الساعة!...
تعمَّقتْ علاقتنا منذ ذلك اليوم! بدأتُ أكتبُ بالعربية من جديد متأكداً أن مؤسستَهُ ستعملُ اللازمَ لنشرِها وتوزيعِها! نشرتُ في مؤسستهِ ستةَ كتبٍ، خلقَ له أحدهم: «عن اليمَنْ، ما ظهر منها وما بطنْ» مضايقةً حادّةً من رأسِ القمعِ والاستبداد!...
لم يرضخْ، دفعَ غالياً من راحتهِ الشخصية وحقوقِ مؤسستهِ العامة كي ينشرَ ذلك الكتاب، وافقَ رأسُ القمعِ أم أبى!... آه، كم أحبُّ هؤلاء العمالقة الذين يُقدِّسون حريّةَ الكلمة، ويدافعون عنها دون خوف، أيا كان الثمن!...
ارتبطتُ به وبعائلتهِ بعلاقةٍ خاصة جدّاً، ألهمَتني تماماً!... في كل زيارةٍ لصنعاء (التي صرتُ أمكث فها طويلاً بفضله) لم يمر يومان دون زيارته!
ارتبطَ جميعُ أفرادِ عائلتي (زوجتي وابنتيّ) به وبزوجته السيدة الجليلة خديجة الشرفي (أم خالد) ارتباطاً عميقاً!... سأشرحُ بعد قليل ماذا حدث لأحد خواتم العقيق الأربعة الذي أهداه لنا في أول زيارتنا الرباعية لبيْتِه!...
اعتبرتُ الأستاذ أحمد أبي الروحيّ!... قال لي أحد أبنائه بِودٍّ ذات يوم: «صرنا نشعر بالغيرةِ من حبِّهِ لك»!... نُمتُ القيلولة مراراً في بيته! شاركتُ عائلتَهُ (بحضورٍ كثيفٍ، شبهِ مباشر) حفلتَهم، قبل بضعة سنوات، بمرور خمسين عاماً على زواج الأستاذ أحمد بالسيدة الرائعة الجليلة خديجة الشرفي!...
لم يمر أسبوعٌ قبل الأشهر الأخيرة من استفحال مرضِهِ (الذي بدأ في فبراير 2007. سافرتُ حينذاك لزيارتهِ لذلك) دون أن يتّصل بي أو أتصل به، من أي مدينةٍ أسافرُ لها، أو هو أيضاً!...
أتمنى أن أجدَ الوقتَ الكافي ذات يوم لِلكتابة عن تفاصيل تلك الذكريات!...
ثمّ اكتشفتُ لاحقاً انه فعلاً رائدُ العلمانية الأول! عرفتُ مثلاً أنه عندما قدّم مشروعَ بناءِ كليّةِ الحقوق في جامعة صنعاء (الذي كان مؤسسها، مثلما أسس مركز الدراسات والبحوث اليمني، ومركز البحوث والتطوير التربوي والكثير من المدارس والمراكز) خرجَ السلفيّون في مظاهرات تطالب بتسميتها بكلية الشريعة!...
نزل هو شخصيّاً (كان وزير التربية والتعليم حينذاك) إلى الصفوف الجامعية يحثُّ الجامعيين، طلبةً ومدرّسين، على القيام بمسيراتٍ ترفضُ ذلك!... قررَ الرئيس عبدالرحمن الإرياني حينذاك بتسميتها «كلية الشريعة والقانون»، كحلٍّ توفيقيٍّ لتهدئة الصراع بين تيار السلفية والوزير العلماني!...
سألتُ بعض زملائي المثقفين الغربيين: أيوجدُ في تاريخهم وزيرٌ نزل إلى الصفوف الدراسية لِيحثَّ على الخروج بمسيرات رافضة؟... كان ذهولهم كليّاً! اكتشفوا كم يجهلون الوجهَ العبقري المشرق للثقافة العربية الحديثة، وسيرةَ أبرز عظمائها الخالدين! ناهيك أن كثيرين لم يتوقّعوا أن هذا النموذج النقيّ من المثقف القائد العلماني يمكنه أن يوجد في أكثر الدول العربية تخلفاً وظلامية: اليمن!...
لعله يلزمني أن أختتم هذا المقال، بشكلٍ دائري، وأروي فيه كيف مرّت الساعةُ الأولى التي تلتْ علمي بوفاةِ الأستاذِ أحمد! (كان يوقِّعُ كل ايميلاته ورسائلهِ لي بـ«أحمد»، تماماً مثلما كنت أوقِّعُها بـ«حبيب»!)...
عرفتُ الخبرَ الحزينَ من علي محمد زيد الذي كان هو أيضاً أوّل من حدثني عن الأستاذ أحمد!...
في مواجهةِ خبرِ موتِ من أحبّ بشكلٍ حميميٍّ خاص (أبي، أمي...) أعيشُ حالةَ صمتٍ وشرودٍ غريبين، ورغبةً نفسيّةً بالهروبِ من وقْعِ الحدثِ الصاعق باللجوء إلى ملاذٍ آخر، والغرق به تماماً!... تعمَّمَ نفسُ هذا السلوك في عائلتي الصغيرة أيضاً!...
اتصلتُ سريعاً بأم خالد وأبنائها الأعزاء!... بكَتْ زوجتي وابنتي الصغيرة، عمبرين، لأوّل مرة، على خلاف عاداتهما!... اتصلتْ ابنتي الصغيرة بابنتي الكبيرة، كليمنتين، في غرفةِ دراستِها بباريس لتنبئها بالحدث! طلبَتْ ابنتي الكبيرة منها أن أجيء لزيارتها اليوم الثاني حاملاً خاتمَ عقيقها الذي أهداهُ لها الأستاذ أحمد!...
توجّهتُ حسب طلبها!... تناولنا الغداء في مطعم في الشانزليزيه دون أن نذكرَ الحدثَ الذي صدمَنا معاً، والذي لم نمتلك الجرأة على قولِ كلمةٍ واحدة عنه!... عند وِدَاعي لها سلّمتُها كيسَ بلاستيك، يختفي فيه الخاتم، دون أن أنبسَ بكلمةٍ أيضاً، وهي كذلك!...
تساءلتُ ماذا ستعملُ ابنتي بالخاتم وقد صار مقاسُهُ صغيراً جدّاً بالنسبة لأصبعها!... لم أتجرأ أن أسألها عن ذلك أيضاً!...
ثم تناولنا الغداء بعد أسبوعٍ من جديد، في مطعم آخر في الشانزليزيه عندما رأيتُ الخاتمَ مُعلَّقاً في عقدٍ فضيٍّ على صدرها!...
عرفتُ، بشكلٍ أو بآخر، أن زملاء ابنتي سألوها عن سرِّ ذلك الخاتم!... (زملاؤها، أقل من أربعين طالبا جامعيّاً، يعتبرون نخبةُ النخبةِ من طلاب فرنسا الذين يصلون إلى مدرستها «هنري الرابع»، بعد الثانوية العامة، بنظامِ امتحاناتٍ انتقائيةٍ صعبةٍ جدّاً، ليتم تأهيلهم فيها سنتين بشكلٍ خاص قبل زجِّهم في أرقى كليّات نخبة النخبة الفرنسيّة!... على سبيل المثال فقط: درس في نفس صفِّها، بعد أن نجح في نفس هذا النوع من الفرز الانتقائي: الفيلسوفان سارتر، وميشيل فوكو، الرئيس بومبيدو...)!
سعدتُ جدّاً أنهم اكتشفوا وأدركوا من هو أحمد جابر عفيف!...
ما أتمناه، قبل وبعد أي شيء، هو أن طاقم إدارة مؤسسة العفيف الثقافية اليوم، الممثل بالأستاذ عبدالباري طاهر، نبراسَ مفكريّ التنوير اليمنيين وقدوتَهم الأسمى، وأبناءَ الأستاذ أحمد، الذين رضعوا أفكار التنوير منذ طفولتهم وعاشوا يوميات رائدهِ الأوّل أكثر من غيرهم، سيواصلون مشروعَه التنويري العلماني، (شديدَ الجوهرية في يمن اليوم الذي ينزلق في وحل الظلامية والقمع والاستبداد والإرهاب) بنفس عزمِ وصلابةِ الأستاذ أحمد الذي قاوم «تأميمَ» المؤسسة من قبل أي سلطة أو حاكم!...
أما إذا خرجت المؤسسة عن منهجِ عملِها طوال أيام حياة مؤسسها، لسببٍ أو لآخر، فعلى اليمن السلام!...