السبت، 27 يوليو 2013

الغباء أخطر من القرصنة


الغباء أخطر من القرصنة
حبيب سروري

بعيداً عن كل تشاؤم غير موضوعي، ثمّة احتمالٌ جادٌّ جدّاً بأن نهاية الحضارة البشرية على الأرض لن تنتظر موعدَ الاصطدام الجبهوي بين مجرّتنا، درب اللبَّانة، وجارتها أندروميد، الذي يتوقّعه العِلم بعد حوالي أربعة مليار عام (أرتجف من الآن وأنا أتخيّل ذلك!).
لعل الموعد الحاسم أقرب من ذلك بكثير...
إذ بدأَتْ الهرولةُ نحو الهاوية خطاها العملاقة، منذ سبعينات القرن المنصرم. ولم يكن من باب العبث أو التحذير التربوي قولُ السكرتير العام للأمم المتحدّة بان كي موون في جنيف، في سبتمبر ٢٠٠٩: «أقدامُنا ضاغطة على دوّاسة السيارة، نهرعُ نحو التهلكة».

فمجمل النشاطات البشرية من صناعات تَستخدمُ بافراط طاقة الاحتراق (بترول، غاز...)، ومن معمارٍ عشوائيٍّ كثيف يتمّ اقتطاعُ مساحاتِه الأرضيّة من رئةِ كوكبنا ومنبعِ أوكسجينه: الغابات، ومن وسائل مواصلاتٍ تُسرف في تلطيخ الفضاء بمخلّفات نتنة... مجملُ هذه النشاطات تملأ الفضاء بغازات قذرة (مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان) تتجاوز المعدلات المعقولة، وتُغيِّرُ خريطة المنظومة البيئية لِكوكبنا بشكلٍ جذريٍّ تراجيدي:
تتراكم هذه الغازات (التي تُسمّى: غازات الاحتباس الحراري) في الغلاف الجوّي لِتُشكِّلَ، بالنسبة للبحار واليابسة، ما يُشبِه غطاءً سقفيّاً زجاجيّاً يُغطّي غرفةً مفتوحةً بلا سقف، فيحبس أشعّتها ويرفع حرارتها...

ولأن المنظومة البيئية أشبه بجسدٍ واحد، إذا أصيب أحد أعضائه بالخلل تداعى له سائر الجسد بالتدهور والانهيار، فالنتيجة اليوم
ذوبان متسارع للجليد في المحيطات القطبية وأعالي الجبال (يكفي رؤية الصور التراجيدية لِماضي وحاضر تلك المناطق الثلجيّة)، ارتفاع مستويات المحيطات والبحار، تواتر جنوني للفيضانات والعواصف العنيفة في السنوات الأخيرة، زيادة عدد الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض الكلّي من الأرض... 

في شهر مايو ٢٠١٣، دخل الاختلال البيئي، الذي يهدد كوكبنا بالفناء، مرحلةً جديدة طَمستْ بصيصَ أي أمل
تجاوزَ معدّلُ انتشار ثاني أكسيد الكربون في الجو ٤٠٠ ب.ب.م (أي: ٤٠٠ جزء في المليون) في النصف الشمالي من الأرض، لِيلحقَه النصف الجنوبي قريباً جدّاً

كي يستمرَّ الاستقرارُ البيئي لِكوكبنا، يلزمُ، كما يؤكد العلماء، أن لا يتجاوز معدل انتشار ثاني أكسيد الكربون في الجو ٣٥٠ ب.ب.م
المرعب: تم تجاوز هذا الحدّ في عام ١٩٩٠...
المؤلم جدّاً: كان العلماء قد تنبأوا في عام ١٩٧٠ بواقعنا الحالي، بفضل نمذجةٍ رياضيّةٍ ومحاكاةٍ حاسوبية. نبّهوا حينها بأن الأرض ستصل لمعدل ٤٠٠ ب.ب.م في عام ٢٠١٠
لم يخطئ تنبؤهم كثيرا...

ثم ها هو تنبوءٌ جديدٌ مرعبٌ جدّاً، بنفس الأدوات العلمية الدقيقة، لباحثين إنجليز، نُشِر في مجلّة علميّة هامة، في ١٣ مايو ٢٠١٣، يؤكد بأنه إذا استمرّ الإنسان بتلويث الجو بطريقته الحالية، فسيرتفع معدل درجة حرارة الأرض ٤ درجات، لِتنقرض نصف أنواع النباتات وثلث أنواع الحيوانات من وجه البسيطة من الآن حتى عام ٢٠٨٠!...

نتائج ذلك ستكون وخيمة جدّاً لأن المنظومة البيئية جسدٌ واحد: بعض الكائنات التي ستنقرض ضروريّةٌ لغذاء الإنسان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ولِتنظيف الماء والهواء. دون الحديث عن الخراب الذي سيقود إليه ذوبانُ كميّات هائلة من الجليد وازديادُ عددِ وهَوْلِ الفيضانات والتسوناميات جرّاء الاحتباس الحراري واستمرار ارتفاع حرارة الأرض.

يصعب في الحقيقة تخيّل حجم هذه النتائج الكارثية على منظومة الحياة في كوكبٍ صار الإنسان قادراً، لأوّل مرّة منذ فجر التاريخ، على تدميره...

لعلّ سلوك هذا الإنسان (الذي يصمّ آذانه عند سماع تحذيرات العلماء وانذاراتهم، وحلولهم البديلة ك«الاقتصاد الأخضر») مثالٌ ساطع على «الغباء البشري» الذي درسه البروفيسور سيبولا في كتيّبٍ قيّم: «القوانين الجوهرية للغباء البشري».

يلاحظ سيبولا في بدء كتابه أن الإنسان حيوان اجتماعي، يعيش متفاعلاً مع الآخرين في شبكة علاقات دائمة، يُؤثر عليهم ويتأثر بهم. يُؤدّي ذلك إلى منافع أو خسائر اقتصادية أو نفسية، إلى كسبٍ أو ضياعٍ للطاقة أو الوقت...
يضع سيبولا الإنسان في أحد أربع شرائح: غافل أو قرصان أو ذكي أو غبي:
إذا قاد تأثيرك على الآخر إلى منفعتهِ (أو منفعة مجموعةٍ بشريّة تتضمّنُه) وإلى خسارتِكَ في نفس الوقت فأنت غافل. إذا قاد إلى منفعتك وخسارتهم فأنت قرصان. إذا قاد إلى منفعتكم معاً فأنت ذكي. وإذا قاد إلى خسارتكم معاً فأنت غبي.

لعل أرباب البنوك ونافذي أسواق المال الذين برمجوا وخلقوا أزمة ٢٠٠٧ المالية (التي اندلعت من أمريكا وتفشّت بسبب العولمة في أرجاء الكون بلمحة بصر) أفضل مثلٍ على القراصنة: خنقت هذه الأزمة أو هدّمت حياة مئات ملايين البسطاء، في حين خرج صانعوها بأرباح تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات.

ولعلّ أفضل مثلٍ على الأغبياء: من يساهمون باستمرار التدهور البيئي وزيادة سخونة الأرض (رغم درايتهم بتحذير العلماء) من بشرٍ وحكوماتٍ لا تتخذ اجراءات جادّة تحُدُّ من التدهور البيئي، ومن انتهاك حرمة الطبيعة، ومن بيع استقرار منظومتها البيئية في سوق الحراج.

صدق سيبولا إذ قال إن نسبة الأغبياء في الأرض كبيرة جدّاً، أكبر مما نتصوّر، كما ينص قانونه الأول: كم منّا، في الواقع، من غيّر سلوكه البيئي وقلّل من افرازاته الشخصية اليومية لثاني أوكسيد الكربون، منذ أن سمع تحذيرات العلماء؟

للغباء البشري جذورٌ جينيّه، كما ينصّ القانون الثاني لسيبولا. لا يختلف سيبولا بذلك عن رؤية ابن اسحاق الذي اعتبر الغباء غريزة بشرية عندما قال: «إذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تُصدِّق».

لعل أهمَّ قوانين سيبولا القانونُ الخامس الذي ينصُّ على أن الغبي أخطر الشرائح الأربعة، أخطر من القرصان:
فخطر القرصان يمكن محاصرته: كبحُ جَشعِ قراصنة المال وتنظيم عملهم ليس عصيّاً على إرادة الإنسان. الديون المالية قابلة للتأجيل والتفاوض أوالإلغاء أحياناً.
عبارة «تطمين الأسواق المالية»، التي صارت الحكومات ترددها بهلعٍ ديني كما لو كانت أمام إلهٍ وثنيّ تريد تطمينه بالقرابين والتضحيات، يمكن استبدالها ب«تنظيم وتقويم الأسواق المالية» عبر قوانين دولية إنسانية عادلة.

بيد أن الطبيعة ماردٌ يلفظ حمماً وفيضانات وبراكين وتسوناميات يمكنها أن تطمّ الكوكب. ديونها لا تقبل التأجيل أو الإلغاء أو المفاوضة. احترامها وتطمينها والخضوع لنواميسها شرطٌ جوهريٌّ لبقاء حضارة الإنسان على الأرض.

الثلاثاء، 23 يوليو 2013

البحث عن «وادي الدهشة»: مقابلة خاصّة مع بيتر بروك


البحث عن «وادي الدهشة»: مقابلة خاصّة مع بيتر بروك
حبيب سروري

بيتر بروك أحد أهم وأكبر مخرجي المسرح المعاصر، أيقونته الحيّة بدون منازع. من مواليد ١٩٢٥ بلندن، درس في أكسفورد، ومارس التمثيل والاخراج منذ السبعة عشر عاماً. دُعي لباريس في ١٩٦٨ حيث أسس «المركز الدولي للأبحاث المسرحية».
اشتغل على مسرحيات الرواد من شكسبير إلى تشيكوف، وانفتح على الثقافات الأخرى في نفس الوقت: «ماهابهارتا» إحدى مسرحياته الشهيرة (تدوم ٩ ساعات)، مستوحاة من ملحمة ميثولوجية هندية. مسرحيته «مؤتمر الطيور» مستوحاة من كتاب «منطق الطير» للصوفي فريد الدين العطار... قبل أداء المسرحيتين، قاد بيتر بروك فريقه إلى الشرق للتعمق في ثقافته.
كتابهُ «المساحة الفارغة» يبلور تجربته ونظريته المسرحية التي طوّرت المسرح العالمي المعاصر.

 يساهم بروك في مهرجان أفينيون المسرحي لهذا العام بفعالية نقاش حول فيلم «بيتر بروك على حبلٍ مشدود»، من إخراج ابنه المخرج السينمائي سيمون بروك.
صوّر سيمون خلال ساعات، وبشكل خفيّ، كواليس مسرح «بوف دو نور» الباريسي حين كان والدُهُ (صاحبُ المسرح) يوجّه تفاعلات ممثلين وفنانين ومشاهدين، أثناء عبور الممثلين على «حبلٍ مشدود» وهمي، يربط قمتين جبليتين خياليتين: يعبورنه أفراداً أو جماعات في تشكيلات وأوضاع مختلفة، وعلى أيقاعات موسيقية متنوعة!...

التقيتُ به غداة الفعالية، في بهو فندقهِ الملتصق ب«قصر البابوات». وجّهتُ له الأسئلة التالية حول منهجهِ المسرحي العام (الذي تعرّض له الفيلم في إطار تجربةِ المشي فوق الحبل المشدود):
١) حاول الفيلم أن يُجلي فلسفتكم في المسرح، وطريقة عملكم في توجيهه. لكنه أضاف ظاهرة تستحق منكم الشرح: لمدة ساعة ونصف يرتجف المشاهد وهو يرى ممثلين يسيرون على حبلٍ خياليٍّ مشدود فوق هاوية، فيما يسيرون فوق قطيفة على الأرض!
٢) لعلكم أهمّ من طوّر فكرة المسرح المرتبط بالسياق الثقافي والزمكاني، المسرح الديناميكي الحي المنفتح على الثقافات: «المسرح الفوري»، حسب تعبيركم. حدّثونا عنه، وعن مفهوم «الأثر» الذي يلزم أن يتركه على المشاهد.
٣) في «ساحة التحرير» بمصر خرجت الجماهير قبيل أيّام لتمارس «مسرح الحياة» بحثاً عن «أثر» اجتماعي: الحريّة والمدنيّة. كيف يمكن ل«مسرح الفن» أن يساعد «مسرح الحياة» في تحقيق ذلك الأثر؟
٤) مفهوم الزمن شديد الحضور في خطابكم المسرحي. استخدمتم استعارة «الساعة الرملية» في الحديث مع فريقكم المسرحي في الفيلم. قلتم غالباً إن «النهاية بداية دائمة»، كيف تتناولون هذا المفهوم في مسرحكم؟
٥) مشروعكم المسرحي القادم؟

أصغى المخرج (التسعيني تقريباً) لأسئلتي، لم يحتج لإعادة سماعها، تنفّسَ بعمق، وردّ عليها دفعةً واحدة بترتيبٍ أنسب. (أعترفُ أني مازلتُ مبهوتاً من تدفقه وسنائه أثناء ساعةٍ من حوارٍ لن أنساه!):

لا أميل لِكلمة «فلسفة» في سؤالك الأوّل: أتركُها للجامعيين. لا أميل لِكلمة «طرق العمل»: أتركُها للمهندسين. في كلا الكلمتين شيءٌ مغلق. أفضّل كلمة «اتجاهات».
اتجاهي في العمل المسرحي ينتمي باختصار لِنموذج رحلة طيور الشاعر الصوفي فريد الدين العطّار بحثاً عن طائر السمرقع: تمرّ الطيور بسبعة أودية، آخرها وادي الفناء في الذات الإلهية.
إثارة ملَكة التخييل لدى المشاهدين، وجعلهم يتصوّرون الممثلين يمشون فوق حبل عالٍ مشدود، فيما هم على الأرض، هو الوادي الأول لا غير في رحلة الطيور.
الهدف الكبير هو الوصول إلى الوادي السابع: وادي الدهشة الخالصة، حيث ليس ثمّة غير الدهشة العاصفة الكليّة التي تأسر المشاهد.

يهمّني بشكل خاص سؤالك الثاني عن «المسرح الفوريّ» لأنه مرتبط بالعلاقة بين المسرح والحياة. عن هذه العلاقة سأتحدث وفي إطارها سأجيب على كل أسئلتك معاً. كلمة «الفوريّ» جوهرية هنا.
لِفهمها أستخدمُ استعارةَ الساعة الرمليّة. هي ما تعلّمنا أننا، وكوكبنا الأرض، لسنا أبديين مخلّدين، وأن كل حبّة رمل تعبر ثقب الساعة لها أهميّتها القصوى. إذا أضعناها عبثاً أضعنا معنى الحياة.

معظم زمنِ حياة الإنسان يضيع للأسف هباءً منثوراً في أشياء تافهة، فيما يلزم إعطاءُ كل لحظة تمرّ، كل حبّة رملٍ زمنيّ، قيمةً مقدّسةً لا نهائية.
لذلك تبرز الحاجة لجهازٍ يشرحُ لنا كم نُهدرُ حيواتنا عبثاً، ويعلّمنا كيف نعطي اللحظةَ قيمتَها. أي: يعلمنا التركيز في التأمّل في اللحظة الحيّة. الصلاة مثلاً تركيزٌ تأمّليٌّ لحظي، لكن الصلاة عملٌ فردي. المسرح عبارة عن صلاة جماعة (حوالي ٧٠٠ شخص في أفضل الأحوال، في مكانٍ مغلق غالباً)، يركّزون ويتأمّلون معاً، يدخلون في «كومينيون»، عشاء إلهي.
يلزم أن يكون هؤلاء من كل الشرائح الاجتماعيّة في نفس الوقت، وأن يستلهم مسرحُهم مواضيعَه من كل الثقافات. على المسرح البحث عن التقاسم الجماعي لنفس التركيز والتأملات.
عندما يكون المسرح كذلك، وعندما يكون بالنقاء والإخلاص والكثافة والسمك الفني الكافي، وعندما يفقد المشاهدُ فيه حدودَه الشخصية لِيذوب في الآخر، يتحوّل إلى «مسرحٍ فوريّ»، يصير الوجهَ الآخر للحياة. يترك عندها أثراً حيّاً على الإنسان.

لنتفق على معنى هذا «الأثر» الذي وجّهتَ حوله سؤالاً
يلزمنا أن نعترف أننا غير قادرين على تغيير الحياة البشرية كما نريد. فمنذ قرنين فشلت كل المشاريع الماركسية، الرأسمالية، التيوقراطية... نحن اليوم كمن يعيش نهاية تراجيديّةٍ مسرحيّة. غير أن نهايات التراجيديات لا تدعو المشاهد لليأس بقدر ما تدعو للتأمل في الواقع، للوحدة والدهشة الجماعية. لأن وعي المشاهد حينها يمسي أكثر عمقاً وحساسية وتأهبّاً.
لذلك، إن لم نستطع تغيير العالم، فنحن نمتلك عبر المسرح، ولسويعات قليلة، مجتمعاً صغيراً مثالياً يسمح بتجاوز تراجيدياته.

ذلك ما كان يحصل في المدينة الإغريقية عقب التجربة المسرحية: كان الأثينيون مثلاً (أو «الميكروكوسم» الذي يحضر المسرحية) يمتلكون حقيقتهم الجماعية بعد مشاهدة تفاعلات الآلهة، البشر، العلاقات المختلفة، الانتقامات، الفظاعات... يعيشون حينها ما أسماه الإغريق بذكاء «كاتارسيس»: تنقية المشاعر الجمعية بالكوميديا.
المسرح هو إذن هذه الجزيرة الطوباوية الصغيرة الحيّة التي تفكّر وتحيى بشكل جماعي فوري. ليس هدفه التصوّر المستقبلي الإفلاطوني، لكن التأمّل الجماعي المباشر.
في هذه الجزيرة المثالية، يساهم كلُّ شخصٍ فوريّاً (بلونه وطعمه الخاص، بتنوّع ثقافته وشريحته الاجتماعية) في طباخة وجبةٍ جماعية. يجدُ نفسَهُ يبحثُ بعد المسرحية عن شيءٍ ما تفجّرت الرغبة في البحث عنه داخل تلك الجزيرة.
يذكّرني ذلك بقصة العبد، في « مؤتمر الطيور»، الذي قضّى ليلته مع الأميرة مخدّراً، قبل أن يُرمى عند الفجر في غبار الشارع
بعد أن استيقظ من تخديره، أسرتْهُ الحيرة. قال: «لا أدري ما حدث لي الليلة الماضية، هل كان حلماً أم لا. ليس ذلك المهم. الأهم: عشت تجربةً ما. صرتُ أبحث الآن عن شيءٍ ما لا أدري ما هو، وأين هو!»

في هذه القصة تلخيصٌ لدورة علاقة الإبداع بالحياة. يلزم أن يكون الإبداع مثل المصعد الميكانيكي الذي كان موجوداً في فنادق طفولتي، والذي لعلك لا تعرفه: هناك شخص يرفع المصعد بِحبلٍ يدويّ. يمر المصعد على كل دور ثم يعود إلى القاع
يلزم في مصعد الإبداع زيارةُ كل دور، اكتشافه والتعمق فيه، قبل العودة للحياة اليوميّة بأحاسيس ويقظةٍ جديدةٍ حميدة.

تقودني استعارة هذا المصعد إلى سؤالك عن «مسرح ميدان التحرير»: عظيمةٌ ثورات الشعوب العربية في «مسرح الحياة» ورفضها للطغاة والحاكمين مدى الحياة، لكن تلك استجابات لحاجة ملحّة. 
لا يكفي ذلك في «مسرح الفن»، يلزم النظر إلى الأعلى والارتفاع فوق المطالب اليومية المباشرة، يلزم الارتقاء الدائم في المصعد الميكانيكي نحو شيءٍ أكثر نقاءً وكثافة، قبل العودة الدوريّة للواقع الاجتماعي بحالةٍ جديدة، للبحث عن شيءٍ ما. تماماً مثل استعارة العبد في «مؤتمر الطيور».
كان خطاب أوباما في القاهرة هامّاً وهو يحاول الإرتقاء في المصعد. لكنه كان سطحيّاً، إذ لم يتوقف عند كل دور، لم يستوعب معيقاته وآماله، لم يتعمّق به كما يلزم فعلاً...

يعود بنا كل ذلك إلى استعارة حبّة الرمل الذي يجب التأمل فيها واستيعابها واحترامها. ذلك باختصار ما يبحث عنه المسرح، بالتفاعل مع بقية الأدوات الفنية كالشعر والموسيقي...

مشروعي القادم هو مسرحية ثالثة في سلسلة مسرحيات حول الدماغ البشري. الأولى: «الرجل الذي...» (المستوحاة من عمل عالم العصبونات أوليفييه ساج: «الرجل الذي يعتبر زوجته قبّعة») تجر المشاهد إلى أسرار وربشات كوكب الدماغ البشري، وإشكلات تواصلات بعض حالاته الغريبة.

المسرحية الثانية: «أنا ظاهرة» مستوحاة من عمل عالم العصبونات السوفيتي السكندر لوريا، حول شخصية حقيقية، شيريشفيسكي، الذي كان مصاباً بمرض عدم النسيان: لا ينسى حدثاً أو كلاماً سمعه، يحتفظ به في دماغه ك«ديسك كمبيوتر»، يستطيع ترديده في أية لحظة، وإن كان نصّاً «كالكوميديا الإلهية» سمعهُ بلغةٍ لا يفهمها!...
تتداخل في شيريشفيسكي، بجانب كابوس ذاكرته اللانهائية، حالات مرض «السينوستيزي» الذي تختلط فيها الحواس معاً: كل صوت يثير صورة، كل صورة تثير طعماً، رائحة... 
مثل مفعول المخدرات، يعيش المصاب بهذا المرض في جنّة عدْن  تختلط فيها كل المناظر والأصوات والروائح والمذاقات الجميلة. جحيم مطلق أيضاً.

المسرحية الثالثة ستكون مغامرة جديدة في نفس الاتجاه. جميها رحلات إلى وادي الدهشة، لفريد الدين العطار في «مؤتمر الطيور»، والذي استهلّت مسرحية «الرجل الذي...» الحديث عنه.
ذلك الوادي، وادي الضحك والدموع معاً، هو الهدف الأسمى للتجربة المسرحية.