هند وأبو العلاء في مباراةِ شطرنج
في حنايا إحدى تلميذاتهِ أودعَ الشاعرُ الضريرُ الذي قِيلَ إنه قال:
هذا جناهُ أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد
جنيناً صغيراً في غاية الحسنِ والعذوبة، اسمهُ: نُور، جدّتي الثانيةَ والثلاثين (عطّرَ اللهُ ثراها، وأسكنَها قصراً يُطِلُّ على أسنى حدائقِ جنّاتِه!)...
كانت هِنْدُ أذكى وأجملَ تلاميذ «فيلسوفِ الشعراء وشاعرِ الفلاسفة» أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي، المُكنّى بأبي العلاء المعري، وأكثرهم جدلاً وخلافاً معه. أكثرهم عشقاً له بالتأكيد، وأقربهم إلى قلبِ أمِّه!...
قبل توجُّهِها لمجلسهِ الدراسي تبدأُ هِنْدُ دوماً بتقبيلِ يدِ أمِّ أبي العلاء ورُكبتِها، تودِّعُها بقُبلةٍ على جبينها قبل المغادرة. تأتي لزيارتِها بين الحين والحين، لمساعدتِها في الشئون اليومية الصغيرة، لتبادلِ البوحِ معها، ولما تيسّرَ من الشجونِ والثرثرة...
كانت هِنْدُ تجيدُ انتقاءَ اللحظةِ المناسبة، وهي بصحبةِ أمِّ أبي العلاء، لِتتحدّى أستاذَها خوضَ مباراة شطرنج!...
اشتهر الشاعرُ الضرير بأنه «لا ينهزم في الشطرنج من بصير»، و «لا يوجد ضريرٌ في عصر العباسيين يلعبُ الشطرنج عداه»!... يترنَّحُ أمامه الجميعُ بسرعةٍ غير طبيعية، ينكسرون بسهولةٍ مقرفةٍ (تناسبُ مزاجَهُ تماماً)!...
تحبُّ هِنْدُ طقوسَ معركتِها مع أبي العلاء على رقعة الشطرنج. تجدُ لذّةً عنيفةً وهي تراهُ يرصُّ قطعَ الشطرنج الافتراضي على طاولة دماغه، يراقب ذهنيّاً حركات وسكنات بيادق وضباط جيشَيْه فرداً فردا!...
تعرف أنه لا يستطيعُ تمثُّلَ هيئةِ قطعِ الشطرنج، مثلما لا يستطيعُ تمثُّلَ كلِّ الأشياءِ والألوان تقريباً: أصابهُ مرضٌ في صباه، وهو في نهاية الثالثة من العمر، وأطاح بنظره. لم يبق في دماغِهِ من ذاكرةِ الأشياء إلا اللونُ الأحمر: لونُ قميصِهِ الزعفرانيّ الذي كان يلبسه أثناء مرضه، قبل أن يغرق في بحر الظلمات!...
يستبدلُ كلَّ قطعةِ شطرنج في دماغه بِكَلمة، يستبدلُ كلَّ مربعٍ على رقعة الشطرنج بِكَلمة! المباراةُ قصيدةٌ ديناميكيةٌ مُربّعة، تتحرّكُ كلماتُها على أرضٍ من الكلمات، تتقاتلُ وتتساقطُ في ليل الكلمات!... ربما لذلك يجدُ سهولةً خاصة، تثيرُ إعجابَ معارفه، بِتذكُّرِ «نصِّ» كلِّ نقلاتِ مبارياته مع هِنْدَ أو مع غيرها (بعد أيامٍ من المباراة!) نقلةً نقلة، بيتاً بيتا!...
الأشياءُ، كلُّ الأشياءِ، تتماهى في فضاءِ دماغِهِ مع الكلمات. لا توجدُ فيهِ إلا ككلمات. كلماتٌ بعضُها فوق بعض، تتناثرُ، تضيءُ وتتغامزُ كنجوم!...
لا يختلفُ في ليلِ دِماغِهِ «الدُّجى» عن «الصبح»، «الشمسُ» عن «السّها»، «الشهبُ» عن «الحصا»، إلا اختلافَ أحرفهما... ومع ذلك لا يفوتُهُ تضادُّ هذه الثنائيات، هو الذي يقول:
فوا عجباً كم يُدَّعى الفضلُ ناقصٌ ووا أسفاً كم يظهرِ النقصُ فاضلُ!
وقال السّها للشمسِ: «أنتِ ضئيلةٌ!» وقال الدُّجى للصبحِ: «لونكَ حائل!»
وقال السّها للشمسِ: «أنتِ ضئيلةٌ!» وقال الدُّجى للصبحِ: «لونكَ حائل!»
وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً وجاوزتِ الشهبُ الحصى والجنادلُ
فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ!
فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ!
فيما انقلبَتْ هذه الثنائيات رأساً على عقِب في أعينِ المُبصِرين الذين شوَّشهم أو أعماهم بريقُ الواقعِ والتماعاته، وغشاهم سرابُه وأضاليلُ فخاخِه!...
لا شيء في الوجود يستحوذُ عليهِ مثل الكلمة! وأهمُّ كلمةٍ بالنسبة له كلمةُ: «كلمة»!... تليها كلمة: «كابوس»، التي تعني في قاموسهِ بكلِّ بساطة: «أمّ دفر» (أمّ النتانة)، أي: «الدنيا»، وادي الدموع!...
أمّا أجملُ كلمةٍ في ناظريه فهي قطعاً: «نور»!...
*****
تُحدِّقُ هِنْدُ بتأمّلٍ عميق في لِحيتهِ الكثّة الملساء، في قامتهِ النحيفةِ السامقة، في شَعرِهِ الفضّي السلِسِ الطويلِ المنفوش (الذي لم يره، بسبب العمامة، أحدٌ عدا أمَّه وهند، وكاتبَهُ بين الحين والحين)، في جبينهِ المضيء، وفي جمالِ قسماتهِ المفعَمَةِ بِسمُوٍّ وكياسةٍ وفطنةٍ ونُبلٍ يتناسبُ ومقامه!...
عيناهُ صامتتان تماماً، يطمسهُما إلى الأبد حزنٌ رماديٌّ لا يتزحزح، وظلالُ مرضٍ غادرٍ سحيق!... يعلمُ الله كم تشتاقُ هِنْدُ دوماً لتقبيلهما!...
تعتقدُ أحياناً أنه يلزمُ أن تُقبِّلَهما دون توقّف، برقّةٍ شديدةٍ، سنةً كاملة، ليعودَ إليهما النظر، كما فعلَ قميصُ يوسف عندما رُمِيَ على عينَي أبيهِ يعقوب «فارتدّ بصيرا»!... (يشاركُها نفس الاعتقادِ وإن تمنّى أن يلتصقَ قميصُ قبلاتها بِعينيهِ زمناً أطولَ بكثير!)...
تُحدِّقُ به، تُحدِّقُ حدّ الذوبان! تجيد الإصغاء لِصمتِه. تلتقطُ، تقرأُ، تُفسِّرُ كلَّ نبراته. تشربُ كل عباراته، وتدوِّخُ عند أي مزحةٍ ساخرةٍ لطيفةٍ، أو تعليقٍ رقيقٍ يفوحُ منه...
تعشَقُهُ بالجملةِ والتفاصيل!...
يقول لها وهو ينظر باتجاهها كما لو كان يراها:
- فضلاً دعي، لو سمحتِ، الفارسَ الأسود ينتقلُ من موضعهِ في ثالثِ أعمدةِ الخط الرابعِ ليقفَ خلف القلعةِ البيضاء، «خلفَها تماماً»!...
تفلتُ منها أنّةُ ضحكةٍ بريئة، خجولةٍ وصغيرةٍ جدّاً، وهي تسمعه يقول «خلفها تماماً»!...
تتساءل، وهو «ينظر» باتجاهها: كيفَ يراها؟ كيف تروق له؟ أهي أيضا بالنسبة له كلماتٌ لا غير، «قلعةٌ بيضاء» يُسقِطُ قلبَها ألف مرةٍ كلّ يوم، لا يجدُ سعادتَه إلا عندما تختفي في أحضانه. عندما تمسُّ أطرافُ أصابِعِهِ خصرَها الرشيق الذي يُفَجِّرُ كلَّ رغباته. عندما تُقبِّلُ شفتاهُ كلَّ تماوجات عمودِها الفقري، فقرةً فقرة. عندما تهيمُ في كلِّ قامتِها الهيفاء بِبطءٍ ونعومةٍ وتقديس. عندما يشربُ أنفاسَها، عندما يكون أمامها تماماً، فوقها تماماً، تحتها تماماً، داخلها تماماً، خلفها تماماً؟...
تعرف هِنْدُ، مثل والدتِه، كم يحبُّ الجمال، وكم لن تطيب له في الحياة إلا أحضان جميلة!... تُدركُ أنه يعرفُ تماماً أنها جميلة جداً!... لكن ماذا تعني كلمة «جميلة» لِضرير؟... ماذا تعني، بحقِّ السماء، هذه الكلمة؟... أيُحِبُّ أن تكون فتاتُهُ شديدةَ الجَمال، فاتنةً جدّاً، لمجرّدِ اشتهاءِ ما يشتهي الآخرون، دون أن يدرك ما تعني تلك الكلمة؟...
طالما رسمَتْ له أمُّهُ هِنْدَ بالألوان (تعرفُ حساسيَتهُ لأسماء الألوان، وفرطَ حزنِهِ لِعدم تذكُّرِ لونٍ آخر غير الأحمر):
- هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!...
- صِفي لي، أمّاهُ، لونَ العسل؟، يقاطعها...
يُهمُّهُ لونُ العينين والأسنان كثيراً! يفتقدُ رؤيةَ الألوان والنورِ (منبعِ الألوان) أكثر ما يفتقدُ في هذه الحياة!... طعنَتْهُ الحياةُ في الظَّهر عندما حرمتهُ من النور! يشعر أن لا أحد في الوجود يعرفُ مثله قيمة هذه الكلمة: «نور»!...
يشعرُ بنوعٍ من القهر عندما يراها تُلفَظُ بابتذال في أحاديث عابرة. ناهيك عندما يسمعُ «نورٌ على نور» تُردَّدُ بسطحيّة، هو الذي يُدركُ بِعمقٍ ما تعني «ظلماتٌ بعضُها فوق بعض»!...
كم سأل أمّهُ في طفولتهِ كثيراً عن أصناف الألوان وتنوّعِها!... إجابتها لا تُفارقُ وجدانَه لحظةً واحدة، يُسمِّيها «سورة الألوان»:
- الألوانُ تكسو الكونَ يا ولدي، تمنحهُ جمالَه! لو كان للكونِ لونٌ واحد لكان قاحلاً حزيناً جدّاً، بِلونِ الموت!...
لِلورودِ والأزهارِ ألوانها. لِفقاعةِ الماء، لِعُنِقِ الببغاء، لِريشِ الطاؤوس، لِلْحيّةِ المُرقَّطة ألوانها!...
لِجناحِ الفراشة، لِلسمَك، لِشُعَبِ المرجان، للقشريّات الملتمعة، لِمساحيق الخضاب، لِلأفق عند الغروب، لِقوسِ قزح ألوانُها الخاصة!...
هاهي أمُّهُ، بعد ربعِ قرنٍ تقريباً من «سورة الألوان»، تضيفُ لها آيات جديدةً اسمها هند، تنقشُها بألوان ساحرةٍ متألقة، تحفرُها في مركزِ دماغه وهي تقول:
- هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!...
آه، كم تعرفُ أمُّهُ كيف تشعلُ بالألوان أحاسيسَه ورغباته، كيف تشتريه بها!...
*****
«هِنْدُ ذات جَمالٍ جهنميّ!»، قالت لأبي العلاء ذات يوم أمُّهُ التي تعرف كم يسخرُ من جَمال حوريات الجنّة، كما سرَّبهُ بذكاءٍ في «رسالة الغفران»، لاسيّما عندما صوَّر، في فصل «شجر الحور»، شهوةَ أحد ساكني الجنة (ابن القارح) وهو يفاوض الباري عزّ وجل، بين سجدتين، على حجم مؤخرةِ الحوريّة!... يتوسّلهُ أوّلاً أن يُكبّرَ دبرَها الضاوي قليلاً عندما رآها هزيلةَ الدّبر. ثمّ يعود لِيدعوهُ من جديد، بعد أن كبر دبرُها أكثر من اللازم، أن يُصغِّرَهُ «سنتمتراً سنتمتراً» حتّى يصِلَ للحجمِ الذي يروق لِمزاجهِ ومُناه!:
((ويمرُّ ملَكٌ من الملائكة فيقول ابن القارح: يا عبد الله! أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: «إنا أنشأناهنّ إنشاءً، فجعلناهنّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً، لأصحاب اليمين» فيقول الملَك: هنّ على ضرْبين: ضرْبٌ خلقهُ الله في الجنّة لم يعرف غيرها، وضرْبٌ نقلهُ الله من الدار العاجلة لمّا عمل الأعمال الصالحة.
فيقول، وقد هكِرَ عجباً مما سمع: فأين اللواتي لم يكنّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميّزن عن غيرهن؟ فيقول الملَك: اقفُ أثري لترى البديءَ من قدرة الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهَها إلا الله، فيقول الملَك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور!
فيأخذ سفرجلةً أو رمّانةً أو تفاحةً أو ما شاءَ الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحُسنِها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبدالله؟ فيقول: أنا فلان بن فلان. فتقول: إني أُمْنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة ألف سنة!...
فعند ذلك يسجدُ إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعدَدتُ لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعتْ!...
ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أن تلك الجاريةَ على حسنها ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج (رمالٌ على الطريق إلى مكّة) فيهال من قدرة الله اللطيف الخبير، ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، أسألك أن تقصِّر بوص هذه الحورية على ميلٍ في ميل، فيقال له: أنت مخيّرٌ في تكوين هذا الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الإرادة!...))
تهمس له أمُّهُ كلَّ مساء:
- حان موعد زواجك يا بني، وقد تجاوزتَ الثلاثين! لا توجد في هذه الدنيا فتاتان مثل هند! هِنْدُ واحدةٌ إحدى!... ثم هي تُحبُّكَ وتُريدك!...
يتسارعُ شهيقُهُ وزفيرُه، تغيبُ «نظراته» في العدَم عند سماع أمِّهِ تحثُّهُ على الزواج!... يرفض ذلك تماماً خوفاً من الإنجاب! لا تروقُ لهُ فكرةُ الزواج إطلاقاً: لا ينسجمُ وفلسفتَهُ هذا التقليدُ الثقيلُ الذي فرضتْهُ العادات والتقاليد، وخضّبتْهُ الأديان بطقوسٍ وسلاسل ثقيلة!...
أبو العلاء يحبُّ العشقَ الهوائي، الحُرّ، المجاني، الذي ينتهي بالضرورة بأصدق وأقدس ارتباط: توحّدٌ طوعيٌّ يتجدّدُ تعاقدُهُ بِحُريّةٍ وقناعةٍ يوماً بعد يوم، بتشبُّثٍ وولعٍ حقيقيٍّ أكبر فأكبر!...
حبُّ «الإنسان الأعلى»؟ حبُّ القرن الواحد والعشرين؟ الواحد والثلاثين؟ الواحد والتسعين؟...
ثمّ هو يدركُ أنه سيكون عبئاً على من تتزوجه، في كلِّ لحظة. يلزمها أن تكون عكازَهُ الثاني!... يرفضُ أن يتوكأ على أحد: لا يريد أن يكون أكثر من نسمةٍ رقيقةٍ لمن تحبُّه!... يقبل أن يكون الكونُ عبئاً عليه خلال حياةٍ تدوم أربعة وثمانين عاماً، لكن لا يقبل أن يكون، هو، عبئاً على أحدٍ ثانيةً واحدة!...
*****
تحتدمُ المباراة، تزدادُ رغباتُ هِنْدَ عنفاً بمن تُحدِّقُ به دون كلل، بِصاحبِ هذه الكلمات الذي قال في أوجِ شبابِه (دون الشعور بِوَجَعٍ في كُوعِ الرِّجل، دون عُقَد!):
وإني وإن كنتُ الأخير زمانهُ لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائل!
لكنها تطيلُ المباراة مع ذلك! تستفزُّ ذاكرتَهُ وبصيرتَهُ الأسطوريّتين، تُنهكُ بدهاء دماغَه العبقري الذي يظلّ متوتراً طوال المباراة. تُجبرُهُ في كلّ مرة على البحث عن إستراتيجيةِ نصرٍ جديدة يَستنفذُ بها أقصى طاقاته الذهنية...
لا تشعرُ بِنَوعٍ من الراحة إلا عندما ترى صدغَهُ يتكئ على كفِّهِ الأيمن: تقبضُ سبّابتُهُ وإبهامُه على خصلةٍ في أطرافِ شَعرِهِ الفضّي المنسابِ على عنقِه، تعبثان وتلعبانِ بها بحركةٍ لولبيّةٍ لا تتوقّف!...
الحيوانُ في أوجِ تفكيره!
يعتوِرُهُ قلَقٌ حلزونيٌّ ما؟
نوعٌ أنيقٌ من النرفزة؟...
يشعر فجأة أن ثوراً يستيقظُ في أعماقه، يريدُ أن يفترسَ هذه اللبوة الصغيرة التي تعرف كيف ترهقهُ أبداً، كيف تجعلهُ يُعطي أعظمَ ما لديه، كيف تعتصرُ كلَّ ملكاتِهِ وتشعلُ طاقاته الدفينة!... كيف تجعلهُ ينتظر، رغم أنها تحترقُ شوقاً مثله لأن تحومَ أطرافُ أصابعها كظبيٍ في بستان صدرِهِ وغابةِ لِحيَتِه. تموتُ رغبةً في أن تكون جوزاءَهُ، هو الذي قال أيضاً (وهو في معمعان شبابِهِ وهيجان خيلائه):
أفوق البدرِ يوضعُ لي مهادٌ أم الجوزاءُ تحت يدي وسادُ؟