السبت، 31 أغسطس 2013

جينيالوجيا النكتة والفكاهات الصغيرة


جينيالوجيا النكتة والفكاهات الصغيرة 
حبيب سروري

في مقالٍ نُشِرَ في إبريل ٢٠١٣، في مجلة «بلوس وَن»، اكتشف عالمان ألمانيان من جامعة توبنجن «شبكةَ عصبونات الدماغ المختصة بالتفاعل مع مصدر صوت الضحك».
وجدا أن أشكال استثارة ونشاط عصبونات هذه الشبكة تختلفُ باختلاف نوعِ الضحك الذي يسمعه المرء: ضحك النكتة، ضحك المرح الاجتماعي، ضحك الفرح، ضحك الكركرة...

قبلهما، في ١٩٩٨، اكتشف علماء في لوس أنجلس: «نقطة ج» الضحك في الدماغ التي يكفي إثارتها كهربائياً لينفجر المرء ضاحكاً (على غرار «نقطة ج» الشهيرة، في رحم المرأة، التي تؤدي إثارتُها لِذروة النشوة الجنسية). 
مما حدا بصحيفة نيويورك تايمز للحديث عن «القنبلة التي ستقضي على صناعة الفكاهة»، وتحوّل صناعة النكتة خارجاً عن اللزوم!...

النكتةُ، في الحقيقة،  ثابتٌ إنسانيٌّ جوهري، شأنه شأن القصص والحِكَم والأساطير. درسَها فرويد في كتابه: «كلمات الروح وعلاقاتها باللاوعي» ملاحظاً تشابهها الكبير مع الحلم
كلاهما تعبيرٌ مكثّفٌ عما يدور في سراديب اللاوعي. يستخدمان نفس أساليب الانزياحِ عن الواقع أو قلبِه، ونفس الإرباكِ لِمنطق الأحداث وسيرورتها
يخرجان معاً من نفس المنبع في اللاوعي. هدفهما الرئيس: التمرّد على الرقابة الذاتية...

الفرق الجوهري بينهما في رأي فرويد: يصعب تفسير الحلم أحياناً على الحالِم نفسه، فيما يلزم أن تُستوعَبَ النكتةُ لِتنجح، وأن تكون ثاقبةً كسهم، على غرار: «وُلِدتُ قبيحاً لدرجة أن قابِلَتي صفعتْ أمّي حالما رأتني».
بخلاف الحلم، يلزم أن تنطوي النكتة على اسقاطاتٍ لغويّةٍ شفّافةٍ مفاجئة مُثيرة. لذلك قال فرويد عبارته الشهيرة: «الحلم نكتة فاشلة». 
لاحظ فرويد أيضاً ازدهار النكتة في لحظات أفول الحضارات وسقوطها وزيادة الكبت فيها...

دعا نيتشه إلى تقديس الضحك والاحتفال به «كعلاجٍ لانحرافِ العقل الخالص». من جهته، كشفَ عالِمُ الذكاء الاصطناعي مينسكي جذورَ الحاجة البشريّة لِصناعة النكتة وأسباب ذلك، من وجهة نظرٍ تطوّريةٍ داروينيةٍ تتّفقُ ورؤيةَ نيتشه.

في كتابهِ: « فلسفة النُّكت والفكاهات الصغيرة» (الذي تُرجِمَ من الأمريكية إلى الفرنسية في ٢٠٠٨) درس الكاتب الأمريكي جيم هولت تاريخَ النكتة
لاحظ أنها نشاطٌ إنسانيٌّ عريق: ظهر أقدمُ كتاب نُكَت في بلاد الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد، محتوياً على ٢٦٤ نكتة، عنوانه:  «فيليجولوس» (الضاحِك). اختارُ منه هنا هذه التحفة الصغيرة
«ـــ الحلّاق: كيف تريدني أن أحلُق لك؟ 
ـــ الزبون: بِصمت!»...

طوّر العرَب بشكل واسعٍ ورَاقٍ فنّ النكتة، واحتفلَ بها كبارُ فلاسفتهم كالجاحظ في كثيرٍ من كتبه الخالدة: «البخلاء»، «الحيوان»... ثمّة أيضاً «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي، وقبل هذا وذاك «ألف ليلة وليلة».
لعب كلُّ ذلك دوراً هامّاً في رفدِ وتطويرِ التراث البشري للنكتة، كما لاحظ جيم هولت، وفي بلورةِ ما اسماه: النكتة العربية ـ الإيطالية التي تجسَّدتْ في كتاب «فكاهات» (١٤٥١م) الذي غزى كل أوربا.
مؤلِّفُه: الإيطالي لو بوج، السكرتير الشخصي لعدة بابوات، ورجل الثقافة الذي اشتهر بتسامحه وإنسانيته وعشقهِ للمكتبات...

يتابع جيم هولت جينيالوجيا النكتة حتى عصرنا الحديث الذي بدأت فيه الدراسةُ العلميّة لأصناف النكت
يقول: «بعد دراسة ١٣٨٠٤ نكتة في نيويورك في عام ١٩٦٣ تبيّن أن ١٧ في المائة منها مهووسةٌ بالجنس، و١١ في المائة تتحدّث عن السود...» قبل قيامه في كتابه بدراسةِ بعضها من منهجٍ «بنيويّ» ونفسيّ...

تلاحظُ دراسةُ جيم هولت أن الغالبية الساحقة للنُّكت إعادةُ صياغةٍ لِنُكتٍ سابقة، عُمرها في الغالب عدّة قرون.
يُعطي، كمَثل، هذه النكتةَ التي يردِّدها الأطفال في أمريكا: «سؤال: ـــ لماذا للضراط رائحة؟ جواب: ـــ ليشعرَ بها الأصم!». 
ثم يتابع شجرة نشوء هذه النكتة مارّاً بِنكتةٍ إنجليزية قديمةٍ شبيهة، عن دوق اكسفورد الذي ضرط بلاوعي أمام الملكة وهو ينحني لتحيّتها... قبل الوصول إلى البذرة الأوّلى: نكتة في «ألف ليلة وليلة» لأبي حسن، النائم اليقظان!...

يعطي جيم هولت، كمثلٍ آخر، نكتةً قِيلتْ لأوّل مرّة عن الرئيس الأمريكي نيكسون الذي فوجئ وهو يتجوّل قرب البيت الأبيض برؤية عبارة: «أكرهُ نيكسون» مكتوبةً على الثلج. طلب من مدير استخباراته كشف النقاب عمّن كتبها
وصله المدير بعد أسبوعٍ من التحرّي والتحليل لِيقول له: «هي مكتوبة بِبَولِ وزيرِك كيسنجر!». تفجّر غضبُ نيكسون. فحاول مدير الاستخبارات تهدئته قائلاً: «لكنها بخط يد السيّدة الأولى!».

يتابع جيم هولت جينيالوجيا هذه النكتة ليجد أن أصلها آتٍ من ريف جبل أوزارك، في ١٨٩٠، فيما افترضُ أنها تعودُ لِنكتةٍ عربيّة أقدم بكثير:
طلب هارون الرشيد وهو يتسامر مع أبي نواس أن يشرح له يوماً كيف يكون عُذرُ المرءِ أقبحَ من ذنبه
بعد أيام تسلّل أبو نواس خلف الخليفة الذي كان يتأمّل الحديقةَ من النافذة، وداعبَهُ في وركِه بِخفّة. استشاط الخليفة غضباً وقال ويدَهُ على سيفه: «ماذا عملتَ؟». ردّ أبو نواس: «المعذرة، ظننتُ أنّكَ زبيدة!».

نظرية النكتة، كما يوضح جيم هولت، تتأسّسُ على مزيجٍ مُركَّبٍ من ثلاثة أسس
١) نظرية التعالي: ترى، على غرار افلاطون وبرجسون، أن مصدر النكتة هو التعالي على الآخر والسخرية منه واحتقاره
٢) نظرية التنافر: ترى، على غرار باسكال وشوبنهور وكانْت، أن مصدرَها هو انزلاقُ المنطق بشكلٍ مفاجئ نحو العبثِ، أو نحو مخالفةِ ما يتوقّعهُ حدسُ المستمع
٣) نظرية المصراع: ترى، على طريقة فرويد الذي درس قائمةً طويلةً من النكت، أن النكتةَ تساعد الإنسان في فتح مصراع لاوعيه وتحرير المكبوت فيه. ترسلُ حينها شحنةً عصبيّةً متدفّقة نحو عضلات الوجه والتنفّس تؤدّي إلى تفجّر صوتٍ يتعمّدُ مقاومةَ رقابتِنا الذاتية، وكسرَها في لحظة الضحك...

ثمّة، في نظرية المرح، أجناسٌ عديدة من النكت. منها «النكتة الفلسفية» على غرار: قال المفكّر السياسي برونهام لتلميذه: «كل إنسان يعرف كلَّ شيء عن أيّ شيء» ردّ التلميذ: «لا أعرف ذلك!» (التي تُذكِّر باشكالية «قطّة شرودنجر»).

منها على سبيل المثال أيضاً: «ما وراء النكتة» (أو: النكتة حول النكتة)، على غرار: «سؤال: بماذا تبدأ النكتة التي يحكيها الرجل الأبيض عن الأسود؟ 
جواب: بِغمزةٍ ولطمةٍ خفيفة في الكتف!»...

في تصنيفهِ للنُّكت، يعتبرُ جيم هولت ما تُسمّى بالنكتة اليهودية (أو التلموذية) نكتةً تلعبُ على اللغة والمنطق أساساً، وتتأسَّسُ على «نظرية التنافر»، على غرار نكتة الجدّة اليهودية التي كانت تراقب حفيدَها وهو يلعب على الشاطئ، قبل أن تجرفه موجةٌ عملاقةٌ مفاجئة.
صرخَتْ بكلِّ ذُعرِ وحزنِ الدنيا: «إلهي أعدْ حفيدي لي، أتوسّلك!»... 
تعيد موجةٌ جديدةٌ عملاقة طفلَها سالماً إلى الشاطئ. تنظرُ الجدّة باتجاه السماء معاتبة: «لكنه كان يحملُ قبّعة!»...

خلاصة القول: إذا كانت الدراسات الفيزيولوجية الطازجة تحاول فكَّ الأسرار البيولوجية للضحك، فكتاب جيم هولت يفكُّ بعض أسراره التاريخية والفلسفية. لعلّه أشبه بدراسةِ دكتوراه صغيرةٍ ولذيذةٍ جدّاً.
أتركُ له العبارةَ الأخيرة: «النكتة ثمرة العبقرية الإنسانية. عندما تكون نقيّةً مكثّفة، تصير ضرباً من الفن!»...

الاثنين، 26 أغسطس 2013

سبع منشورات عن مصر من داخل مصر


سبع منشورات عن مصر من داخل مصر

حبيب سروري

(١)
مصر اليوم ضحية قوتين معتوهتين:
الإخوان الذين يرفضون الاعتراف بأن ثورة ٣٠ يونيو (ذروة ما أنتجه الإنسان العربي الجديد المتطلع للحرية والمدنية) برهنت عجزهم وفشلهم التاريخي، بعد سنة واحدة من الحكم فقط.
حديثهم اليوم عن "الشرعية" و"الانقلاب"، وحديث كل القوى الظلامية العربية معهم (آخرهم أبشع القوى الظلامية في اليمن التي دافعت دوما عن أسفل المواقف باسم الدين: هيئة علماء اليمن التي تتباكى على هاتين الكلمتين. دون الحديث عما يكتبه ابن الظلامي الزنداني عنهما من عجائب في صفحته على فيسبوك) حديث يخلو من الروح الديمقراطية:
يكفي رؤية ربع من خرج في مصر في ٣٠ يونيو ليقول لمرسي: "ارحل!"، لانتهاء الحديث بعينين مغمضمتين عن عصر مرسي، عن جبريل الذي "تركوه وحيدا في رابعة العدوية" كما قال هشام السامعي، عن الثمان الحمام الخضر التي وضعها على كتف مرسي ليتنبأ له بثمان أعوام خضراء من الحكم الرغيد، عن هاتين الكلمتين التي لا محل لهما من الإعراب بعد ٣٠ يونيو؛ وللتفكير بعقلية جديدة راقية بصفحة جديدة لمصر الجديدة.

والجيش الذي يمارس نفس أساليب عنف وعنجهية طغاة ما قبل الربيع العربي. نسي أنه ليس سلطة منتخبة ولا يحق له تحت أي سبب كان اكتساح رابعة العدوية عنفا، وقبل انتخابات ديمقراطية جديدة بشكل خاص.
بنفس عقلية طغاتنا العرب الابديين تناسى الجيش أن الوضع في مصر منذ ٣٠ يونيو وقبل الانتخابات الديمقراطية الجديدة وضع مؤقت، ومن حق الاخوان البقاء خلاله بأمان في رابعة وغيرها، حتى ينتخب شعب مصر نظامه الديمقراطي الجديد. ناهيك عن أنه لا يمكن لمصر الجديدة ان تستقيم دون أن تكون القوى النيرة من الإخوان جزءاً حيا منها.

كارثي ما يحصل اليوم.
العنف والعنف المضاد يجر مصر إلى الكارثة.
طالما لا نعتبر أن كل قطرة دم تراق "مقدسة"، وطالما لا ندين من يقتل كل ضحية، في ٢٥ يناير أو اليوم، بدون تمييز بين مدني أو إخواني أو شرطي، فيبدو أننا سنغني طويلا: "يا قافلة عاد المراحل طوال"...

(٢)

مسموح وممتع جدا عبور هذه المدينة بتاكسي المطار، وهي في حالة منع تجول!
تتحول إلى مدينة حضارية بدون هدير أبواق السيارات، بدون دخان وتلوث، بدون أي ضجيج... 
تُلوثها مع ذلك المصفحات ونقاط التفتيش في كل ركن...
غير أن منع تجولها عذب مثلها: شباب يلعبون الكرة أحيانا في هذا الركن الخفي أو ذاك، أكشاك مفتوحة هنا أو هناك...
حيويتها غرائزية لدرجة أن ليالي منع تجولها أكثر صخبا من ويكندات وأعياد بعض المدن الباردة!...
شعب هذه المدينة حضاري وسطي معتدل، لا يميل بأغلبيته الساحقة إلى التطرف. لم يعد يخاف أو يصبر إلى ما لا نهاية.
لكل ذلك رفض حكم الإسلاميين بعد عام واحد فقط. ولذلك سيرفض حتما سلطة العسكر...
هذه المدينة بطبيعتها لا تصلح لحكم الإسلاميين ولا العسكر...

(٣)

نفس المسافة التي عملتها بالتاكسي قبل ٣ أيام، من وسط البلد إلى ميدان المساحة، خلال ساعة ونصف، بسبب المصفحات ونقاط التفتيش، عملتها اليوم بسرعة اعتيادية، دون رؤية مصفحة أو عسكري واحد في نفس المسافة!
لم أرَ في طريقي تجمعا واحدا للإخوان اليوم، فيما رأيت بضعة تجمعات (أقل بكثير من صور قناة الجزيرة) قبل ثلاثة أيام...

لن أتسرع بأحكام نهائية مجازفة، لكن أكثر ما أذهلني خلال هذه الأيام الثلاثة هو قلة التعاطف الشعبي مع الأخوان، حتى لا أقول البغض الشعبي الواسع منهم ومن تجربة سنتهم الفاشلة...

كم أتمنى قراءة تحليلهم الخاص لتجربتهم هذه، وتفسيرهم لهذا النفور الشعبي
الواسع الذي يواجههم اليوم!

(٤)

سألتني أختي في القاهرة:
ماذا حلمت هذه الليلة؟
قلت لها: أن الرسول طلب مني أن أتأمم بالناس، وجبريل وضع على كتفي ثمان حمام خضر!...
النتيجة: منعتني من الخروج من شقتها (طوال النهار) أنا الذي أحب التسلل من الشقة في عز حظر التجول في المساء (والشاعر أحمد العرامي على ما أقول شهيد)...
خلاصة القول: بعض الأحلام الحلزونية تؤدي لداهية!...

(٥)

حقيقة ما يدور في مصر يختلف (كما يبدو لمن قضى بضعة أيام يجول في شوارع معشوقته القاهرة) عما تبثه قناتي الجزيرة والعربية معا.
كم نسبة الإخوان (أعضاء ومناصرين) في المجتمع المصري؟
أكاد أجزم (في ضوء تقديراتي الفردية التي يمكنها بالتأكيد أن تخطئ أكثر أو أقل) أن نسبتهم التي كانت كبيرة عند انتخاب مرسي، هرولت لتصل إلى حوالي ١٥٪ فقط في ٣٠ يونيو (جراء فشل تاريخي: مسئولون إخوانيون معينون لا يمتلكون أدنى مهنية،
حزب بلا مشروع في مختلف المجالات: ثقافة، سياحة، اقتصاد... وفشل نوعي في مدة وجيزة)
ثم ارتفعت مؤخراً إثر تعاطف إنساني معهم، من بعض من خرجوا مع ذلك ضدهم في ٣٠ يونيو، بسبب الفض الأخرق للاعتصامات التي قام به الجيش (بنفس العقلية العنجهية التقليدية العنيفة لأنظمة الطغاة العرب) لتقترب هذه النسبة اليوم من ال ٢٠٪.
لعلها تدنو قليلا كلما مارس الإخوان مزيدا من العنف والإرهاب...

منذ الأحد الماضي، التجمعات الاخوانية التي تحاول الخروج للمسيرات باهتة، أقل حجما من الصور التي تبثها قناة الجزيرة...
فض الاعتصام من قبل الجيش كان في رأيي خطأ إجراميا فادحا، وحدثت فعلا ضربات عديدة من قبل قناصة عساكر على سلميين متظاهرين هنا وهناك، يبالغ في عدها (تنقيصا من قبل السلطة، وتكبيرا من الإخوان).
في الجانب الآخر، تخريب الإخوان وإرهابهم حقيقة ملموسة تثير بغضاء معظم المصريين (المعتدلين المدنيين في أغلبيتهم الساحقة).
سيزداد التخريب والإرهاب حجما وخطورة، لسوء الحظ كما يبدو، مع ازدياد عجز الإخوان عن التظاهر السلمي، ومع ازدياد عنجهية الجيش ومحاولات الدولة تضييق الخناق على نشاط الإخوان السياسي، ومع ازدياد دخول الجهاديين الاسلاميين على الخط...
الإعلام الرسمي المصري (من عناوين الصحف إلى محتويات مقالاتها) ما زال غالبا بنفس الغباء والتفاهة والعقلية التي سادت في العقود الماضية.
لا يبكي إلا من ماتوا من الشرطة (هم وحدهم "الشهداء"!) ولا يتحدث عن دماء الإخوان (هم "المجرمون القتلة، حسب تعبير أحد علماء الأزهر"!).
كذلك حال خطاب الإخوان: هم الشهداء الأبرار، والآخرون حطب جهنم.
(سنظل في الحقيقة متخلفين وخارج التاريخ طالما لا "نقدس" كل قطرة دم، أيا كان صاحبها،
وطالما لا نجيد إلا إطلاق وبيع كلمة "شهيد" بشكل مرضي مجنون،
وطالما نفكر "كمن يبحث عن قطة سوداء في نفق مظلم" على حد تعبير كونفوشيوس، "لاسيما وأن القطة غير موجودة أساساً"، كما أضاف داروين!...)
وبرنامج الجيش لإدارة أحداث مصر يتقدم بنفس الأساليب الرعناء التي تفتقر لأدنى ذكاء أو إدراك للعواقب الوخيمة لهذه الإدارة.
خطاب سيسي غداة فض الاعتصام لا يختلف في لا مسئوليته ولا ديمقراطيته عن خطاب مرسي غداة ٣٠ يونيو.
لا الأول اعترف بخطأ فض الاعتصام وفداحة نتائجه،
(لم يبدُ عليه أدنى حزن: مشروع ديكتاتور مستقبلي، من يدري؟)
ولا الثاني اعترف بسحب شرعيته من الجماهير (خرج معظم الشعب المصري، في لحظة تاريخية لم يعرف مثيلها التاريخ العربي الحديث)،
لم يطلب حينها استفتاء جماهيريا حول بقائه في السلطة أم لا، كما كان سيفعل أي رئيس ديموقراطي.
لعله صدّق فعلا أن النبي محمد انحنى له وطلب منه أن يتأمم بالناس، وأن جبريل وضع على كتفه ثمان حمام خضر (ثمان سنوات من الحكم الرغيد)!...
وتناسى أن غالبية شعب مصر خرجت لتقول له: إرحل!
خلاصة القول: معشوقتنا مصر ستمر بلحظات صعبة، مرعبة جداً، كما أظن.
لكنها الأمل، حوض الأمل!

(٦)

حزب أردوخان (وإن تجاوزته تركيا الحديثة اليوم) يظل حزبا مهنيا، ناجحا، لا علاقة له بحزب مرسي.
حزب أردوخان (الذي قال وهو يزور مصر: "أنا علماني وافتخر!" فجن جنون حزب الإخوان) حزب مدني حقيقي في دولة علمانية، منفتح ومندمج في المجتمع التركي...
حزب الإخوان لا مشروع له في الأساس غير عبارة فارغة: "الإسلام هو الحل"،
منغلق على نفسه (المجتمع المصري بجانب بما فيه الأزهر، وهو لوحده بجانب منعزل آخر)، 
عيّن خلال سنة حكمه لمصر قيادات حكومية إخوانية لا مهنية،
ودفع ثمن عدم امتلاكه أي مشروع في السياحة أو الثقافة أو الاقتصاد...
على سبيل المثال فقط: بعد تعيين اردوخان امتلكت تركيا مشروعا سياحيا "هجوميا" شديد التنوع والجذب، لا سابق له في تاريخ تركيا.
جذب هذا المشروع العالم، لا سيما الغرب، وحقق نجاحا اقتصاديا وثقافيا استثنائيا...

أضيف: الإخوان حزب تهمه القشور واليافطات الدينية لا غير.
مثالان رمزيان:
١) المصريون ليسوا أكثر أو أقل تدينا من بقية الشعوب العربية وغيرها.
لكن نكاد لا نجد إلا في مصر فقط، وبشكل ملحوظ، علامة "الزبيبة" الداكنة التي تحتل مركز الجبين كيافطة (اعتبرها رمزا للنفاق الخالص، إذ يتم صناعتها بحك حجر خاص في الجبين، كعلامة مظهرية على السجود المتواتر).
الغريب في الأمر أن هذه العلامة الداكنة تبدو في جبين الرجال فقط، لا النساء، وكأن المصريات "لا يتهجّدن" (أو على الأحرى، لعلهن أرفع من هذا السلوك الشكلي المنافق...)
٢) حاليا أنا في طائرة الخطوط المصرية في طريق العودة. (استخدم الوايفاي بالساتيليت لكتابة هذا المنشور).
في أسفاري السابقة بالمصرية (قبل مجيء مرسي) كان "دعاء السفر"، الذي يردد في مذياع الطائرة قبل الإقلاع، عبارة عن جملتين (ثانيتهما: وأنا إلى ربنا لمنقلبون)،
كانتا ترددان قبل الاقلاع مرة واحدة فقط.
تحوّل هذا الدعاء الآن بحجم خطبة الجمعة، ويردد أيضا مرتين، قبيل الإقلاع وعند بدئه.
(لا أعرف متى بدأت هذه الظاهرة تحديدا، لكني لم أسمع هذه الخطبة في آخر سفرة، قبل مرسي)
لا توجد في رأيي أية حاجة لهذه الخطبة...

استدراك:
كل تحياتي للأصدقاء الأعزاء، لاسيما من الإخوان، الذين بدأوا الدراسة الجادة لتجربة العام المصري المنقضي.
يهم ذلك كثيرا في عالمٍ أضحى معياره المهنية والمدنية، أكثر من أي شيء آخر...
أتمنى من المتخصصين كتابة تحليلات واضاءات تشرح لنا كل أسباب الفشل النوعي لحزب الإخوان في عام واحد فقط،
وما يحتاجه هذا الحزب العريق ليلج الحداثة والمستقبل مستفيدا من تجاربه وأخطائه.

(٧)

لن يستطيع أحد أن ينكر أنه رأى فيديو مجزرة الغوطة بالسلاح الكيماوي،
وأنه رأى قبل ذلك مجزرة صدام في حلبجة بنفس السلاح.
الأسد، مثل أبيه، لم يطلق رصاصة واحدة باتجاه الجولان
لكنه قتل حتى الآن مائة الف سوري!
كل قادتنا العسكر من نفس هذا العرق الدموي، بما فيهم عبدالفتاح السيسي.
سعيد جدا بأن شعب مصر ثار على الإخوان وإرهابهم الديني ولامهنيتهم المتميزة، وطردهم في ٣٠ يونيو من السلطة،
لكن لا فائدة في ذلك طالما عربد الجيش وقناصته في الميادين وفوق السقوف،
وطالما تحدثوا عن "قناص في حالة دفاع عن النفس"،
وطالما لا تنظم سريعا انتخابات ديمقراطية حقيقية (يساهم فيها الإخوان بالطبع) تعيد لمصر روح ثورتي ٢٥ يناير و ٣٠ يونيو الخالدتين،
روح ميدان التحرير،
ميدان الحرية!

(*) من صفحتي على فيسبوك.