جينيالوجيا النكتة والفكاهات الصغيرة
حبيب سروري
في مقالٍ نُشِرَ في إبريل ٢٠١٣، في مجلة «بلوس وَن»، اكتشف عالمان ألمانيان من جامعة توبنجن «شبكةَ عصبونات الدماغ المختصة بالتفاعل مع مصدر صوت الضحك».
وجدا أن أشكال استثارة ونشاط عصبونات هذه الشبكة تختلفُ باختلاف نوعِ الضحك الذي يسمعه المرء: ضحك النكتة، ضحك المرح الاجتماعي، ضحك الفرح، ضحك الكركرة...
قبلهما، في ١٩٩٨، اكتشف علماء في لوس أنجلس: «نقطة ج» الضحك في الدماغ التي يكفي إثارتها كهربائياً لينفجر المرء ضاحكاً (على غرار «نقطة ج» الشهيرة، في رحم المرأة، التي تؤدي إثارتُها لِذروة النشوة الجنسية).
مما حدا بصحيفة نيويورك تايمز للحديث عن «القنبلة التي ستقضي على صناعة الفكاهة»، وتحوّل صناعة النكتة خارجاً عن اللزوم!...
النكتةُ، في الحقيقة، ثابتٌ إنسانيٌّ جوهري، شأنه شأن القصص والحِكَم والأساطير. درسَها فرويد في كتابه: «كلمات الروح وعلاقاتها باللاوعي» ملاحظاً تشابهها الكبير مع الحلم.
كلاهما تعبيرٌ مكثّفٌ عما يدور في سراديب اللاوعي. يستخدمان نفس أساليب الانزياحِ عن الواقع أو قلبِه، ونفس الإرباكِ لِمنطق الأحداث وسيرورتها.
يخرجان معاً من نفس المنبع في اللاوعي. هدفهما الرئيس: التمرّد على الرقابة الذاتية...
الفرق الجوهري بينهما في رأي فرويد: يصعب تفسير الحلم أحياناً على الحالِم نفسه، فيما يلزم أن تُستوعَبَ النكتةُ لِتنجح، وأن تكون ثاقبةً كسهم، على غرار: «وُلِدتُ قبيحاً لدرجة أن قابِلَتي صفعتْ أمّي حالما رأتني».
بخلاف الحلم، يلزم أن تنطوي النكتة على اسقاطاتٍ لغويّةٍ شفّافةٍ مفاجئة مُثيرة. لذلك قال فرويد عبارته الشهيرة: «الحلم نكتة فاشلة».
لاحظ فرويد أيضاً ازدهار النكتة في لحظات أفول الحضارات وسقوطها وزيادة الكبت فيها...
دعا نيتشه إلى تقديس الضحك والاحتفال به «كعلاجٍ لانحرافِ العقل الخالص». من جهته، كشفَ عالِمُ الذكاء الاصطناعي مينسكي جذورَ الحاجة البشريّة لِصناعة النكتة وأسباب ذلك، من وجهة نظرٍ تطوّريةٍ داروينيةٍ تتّفقُ ورؤيةَ نيتشه.
في كتابهِ: « فلسفة النُّكت والفكاهات الصغيرة» (الذي تُرجِمَ من الأمريكية إلى الفرنسية في ٢٠٠٨) درس الكاتب الأمريكي جيم هولت تاريخَ النكتة.
لاحظ أنها نشاطٌ إنسانيٌّ عريق: ظهر أقدمُ كتاب نُكَت في بلاد الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد، محتوياً على ٢٦٤ نكتة، عنوانه: «فيليجولوس» (الضاحِك). اختارُ منه هنا هذه التحفة الصغيرة:
«ـــ الحلّاق: كيف تريدني أن أحلُق لك؟
ـــ الزبون: بِصمت!»...
طوّر العرَب بشكل واسعٍ ورَاقٍ فنّ النكتة، واحتفلَ بها كبارُ فلاسفتهم كالجاحظ في كثيرٍ من كتبه الخالدة: «البخلاء»، «الحيوان»... ثمّة أيضاً «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي، وقبل هذا وذاك «ألف ليلة وليلة».
لعب كلُّ ذلك دوراً هامّاً في رفدِ وتطويرِ التراث البشري للنكتة، كما لاحظ جيم هولت، وفي بلورةِ ما اسماه: النكتة العربية ـ الإيطالية التي تجسَّدتْ في كتاب «فكاهات» (١٤٥١م) الذي غزى كل أوربا.
مؤلِّفُه: الإيطالي لو بوج، السكرتير الشخصي لعدة بابوات، ورجل الثقافة الذي اشتهر بتسامحه وإنسانيته وعشقهِ للمكتبات...
يتابع جيم هولت جينيالوجيا النكتة حتى عصرنا الحديث الذي بدأت فيه الدراسةُ العلميّة لأصناف النكت.
يقول: «بعد دراسة ١٣٨٠٤ نكتة في نيويورك في عام ١٩٦٣ تبيّن أن ١٧ في المائة منها مهووسةٌ بالجنس، و١١ في المائة تتحدّث عن السود...» قبل قيامه في كتابه بدراسةِ بعضها من منهجٍ «بنيويّ» ونفسيّ...
تلاحظُ دراسةُ جيم هولت أن الغالبية الساحقة للنُّكت إعادةُ صياغةٍ لِنُكتٍ سابقة، عُمرها في الغالب عدّة قرون.
يُعطي، كمَثل، هذه النكتةَ التي يردِّدها الأطفال في أمريكا: «سؤال: ـــ لماذا للضراط رائحة؟ جواب: ـــ ليشعرَ بها الأصم!».
ثم يتابع شجرة نشوء هذه النكتة مارّاً بِنكتةٍ إنجليزية قديمةٍ شبيهة، عن دوق اكسفورد الذي ضرط بلاوعي أمام الملكة وهو ينحني لتحيّتها... قبل الوصول إلى البذرة الأوّلى: نكتة في «ألف ليلة وليلة» لأبي حسن، النائم اليقظان!...
يعطي جيم هولت، كمثلٍ آخر، نكتةً قِيلتْ لأوّل مرّة عن الرئيس الأمريكي نيكسون الذي فوجئ وهو يتجوّل قرب البيت الأبيض برؤية عبارة: «أكرهُ نيكسون» مكتوبةً على الثلج. طلب من مدير استخباراته كشف النقاب عمّن كتبها.
وصله المدير بعد أسبوعٍ من التحرّي والتحليل لِيقول له: «هي مكتوبة بِبَولِ وزيرِك كيسنجر!». تفجّر غضبُ نيكسون. فحاول مدير الاستخبارات تهدئته قائلاً: «لكنها بخط يد السيّدة الأولى!».
يتابع جيم هولت جينيالوجيا هذه النكتة ليجد أن أصلها آتٍ من ريف جبل أوزارك، في ١٨٩٠، فيما افترضُ أنها تعودُ لِنكتةٍ عربيّة أقدم بكثير:
طلب هارون الرشيد وهو يتسامر مع أبي نواس أن يشرح له يوماً كيف يكون عُذرُ المرءِ أقبحَ من ذنبه.
بعد أيام تسلّل أبو نواس خلف الخليفة الذي كان يتأمّل الحديقةَ من النافذة، وداعبَهُ في وركِه بِخفّة. استشاط الخليفة غضباً وقال ويدَهُ على سيفه: «ماذا عملتَ؟». ردّ أبو نواس: «المعذرة، ظننتُ أنّكَ زبيدة!».
نظرية النكتة، كما يوضح جيم هولت، تتأسّسُ على مزيجٍ مُركَّبٍ من ثلاثة أسس:
١) نظرية التعالي: ترى، على غرار افلاطون وبرجسون، أن مصدر النكتة هو التعالي على الآخر والسخرية منه واحتقاره.
٢) نظرية التنافر: ترى، على غرار باسكال وشوبنهور وكانْت، أن مصدرَها هو انزلاقُ المنطق بشكلٍ مفاجئ نحو العبثِ، أو نحو مخالفةِ ما يتوقّعهُ حدسُ المستمع.
٣) نظرية المصراع: ترى، على طريقة فرويد الذي درس قائمةً طويلةً من النكت، أن النكتةَ تساعد الإنسان في فتح مصراع لاوعيه وتحرير المكبوت فيه. ترسلُ حينها شحنةً عصبيّةً متدفّقة نحو عضلات الوجه والتنفّس تؤدّي إلى تفجّر صوتٍ يتعمّدُ مقاومةَ رقابتِنا الذاتية، وكسرَها في لحظة الضحك...
ثمّة، في نظرية المرح، أجناسٌ عديدة من النكت. منها «النكتة الفلسفية» على غرار: قال المفكّر السياسي برونهام لتلميذه: «كل إنسان يعرف كلَّ شيء عن أيّ شيء» ردّ التلميذ: «لا أعرف ذلك!» (التي تُذكِّر باشكالية «قطّة شرودنجر»).
منها على سبيل المثال أيضاً: «ما وراء النكتة» (أو: النكتة حول النكتة)، على غرار: «سؤال: بماذا تبدأ النكتة التي يحكيها الرجل الأبيض عن الأسود؟
جواب: بِغمزةٍ ولطمةٍ خفيفة في الكتف!»...
في تصنيفهِ للنُّكت، يعتبرُ جيم هولت ما تُسمّى بالنكتة اليهودية (أو التلموذية) نكتةً تلعبُ على اللغة والمنطق أساساً، وتتأسَّسُ على «نظرية التنافر»، على غرار نكتة الجدّة اليهودية التي كانت تراقب حفيدَها وهو يلعب على الشاطئ، قبل أن تجرفه موجةٌ عملاقةٌ مفاجئة.
صرخَتْ بكلِّ ذُعرِ وحزنِ الدنيا: «إلهي أعدْ حفيدي لي، أتوسّلك!»...
تعيد موجةٌ جديدةٌ عملاقة طفلَها سالماً إلى الشاطئ. تنظرُ الجدّة باتجاه السماء معاتبة: «لكنه كان يحملُ قبّعة!»...
خلاصة القول: إذا كانت الدراسات الفيزيولوجية الطازجة تحاول فكَّ الأسرار البيولوجية للضحك، فكتاب جيم هولت يفكُّ بعض أسراره التاريخية والفلسفية. لعلّه أشبه بدراسةِ دكتوراه صغيرةٍ ولذيذةٍ جدّاً.
أتركُ له العبارةَ الأخيرة: «النكتة ثمرة العبقرية الإنسانية. عندما تكون نقيّةً مكثّفة، تصير ضرباً من الفن!»...