الجمعة، 28 فبراير 2014

الحياة مِلكٌ للنساء، أي مِلكٌ للموت!

الحياة مِلكٌ للنساء، أي مِلكٌ للموت!
حبيب سروري

جليٌّ أن القرن الثامن عشر (قرن الأنوار) نقلَ الإنسانية على الصعيد الأخلاقي إلى عالَمٍ متقدِّمٍ جديد: انبثقتْ منه أولى تشريعات تحريمِ العبودية والعنصرية، ومنحِ المرأة حقوقاً جوهريّة تسمح بمساواتها بالرجل.

اعتُبِرتِ المرأة غالباً، حتّى عصر الأنوار، ماكينةَ إنجابٍ ورعايةٍ للأطفال، ناقصةَ عقل. حقوقُها في الإرث ضئيلة. وإن توظّفتْ فهي تحتلُّ موقع رجُل... ناهيك عن كونها أم المكائد والغوايات، ومرتكبة خطايا الوجود الجذرية!...
لعلّ آراء أرسطو تكثِّف ذلك: "الرجل إنسانٌ كاملٌ خُلِق بيد الإله، والمرأة منتوجٌ اشتقاقيٌّ منه، وعاءٌ لخصوبته المنويّة. يسيطر الرجلُ على المجتمع لأنه يمتلك ذكاءً أعلى من المرأة".

جليٌّ اليوم في ضوء علوم الطبيعة الإنسانية أن تلك الاعتبارات خاطئةٌ تماماً: ذكاءُ المرأة يساوي ذكاء الرجل، والتمييز بين دماغيهما بالعين المجرّدة يكاد يكون سابع المستحيلات: إذا كانت كميّة عصبونات المرأة أقل نسبيّاً من الرجل، فموادها الرمادية الدماغية أكثر نسبياًلهما نفس الجينات، اللهم إلا بعضاً منها في الكروموزوم Y، كتلك المرتبطة بالخصيتين... 
لا يمنع ذلك وجود حساسيات وملَكات لأحدهما هنا وهناك تفوق الآخر: يميل الرجل، على سبيل المثال، أكثر من المرأة للغزوات الجنسية، فيما ترتبط المرأة بعلاقة أكثر عمقاً وحميمية بالأطفال...
لكنهما وجهان لنوعٍ بيولوجيٍّ واحد: الإنسان. لا وجه أهمّ من الآخر. مساواتهما لا تعني تطابقهما المطْلق، ولكن حقَّهما في معاملةٍ تناصفيّةٍ متكافئة.

المثير هنا أن العبودية، وهيمنة الرجل على المرأة، نشآ معاً في نفس الفترة التاريخية: العصر الحجري الحديث، وتكوّن المجتمعات الحضرية الأولى
لعل منبع ذلك هو تقسيم العمل الذي أحال المرأة إلى شؤون البيت والإنجاب ورعاية الأطفال، والرجل إلى شؤون الحرب والسيطرة على السلاح والأرض.
كان مقدار غنى الفرد حينها يُقاس بمقدار عدد زوجاته وعبيده. فيما لم تكن هناك هيمنةٌ ذكورية على الإناث في العصور السابقة، لاسيما عصور عملهما المشترك في الصيد وقطف الثمار، وحياتهما البدائية ضمن فصائل "الرئيسيات" الإنسانية...

والمثير أيضاً أن بدء تجريم العبودية وهيمنة الرجل على المرأة، وتحريمهما معاً، كان ابن نفس الفترة التاريخية: قرن الأنوار.
بدأ المنع القانوني للعبودية في أوربا في نهاية قرن الأنوار، عقب الثورة الفرنسية التي أقرّ برلمانها "ميثاق حقوق الإنسان والمواطنة". وتعمّمت الإدانة والتحريم أخيراً بالوثيقة العالمية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة في ١٩٤٨ التي تلزم المنع على كل دول العالم، بما فيها المجتمعات الإسلامية (التي لم يحرِّم الشرع فيها العبودية مثلما حرّم أكل الخنزير مثلا، وإن حثّ على عتق رقبة الرقيق. لكنّها للأسف اكتفت في القرون اللاحقة بذلك الحثِّ فقط، ولم تواصل تطوُّرَها وتقدُّمَها الأخلاقي، لدرجة أنه لم يبرز حاكمٌ أو مفكّرٌ أو فقيهٌ إسلاميٌّ واحد أمرَ بتشريع تحريم العبودية، قبل أن يتحوَّل تحريمها إنجازاً حضاريّاً غربيّاً عُمِّمَ على الحضارة الإنسانية!).

وبشكلٍ موازٍ لميثاق حقوق الإنسان والمواطنة، وبعد عامين منه، قدّمتِ الكاتبة الرائدة أولامب دو جوج لبرلمان الثورة الفرنسية مشروع "ميثاق حقوق المرأة والمواطنة" الذي ينصّ على مساواتها الكاملة بالرجل
رُفِض المشروع، لكن النضال الطويل لتحقيق تلك المساواة (الأصعب بالضرورة من إلغاء العبودية بكثير) كان قد انطلق!...

لعبت الحركات النسائية في السياسة والأدب والفكر دوراً جوهرياً في تسليط الضوء على الظلم الذي تعانية المرأة، وضرورة تحويل تحريرها من حلمٍ إلى حقيقة.
ثمّة أسماء كبيرة لعبت في هذا المجال دوراً دوليّاً هامّاً في القرن العشرين كسيمون دو بوفوار وإيزابيل بادنتير، وعربياً مثل نوال السعداوي التي ركّزت على ضرورة شنِّ حربٍ على العادات والتقاليد العتيقة التي تنتهك محارم المرأة مثل ختانها، وعلى أن تبدأ انتفاضة المرأة في العالم العربي بالأمِّ وبطريقة تربيتها وتعاملها مع الطفل...

الوضع الراهن لتحرر المرأة قطع شوطاً لا بأس به في الغرب، لاسيّما بعد الستينات من القرن المنصرم: تترأس المرأة الدول، تقود وزارات الدفاع، ولبعضهن كماري كوري جائزتا نوبل معاً، في الفيزياء وفي الكيمياء!... وإن لم يتحقق بعد على أرض الواقع تقسيمُ المناصب القيادية والإدارية العليا بالتساوي بين الرجل والمرأة، وكذلك بعضُ الحقوق الأخرى كالمساواة المطلقة في أجور العمل
الأسوأ: تُفضِّلُ بعض الأحزاب السياسية الغربية مثلاً أن تدفع للدولة غرامات جرّاء عدم التزامها بالتقسيم العادل للمناصب القيادية العليا بين الرجل والمرأة، على أن تطبِّقَ اللوائح والالتزامات التي تنصُّ على ذلك!

لعلّ أرقى ما وصل إليه تحرير المرأة عربيا هو وضع تونس، مفجّرة شرارة الربيع العربي:
دستورها الجديد الذي يضمن المساواةَ الكاملة بين المرأة والرجل (بما فيه حقوق الإرث)، وحريةَ الضمير (أي: حرية أن تؤمن بدين، لا تؤمن، أو أن تغيّر دينك)، والذي لا يستند إلا على القانون المدني فقط (دون اعتماد الشريعة كمصدر) يفتح الباب لدولةٍ مدنيّةٍ حديثة تلعب فيها المرأة دوراً طليعيّاً راقياً...

فتح الربيع العربي في الحقيقة آفاقاً جديدة لحركات تحرير المرأة. هاهي اليوم أكثر حضوراً من أي وقتٍ مضى، تناضل في كل الجبهات، من الساحات وحتّى شبكات التواصل الاجتماعي. تنال الجوائز الدولية تكريماً لِدورها الطليعي (كما هو حال اليمنيات المناضلات: توكل كرمان، أروى عبده عثمان، بشرى المقطري)...
في جدول أعمالها مهامٌ عديدةٌ متراكمةٌ منذ قرون، من إلغاءِ عاداتٍ بدائية متخلِّفة خطيرة كالختان وزواج الصغيرات، وحتّى المساواة الكاملة بينها والرجل.

ليس ثمّة من مؤشرٍ يُعبِّر عن خلجات الوجود الإنساني أفضل من الأدب. تنعكس فيه ظلال وأضواء الحياة والطبيعة الإنسانية، لاسيّما واقع حياة المرأة الذي ظلَّ على الدوام شغفاً كبيراً وتيمةً رئيسةً في قلب السرد الأدبي الإنساني.
من تعكسُ أكثرَ من جولييت، في مسرحية شكسبير الشهيرة، تمرد امرأةٍ في عصر النهضة على زوجٍ اختارتهُ عائلتها لها بشكل مسبق؟
كذلك ألماسَه في مسرحية سعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحوّلات" (التي مثّلتها "الكوميديا الفرنسية" هذا العام، من إخراج الكويتي سليمان البسام) تعكسُ تمرّدَ امرأةٍ على مجتمعٍ عربيٍّ منافق، كحال مجتمع دمشق في القرن ١٩، الذي خيّم عليه الفساد والنفاق ومكايد السلطة:
يرتب المفتي، في المسرحية، شرَكاً يقع فيه عدوّهُ اللدود نقيب الأشراف الذي يتمّ القبض عليه متلبِّساً بالزنى مع المومس وردة، من قبل قائد الدرك الذي يقودهما إلى السجن في وضعٍ مهين
فضيحةٌ تهزُّ المدينة. لـ "درئها" و لـ "تنظيف" سمعة النقيب والطبقة الحاكمة، يتوجّه المفتي إلى زوجة النقيب، ألماسه، يطلب منها الذهاب إلى السجن محل وردة، ليبدو أن ما حصل للنقيب فخّاً حبكهُ قائد الدرك لامتهان النقيب، لا غير!...
توافق شريطة أن تنال الطلاق بعد ذلك، وتقرِّر مصيرها لوحدها. تتحوّل حينئذٍ بقرارها الشخصيِّ المتمردِ إلى مومس!...
تفضح حينها نفاق المجتمع وتسقط أقنعته واحداً تلو الآخر: يتحوّل المفتي عاشقاً مجنوناً يلهث وراءها، النقيب إلى متصوّف، وتنكشف أكذوبات عريقةٌ كبرى كثيرة...

لعلّ الإلياذة وألف ليلة وليلة يقعان في رأس أمهات الأدب الإنساني الخالد الذي يُكثِّف الملامح الجوهرية العميقة للطبيعة الإنسانية منذ الأزل، والذي تلعب فيه المرأة دوراً فريداً.
يشكّلان معاً وجهين لتيمةٍ أدبيّةٍ خالدة، تُكثِّفها عبارة فيليب سوليرس العميقة: "الحياة مِلكٌ للنساء، أي مِلكٌ للموت". أي: الحياة والموت وجهان لعملة واحدة تموسقها المرأة. حول هذه التيمة تمحورت كلّ روايتي الأخيرة: أروى (دار الساقي).

المرأة صانعة الموت: هي حوريّة البحر التي تغوي البحارة قبل أن تطيح بهم. يكفي أن تدخل امرأةٌ في سيرورة حياة رجُلين، كدخول هيلين في حياتي باريس ومينايلاس، لتتفجّر الصراعات والحروب، كحرب طروادة التي سردتها الإلياذة، والتي كان ينبوع بدايتها تراجيدياتٌ إغريقية سبقتها بزمن:
كلّف زيوس، في إحداهنّ، باريس باختيار إحدى آلهاتٍ ثلاث تنازعنَ على "تفاحة الفتنة" التي رمتها الآلهة إيريس إلى حفلٍ للآلهة في الأولمب لم تُدعَ له، كاتبةً عليها: " لأجمل الآلهات!". 
فازت بالتفاحة أفروديتُ التي كانت قد وعدت باريس سرّاً أنها ستفتح له، إذا اختارها، بابَ قلب هيلين، زوجه مينايلاس!...

المرأة صانعةُ الحياة: ذلك حال شهرزاد وهي توجِّهُ كمايسترو أوركيسترا القدَر، كابحةً همجيةَ شهريار بالكلمة، بالسرد، بالمعرفة، بالإبداع، بالذكاء....
ذلك حالها، أكثر من أي وقتٍ آخر، عندما تدرك ديمة (شهرزادُ رواية "ألف ليلة في ليلة" للروائية السوريّة سوسن حسن) ذاتها بالحب، فتقاوم كل أشكال التعسف في مجتمع تستبدّ به سلاطين متعددة، وتنادي شهريارها: "ستكون امتدادي وأنا امتدادك"، معتنقةً الحبَّ عقيدةً لصنع الحياة.

لعلّ هذا الدور: صانعة الحبّ والحياة، هو ما يحلو أن تستلهمه المرأة العربية المعاصرة من شهرزاداتها الخالدات، وهي تصيغُ قدَرها كرواية، هي وحدها مؤلفتها العبقرية!...


الخميس، 27 فبراير 2014

رواية تكشف عن ألوان طيف المجتمع الإسرائيلي المعاصر

رواية تكشف عن ألوان طيف المجتمع الإسرائيلي المعاصر
حبيب سروري

شمويل مايير (٥٥ سنة) روائيٌّ إسرائيليٌّ يكتب بالفرنسية، يعيش منذ بضعة سنوات في جنيف، له ٣ مجموعات قصصيّة نُشِرت في دار جاليمار. تلتها روايةٌ طريّة: «عام حجارةٍ جديد» (جاليمار، ٢٠١٣).

تتمحور روايته حول شخصيّة مثيرةٍ للجدل: دوف شاتز، كاتب إسرائيلي كبير، كان مرشّحاً لنوبل للآداب، أثار في إسرائيل خلافاً حادّاً وردود فعل عنيفة جدّاً بسبب إداناته للدّولة العبريّة، وصُوَرِه الإعلامية مع رموزٍ معادية للصهيونية.

بنيةُ الرواية تتشكّلُ من عدّة فصولٍ صغيرة يتحدّث فيها شاتز حيناً؛ زوجتَه لافانا التي هجرتهُ كليّةً بطريقةٍ ساديّةٍ فظّة (بعد ثلاثة عقودٍ من حبٍّ كبير وحياةٍ عائليةٍ سعيدة)؛ ابنتهُ لِيا التي أهملَها كليّةً بطريقةٍ تعذيبيّةٍ بعد أن تديّنت وتحوّلت إلى أصوليّة؛ آلون شفوت: المتطرّف القاتم الذي يتابع بعداء شديد حركات شاتز، والذي كان حاضراً عندما اعْتُدِيَ على الكاتب جسديّاً في السوق بسببِ مواقفه؛ ريفيتال، ابنة آلون، التي هاجرت إلى لندن بسبب زيادة تطرّف والدها وانغلاقه وحقده؛ وشخوصٌ أخرى تتناوب في سرد فصول الرواية وتطوّرِ أحداثها، كلٌّ من منظوره الخاص المختلف تماماً عن البقيّة...

عدسات الساردين تتباعد وتتناقض غالباً في رؤيتها للواقع، لِتعكسَ في شتاتها العميق ألوان طيفِ المجتمع الإسرائيلي المعاصر الذي يبدو من خلال شبكةِ مرايا أعين الساردين: لوحةً فسيفسائية شديدة التنافر والتشظّي والمرارة. مجتمعٌ يلتهمه التوغّل في التديّن والأصوليةالتوراة هي الحل») التي تقوده لمزيدٍ من العنصريّة والعدوانيّة... تُعِيدُ جميعها إلى الذاكرة عبارة الشاعر العلماني الإسرائيلي ناتان زاش: «على المدى البعيد بلدنا بدون أفق، يؤول إلى فتاتٍ من زمرات متناحرة لا يجمعها شيء».

لعلّ شخصية شاتز التي يصعب سبرُ أغوارِها هي ما تمنح الروايةَ سمكَها العميق. صنعَ لِنفسه سيرةً توهيمية استحوذَت، فيمن استحوذت، لجنةَ نوبل للآداب: طفلٌ تمرّد على الكيبوتس (التعاونيات الاجتماعية اليهودية)، كان جنديّاً ثم ضابطا، تعلّم وبنى نفسَهُ لِوحدِه، زوجٌ وأبٌ نموذجي...
يجهلُ الجميع (عدا زوجته لافانا التي هجرتهُ) أنه وُلِد في عائلةٍ أصوليّة في حيّ «البيوت المجرية» في القدس. نشأ على ثقافةٍ توراتيةٍ صارمة منغلقة. كانت له حتّى الرابعة عشرة سنة هيئة الأصوليين وزنانيرهم...
بعد وفاة والدته في الرابعة عشرة، وانغلاق والده على نفسه، هرب شاتز من المنزل. غيّرَ اسمه القديم: زيف بنيامين كاتز، إلى دوف شاتز (دوف: ذئب، بالعبريّة). قطع علاقته بماضيه، واختلق حياةً جديدة. عرف خبرَ وفاة والده وهو يسافر في الطائرة في إحدى دعواته الدوليّة الكثيرة، لكنه لم يزر يوماً قبره. 

ثمّة أيضاً شخصٌ قاتم يعرف جيّداً شاتز ويتابع تطوّر سيرته الذاتية التي اختلقها لِتُضفي عليه «عبقريةً وإنسانيّةً وجمالية»: آلون شفوت، توأمه العكسيّ. خاض نفس الحروب، وله نفس العمر. أُعجِبَ آلون بشدّة برواياتِ شاتز الأولى: «سفْر تكوينِ إبداعه»، بِعشقِها العنيف لإسرائيل...
أضحى آلون شديد الحقد والكراهية لشاتز مع تطوّر مواقف الأخير المعادية للصهيونية. ثم، بعد أن فقد آلون زوجته رونيت (التي كانت من نفس بيئتة الثقافية) في عمليّة انتحارية فلسطينية داخل باص، لم يعد بإمكان أية قوة في الأرض أن تطفئ آلامه ورغبته في الانتقام
يقول آلون: «شاتز يكرهني ويريد أن يقتل اليهودي الذي يتجرأ على التنفس في أعماقه. أنا ذلك اليهودي». «أنا عقلاني، بارد، صامت». «الحب قرار معاكسٌ لمبادئنا. أنا لا أحب. أتضامن بشكلٍ طبيعي مع ذوي دمي. أنا شرير بسبب آلامي، كريمٌ بفضل آمالي».

ثمّة، في مواقف شاتز المعاديةِ للصهيونيةِ في عقر دارها، مزيجٌ من الجرأة والصدق والشجاعة، والانتهازية والغش والحسابات الشخصيّة لمغازلة لجنة نوبل للآداب أيضاً!... دفع شاتز ثمن مواقفهِ غالياً: يعيش عزلةً اجتماعية قاتلة. يشتمُهُ الأصوليون على الدوام، هنا وهناك: «إسرائيل تتقيؤك». يستلم إس إم إسات إهانات من أقرب الناس إليه. اعتُدِي عليه في السوق من قبل شابٍّ متديّنٍ متطرف ردّدَ لِتبريرِ عدوانه: «هذا نازيّ، يسبّ إسرائيل»...

لا تخلو مواقف شاتز المؤيّدة للقضية الفلسطينية من تناقضٍ جذريٍّ لاحظه آلون وهو يقول: «أعترفُ أني غرقتُ في ضحكٍ جنوني هيستيري كاد يلتهمني: يعيش هذا الواعظ الأخلاقي  في بيتٍ عربيٍّ فلسطيني! بيتٌ رائع من حجارةٍ بيضاء سميكة، نُهِبَ من عائلةٍ عربيّة مسيحيّة. ربما هو بيت الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يحب شاتز أن يأخذ صورَاً حميميةً معه أمام أعمدة بهو جامعة كولمبيا

مصير الجيل الجديد من أبناء أبطال هذه الرواية مثيرٌ للتأمّل: ريتيفال، ابنة آلون، تهاجر إلى لندن، لتحيا حياةً مدنيّةً طبيعيةً حرّة، بعيداً عن أب يتوغّل في التطرف والجنون. لا تضع صورةً واحدة على جدران شقّتها اللندنية لأمٍّ اغتيلت في عمليّةٍ انتحاريّة.
يفتقد الأبُ ريتيفالَ كثيراً: بعدما هربت من المنزل ذهب إلى قبر «القدّيس» باروش جولدشتاي (الأصولي المتطرِّف الذي اغتال ٢٩ فلسطينيّاً وجرح ١٢٥ في الخليل في ١٩٩٤، أمام «ضريح إبراهيم») يتوسّله أن يطلب من الله أن يعيد ابنته!...
استغربَ آلون دوماً أنها لم تعد من لندن لزيارة قبر أمّها. بعث لها برسالةٍ من مائة صفحة. مزّقَتها نتفاً ميكروسكوبية، بتلذّذٍ خالص...
عبارةٌ صاعقة تمزجُ تراجيديات الماضي بالحاضر، قالتها ريتيفال:
«لو كانت لأبي، أو لباروش جولدشتاين، أو لحاخامات المدارس التلموذيّة، السلطةُ المطلقة، لأبادوا الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه بنفس طريقة هامان، وزير الملك أسيريوس، الذي جعل الملك يصدرُ أمراً بإبادة بني إسرائيل».

لِيا، ابنة شاتز، تتّخِذ طريقاً معاكساً تماماً لِريتيفال: تلجأ للتديّن المنغلق. «لم تعد تنطق عبارةً دون أن تردّد: إن شاء الله». أمامها على زجاج سيّارتها: «دعاء السفر». لها هيئة الأصوليين...
يقطع شاتز علاقته بها ببرودة وعدم اكتراث. لا يتذكّر حتّى أسماء أولادها، فيما تقرأ نصوصَهُ دوماً بإعجاب وحب، تستعيد ذكرياته دائما. تستحضر غالباً يوم رأته يبكي بحرارة بعد مقتل اسحاق رابين. (لعلّه، كما يبدو، كفرَ بإسرائيل تماماً بعد ذلك اليوم!)...

ذهبتْ لِيا لزيارته، للمنزل العائلي القديم، بعد أن اعتُديَ عليه في السوق. قابلها ببرود. انتهى اللقاء بهذه الكلمات المؤثرة:
«لم ألمْهُ على شيء. لم أسأله لماذا تمتلئ جدران البيت بِصور أمّي، وليس لي صورة واحدة. تجرأتُ أن أسأله بدل ذلك
ـ أبي، أتشعر بالعذاب لو أحببتني؟... 
رفع وجهاً أبيض كدجاجة مسلوقة، قائلاً
ـ لا تعنيكِ هذه العبارة. أبي من قال لأمِّي إنه يتعذّب لو أحبّني!... 
صعدَتْ أدمعي وأنا أرى غضَبَه. أغلقتُ الباب وأنا أتمتم كصلاة: كان أبوكَ على حق

لافانا، التي أحبّتْ زوجَها «كُلّاً» خلال ثلاثين عاماً، صارت تكرهه «كُلّاً» أيضاً فيما ظلّ متيّماً بها رغم أنها تزوّجت بآخر. «شاتز أنانيٌّ نرجسيٌّ وشديدُ الذكاء أيضاً»، تقول.
لامتْهُ يوماً لأنه لم يتذكَّر تاريخَ عيد ميلاد لِيا وهي في الخامسة. برّر ذلك قائلاً إن التقاليد التوراتية تُفضِّل تذكَّر تاريخ الممات على تاريخ الميلاد. لعلّه «سقط من عينيها» وهي تلاحظهُ بِذهول «يُبرِّرُ نفسه توراتيّاً، هو الذي قطع تماماً حبل السرّة بالدين والآلهة».

لم تتحمّل لافانا تعليقاته المعادية لإسرائيل في مقابلاته الإعلامية الجدالية، ولم يتراجع عن مشاكساته، لاسيّما أنها «ترفع مبيعات الكتب» وتُضفي على شخصهِ صفةَ «الإسرائيلي التقدمي» أمام العالَم
بعثتْ لافانا له إس إم إسات إهانات بذيئة لأنها تعرف كم «لا يُهمُّه قط ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلّة. لا يكنّ أية عاطفةٍ للانتحاريين الفلسطينيين، ناهيك عن غطرفات الفرح في رام الله وغزّة ونابلس بعد مجزرة باصٍ فُجِّر في تل أبيب».
أبشعُ من ذلك: لعلّها كانت أيضاً في السوق يوم أعتديَ عليه، وشاهدت ذلك من بعيد... لم تبعث له تهنئةً يوم حصوله على نوبل للآداب. بالعكس، سخرت من ذلك!...

بعد حصوله على نوبل للآداب حدث تطوّرٌ غريبٌ مفاجئ: عادت علاقته بابنته الأصولية من جديد!... طلب منها أن تقوده بسيّارتها إلى الخليل، في الأراضي المحتلّة. استغربتْ كثيراً لأنه قال سابقاً إنه «لن يضع قدماً في الأراضي المحتّلة!»...

يفتح تأويل عودة علاقتهما أسئلةً عدّة: أيعني أنه تخلّى عن قناعٍ كان يلبسه؟ أم أن ذلك يعني أن «الصهيونيّة الدينيّة» (هذا التحالف المعاصر بين الصهيونيّة ذات المرجعيّة غير الدينيّة، والأصوليّة الدينيّة المتصاعدة) هو مستقبل إسرائيل؟