الحياة مِلكٌ للنساء، أي مِلكٌ للموت!
حبيب سروري
جليٌّ أن القرن الثامن عشر (قرن الأنوار) نقلَ الإنسانية على الصعيد الأخلاقي إلى عالَمٍ متقدِّمٍ جديد: انبثقتْ منه أولى تشريعات تحريمِ العبودية والعنصرية، ومنحِ المرأة حقوقاً جوهريّة تسمح بمساواتها بالرجل.
اعتُبِرتِ المرأة غالباً، حتّى عصر الأنوار، ماكينةَ إنجابٍ ورعايةٍ للأطفال، ناقصةَ عقل. حقوقُها في الإرث ضئيلة. وإن توظّفتْ فهي تحتلُّ موقع رجُل... ناهيك عن كونها أم المكائد والغوايات، ومرتكبة خطايا الوجود الجذرية!...
لعلّ آراء أرسطو تكثِّف ذلك: "الرجل إنسانٌ كاملٌ خُلِق بيد الإله، والمرأة منتوجٌ اشتقاقيٌّ منه، وعاءٌ لخصوبته المنويّة. يسيطر الرجلُ على المجتمع لأنه يمتلك ذكاءً أعلى من المرأة".
جليٌّ اليوم في ضوء علوم الطبيعة الإنسانية أن تلك الاعتبارات خاطئةٌ تماماً: ذكاءُ المرأة يساوي ذكاء الرجل، والتمييز بين دماغيهما بالعين المجرّدة يكاد يكون سابع المستحيلات: إذا كانت كميّة عصبونات المرأة أقل نسبيّاً من الرجل، فموادها الرمادية الدماغية أكثر نسبياً. لهما نفس الجينات، اللهم إلا بعضاً منها في الكروموزوم Y، كتلك المرتبطة بالخصيتين...
لا يمنع ذلك وجود حساسيات وملَكات لأحدهما هنا وهناك تفوق الآخر: يميل الرجل، على سبيل المثال، أكثر من المرأة للغزوات الجنسية، فيما ترتبط المرأة بعلاقة أكثر عمقاً وحميمية بالأطفال...
لكنهما وجهان لنوعٍ بيولوجيٍّ واحد: الإنسان. لا وجه أهمّ من الآخر. مساواتهما لا تعني تطابقهما المطْلق، ولكن حقَّهما في معاملةٍ تناصفيّةٍ متكافئة.
المثير هنا أن العبودية، وهيمنة الرجل على المرأة، نشآ معاً في نفس الفترة التاريخية: العصر الحجري الحديث، وتكوّن المجتمعات الحضرية الأولى.
لعل منبع ذلك هو تقسيم العمل الذي أحال المرأة إلى شؤون البيت والإنجاب ورعاية الأطفال، والرجل إلى شؤون الحرب والسيطرة على السلاح والأرض.
كان مقدار غنى الفرد حينها يُقاس بمقدار عدد زوجاته وعبيده. فيما لم تكن هناك هيمنةٌ ذكورية على الإناث في العصور السابقة، لاسيما عصور عملهما المشترك في الصيد وقطف الثمار، وحياتهما البدائية ضمن فصائل "الرئيسيات" الإنسانية...
والمثير أيضاً أن بدء تجريم العبودية وهيمنة الرجل على المرأة، وتحريمهما معاً، كان ابن نفس الفترة التاريخية: قرن الأنوار.
بدأ المنع القانوني للعبودية في أوربا في نهاية قرن الأنوار، عقب الثورة الفرنسية التي أقرّ برلمانها "ميثاق حقوق الإنسان والمواطنة". وتعمّمت الإدانة والتحريم أخيراً بالوثيقة العالمية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة في ١٩٤٨ التي تلزم المنع على كل دول العالم، بما فيها المجتمعات الإسلامية (التي لم يحرِّم الشرع فيها العبودية مثلما حرّم أكل الخنزير مثلا، وإن حثّ على عتق رقبة الرقيق. لكنّها للأسف اكتفت في القرون اللاحقة بذلك الحثِّ فقط، ولم تواصل تطوُّرَها وتقدُّمَها الأخلاقي، لدرجة أنه لم يبرز حاكمٌ أو مفكّرٌ أو فقيهٌ إسلاميٌّ واحد أمرَ بتشريع تحريم العبودية، قبل أن يتحوَّل تحريمها إنجازاً حضاريّاً غربيّاً عُمِّمَ على الحضارة الإنسانية!).
وبشكلٍ موازٍ لميثاق حقوق الإنسان والمواطنة، وبعد عامين منه، قدّمتِ الكاتبة الرائدة أولامب دو جوج لبرلمان الثورة الفرنسية مشروع "ميثاق حقوق المرأة والمواطنة" الذي ينصّ على مساواتها الكاملة بالرجل.
رُفِض المشروع، لكن النضال الطويل لتحقيق تلك المساواة (الأصعب بالضرورة من إلغاء العبودية بكثير) كان قد انطلق!...
لعبت الحركات النسائية في السياسة والأدب والفكر دوراً جوهرياً في تسليط الضوء على الظلم الذي تعانية المرأة، وضرورة تحويل تحريرها من حلمٍ إلى حقيقة.
ثمّة أسماء كبيرة لعبت في هذا المجال دوراً دوليّاً هامّاً في القرن العشرين كسيمون دو بوفوار وإيزابيل بادنتير، وعربياً مثل نوال السعداوي التي ركّزت على ضرورة شنِّ حربٍ على العادات والتقاليد العتيقة التي تنتهك محارم المرأة مثل ختانها، وعلى أن تبدأ انتفاضة المرأة في العالم العربي بالأمِّ وبطريقة تربيتها وتعاملها مع الطفل...
الوضع الراهن لتحرر المرأة قطع شوطاً لا بأس به في الغرب، لاسيّما بعد الستينات من القرن المنصرم: تترأس المرأة الدول، تقود وزارات الدفاع، ولبعضهن كماري كوري جائزتا نوبل معاً، في الفيزياء وفي الكيمياء!... وإن لم يتحقق بعد على أرض الواقع تقسيمُ المناصب القيادية والإدارية العليا بالتساوي بين الرجل والمرأة، وكذلك بعضُ الحقوق الأخرى كالمساواة المطلقة في أجور العمل.
الأسوأ: تُفضِّلُ بعض الأحزاب السياسية الغربية مثلاً أن تدفع للدولة غرامات جرّاء عدم التزامها بالتقسيم العادل للمناصب القيادية العليا بين الرجل والمرأة، على أن تطبِّقَ اللوائح والالتزامات التي تنصُّ على ذلك!
لعلّ أرقى ما وصل إليه تحرير المرأة عربيا هو وضع تونس، مفجّرة شرارة الربيع العربي:
دستورها الجديد الذي يضمن المساواةَ الكاملة بين المرأة والرجل (بما فيه حقوق الإرث)، وحريةَ الضمير (أي: حرية أن تؤمن بدين، لا تؤمن، أو أن تغيّر دينك)، والذي لا يستند إلا على القانون المدني فقط (دون اعتماد الشريعة كمصدر) يفتح الباب لدولةٍ مدنيّةٍ حديثة تلعب فيها المرأة دوراً طليعيّاً راقياً...
فتح الربيع العربي في الحقيقة آفاقاً جديدة لحركات تحرير المرأة. هاهي اليوم أكثر حضوراً من أي وقتٍ مضى، تناضل في كل الجبهات، من الساحات وحتّى شبكات التواصل الاجتماعي. تنال الجوائز الدولية تكريماً لِدورها الطليعي (كما هو حال اليمنيات المناضلات: توكل كرمان، أروى عبده عثمان، بشرى المقطري)...
في جدول أعمالها مهامٌ عديدةٌ متراكمةٌ منذ قرون، من إلغاءِ عاداتٍ بدائية متخلِّفة خطيرة كالختان وزواج الصغيرات، وحتّى المساواة الكاملة بينها والرجل.
ليس ثمّة من مؤشرٍ يُعبِّر عن خلجات الوجود الإنساني أفضل من الأدب. تنعكس فيه ظلال وأضواء الحياة والطبيعة الإنسانية، لاسيّما واقع حياة المرأة الذي ظلَّ على الدوام شغفاً كبيراً وتيمةً رئيسةً في قلب السرد الأدبي الإنساني.
من تعكسُ أكثرَ من جولييت، في مسرحية شكسبير الشهيرة، تمرد امرأةٍ في عصر النهضة على زوجٍ اختارتهُ عائلتها لها بشكل مسبق؟
كذلك ألماسَه في مسرحية سعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحوّلات" (التي مثّلتها "الكوميديا الفرنسية" هذا العام، من إخراج الكويتي سليمان البسام) تعكسُ تمرّدَ امرأةٍ على مجتمعٍ عربيٍّ منافق، كحال مجتمع دمشق في القرن ١٩، الذي خيّم عليه الفساد والنفاق ومكايد السلطة:
يرتب المفتي، في المسرحية، شرَكاً يقع فيه عدوّهُ اللدود نقيب الأشراف الذي يتمّ القبض عليه متلبِّساً بالزنى مع المومس وردة، من قبل قائد الدرك الذي يقودهما إلى السجن في وضعٍ مهين.
فضيحةٌ تهزُّ المدينة. لـ "درئها" و لـ "تنظيف" سمعة النقيب والطبقة الحاكمة، يتوجّه المفتي إلى زوجة النقيب، ألماسه، يطلب منها الذهاب إلى السجن محل وردة، ليبدو أن ما حصل للنقيب فخّاً حبكهُ قائد الدرك لامتهان النقيب، لا غير!...
توافق شريطة أن تنال الطلاق بعد ذلك، وتقرِّر مصيرها لوحدها. تتحوّل حينئذٍ بقرارها الشخصيِّ المتمردِ إلى مومس!...
تفضح حينها نفاق المجتمع وتسقط أقنعته واحداً تلو الآخر: يتحوّل المفتي عاشقاً مجنوناً يلهث وراءها، النقيب إلى متصوّف، وتنكشف أكذوبات عريقةٌ كبرى كثيرة...
لعلّ الإلياذة وألف ليلة وليلة يقعان في رأس أمهات الأدب الإنساني الخالد الذي يُكثِّف الملامح الجوهرية العميقة للطبيعة الإنسانية منذ الأزل، والذي تلعب فيه المرأة دوراً فريداً.
يشكّلان معاً وجهين لتيمةٍ أدبيّةٍ خالدة، تُكثِّفها عبارة فيليب سوليرس العميقة: "الحياة مِلكٌ للنساء، أي مِلكٌ للموت". أي: الحياة والموت وجهان لعملة واحدة تموسقها المرأة. حول هذه التيمة تمحورت كلّ روايتي الأخيرة: أروى (دار الساقي).
المرأة صانعة الموت: هي حوريّة البحر التي تغوي البحارة قبل أن تطيح بهم. يكفي أن تدخل امرأةٌ في سيرورة حياة رجُلين، كدخول هيلين في حياتي باريس ومينايلاس، لتتفجّر الصراعات والحروب، كحرب طروادة التي سردتها الإلياذة، والتي كان ينبوع بدايتها تراجيدياتٌ إغريقية سبقتها بزمن:
كلّف زيوس، في إحداهنّ، باريس باختيار إحدى آلهاتٍ ثلاث تنازعنَ على "تفاحة الفتنة" التي رمتها الآلهة إيريس إلى حفلٍ للآلهة في الأولمب لم تُدعَ له، كاتبةً عليها: " لأجمل الآلهات!".
فازت بالتفاحة أفروديتُ التي كانت قد وعدت باريس سرّاً أنها ستفتح له، إذا اختارها، بابَ قلب هيلين، زوجه مينايلاس!...
المرأة صانعةُ الحياة: ذلك حال شهرزاد وهي توجِّهُ كمايسترو أوركيسترا القدَر، كابحةً همجيةَ شهريار بالكلمة، بالسرد، بالمعرفة، بالإبداع، بالذكاء....
ذلك حالها، أكثر من أي وقتٍ آخر، عندما تدرك ديمة (شهرزادُ رواية "ألف ليلة في ليلة" للروائية السوريّة سوسن حسن) ذاتها بالحب، فتقاوم كل أشكال التعسف في مجتمع تستبدّ به سلاطين متعددة، وتنادي شهريارها: "ستكون امتدادي وأنا امتدادك"، معتنقةً الحبَّ عقيدةً لصنع الحياة.
لعلّ هذا الدور: صانعة الحبّ والحياة، هو ما يحلو أن تستلهمه المرأة العربية المعاصرة من شهرزاداتها الخالدات، وهي تصيغُ قدَرها كرواية، هي وحدها مؤلفتها العبقرية!...