الجمعة، 31 يناير 2014

المكتبة المثلى اليوم: أحلام مُلِحّة تنتظر مكتبة قطر ٢٠١٥

المكتبة المثلى اليوم:
أحلام مُلِحّة تنتظر مكتبة قطر ٢٠١٥

حبيب سروري

الثقافة مرتكز حضارت الأمم المتطورة وضمان حمايتها وديمومتها. والمكتبات القومية الكبرى، ذات التأثير التنويري الفعال القادر على نشر المعارف الحديثة وتعليم صناعتها محليا، رافدٌ جوهريٌّ لثقافات تلك الحضارات المزدهرة.

للمكتبات القومية الحديثة المثلى في الزمن الرقمي الجديد بنية هرمية من ثلاثة مستويات.
طابقها القاعدي: المكتبة الورقية التقليدية المدججة بأحدث التقنيات، من حواسيب وبرمجيات متخصصة وروبوتات متحركة، تخزن وتؤرشف وترتب الكتب والوثائق، تعرضها موتورات البحث على الشاشة عند أدنى طلب من القارئ، وتهرع روبوتاتها للبحث عنها في الرفوف وحملِها للقارئ مباشرة.
طابقها الثاني: المكتبة الرقمية الحديثة التي تنسخ نصوص الطابق الأول على الحاسوب وشبكة إنترنت (كصورٍ من ناحية، وكنصوصٍ رقمية من ناحية أخرى)، وتضيف لها بنكاً هائلاً من النصوص الأخرى متعددة الوسائط (صور، فيديو، أفلام...) تربطها جميعا، بشكلٍ عضوي، بواسطة البروتوكولات الحاسوبية الحديثة، بالمكتبات الكونية بطريقةٍ تسمح بمعالجتها جميعا واستفسارها أتوماتيكيا من قبل الحواسيب مباشرة!
طابقها الثالث: مجموع التقنيات والوسائل الحديثة التي تسمح لهذه النصوص باستحواذ اهتمام المجتمع وتوعيته وتنويره وجعله مجتمعاً يصنع المعرفة. دون هذه النتيجة الاستراتيجية (أي: صناعة المعرفة محليّاً) تكون المكتبة أشبه بديكور جميل لا يسمن أو يغني من جهل!...

الطابق الأول لا يختلف جوهريا عن المكتبة التقليدية، منذ الإسكندرية قبل الميلاد حتّى مكتبات النصف الأول من القرن العشرين مروراً بمكتبة فلورانسا في عصر النهضة الأوربية، اللهم إلا:
١) بدخول الحاسوب كوسيلة لرصد الكتب وتنظيم توزيعها عبر قاعدة بيانات وموتورات بحث تسمح للقارئ بمعرفة كل مواد المكتبة وقراءة ومشاهدة صور عدد هائل منها على الحاسوب.
٢) وبدخول الروبوتات الآلية (كما هو الحال اليوم في بعض مدن الغرب، كشيكاغو) التي تضع الكتب في رفوفها وتذهب لِحملها مباشرة للقارئ في صالة القراءة.
يتم ذلك باستخدام تكنولوجيا RFID، أي: "التشخيص بترددات الموجات الإذاعية"، التي تنبعث من شريحة رقيقة تلتصق بالرف أو الكتاب، ويمكن للروبوت التفاعل معها والكتابة فيها عن بعد.

مكتبة قطَر المزمع فتحها في عام ٢٠١٥ مهيئةٌ لتكون مدجّجةً بأحدث هذه التقنيات، في تحفة معمارية مهيبة.

سأسلّط الضوء في هذا المقال على الطابقين المتوسط والأعلى اللذين يتم الانتقال بفضلهما من الطابق الأرضي (الذي لا يختلف عن مكتبة "العصر الحجري" في الجوهر!) إلى مكتبة العصر الحديث والمستقبل.

 يلزم لذلك أوّلاً تعريف النص الرقمي متعدد الوسائط: هو النص المكتوب على الكمبيوتر (كتب، محاضرات، مقالات، براءات اختراع، مدوّنات، تقارير خبراء، حوارات ونقاشات في الشبكات الاجتماعيةأكان نصّاً مطبوعاً، مسموعاً، أم مرئيّاً). لهُ خصائص مدهشة تجعل منه أرقى ما أبدعه الإنسان من فجر التاريخ: هو "هوائي" التواجد (يمكن أن يتناثر على "حواسيب سُحبيّة" متباعدة، وأن نصل له من أجهزة الكترونية مختلفة، من أي مكان). يمكن ربطه بأي نص رقمي آخر في أي مكان في العالم عبر "روابط النصوص الفائقة"، hypertext. لا وزن له: يمكن وضع كل مكتبة قطَر في بضعة مفاتيح U.S.B خفيفة كقطعة نقدية دون أن يتغيّر وزن المفاتيح. يمكن تغيير كلماتٍ أو فقراتٍ منه دون إعادة طباعته كلّاً من جديد، كالنص الورقي!…
يستطيع الحاسوب أن يتعامل مع النص الرقمي المكتوب: ينطقه، يفهرس كلماته لموتورات الأبحاث (وليس فصوله فقط!)، يترجمه (دون أن يعرف مدلوله!).

من المهم جدّاً هنا التمييز بين النص المطبوع على الحاسوب من ناحية، وصورة سكانير لِنصٍّ مطبوع على ورق من ناحية ثانية: الثاني مجرد "شخاطيط" في أعين الحاسوب (يراه مثل قطة تشاهد صفحة من "رسالة الغفران") لا يستطيع معالجته أو فهرسته بالطبع.

لذلك تمتلك كل لغة مهمّة (عدا العربية حتّى الآن!) "متعرف ضوئي على الأحرف" (OCR) يحول صورة السكانير إلى نص رقمي.
ولذلك تمتلك المكتبات الكبرى روبوتات تشتغل ليل نهار لرقمنة الكتب المطبوعة: تفتح هذه الروبوتات الكتاب صفحةً صفحة بشكل آلي، تُصوِّر كل صفحة لتُقرأ في الحاسوب كصورة، ثم (وهنا المرحلة النوعية البالغة الأهمية): تُحوِّل الصفحة إلى نصٍّ رقمي بعد التعرف الآلي على كل حرفٍ من أحرفه وطبعه من جديد.
منذ العقد الماضي، إثر مشروع غوغل العملاق لبناء مكتبته الرقمية الكونية (أذكِّرُ هنا: لم تكن شركة غوغل في البدء غير مكتبة رقمية في ستانفورد)، توالت المشاريع الأممية العملاقة في الدول المتطوّرة، وتم رقمنة ملايين الكتب، بكل اللغات، بهذه الطريقة.
يمكن رؤية فيديوهات تصوِّر الريبوتات وهي ترقمن الكتب في بعض المواقع الالكترونية للمكتبات الدولية كموقع المكتبة الرقمية جاليكا (التابعة للمكتبة القومية الفرنسية).

يكفي مثلاً فتح كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانتي من موقع هذه المكتبة، كصورة أو كنص رقمي. في الحالة الأخيرة سنجد هامشاً يقول: "يمكن أن توجد هنا أخطاء لأنه تم تكوين هذا النص بالمتعرف الضوئي للأحرف (OCR) بِنسبة تعرُّفٍ تساوي ٩٩٫٩٦٪".
يتوازى هذا التعرف على صور النصوص مع مشاريع بعيدة الأمد: التعرّف الآلي على المخطوطات اليدوية، لاسيما مخطوطات التراث، ورقمنتها. كمثل: للمكتبات القومية الدولية الأوربية مشاريع أبحاث كثيرة تهدف لِرقمنة مخطوطاتها العتيقة، الموجودة في المتاحف والمكتبات القديمة.

لا أعرف شخصيّاً كتاباً عربيّاً ورقيّاً واحداً تم تكوينه بمتعرف ضوئي على الأحرف، لأن نسبة التعرف في المتعرِّفات الضوئية باللغة العربية ما زال ضعيفاً يقارب الستين بالمائة، أي غير صالحٍ للاستعمال.
لعلّ أهم تحديات مكتبة قطر: حل هذه المشكلة القومية الرئيسة المتخثِّرة. أي: رقمنة كل الكتب العربية الورقية المطبوعة بآلات الكتابة القديمة (دون الاكتفاء بتحويلها إلى صور سكانير كما يحصل حالياً في مكتباتنا العربية الأخرى، والتي ليس لها أية أهميّة من وجهة نظرٍ رقمية) وإدخال اللغة العربية هكذا في عصر الرقمنة مثل سائر اللغات الكبرى التي رقمنت ملايين الكتب حتّى الآن، وبدأت عصر الخوض الآلي في دلالات النصوص!...

للمعالجة الآلية لدلالات النصوص، يلزم الحديث أوّلاً عن مفهوم "أنتولوجيا المعرفة": هي نمذجة حاسوبية للمفاهيم المعرفية وعلاقاتها وخصائصها، في أي مجال أو موضوع، بِبُنيةٍ تُعطيها معنى دقيقاً يمكن أن يتعامل معه الحاسوب، وبِلغةٍ معيارية تستخدمها جميع الأنظمة: RDF وأخواتها.
هدفها الجبار: استيعاب الحاسوب لمحتوى الأنتولوجيا، لفهم النصوص بواسطتها ومعالجتها آليّاً!
مثال: أنتولوجيا معارف موسوعة ويكيبيديا الرقمية، دِيبيبيديا، التي ترتبط عضويّاً بعدد هائل من المواقع المعرفية على إنترنت. يستخدم الحاسوبُ دِيبيبيديا كبوابة لمعالجة المعارف الويكيبيدية آليّاً. تنمو هذه المعارف الموسوعية الرقمية يوميّاً وبكل اللغات، بشكل يجعل الموسوعات الورقية التقليدية تبدو كائنات من زمنٍ غابر.

بدأت المكتبات القومية في السنين الأخيرة (وأشارت لِذلك بعضُها بشكلٍ واعد، في مواقعها الالكترونية قبيل أسابيع فقط) مرحلة بناء أنتولوجيا كُتبِها ووثائقها لربطها العضوي ببقية مواد مكاتب العالم، وللسماح لقارئ المستقبل بتوجيه أسئلةٍ للحاسوب حول مدلول نصوص الكتب (نعم، حول مدلولها!)، وليس فقط حول وجود هذا الكتاب أو ذاك، أو الاستفسار حول موضوعه ونوعه وكاتبه.
لعلّ ذلك يقع أيضاً في مقدمة مهام مكتبة قطَر (بعد مهمة الرقمنة) لأن النص الرقمي اليوم كنزُ البشرية، ذهبُها الأسود. الهدف من صناعته وأرشفته: استخلاص المعارف والمعلومات منه بشكل آلي من قبل الحاسوب نفسه، لأن من يسيطر عليهما سيسيطر على المستقبل!…

المكتبات القومية (في هذا العقد من القرن) تعمل في وسطٍ بشري صار النشاط الثقافي الرقمي فيه أوسع بكثير من النشاط الثقافي الورقي، لاسيما لدى الشباب والصغار. قلّ التردّدُ فيه على المدوّنات والمواقع الشخصية الالكترونية، كما كان الحال قبل سنوات، لصالح الولهِ الكثيف بشبكات التواصل الاجتماعي، لاسيما فيسبوك، يوتوب، والمنتديات والوسائط التفاعلية الأخرى.
تتعوشب في ربوع هذا الوسط كميّاتٌ هائلة متصاعدة من المواد الرقمية المتنوعة التي تتكاثرُ بشكلٍ أسّيٍّ كل سنتين، تستحوذ وقت الإنسان وتجذبه لِخضمّ  اغراءتها وتلاطماتها في كلِّ الاتجاهات.

كيف يمكن موضعة الحقل المعرفي في قلب هذه المعمعة الرقمية؟ كيف يمكن جذب الإنسان فيها نحو القراءة والتأمل والتفكير وصناعة المعرفة؟ كيف يمكن للمكتبات الحديثة تحسين نتائج مردودات بثِّها المعرفي، بالاشتراك مع المدارس والجامعات والهيئات الثقافية والرقمية الأخرى؟...

تفجّرت هذه الأسئلة الطازجة اليوم بغية البحث عن آليات الاستحواذ والاهتمام المعرفي الرقمي، واكتشاف وصناعة وسائل حديثة تنسجم مع مزاج وتطلعات شخصيّة كلِّ إنسان، لاستقطابه نحو عالم القراءة والمعرفة الرقمية، لِكسب معركة التنافس مع العروض والعوالم الرقميّة الأخرى التى تبحث عن استهلاك وقته هي أيضاً
لا سيّما أن نواقص وعيوب كثيرة تعتور القراءة الرقمية اليوم: قراءة الكتاب على الشاشة، من شبكة إنترنت، ممارسةٌ مرهقة للعين إذا طالت، هشّة التركيز أحياناً، تدخل على خطِّها "طفيليات" رقمية دائمة: إشعارات، إعلانات، رسائل...

برز هكذا مفهوم "اقتصاد استحواذ الاهتمام" الذي يسعى لِخلق فضاءات رقميّة فنيّة تفاعلية تعاضدية جذّابة مثمرة للقراءة، يساهم في صناعتها الفنّانون والمهندسون وعلماء النفس والدماغ، لتوريط القارئ وجرِّهِ إلى لُجِّ الثقافة الرقمية المنتِجة للمعارف والإبداعات الخلاقة.

لتكنْ مكتبة قطَر في هذا الطابق العلوي شديدةَ الحضور أيضاً. ولِتكنْ، أتمنّى، بمستوى المشاريع النوعيّة والأحلام السامية الهائجة التي أرميها على عاتقها بحبٍّ وضراوة!...





الثلاثاء، 28 يناير 2014

مقابلة مع حبيب سروري في "القدس العربي"

الروائي و الكاتب  حبيب سروري لـ "القدس العربي"  


وضع اللغة العربية في العصر الرقمي هاجس يؤرقني


عدن / حاورته / لبنى الخطيب

حبيب سروري روائيٌ وكاتب عربيٌّ معروف وبروفيسور منذ ١٩٩٢ في علوم الكمبيوتر بقسم هندسة الرياضيات التطبيقية في الكلية الوطنية للعلوم التطبيقية بفرنسا، سعدت بلقائه لأول مرة في منتصف ديسمبر ٢٠١٣ في مسقط رأسه عدَن "مدينته الفاضلة" التي وصلها مدعواً لمؤتمر تيدكس عدَن الأول متحدثاً عن تجربته ونجاحه و لإلهام آخرين.
صاحب دملان والملكة المغدورة وعرق ألآلهة، عن اليمن ما ظهر منها وما بطن، طائر الخراب، شئ ما يشبه الحب وأخيراً تقرير الهدهد و رواية اروى، ومن له الكثير من الأبحاث العلمية فتح قلبه وعقله متحدثاً ل"القدس العربي" .


= تمتزج في أعمالك لغةُ الشِّعر والرياضيات، تفاصيلُ الحياة اليومية بالميتافيزيقيا، التجربةُ الذاتية الخاصّة المتفاعلة مع هموم المشروع الجمعي المسكون بحلم إنتصار التقدم... بدا ذلك جليّاً منذ أوّل رواياتك بالعربية: "دملان" التي قال الأستاذ محمد برادة إنها روايةً "كُليّة". كيف تفسِّر ذلك؟

=== لعل في ذلك ما ينسجم وطبيعة عصرنا الراهن الذي تداخلت فيه الجسور بين شتّى ألوان الفنون والآداب وأصناف المعارف والعلوم.
في ذلك أيضاً ما ينسجم مع تجربة حياتي الخاصة: طفل ذو تربية دينية قطع حبل سرّتهِ بها في معمعان عدَن "الإشتراكية العلمية" وهو في الرابعة عشر من العمر، على إيقاع توجيهات ماركس بـ "تحويل العالَم" أو "تغيير الحياة"، بلغة رامبو.
تحوّل بروفيسوراً في الرياضيات التطبيقية، فرع الكمبيوتر، فيما كان وظلّ  مهووساً بجنون بالشعر والأدب، منذ الصًّغر.
غرق في الحياة والثقافة الفرنسية التي تُبَجِّل اليوم تعدّدية التخصصات interdisciplinarité وتتعانق غالباً في رواياتها الحديثة مجموع الأوجه التي ذكرتيها في سؤالك، فيما ظل مشدوداً لثقافته ولغته الأولى وأوجاع مجتمعاته العربية التي يراقبها "من أعلى الغابة". هوسه بالفعل كما قلتِ تقريباً: إنتصار الحياة على الظلمات!...

= بدأتَ تجربتك الروائية  بالفرنسية برواية "الملكة المغدورة" التي تدور بكاملها تقريباً في مدينة عدَن في السبعينات من القرن المنصرم. تلتها روايتان بالعربية:  "دملان"، "طائر الخرابصدرتا في اليمن أوّلاً، تسكنهما اليمن من طرفيهما إلى طرفيهما، قبل إعادة إصدارهما في بيروت. ثمّ ثلاث روايات (تختفي اليمن كليّةً فيهم، لاسيما  "عرَق الآلهة" و "تقرير الهدهد" لم تصدر أيّةٌ منهن في اليمن، ولكن في بيروت مباشرة). ألا  يشبه هذا التدرج مراحل مختلفة من تجربتك الروائية؟

=== ثمة شيئٌ من الحقيقة في ذلك. كانت عدَن بشكل خاص، واليمن عموماً، همّ ومسرح رواياتي الثلاث الأولى. ثم بدأتُ مرحلة ثانية تقريباً ذهبتْ رواياتي فيها إلى مناحٍ ومواضيع مختلفة: اشتغلتْ "عرَق الآلهة" على قضايا ميتافيزيقية و علمية، في إطار عشقٍ تعدّدي كثيف. و أشتغلتْ رواية "تقرير الهدهد(التي أعتبرها نبيل سليمان "أرقى ما وصلت إليه الرواية التاريخية العربية") على حياة أبي العلاء المعرّي الحقيقية والتخييلية. واشتغلت رواية أروى على تيمةٍ أدبيّة سرديّة، أزلية أبدية، تلخصها عبارة فيليب سوليرس: "الحياة ملك للنساء، أي ملك للموت"...

= أيعني ذلك أنك لن تعد روائياً لليمن يوماً، وبالذات إلى عدَن سبعينات القرن المنصرم، التي طالما قلتَ أنّها كنز مواد خامٍ تحتاج إلى أكثر من ألف رواية؟

=== كلا! سأعود لها حتماً، وقريباً جدّاً، لكن في إطار مرحلةٍ روائيةٍ ثالثة ربما!...

= لماذا أبو العلاء المعري بطلاً في رواية من ٤٠٠ صفحة؟

=== حلمٌ قديم: حياة أبي العلاء المعري رواية بحدّ ذاتها. إذا ما أضيف لها التخييل تتحوّل إلى روايات في رواية... ثم هو رجلُ اليوم بامتياز بالنسبة لي: مشروعه "لا إمام سوى العقل" أنقى وأهم ما حمله لنا تاريخنا العظيم. لم نتجرأ بعد الإرتفاع لمستواه.
روايته الخالدة "رواية الغفران" لم يستثمرها أحد، فيما لعب نصٌّ ذو بنية مشابهة: "الكوميديا الإلهية"، ظهر بعدها بزمن طويل، دوراً بالغ الأهمية في الأدب الغربي.
غير أن ما دفعني لكتابتها فجأة هو الظلم العالمي بحق هذا الرجل: ظهرت كتب كثيرة في الغرب، لاسيما في عام ٢٠٠٩ "عام داروين"، تتناول بيلوجرافيا فلاسفة ومفكري التاريخ الإنساني الذين أستشرفوا قبل البيولوجيا الحديثة وحدة الكائن الحي وتطوره البيولوجي. كل من قال كلمتين منهم في هذا الإتجاه أعتُبرَ عبقرياً إستثنائياً، فيما لم يقل كثيرون منهم إلا شذرات مما قاله أبو العلاء قبلهم بعدة قرون!... دون الحديث عن آرائه النيتشاوية قبل نيتشة بدهر!...

= ثمّة هاجسٌ سرديٌّ يتكرر في رواياتكم: هاجس "رؤية الماضي كما حصل فعلاً" بواسطة السفر بأسرع من الضوء. ما سرّ شغفكم هذا؟

=== تصل إلى التلسكوبات كل يوم أشعة ضوءٍ عجوزة، عبرت مليارات السنين الضوئية أحياناً، من كواكب لم تعد موجودة في لحظة وصول تلك الأشعة إلى التلسكوبات! أي أن التلسكوبات تستقبل لحظات من الماضي السحيق الذي يتمخطر بعيداً في أرجاء الكون.
قبل سنوات وصلت لتلسكوب هوبل أضواء قادمة من لحظة تشكُّل أوّل مجرات الكون، بضعة مئات ملايين السنين فقط بعد "الببيج بونج" قبل ١٣٫٧ مليار سنة. وقبل حوالي عام فقط ملأت الصفحات الأولى لكل صحف الغرب صورة أرتجف عند رؤيتها الجميع: صورة "حساء الكون"، قبل تشكّل الكواكب والمجرات، كما وصلت أشعة أضوائه للتلسكوب الأوربي بلانك!  
كنت في صباح ذلك اليوم واقفاً في المترو عندما أرسلت لي إبنتي الصغيرة عنبرين إس إم إس يخبرني بذلك. أتذكر أن حقيبتي سقطت من يدي. (ما زال صوت وقوعها في أذني إلى الآن من هول الدهشة).

رؤية ماضي تاريخ الأرض كما حصل فعلاً موضوعٌ أدبيٌّ خصبٌ لا حدّ لِعمقهِ وجماله. حلمٌ مستحيل التحقيق، لأن تلك الأضواء تهرع الآن في مجرات بعيدة، ولأنه يستحيل فيزيائياً تجاوز سرعة الضوء بالطبع للحاق بها ورؤية الماضي فيها. حلمٌ ثوريٌّ أيضاً، لأن "الثورة إعادة كتابة للماضي بمفعولٍ رجعي"، كما قال أحدهم، أي نسفٌ لِخطابٍ سلفِيٍّ بمفعولٍ رَجْعي!
لعل هذا الحلم بزغ في أعمالي في أول قصة قصيرة في مجموعتي القصصية: "همسات حرّى من مملكة الموتى".
ثم أستثمرتهُ أخيراً بشكل متطورٍ جدّاً في رواية "تقرير الهدهد" أثناء عبور "أبي النزول" (أي أبي العلاء في أحد أوجههِ في الرواية) تاريخ الكون والحياة والإنسان، وهو في مهمة زمكانية كونية هبط فيها من "مقهى الكوكبة" في السماء ٧٧ إلى الأرض، بشكل معاكس لمهمة "رواية الغفران" الذي سافر فيها ساردهُ من الأرض إلى السماء.
يبحث أبو النزول في مهمته، وهو يعبر الكون بأسرع من الضوء، عن أضواء تحمل ماضي الكون والحياة الإنسانية كما حصل فعلاً، لِيجده غالباً ينسجم مع رؤى واستشرافات أبي العلاء الشعرية في موسوعته الشعريّة الخالدة: لزوم ما لا يلزم!...

=  فيً مؤتمر "تيدكس عدَن" الأول كنت متحدثاً فيه إلقيت أول خطاباته بنبضة العلم. وتوجّهت بعدها مباشرة لمؤتمر عن اللغة العربية في الجزائر ألقيت محاضرة افتتاحه يوم ١٨ ديسمبر، اليوم العالمي للغة العربية. ماذا قلت في المؤتمرين؟

=== وضع اللغة العربية في العصر الرقمي هاجس يؤرقني غالباً. كنت قد كتبتُ مقالاً عن وضعها في العصر الرقمي طلبه مني "مركز دراسات قناة الجزيرة" يسرد ستّ فجائع تتعلق بعدم إكتمال بنيتها التحتية التي تسمح بدخول العصر الرقمي، لا سيما عدم إمتلاكها لقارئ ضوئي للأحرف "OCR"، لقاعدة تحتية وبوابات معرفية بالعربية، لتقنيات أوليّة رقمية ملائمةٍ متطورة، وكذلك ما تعانيه من أنيميا الترجمة.
كل ذلك لم يسمح لها حتّى اليوم بدخول عصر الرقمنة الذي بدأ في العقد الماضي. صارت العربية فيه مثل سلحفاة بجانب أرانب اللغاة المتطوّرة الأخرى.
ما حاولت شرحه  هو وضعها في هذا العقد الثاني الذي بدأت فيه اللغات المتطورة عصر المعالجة الآلية لمدلول النصوص الرقمية. نعم، لمدلولِها عزيزتي لبنى!، وأرشفتها اليومية في مستودعات "البيانات العملاقة" Big Data، فيما ظلّت العربية تراوح في نفس موقعها السابق.
أي أن أرنب العالم المتطوِّر صار مجنّحاً اليوم، فيما سلحفتنا العربية الحبيبة صارت عرجاء بالضرورة!...
سأرسم أيضاً بعض الخطوط العريضة لمشاريع تحتاج إلى دعمٍ والتفافٍ قوميٍّ عربيٍّ حولها لتتحوّل إلى واقع!...