الأربعاء، 30 يناير 2013

مليارية الحسم!



مليارية الحسم!
حبيب عبدالرب سروري

عشيّة التوقيع على "وثيقة العهد والاتفاق" في عمان، أجرَتْ قناة إم. بي. سي مقابلة مع الشيخ عبدالله الأحمر، أتذكّرها إلى الآن
قال فيها: لا أفهم لماذا يتصايحوا (قصده: علي وعلي)، والبلد ميزانيّتها إلى هناك، إلى هناك!... (أو، بلهجته المحليّة الشهيرة: لاهاناك، لاهاناك).

بعد دقيقة من الحوار، أدركتْ الصحفيّة أنها تعيش لحظة تلفزيونية لا تتكرر، بفضل عبارة: إلى هناك، إلى هناك
عادت  "رِيْوَس" (أي: إلى الخلف) بسؤالٍ خبيث
"ممكن يا حضرة الشيخ أن تقول لنا، وأنت رئيس البرلمان اليمني، كم ميزانية اليمن بالضبط؟".
ردّ عليها منزعجاً قليلاً من "عدم فهمهما" لردّهِ السابق، قائلاً
"قلتُ لكِ قبل قليل: إلى هناك، إلى هناك"!...

يبدو لي أن ثقافة "إلى هناك، إلى هناك" اكتسحَتْ كلَّ اليمن، شماله وجنوبه، وأن "العقليّة المرعوشة" صارت أكثر وحدويّة من أي وقتٍ مضى!...
إذ تمّ استبدال "إلى هناك، إلى هناك" اليوم بكلمة رشيقة، جميلة، لكنها مماثلة تماماً من حيث عدم الدقّة والفهلوة (أو: "الدَّحبشة" بالمعنى الاصيل للكلمة، الخالي من أي بُعدٍ جغرافيّ): مليونيّة!

سمعتُ كلمة "مليونيّة" لأول مرّة عند مسيرةٍ كبيرةٍ ورهيبةٍ جدّاً في صنعاء، قبل عام ونصف تقريباً. لعلها اقتربت من الخمسة والسبعين ألف (هذا رقم كبير جدّاً، في رأيي). ربما الثمانين ألفاً، من يدري!.
أتفجّرُ سعادةً وفخراً عند رؤية مسيرات بهذا الحجم في أي مدينة يمنيّة.

لكني امتعضتُ يومها مع ذلك، وقلتُ في موقع "حريّة" إن استخدام كلمة "مليونيّة" غير دقيق، لا يحترم الرياضيات!...
ثمّ لم يتوقف امتعاضي منذ سنة ونصف كلما أسمع كلمة "مليونية" تستخدم في كلِّ مسيرة تقريباً، حتى اليوم!...

شعرتُ بنوعٍ من الغِيرة ربما لأني قضّيتُ كل حياتي في المسيرات في فرنسا (بلد المسيرات منذ سنين السنين. يخرجُ أهلها للمسيرات لكلّ صغيرة وكبيرة. اكتسبوا بفضل إضراباتهم ومسيراتهم كل المنجزات الاجتماعية في تاريخهم الحديث) دون أن أعيش مليونية واحدة!

أشارك شخصيّاً في المسيرات في باريس وغيرها من المدن، بانتظام. لكن الأرقام التي أسمعها بعد الاحصاء متنوّعة ومتواضعة جدّاً بالمقارنة بأرقامنا اليمنية
عشرة ألف أحياناً، خمسة عشر ألف، عشرين ألف عدّة مرات، خمسة وعشرين ألف مرّات لا بأس بها، خمسين ألف بضعة مرّات، خمسة وسبعين ألف، مرّتين أو ثلاث

أكبر مسيرة عرفتها كانت لرفض قانون للتقاعد عاشت خلاله فرنسا ما يشبه الإضراب العام لبضعة أسابيع. عدد المتاظهرين: مائة وخمسة وسبعين ألف متظاهر في باريس. كان طولها عدّة كيلومترات.
(أعتمدُ دائماً على أرقام النقابات وليس على أرقام البوليس الأقل دائماً من أرقام النقابات لاستخدامهم طريقة حساب مختلفة لا أثق بها!)...

ثمّ في الاحتفالات الشهيرة لرأس السنة، (عندما يتوافد كل بشر باريس والسوّاح الأجانب، بمختلف تنوع أفكارهم وانتماءاتهم، من المساء حتّى الفجر، ويملأون كل المسافة من قوس النصر إلى الكونكورد وكلّ الشوارع المحيطة) لم يصل العدد، منذ أكثر من ثلاثين سنة، إلا مرّة واحدة إلى حوالي: ستمائة ألف!... 
أي: نصف مليونية، وقليل. لا غير!

ومع ذلك: الأرقام هي الأرقام، في فرنسا واليمن، حسب معرفتي!...
والحساب التقريبي لعدد المتظاهرين ليس صعباً كي نُردّد عبارة الشيخ عبدالله الأحمر: إلى هناك، إلى هناك
أو رديفتها بِلُغة الدلّع: مليونيّة!...

واضح جدّاً في الحقيقة: إذا كان هناك مليون متظاهر فذلك يعني أن مساحة المظاهرة حوالي مليون متر مربع في أقل تقدير.
(في كل المقاييس المتداولة هناك متظاهر واحد بالأكثر في المتر المربع، في المتوسط. لأن هناك فراغات كثيرة هنا وهناك، في أي مسيرة
أو برقمٍ أدق: هناك سبعة من عشرة متظاهر في المتر المربع، حسب المتخصصين!).

ذلك يعني: إذا كان عُرض المسيرة خمسين متراً فطولها على الأقل عشرين كيلومتراً في لحظةٍ معيّنة (أو في حدود ثلاثين كيلومتراً تقريباً بالأحرى، كما يقول المتخصصين)!
عشرين كيلومتر: أكثر من طول شوارع الزبيري وحدّة وتعز معاً في نفس الوقت!...

وإذا كان عرض المسيرة مائة متر (وهذا نادر جدّاً في شوارعنا وساحاتنا) فيلزم أن يكون طولها عشرة كيلومترات على الأقل، أو خمسة عشر كيلومتراً حسب رأي المتخصصين!...
ولا أعتقد أن مسيرة يمنية واحدة تجاوز طولها يوماً بضعة كيلومترات تُعدُّ بأصابع اليد.

نفس ثقافة الشيخ الأحمر هذه اكتسحت اليوم عدَن التي صارت كلمة "مليونية" تُستخدم فيها في كلّ الصوصات: مليونية الحِراك، مليونية التصالح والتسامح، مليونيّة حميد الأحمر!...

ربما حان الوقت لأن نرمي بثقافة الشيخ الأحمر، ثقافة مليونيّات "إلى هناك، إلى هناك"، وأن نستخدم أرقاماً أكثر دقّة (ثمّة أرقام كثيرة مُشرّفة جدّاً بين الألف والمليون، يمكننا استخدامها بدون خجل!)...
لن أمتعض شخصيّاً إذا سمعتُ كلمة "مليونيّة" ترافق مسيرةً تبدأ في ذماز وتنتهي عند مشارف صنعاء، أو أخرى تبدأ في لَحْج وتنتهي في جولد مور...

ما دفعني لكتابة هذا المنشور العاجل على صفحتي في فيسبوك هو أني قرأتُ أحدهم قبل قليل، على صفحة فيسبوك، (يبدو أنه خزّن قاتاً من نوعٍ شرسٍ معادٍ لجدول الضرب والهندسة الفراغية!)، يستخدم عبارة: "مِلياريّة الحسم!"...
كدتُ "اشترغ" بلا قات، وأنا أقرأهُ!...





هذه فحوى الكلمات الأربع، عزيزي الغالي



هذه فحوى الكلمات الأربع، عزيزي الغالي

حبيب عبدالرب سروري

أودّ أن أعبر عن إعجابي أوّلاً بتعليقات الأستاذ العزيز أحمد عمر بن فريد على مقالٍ سابق لي في القدس العربي في مايو ٢٠٠٩، وعلى مقالي الأخير (الانفصال الحميد، والانفصال البليد) في "عدن الغد"، لأنها جميعا تعليقاتٌ مهذّبة، مدنيّة، لا تنحرف عن ذلك قليلاً إلا عندما يُخطئ في استيعاب مدلول هذه العبارة أو تلك...

سأبدأ بالتذكير ب "الكلمات الأربع" التي استخدمتها في مقالي: "انتماء ثقافيّ، وليس عرقيّاً!" والتي أثارت حفيظته لِيتمحور حولها عنوان مقاله: "قضايا الشعوب لا تختزل في كلماتٍ أربع، يا عزيزي".
جاءت الكلمات الأربع في مقالي في السياق التالي:
((تذكّروا أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن الإنتماء فيه لأي مجتمعٍ مدنيّ هو: انتماءٌ ثقافي وليس عرقيّاً!
إلهي، كم يلزمني أن أكرِّر هذه الكلمات الأربع ليستوعبها البعض!))

هذه الكلمات الأربع ليست ملكي. هي ما تُلخِّص وتختزل وتُمَيّز الانتماء للمجتمع المدنيّ الحديث عن مجتمعات ما قبل الحداثة
بإمكان رئيس جمهورية أي مجتمعٍ مدنيٍّ حديث مثلاً، أو أي مسئولٍ فيه، أن ينتمي عرقيّاً لأصولٍ لا علاقة لها بالأصول الجغرافية أو العرقية لذلك المجتمع المدنيّ، دون أن يزعج ذلك أحد.
وعدَن طفولتي التي أعشقها وأعرفها، قبل أن تُبَثَّ فيها سموم ثقافة علي عبدالله صالح وعصابته المنتصرة في عام ١٩٩٤، كانت كذلك: مدنيّة كوسمبوليتية. الانتماء لها ثقافيٌّ وليس عرقيّاً.

لن أكرر هنا طويلاً حديثنا عن التسميات الجديدة المقترحة لجنوب اليمن، لأنها في السياق الحالي من الاحتقان السياسي الذي نمرّ به، ليست مجديةً في نظري.
تحدّثتُ سابقاً عن التسمية القاصرة: "دولة الجنوب" التي لو ترجمت إلى "State of the South"، أو "Etat du Sud" فلن يفهمها أحد في العالم، بأية لغةٍ كانت، لأن كلمة "الجنوب" في القاموس الجيوبوليتكي الذي يستخدمه كل سكّان الكرة الأرضية، كاسم علَم، تعني: الدول التي تعيش أسفل خطّ الإستواء. 
سيسأل لذلك من يسمع هذا الاسم: "جنوب ماذا؟"، لاسيّما أنه ليس بمقدورنا، كما أعتقد وكما قلتُ سابقاً، تغيير موقع خطّ الاستواء في خارطة الكرة الأرضية...

"الجنوب العربي" ليست تسميّة مناسبة في رأيي: من يستطيع أن ينكر أن تهامة، نجران، مأرب، عمان... ليست في الجنوب العربي، كما يستخدم مدلولَه كلُّ الباحثين والكتاب والمؤرخين في كلّ أنحاء العالم، منذ قرون القرون؟

أعشق شخصيّاً حضرموت بشكلٍ لا حدّ له كما يعرف كل من يعرفني، لكني لا أعتقد مناسباً إطلاق اسمها (أو اسم أي منطقة أخرى في الجنوب) على كل "اليمن الديمقراطي"، كردّ فعلٍ على كونِ اسم "اليمن" قد تحوّل كابوساً في أذهان الكثيرين، لاسيّما بسبب عبارة الشيخ الأحمر القرصانيّة: "عودة الفرع إلى الأصل"، أي الجنوب إلى الشمال، التي تلخّص التراجيدية التي يعيشها الجنوب اليوم، والزخم العارم لحراكه السلمي!...

سأعود لجوهر الكلمات الأربع لأشرح لماذا هي جوهريّة جدّاً لاسيما في واقعنا اليوم، ولماذا يلزم التذكير بها أكثر من أي وقتٍ مضى!
يلزم أن لا ننسى أن ثقافة التصنيف العرقيّ والإقصاء أقدم من ثقافة المدنيّة والحب
مداميك ثقافة التصنيف والتكتّل العرقي راسيةٌ عميقةٌ في أغوار دماغ الإنسان. تأثيرها عليه فتّاكٌ، سريعٌ، جذريٌّ، لا رجعة فيه... 
الدماغُ البشري سريع الوقوع في مطبّاتها، بسبب التاريخ الاجتماعي للإنسان، منذ أن بدأ يصارع من أجل البقاء في تجمعاتٍ أسريّة وعشائرية صغيرة ضد الآخر (أي منذ بضعة ملايين السنين).
أما ثقافة المجتمع المدنيّ فهي حديثةٌ جدّاً: لم يتم إلغاء العبوديّة من الكرة الأرضية إلا في القرن التاسع عشر فقط (وإن ما زالت تُمارَسُ في بعض المجتمعات العربيّة بشكلٍ خفيّ)، ولم يتم إعلان مبادئ "حقوق الإنسان"، وتساوي البشر باختلاف معتقداتهم وألوانهم وبلدانهم إلا مؤخّراً جدّاً...

ما إن يتم الترويج لثقافة التصنيف والانتماء العرقيّ حتّى تستيقظ كل شياطين "الهويات القاتلة" النائمة في ثقافة الإنسان منذ ملايين السنين، والتي يحاول المجتمع المدنيّ بصعوبة كبحَ جماحها: يمنعُ القانون المدنيّ استخدام أي تمييز عنصري أو تحقير عرقي، ويدين مرتكبه بالسجن.

ثمّة ثابتٌ في تاريخ البشرية: ما إن تبدأ ثقافة التصنيف والانتماء العرقيّ والمناطقيّ بالازدهار، ويزداد الحديث عن الهويات، حتّى يبدأ ثالوث الكوابيس المدمّرة: الاعتداءات والحروب والتشرذم (الذي أخشى أن يدمّر مستقبلنا القريب في جنوب وشمال اليمن معاً).
كلّ الخرائب البشرية تبدأ عندما يستيقظ الحديث المتأزم عن الهويات!...

الحديث المضطرب عنها اليوم، لاسيما في الجنوب، مُدوٍّ وينذر بخطر جسيم. ضجيجُها المرعوش يملأ الساحة. لم نعد نسمع غير ذلك تقريباً.
من كان يُصدّق أن عدَن الكوسموبوليتية، التي عاش فيها الجميع بمختلف تنوّعهم وألوانهم وأصولهم، سينتهي بها المطاف بالدخول بدوّامة أحاديث ونقاشات ومقالات التصنيف العرقي الذي زرعت بذرتَهُ السامّة عصابةُ علي عبدالله صالح، غداة انتصارها في حرب ١٩٩٤؟
من كان يصدّق أن مدينة زكي بركات (الذي سخر كثيراً من ثقافة الطوائف بكلِّ أنواعها، وردّد يوماً: "يا جماعة، ممكن تقولوا لي: ما هي طائفتي؟")، ثريا منقوش، عمر الجاوي، القرشي عبدالرحيم سلّام، أبوبكر السقّاف، لطفي جعفر أمان، عبدالله باذيب، عبدالله فاضل فارع، هشام باشراحيل، خولة شرف، نجيب يابلي... ستصير اليوم مرتع أسئلة ونقاشات عرقيّة عنصريّة، لا تنتمي لثقافة القرن الواحد والعشرين؟ 

من كان يصدّق أننا سنصل إلى يومٍ يمرُّ فيه الجميع بهدوء أمام كل الأراضي التي نهبتها عائلة الأحمر وبقية عصابة علي عبدالله صالح الكبرى، في جولد مور وكريتر، ويشاهدون فيلات العسكر المنتصرين في حرب ٩٤ تُرفرف فوق مشارف المعلا والتواهي، وكأنَّ ذلك جزءٌ من خارطة عدن، فيما يُقضّون وقتهم باستخدام الميكروسكوب لفحص الأصول المناطقيّة أو العرقيّة لزملاء عملهم أو جيرانهم، لتحديد نسبة جنوبيّتهم، أو نسبة عدنيّتهم ذات الأصول الريفية، أو جنوبيتهم ذات الأصول الشمالية؟... 
من كان يصدَّقُ أننا سنصل ليومٍ نقرأ فيه هنا وهناك تعليقات حول نغمات اسماء الناس وانحداراتها الجغرافية، أو مقالات وتعليقات عنصرية أو ظلامية منذرة بالشر عن الهويّات والأصول والأعراق، وذلك بنفس اللغة والعقلية التي يستخدمها اليمين المتطرف العنصري، شديد البشاعة، في الغرب؟...

تلك فحوى الكلمات الأربع ليس إلا، عزيزي الغالي أحمد عمر بن فريد!...

الجمعة، 25 يناير 2013

الانفصال الحميد، والانفصال البليد!


الانفصال الحميد، والانفصال البليد!

حبيب عبدالرب سروري

من حقِّ الإنسان أن يطلب الانفصال متى أراد، ولا شك
أفضِّلهُ شخصيّاً على من يخضع لواقعٍ فرضتهُ عليه حربٌ (١٩٩٤) وطاغية
بَيْد أن عليه، في هذه الحالة، أن يطلبهُ بأناقةٍ على الأقل. بمشروعٍ مدنيٍّ وأهدافٍ إنسانيةٍ راقيةٍ نبيلة!”
كتبتُ هذه العبارة في سلسلة مقالاتي الأربعة حولالوحدة، الانفصال، الفيدرالية” (1)، قبل عدة أشهر.

عنالانفصال الحميد” (2) كتبتُ مقالاً نُشِر في القدس العربيوالثوري في مايو 2009.
لكن الانفصال الحميد الذي تحدّثتُ عنه شيءٌ، والإنفصالُ البليد شيءٌ آخر.
الانفصالُ البليد هو انفصالٌ ذو لغةٍ قبليّةٍ عنصريّة، مهووسٌ بمفهومالهويّات القاتلةلا غير، ليس له أي مشروعٍ مدنيٍّ إنسانيٍّ حديث...
يكفي مراجعةُ ودراسةُ التاريخ لِمعرفة أن أبشع جرائم وخرائب الإنسانية، أعمق وأرهب هاوياتها، بدأتْ بِلغةِالهويّات القاتلة”...

ثمّة شذراتٌ من روائحِ هذه اللغة العتيقة في قسَمدمُ الجنوبيّ على الجنوبيّ حرام!” الذي تردِّدهُ المسيرات الجنوبية حتّى اليوم، والذي كتبتُ عنه العبارات التالية (١):
((شعارُهم مثلاً (وإن كان ظرفيّاً ولأسبابٍ نبيلة يوم إطلاقه): "دم الجنوبيّ على الجنوبيّ حرام!" متخلّفٌ جدّاً
لعلّ الإسلام قد رفع سقف هذه الأخلاقيات قبل أكثر من ١٤ قرنٍ بعبارته الشهيرة: "دم المسلم على المسلم حرام"، قبل أن ترفع الحضارة الحديثة وأخلاقيّاتها المدنيّة ذلك السقف حتى القمة بِتحريم دم الإنسان على الإنسان، عندما بلورَتْ ذلك مفاهيم "حقوق الإنسان" ومواثيق الأمم المتحدّة التي تلتزم بها كلُّ الدول!...))

يحتوي هذا القسَم، في الحقيقة، على ثلاث كلمات تخرج عن قواميس المجتمع المدنيّ وتنتمي لعصورٍ عفى عليها الزمن
الدّم: ذو المدلول العرقيّ القبليّ المقيت، 
الجنوبي: (الذي تحدثتُ عنه طويلاً في مقالجنوب ماذا؟ (٣))، 
وحرام: التي لا تنتمي للقاموس المدني الحديث.

مَن مِن شعوب ومثقفي كرتنا الأرضية، في القرن الواحد والعشرين، يمكنه أن يتعاطف مع قضيةٍ جنوبية تُردَّدُ في شعاراتها هذه العبارة التي لا تنتمي لِلُغة العصر؟

لِتكريسِ نزعةالهويّات القاتلةهناك اليوم حملةٌ مثيرةٌ صمّاء لِمحو اسماليمنمن الجنوب.
لا أقدِّسُ شخصيّاً هذا الاسم، أو أي اسمٍ آخر إطلاقاً، وليس لي أيّ عداء ضدّه أيضاً
لكني أرفضُ أن يسخرَ أحدٌ من عقلي بالقولِ بأن هذا الاسم تسلّل إلى الجنوب بسبب عناصر من الجمهورية العربية اليمنية شاركت في الحركة الوطنية ضد الانجليز في الجنوب، كما قرأتُ ذلك في مقالٍ لكاتبٍ عزيز فيعدن الغدالبارحة (٤)!...

اعتبرُ قولَهم هذا إهانةً لكلِّ عظمائنا وعمالقتنا ومفكرّينا من عبدالله باذيب وثريا منقوش وعمر الجاوي، إلى إدريس حنبلة ولطفي جعفر أمان، مروراً بعددٍ أكبرَ من أن أستطيع حصرَهُ هنا!...

أتركُ هذه العبارة التي كتبها الأستاذ عبدالله باذيب (الذي لم يتسلّل لِعدَن من الجمهورية العربية اليمنية، حسب معرفتي!) في مجلة الطليعة في ٢٠ ديسمبر ١٩٥٩، ونُشِرَت في الجزء الثاني من كتابمختارات، ص ٥٢. أي قبل ٥٤ سنة من الآن!... 
لستُ متأكّداً شخصيّاً أن من سُمّيواعناصر من الجمهورية العربية اليمنيةكانوا يمتلكون حينها، عندما كتب باذيب ذلك المقال، مستوى ثقافيّاً ملحوظاً، أو أن بعضهم كان قد تعلّم حينها القراءة والكتابة على الأقل!:
يقول باذيب في مقالهِ الذي عنونَهُ ب: “دفاعاً عن الوحدة اليمنية”:
((ولأن الدعوة إلى الوحدة اليمنية تقطع أحلامهم في السيطرة والحكم، فمن أجل ذلك راحوا يطعنون بالوحدة اليمنية ويسموّنها: “غزواً متوكليّاً، ويطلقون على الجنوب اليمني المحتل اسم: “الجنوب العربيوهي تسمية مفتعلة فيها خداع وزيف وفيها تعميم متعمّد))

أترك أيضاً هذه الأبيات لأستاذي الغالي في إعدادية الشيخ عثمان، إدريس حنبلة (الذي لم يتسلّل لِعدَن هو الآخر من المملكة المتوكلية اليمنية، حسب معرفتي!) من قصيدة بعنوان: حبيبتي ي. م. ن.
وبي ولوعٌ بأسماء حفلتُ بها
فلم أجد غيرها في الكون أسماءُ
هويتها مذ ثوت أعماق ذاكرتي
كالدّر في صدفٍ قد شعّ لألآءُ
حبستها في جفون العين أخيلةً
وصنتها من عيون البغي إيذاءُ

إذن إتركوا هذا الحديث المرعوش عن الهويّات، وهذا التنظير الغريب عناليمننة، الذي لا همّ لهما غير فصل البشر وخلق الحواجز النفسيّة والثقافيّة والعرقيّة بينهم، والذي يلجأ لهُ من لا يستطيعُ الحديث بلغة الحاضر والمستقبل
لأنَّ ما ينتظرُنا في نهاية هذه اللغة الغبراء، المجنونة في بعض نصوصها أحياناً، أبشعُ من ١٣ يناير ١٩٨٦ بكثير!...
بهذه الخطابات المُرصّعة ببلاغةالهويّات القاتلةوالتفريق العرقيّ بين الناس، لن تكسبالقضية الجنوبيةإنساناً واحداً في هذا العالَم!...
تذكّروا أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن الإنتماء فيه لأي مجتمعٍ مدنيٍّ هو: انتماءٌ ثقافيٌ وليس عرقيّ!...
إلهي، كم يلزمني أن أكرّر هذه الأربع كلمات ليستوعبها البعض!...

ومع ذلك، هناك عددٌ لانهائيٌّ من القضايا التي يمكن الحديث عنها بلغة العصر الحديث، لِكسب العالَم لِمناصرةالقضية الجنوبيةولتحقيقإنفصالٍ حميدربما يكون هو الحلُّ الأفضل لإخراج كلِّ اليمن من مأزقها التاريخي الحالي!
شريطةَ أن يكون حميداً فعلاً: جذوةً تحرّريةً تؤدي إلى دولةٍ تشكّلُ أنموذجاً إنسانيّاً راقياً مدنيّاً حديثاً. وليس انفصالاً بليداً يواصل دمارَها وشرذمتَها وتخلّفَها، ويُكرِّس قيادتَها على أيدي نفس الموميات الدمويّة العتيقة التي ترفض التنحّي حتى اليوم، والتي ما زالت في واجهة القضية الجنوبية، والذي تحالف بعضها مع إيران مباشرة في مغامرةٍ جديدةٍ فاشلة!...

أضع هنا نماذج من تلك القضايا التي يمكن أن يلتفَّ حولها كل البشر من أقصى اليمن إلى أقصاها، ومن أقصى أستراليا إلى أقصى أمريكا أيضاً، والتي تُبرِّرُ لوحدها أية دعوة رافضةٍ لِنظامِ الحكم الحالي في اليمن، أو داعيةٍ للانفصال عنه جزئيّاً أو كليّاً:
١) النموذج الأول رمزيٌّ لكنه شديدُ التعبيرية
كان عدد مبعوثي جنوب اليمن للدراسة في فرنسا يفوقُ عدد مبعوثي شمال اليمن، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كان يصلُ فرنسا من الجنوب حوالي عشرة طلاب سنويّاً خلال ذلكما العقدَين...
لكن منذ ١٩٩٤ وحتى اليوم لم يُبْعَث إلى فرنسا طالبٌ واحدٌ من جنوب اليمن، فيما يُشبِهُ الإقصاءَ العنصريّ الأبارثيديّ.
أكرّر: لم يُبعث طالبٌ واحدٌ لِفرنسا من جنوب اليمن، منذ ١٩٩٤!...

٢) سرد وتوثيق كل تراجيديا حرب ١٩٩٤ وجعل العالَم يستوعب أنها الأول والآخر والظاهر والباطن في مآسي الجنوب، وأنها قلَبَتْ حياةَ سكّانه رأساً على عقب، منذ اندلاعها وحتى اليوم.
(بعض المثقفين المرتبطين بالثائرَين الكبيرَينعلى محسن وحميد الأحمر، يتحدّثون هذه الأيام باسهاب وحيوية عن أوضاع الجنوب، دون أدنى ذكرٍ لهذه الحرب!... يشبهون في ذلك من يكتب تاريخ أوربا في النصف الأول من القرن العشرين دون الحديث عن الحربين العالميتين الأولى والثانية!).

٣) تقديمُ قوائم كاملة بكلِّ من قتلهم نظامُ علي عبدالله صالح الوحشي وعصابته الكبرى (الذي كان في رأسهاحامي ثورة ١١ فبرايرالمجرم الكبير: علي محسن الأحمر، وأدواته التنفيذية مثل المجرم الشهير قيران وغيره!) من أبناء الجنوب، منذ بدءِ حراكِهم السلميّ الجبّار الرائع، وحتّى اليوم، مع شرح تفاصيلِ سياق كلِّ قتلٍ على حدة... 

٤) نشر دراسات علميّة على نطاقٍ واسع تحصر كل ما نهبه حميد الأحمر مثلاً من عشرات الملايين من الدولارات الآتية من حصةِ نفطِ شبوة، وكلُّ بقيةِ الناهبين لكلِّ ثروات وأراضي الجنوب، دون استثناء، لاسيما علي عبدالله صالح وذويه، جرّاء انتصارهم في حرب ١٩٩٤، ودعوة رجال القانون (من الشمال والجنوب وخارج اليمن) لدراسة كيف يمكن استعادتها منهم بطريقة قانونيّة وبأثرٍ رجعي، وإثارة الرأيّ العام العالمي لِدَعم استعادتِها...

الأهم أيضاً: تقديم مشروع مدنيٍّ لجنوبِ يمنٍ جديد، يستندُ على إيجابيات منجزاتجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”: دستورها، قانون الأسرة، وضع المرأة الحضاري المتقدِّم أثناءها، اهتمامها بالشرائح الفقيرة... ويخلو من كلِّ سلبيات تلك الجمهورية، النابعة من أيديلوجيات أنظمةالديمقراطيات الشعبيةوالنموذج السوفيتي: قمع الحريات والديمقراطية، سفك دماء المعارضين، نظامٌ اقتصاديٌّ لا يواكب العصر، نظام الحزب الواحد...

أكرِّر أخيراً: يحقُّ لِنصف الشعب اليمني (دون أدنى عقدة هنا عند الحديث عنالشعب اليمني، ودون الحاجة للحديث عن شعبٍ جديد، والبحث عن اسمٍ جديد!) أن يطالب بالانفصال، شريطة أن يكونانفصالاً حميداً، وليسانفصالاً بليداًتحت شعاراتٍ عرقيّة وبحثٍ عنهويات قاتلةقد تكون حرب ١٣ يناير ١٩٨٦، (بالمقارنة بالنتائج الوخيمة القادمة لتلك الشعارات) مجرّد نزهةٍ سياحيّةٍ صغيرة لا غير!...

أقول: “لِنصف الشعب اليمنيالذي كان يمتلك دولةً مستقلّة قبل ١٩٩٠، وليس لِشعبٍ جديد يبحثُ له البعضُ عن هويّةٍ وأسماء جديدة كلّ يوم (آخرها: شعب جمهورية حضرموت، الذي بدأ الحديث عنه هذا الأسبوع، في نفس المقالةِ السابقة فيعدَن الغد، لنفس الكاتب العزيز! (٤)).

نعم، لا نحتاج قط أن نتحدّث عن شعبين لتبرير أية رغبةٍ في الإنفصال!
لا نحتاج لأن نكتب مقالات تشرح أن هناك فرقاً بين ساكن قريةكرِش، وساكن قريةالشّريجة” (الأولى في نهاية حدودجنوب اليمنالسابق، والثانية في نهاية حدودشمال اليمنالسابق)...
لأننا لو اخترعنا أي ميكرسكوب ثقافيٍّ أو جينيٍّ، أو أي سكانير دماغ، مهما كانت دقّتهما الإلكترونية، وبحثنا ليل نهار، فلن نجد أدنى فرقٍ باهت بين هاذين المواطنين الجائعين الطيبين جدّاً!...
لاسيما أن مثل هذه اللغة الخفيفة تُنكِّشُ سخافاتٍ موازيةً لا تقلّ تفاهة، مثل سخافات أصحاب شعاراليمن موطن الإيمان والحكمةالذين بدأ بعضهم يقول ما معناه (اسمحوا لي أن أسخر قليلاً!):
إذا انحذَفَ اسم اليمن من الجنوب فسينتهيالإيمان والحكمةفي قرية الشّريجة، (حيث تنتهي حدود النصف الشمالي الحالي: يمنستان!)... 
لِتبدأ بعدها (أي إنطلاقاً من قرية كرِش) بلادُ شعبٍ جديد، يبحث عن اسمٍ جديدٍ لبلدِه، إذا لم يحتو هذا الاسم الجديد على كلمةٍ قدَّسها الحديثُ الشريفُ واسماهاموطن الإيمان والحكمة”: “يَمَن، (لِيكون الاسم الجديد: “يمن لاندمثلاً!)، فلن تكون لأهل سكّان هذا البلد الجديد علاقةٌ ما بالإيمان والحكمة!...
واااااااو!... 
عجبي!...

لِنتركْ لغة السخافات، ونظريات اليمننة، وأوبرا الإيمان والحكمة، ومشاريع البحث عن الهويّات القاتلة...
لِنقرأَ التاريخ (لنقرأ كثيراً، في كل الاتجاهات، أيّها الأعزاء والأحبّاء، فقادتنا لا يحبّون القراءة!)...
ولِنتحدّثْ بلغة العصر الحديث، لا غير!...

المراجع:
(١) هل أنت مع الوحدة، الإنفصال، أم الفيدرالية؟، حبيب عبدالرب سروري.
http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2012_05_01_archive.html

(٢) الإنفصال الحميد وحدةٌ يمنيّة جديدة، حبيب عبدالرب سروري.
http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2011/05/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html

(٣) جنوب ماذا؟، حبيب عبدالرب سروري.
http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2012/12/blog-post.html

(٤) حضرموت المفترى عليها. عدن الغد. الأستاذ أحمد عمر بن فريد.
http://adenalghad.net/news/37530/