الثلاثاء، 1 يناير 2013

مقابلة أجراها معي صاحب جريدة الوادي الإلكترونية


مقابلة أجراها معي صاحب جريدة الوادي الإلكترونية، الأستاذ مروان الغفوري

ـ حبيب سروري سافر قبل ثلث قرن ليعود لكنه لم يعُد. هل اشتريت قبراً في فرنسا؟

=======

سافرتُ فعلاً قبل أكثر من ثلث قرن، لكني لم "أغادر" اليمن ربما. أشعر في الحقيقة أني أتنفّس دوماً بشكلٍ أو بآخر على إيقاعها.
حول مشروع ما بعد الموت: ما زلتُ في الحقيقة مشغولاً جدّاً بالحياة لأفكّر في موضوع القبر.
لا تجذبني القبور عموماً: لا أحبُّ تعفّنَ الجثث، وأشعرُ بالنفور من تصوّر أن يُمسي الجسدُ وليمةً للديدان والبكتيريا.
مشروعي الشخصي لما بعد الموت سيكون له وقته لاحقاً.
من يدري، قد تستهويني حينها فكرة ترميد الجسد ونثر رفاته في أماكن مختلفة من المدن التي عشقتُها. قسطٌ مهمٌّ من ذلك الرماد سيتوّزع حتماً بين مياه ساحل جولد مور بعدَن (الذي لم يمر صباحٌ في رحلاتي إليها دون أن أسبح فيه)، وبين ركن "شارع يافا" في الشيخ عثمان، عدَن، (الذي أشعر بالبرد طوال أي عامٍ يمرّ دون أن أقرفص خلاله في ذلك الركن، ولو دقائق)...

==========================================

ـ دعيت إلى مؤتمر للرواية في صنعاء، قبل أربعة أعوام، لكنك لم تلق كلمة أو خطاباً. لماذا؟
ـ بروفيسور حبيب سروري، هل تفكر بإلقاء محاضرات في التقانة أو الرياضة في الجامعات اليمنية؟ لو عرض عليك منصب رئيس جامعة هل ستعود؟
ـ كمثقف عالمي، وأستاذ جامعي، أيضاً كفنان ورجل مستقبلي: كيف تتمنى ن ترى جامع الصالح، التحفة المعمارية الجديدة؟

=======

دعيتُ لمؤتمر الرواية في صنعاء في ٢٠٠٧ ولم يسمح لي بإلقاء محاضرة في المؤتمر، رغم أني أعددت له، بمحبّةٍ خاصة، محاضرةً غنيّةً بمعلومات وأفكار جديدة، متعلِّقةً بأحد محاور ذلك المؤتمر.
لحسن الحظ أن مجلة "أخبار الأدب" المصرية نشرتْها (في مقابلة معي، أجرتْها الروائية الرائعة منصورة عزالذين). وطلب مركز دراسات الجزيرة نت دراسةً مني حول ذلك نشرَها في موقعه الإلكتروني...
في الحقيقة، لم أجد، رغم زياراتي المنتظمة لليمن طوال فترة المخلوع، فرصةً واحدةً للحديثِ الإعلامي، لأسبابٍ ترتبط، بالتأكيد، بكتاباتي ومواقفي التي كانت منذ حرب ١٩٩٤ إدانةً صريحةً لنظام صالح وعائلته وعصابته الكبرى (لا أستثني منها من تسلّل للثورة وكان شريكاً جذريّاً في كل جرائم صالح، لاسيّما علي محسن الأحمر، وعائلة الشيخ عبدالله الأحمرن والزنداني وبقية الظلاميين) وللخراب الذي ألحقوه جميعاً باليمن عموماً، والجنوب المسلوب بشكلٍ خاص.
فالمرة الوحيدة التي دعيتُ فيها لبرنامج تلفزيوني في اليمن كانت في عدَن، قبل حوالي عَقدٍ من الآن، لبرنامج أدبيٍّ كان يُقدِّمه الشاعر العزيز المرحوم عبدالرحمن إبراهيم.
قبل وصولي لدار التلفزيون بقليل اتصل بي العزيز عبدالرحمن معتذراً، لأن البرنامج أُلْغِي بأمر من صنعاء، وطُلِبَ بأن يُستبدلَ بنشر مباراة كرة قدم.
من جهتي الشخصية، أحلامي بتطوير التعليم والثقافة في اليمن كانت دوماً بلا حدود.
فمنذ أوّل أيام إنفجار الثورة بدأت أحلامي تزهر وتتفجّر في كل الاتجاهات.
أعدتُ منذ الأسابيع الأولى للثورة ترتيبَ خارطة اليمن كما أهوى (وكتبتُ عن ذلك كثيراً):
عدَن العاصمة السياسية لليمن الجديد، بفضلِ ثراء تراثها وتاريخها المدني.
صنعاء العاصمة التعليمية لأني كنتُ ومازلتُ أحلم بضراوة أن يتحوّلَ قصر الرئاسة فيها (بمساحته الخيالية التي تتجاوز أضعاف مساحات القصور الرئاسية في الدول الرأسمالية الكبرى) إلى مُجمّعٍ تعليميٍّ راقٍ حديث، تنبثقُ من أرجائه أفكار اليمن الحديث، ويُؤهّلُ فيها صانعوه ومهندسو بنائه.
شيّدتُ في أحلامي مشاريع موازية للمدن الكبيرة الأخرى كتعز والحديدة والمكلا...
أخشى أن يكون كل ذلك مجرّد خارطة أحلامٍ طوباويّةٍ جميلةٍ لا غير!...
بالتأكيد، لو سئلتُ حينها فيما لو كنتُ أريد أن أتحمّل توجيه هذه الجامعة (التي ستحتلّ كل مساحات قصور وملاعب ومسابح وأقبية المخلوع الذي خطّط من بين جدرانها خراب اليمن، وأجّجَ حروبَها وفتناتها وشروطَ تمزّقها، طوال ٣٤ عاماً) فما كنتُ لأتردّدَ بالإجابة الإيجابية لحظةً واحدة، إن كان ذلك وفق مشروعي التعليميّ الثقافي الحديث!...
لأعود لسؤالك عن جامع الصالح: اليمن لا تنقصها المساجد، لكنها لا تمتلك مدرسةً أو جامعةً واحدة ترتفعُ إلى مستوى احتياجات التعليم الحديث.
هذا المسجد المكلّفُ الذي بناه الطاغية (في بلدٍ فقيرٍ جائع، بدون تعليمٍ حقيقي) لا يمكن له أن يكون مفيداً في رأيي إلا إذا تحوّل اليوم إلى جزءٍ طبيعيٍّ من تلك الجامعة، قاعات محاضرات على سبيل المثال...
يلزم أن نتذكّرَ دائماً أن التعليم ليس فقط مخرج اليمن الوحيد من تراجيدية تخلفه، لكنه ثروة للدخل الاقتصادي الوطني، بإمكانها أن تكون في بعض البلدان مصدر الدخل الإقتصادي الأوّل.

==========================================

ـ ما علاقتك، راهناً، بالحزب الاشتراكي في اليمن، وبالحركات اليسارية عالمياً؟
ـ لماذا اختفت كتاباتك في الصحف اليمنية؟ أعني: بعد رحيل خالد سلمان عن صحيفة الثوري انسحب سروري. هل هذا التعبير دقيق؟
ـ مقالك المنشور في كيكا في أولى طلائع الثورة: حان وقت سقوط طاغية صنعاء.. لماذا نشر في كيكا وليس محلياً؟
بعد عام ونصف من مقالك ذلك، هل ترى أن الثورة قد اجتازت الجسر؟

=======

تأثّرتُ في سن المراهقة بأفكار الاشتراكية واليسار التي تفتّقتْ واشرأبّتْ في عدَن، في الربع الأخير من القرن الماضي.
كانت المجلات التقدميّة اللبنانية والعراقية والمصرية في كل مكان. كُتب حسين مروّة، محمود أمين العالِم، غالي شكري وغيرهم في متناول من يريد. وقبل ذلك كتب بعض مفكري الحركة اليسارية العالمية كالفرنسي بوليتزر ("أصول الفلسفة الماركسية") التي انتشرت في فجر السبعينات في عدَن، ولعبَتْ دوراً حاسماً في نقل الكثيرين مثلي، منذ الرابعة عشرة من العمر، نحو مواقع فكرية يسارية إنسانية عصرية...
كنت بعد سنة الثانوية العامة مثابراً في النشاط الحزبي كسكرتير ثاني للمنظمة القاعدية الجغرافية للحزب الاشتراكي اليمني في مدارس الشيخ عثمان والمنصورة ودارسعد، بجانب السكرتيرة الأولى، الرائعة جدّاً الأستاذة خولة شرف (عضوة المكتب السياسي للحزب الإشتراكي اليمني، اليوم).
لعل من أروع ذكرياتي "النضالية" اليمنية: تنظيمنا الاثنين، السِّت خولة وأنا، لِصفوف محو الأمية لمجموع الأُمّيين من "عمال نظافة" وموظّفي كلّ هذه المدارس، بِمبادرةٍ شخصيّةٍ وشغفٍ كبير، (كنتُ أدَرِّسُ حينها بمتعةٍ في تلك الصفوف، خلال عصر أيام سنة "الخدمة الوطنية" التي كنتُ أعمل في صباحها مُدرِّساً للرياضيات في سنة ثالثة في إعدادية الشيخ عثمان)...
ظللتُ وفيّاً لكل تلك الأفكار اليساريّة النيّرة حتّى الآن (وإن انتفضْتُ، وبشكل مبكِّر، على بعض أسسها، ومارستُ ألف قطيعةٍ علنيّة مع كثيرٍ من مسلّماتِها، لاسيما الستالينية منها أو السوفيتية. ذلك بالطبع بفضل تأثُّري السريع، حال وصولي فرنسا في منتصف السبعينات، بالمواقف المتقدّمة للفكر اليساري في غرب أوربا، الذي نشأ وتبلور في ظل ثقافة الحريّة والديمقراطية).
بقيتُ دوماً متعاطفاً جدّاً مع بعض الجوانب الإيجابية في تجربة اليسار في جنوب اليمن سابقاً.
لعلّ كوني لم أعش أيّاً من التجارب الدمويّة العنيفة التي عرفَتْها تجربة جنوب اليمن (بسبب مغادرتي المبكرة لِعدَن)، وكوني لم أتعرّف بشكلٍ شخصيٍّ على أيٍّ من قادة ورموز تلك الفترة، ساعداني بالاحتفاظ بذكريات طيبة عن بعض جوانب تجربة اليسار اليمني. (لسوء حظّي، مع ذلك، أنّي لم أر أو أتعرّف شخصيّاً عمّن كنتُ وما زلتُ كثير الإعجاب بهم مثل العظماء: عمر الجاوي، عبدالله باذيب، أبوبكر السقاف... لكني، بفضل مؤسسة العفيف الثقافية في صنعاء، ورائدها الخالد الذي ربطتني به علاقةٌ قويّة: الأستاذ أحمد جابر عفيف، عرفتُ عظيماً من نفس الطراز: الصديق الغالي عبدالباري طاهر).
ظللتُ في كلِّ الأحوال إلكتروناً حرّاً كما أريد أن أكون دوماً: اقتصرَتْ علاقتي المباشرة بالحزب الاشتراكي اليمني على نشر بعض المقالات السياسية في صحيفة "الثوري" (لسان حال الحزب الإشتراكي اليمني) التي نشرتُ أوّل مقالٍ لي فيها بعد حرب ١٩٩٤، لا غير... مثل أستاذي الكبير وصديقي الغالي، نجيب يابلي، لم أنشر مقالاً سياسيا واحداً في الثوري أو غيرها قبل عام هذه الحرب القبليّة الظلامية القذرة التي أطاحت بكلِّ ما تمثله عدَن من رمزٍ وتاريخٍ وأمل (لكني نشرتُ بعض القصائد في الصحف اليمنيّة، منذ أوّل قصيدةٍ نشرتُها في مجلة الحكمة وأنا في الرابعة عشرة).
بالإضافةِ إلى صحيفة الثوري يلزمني القول إني نشرتُ بانتظام في جريدةٍ مهنيّةٍ رائعة، أحبّها أيضاً بشكل حميميٍّ خاص: الأيام. توقّفُ هذه الصحيفة، جرّاء ما حدث لها من ضربٍ وخنقٍ ومنعٍ مارسهُ المخلوعُ شخصيّاً، منذ مايو ٢٠٠٩ وحتّى اليوم، جُرحٌ طال نزيفه... رحيل الأستاذ هشام باشراحيل، متأثراً بمعاناته الشخصيّة من بطش المخلوع، كان مؤلماً لي شخصيّاً، ولكلِّ أصدقاء ومحبّي صحيفة الأيام، بالتأكيد...
أصبتَ، عزيزي مروان، في حديثك عن فترة رئاسة الأستاذ خالد سلمان لتحرير "الثوري". لعلها كانت وبالتأكيد العصر الذهبي لانطلاق حرية الصحافة في اليمن، ومعركة الكلمة ضد علي عبدالله صالح ونظامه.
سيظلُّ خالد سلمان في رأيي الرمز الخالد للصحفيّ الشجاع الحر الذي تجرأ ببسالة فتحَ كل الأبواب للأقلام المبدعة المعادية للديكتاتورية والفساد في اليمن.
لم أنشر في صحيفة الثوري بعد مغادرة خالد سلمان لرئاسة تحريرها إلا قليلاً، لأني لم أجد فيها نفس حرية التعبير، ولأن بعض مقالاتي رُفِضتْ بكل بساطة، ولأن "الثوري" صارت باهتةً مُمِلَّةً إلى حدٍّ ما، لسوء الحظ!...
افتقدتُ خالد سلمان كثيراً يوم هروب الديكتاتور بن علي من تونس، وأنا أكتب مقالي "حان موعد سقوط طاغية اليمن!"، و بن علي يبحث في الطائرة عن منفى.
لم أجد من ينشر لي ذلك المقال الذي سقط عموديّاً على رأس طاغية اليمن، في الساعات الأولى من الربيع العربي. ثم نشرَتْهُ لي مجلة "كيكا" الالكترونية (كل شكري لرئيس تحريرها: صموئيل شمعون!) في نهاية يناير 2010، بعد أسبوعين من رحيل بن علي وقبل أسبوعين من إنطلاقة ثورة 11 فبراير اليمنية.
تذكّرتُ بحسرة خالد سلمان مرّة أخرى عندما أعدتُ بعثَ نفس ذلك المقال لصحيفة الثوري، بعد عدّة أشهر من إندلاع الثورة اليمنية، لإعادة نشرهِ وقد تغيّرتْ موازين القوى لصالح قوى الثورة، لكن "الثوري" لم تنشره أيضاً!...
بعد حوالي عامين من ذلك المقال (وليس عاماً ونصف فقط، عزيزي مروان) ما زالت الثورة في منتصفِ الجسر، في رأيي.
ثمّة إنجازات هامّة للثورة ولا شك، أهمّها سقوط جدار الخوف من دماغ الإنسان (سارتر: ليس بمستطاع أحدٍ، حتّى الآلهة، قهرَ إنسانٍ تفجّرت في روحهِ ينابيع الحرّية!).
تفتُّتُ سلطة الديكتاتور وعائلتِه، وتقليصُ نفوذهم التدريجي، إنجازٌ هام آخر.
لكن تعقيدات أوضاع اليمن وضراوة مآسيه، ولا نهائية حاجات وتطلعات كل مواطنيه لاسيما جنوبه المقهور المستنزف المطموس، تتطلب في تقديري خطوات جذريّة سريعة أخرى، كيما نقول إنا "عبرْنا الجسر"، وبدأنا حياة جديدة...
ما زلتُ أعتقد أن بإمكان الحزب الاشتراكي اليمني، بفضل تاريخه وتراثه المدني وتطلّعاته، إذا أعاد ترتيب نفسه وطوّر برامجه ولغته ومماراساته اليومية، وتفاعلَ بقوةٍ وحيويّةٍ مع كل القوى المدنية الحديثة في الجنوب والشمال، أن يلعب دوراً تاريخّياً جديداً في بناء يمنٍ جديد (موحّدٍ كان، أو فيدراليّ، أو منفصل!)...
علاقتي بالحركات اليسارية عالميا لا تعدو المشاركة في بعض المحافل العامّة، هنا وهناك (عندما أجد الوقت والفرصة)، كمدافعٍ عن الحريّةِ والجديدِ والعلمانية، وكمعادٍ للظلامية والاضطهاد والسلطات الديكتاتورية، أيّاً كانت...

=========================================

ـ ماذا أردت أن تقول في روايتك الأخيرة " تقرير الهدهد"؟ بطريقة أخرى: ماذا أراد المعرّي أن يقول؟
ـ بين جعفر الدملاني والمعرّي .. كيف تنظر إلى المسافة هذه؟

=======

أبو العلاء المُعرّي عبقريٌّ نادر، مُورِسَ في حقِّهِ أشدُّ تعتيمٍ لم يُمارس في حقِّ أحد، لأسبابٍ لن يجهلها من قرأ لزومياته ورواية غفرانه!
في رأيي الشخصي: صاحب عبارة "لا إمام سوى العقل" رجلُ اليوم الذي يحتاجه بامتياز الواقع العربي، العقل العربي.
حان موعد وصولهِ لِحياتنا بعد أكثر من عشرة قرون من الهروب من الخوض في أفكاره أو الاكتفاء بترديدِ بعض أبياتِ سنِّ مراهقته، أو الاكتفاء بالحديثِ عن تشاؤمهِ أو عن تفاهاتٍ أخرى تبحث عن تحجيمِ دورِهِ، لا غير.
أبو العلاء اليوم أكثر شباباً وحضوراً من أي وقت مضى: يصل، في نهاية العقد الأول من ألفيّتنا الثالثة، من السماء 77 إلى الأرض، في زيارة معاكسة لزيارةِ روايتهِ التاريخية الخالدة: "رواية الغفران"، التي سافر فيها أبو القارح من الأرض إلى السماء.
يزور أبو العلاء كونَنا، حسب مقترح "أمينيائيل" ليرفع تقريراً ل "الأعلى جدّاً" عن أوضاع حياة الأرض عامةً وحياة العرب خاصة، التي صارت ضبابيّةً جدّاً في مرآهما.
أتركُ هنا نصّاً كتبهُ أمينيائل، مديرُ مكتب "الأعلى جدّاً" في مذكراته الشخصية، يبرِّرُ فيه اختيارَه لأبي العلاء لأداء هذه المهمة الميتافيزيقية ذات الأهمية القصوى:
((
اقترحتُ «للأعلى جدّاً» إرسالَ أبي العلاءِ للأرضِ، لِكتابةِ «تقرير الهدهد»، لِسببٍ يشرحُ نفسَه: اختزلَ أبو العلاء «هكذا تكلّمَ زرادشت»، قبل تسعة قرونٍ من نيتشه، بِبَيتين جذريّين، شديدَي الجوهريّة والنورانيّة، لا مراوغةَ فيهما أو غموض:
ولا تحسبْ مقالَ الرُّسلِ حقّاً ولكن قولُ زُورٍ سطَّروهُ
وكان الناسُ في عيشٍ رغيدٍ فجاؤوا بالمحالِ فكدَّروهُ
وكثَّفَ، بِنفسِ حدسِهِ العبقريّ الواحدِ الأحد، جوهرَ «أصلَ الأنواع»، قبل ثمانيةِ قرونٍ ونصف من داروين، بهذه الثلاثة أبيات ذات البصيرةِ الثاقبة:
1)
والذي حارتِ البريّةُ فيهِ حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ
2)
أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي بأنواعهِ، لا بوركَ النوعُ والجِنس!
3)
جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!
))
"
تقرير الهدهد" روايةٌ متعدّدةُ الأبعاد، يشكّل تقريرُ أبي العلاء فيها بُعداً واحداً فقط.
حياةُ أبي العلاء وعوالمُهُ الحقيقية، التاريخيّة والشخصيّة، بُعدٌ آخر.
حياتُهُ التخييلية، لاسيما كل عوالم ومفاجآت علاقته بمعشوقته هند، وابنتهِ نور، بُعدٌ رئيسٌ آخر.
حياتُهُ بعد وصولهِ كوكبَ الأرض ولقائه (بصحبةِ معشوقته ل.ه) بحفيدهِ الثالث والثلاثين، نبيل بدر سليمان التنوخي، بُعدٌ آخر فيها.
تختلطُ كلُّ هذه الأبعاد مع رحلة كونيّة يعبر خلالها أبو العلاء المراحل الكبرى لتاريخ الكون على إيقاع الاستشهادات بأشعاره الفلسفية الألمعية العميقة...
أعجبني جدّاً سؤالك، عزيزي مروان، الذي يُجلي التباين بين أقصى طرفَي ما يمكن لبلاد العرب أن تنجب: جعفر الدملاني وأبي العلاء المعري.
جعفر الدملاني بطلُ ثلاثيّتي: دملان (دار الآداب، بيروت) ليس فقط النقيض النموذجي لأبي العلاء: عسكريٌّ نصف أميّ، يحتقرُ بصدقٍ وإخلاص الثقافةَ والتعليم، يجيدُ رياضة قتلَ الميت والمشيَ في جنازته، يتسلّلُ بعد مؤامرةِ قتلٍ قذرة لِرأس السلطة في اليمن، لِيتربّعَ عليها بمنهجيّة شيخٍ يُجيد بعقليّةٍ قرون وسطيّة السيطرةَ على إقطاعيته، ليصيرَ سريعاً طائرَ خرابها الجذري...
المسافةُ التي تفصل أبا العلاء عن جعفر الدملاني لا تساويها إلا المسافة التي تفصل الأوّل عن علي عبدالله صالح!...

===========================================

كتبت مؤخرا "جنوب ماذا"، ناهضت فيه حذف اسم اليمن من "جنوب اليمن". كمثقف جنوبي، بالمعنى الجغرافي، كيف تتعامل مع أطروحات القادة السياسيين في الجنوب؟

=======

حول موضوع الوحدة، الفيدرالية، أو الانفصال، (الذي يدور حوله جدلٌ كبيرٌ في اليمن هذه الأيام) كنتُ قد كتبتُ موضوعين يشرحان بتفصيل وجهة نظري:
الأول في ٢٠٠٩، في "القدس العربي"، بعنوان: "الإنفصال الحميد وحدة يمنية جديدة"، والثاني من أربعة أجزاء، نُشِر مؤخّراً في أكثر من مجلة. جميعهم في مدوّنتي:
http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr
كلُّ هذه المقالات تشرحُ جليّاً أن وحدةَ حرب ١٩٩٤ انتهتْ ولا محلّ لها غير الزبالة، وتُحاول أن تُوجِّهَ الجدلَ حول الجديد الذي ينبغي بناؤه.
في المقال الأخير: "جنوب ماذا؟" والمقال الذي لحقه: "الجنوب أصغر من أن يكون اسماً لأيّ بلدٍ في العالم!"، حاولتُ أن أُنبّهَ من بدأوا بتغيير اسم "جنوب اليمن" إلى "الجنوب"، إلى بديهيةٍ صارخة، من المدهش أن نحتاج إلى التذكير بها:
عبارة "أنا جنوبي"، أو "شعب الجنوب" لا يمكنها أن تُستخدم دون سياقٍ يُجيبُ على سؤال: "جنوب ماذا؟"؛ لأن اسم كل بلد يلزمُ أن يكون "اسم علَم" لا يحتاج إلى سياقٍ يشرحه، واسم "الجنوب" (عندما يُستخدم بذاتهِ كاسم علَم) محجوزٌ في القاموس الجيوبوليتيكي الدوليّ منذ زمان، ويُستخدمُ يوميّاً من قبل كل الناس في أنحاء العالَم، بمعنى: كل دول العالَم أسفل خطّ الإستواء.
أتفق مع من ردّوا على مقالي الأخير بأن بإمكان نضالات اليمنيين، في الجنوب والشمال، تغيير كل شيء، لكنّي أعتقد أنها لا تستطيع تغيير موقع خطّ الاستواء، أو قواعد اللغات التي يتداولها البشر...
حول أطروحات القادة السياسيين في الجنوب التي ذكرتَها في سؤالك، عزيزي مروان، هناك إشكالٌ جذريٌّ حقيقي:
يجد بعض هؤلاء راحتهم في تغيير اسم "جنوب اليمن"، وكأنَّ كلمة "اليمن" سبب كل تعاسات الجنوب، فيما لا يستطيعون تقديم مشروعٍ لحل القضية الجنوبية، وللجنوب الجديد وعلاقته بالشمال الجديد (في أيِّ صيغةٍ سياسيّةٍ مدنيّةٍ جديدة: وحدة، فيدرالية، انفصال).
لا أستطيع شخصيّاً أن أتخيّل كيف بإمكانهم أن يجدوا حلّا ومشروعاً للجنوب، وهم أنفسهم علّته وسبب شلله وجذر كل آلامه في الماضي.
بدأوا قيادة العمل السياسي قبل حوالي ٤٥ سنة، أي قبل تَرَأُسِ الديكتاتور المخلوع علي عبدالله صالح بحوالي عشر سنين!...
كارثةٌ حقيقيةٌ أن يكون في واجهةِ قيادات الحاضر والمستقبل من كان يلزم خلعُهُ في الماضي، قبل المخلوع بكثير!...
لا أستطيعُ أن أشرح هنا كم أشعرُ بالغثيان عندما أرى في واجهة قيادة الجنوب اليوم، في رأسِ مؤتمراتِه الجديدة وفي الصورِ التي ترفعُها بعضُ مسيراته، بعضَ أسوأ موميات الماضي وأكثرهم استغراقاً في الفشل والمغامرات، مثل محمد علي أحمد، وعلي سالم البيض، على سبيل المثل لا الحصر...
يكتفي البعضُ من المنضوين تحت ألوية هؤلاء الموميات بترديد كلمة: "الاستقلال"، "التحرير".
ليسألَ نفسَهُ كلُّ من يردِّد هذه الكلمة اليوم: هل استخدمَ هو نفسُه هذه الكلمة، مرّةً واحدةً فقط، منذ عام ١٩٩٤ وقبل أن يُطلقْها المجرم الأكبر: علي محسن الأحمر، بعد أشهر من بدء الثورة اليمنية؟...
ثمّة شيءٌ غير طبيعي أن يبدأ الكثيرون في الجنوب باستخدام كلمة "الاستعمار" بعد أن استخدمها أحد أكبر رموز العصابة الكبرى، عصابة مُدمِّر الجنوب الأول: علي عبدالله صالح وعائلته، عصابة أولاد الشيخ عبدالله الأحمر، والظلاميين كالزنداني والديلمي.
أقصدُ العصابة القبليّة الظلاميّة التي جثتْ على جنوب اليمن بعد حرب ١٩٩٤، قدَّمت الفتاوي لإباحة دم أبنائه، دمّرتهُ ونهبتهُ وما زالت تستنزفهُ وتمتهنهُ وتقتلُ سكّانَه وتطمس هويّته...
كم من هؤلاء الذين يستخدمون مصطلح "استعمار الجنوب وتحريره" يتحدّثون عن تحريره مثلاً من نقاب الزنداني الذي فُرِض على الجنوب بعد حرب ١٩٩٤، بشكلٍ يعرفهُ الجميع؟
شعرتُ شخصيّاً بالقشعريرة عندما رأيتُ صورةَ مؤتمر الحراك الجنوبي في المنصورة، قبل أسابيع، وفي بقعةٍ مظلمةٍ من كراسيه كتلةٌ بشريّةٌ سوداء من نساءٍ يَلبَسن جميعاً تقريباً نقاب الزنداني الذي لا ينتمي لِتراث الجنوب، لا قبل الوحدة، ولا قبل الاستقلال من الاستعمار الإنجليزي!...
ألا يجدر أن يتحدّث هؤلاء أوّلاً عن التحرّرِ من هذا النقاب الظلاميّ الدخيل، أحد أهم رموز "المستعمِر"، بدلاً من أن يكونوا في طليعة المروّجين له؟...
إذا كانت مشكلة الجنوب الأولى الرئيسية: عصابة علي عبدالله صالح الكبرى، (أجزم أن شخصاً في جنوب اليمن لن يتحدَّث عن انفصال، إذا تمَّ يوماً محاكمةُ هذه العصابة الكبرى في عدَن!) فمشكلتهُ الأخرى تكمنُ في كلِّ مومياته السابقة التي تُصرُّ على أن تكون سرطانَ ماضيه وحاضرِه ومستقبلِه في نفس الوقت.
هذه الموميات لا تعرف غير الغدر والقتل والحروب. يقال لنا إنهم تصالحوا وتحابّوا وصاروا يعشقون بعضهم البعض الآن. (لا أدري، هل ذبحوا ثوراً عند تصالحهم على طريقة قبائل علي عبدالله صالح، أم لا!).
في المجتمع المدني لا يوجد تصالح دون محاكمة مدنيّة عادلة لِمرتكبي الحروب: شعوب أوربا تصالحت بعد حربها العالمية الثانية، واتّحدتْ أيضاً في أكثر من مجال حيويّ، لكنها لا تكفّ عن محاكمة مجرمي ماضيها الهاربين عندما تقبض عليهم، حتّى وإن كانت أعمارُهم قد تجاوزت الثمانين (مثل محاكمة المجرم: باربي)، وحتّى إن لزم محاكمتهم بعد أربعين أو خمسين عاماً من نهاية الحرب، وتصالح هذه الشعوب...
لا مكان لهؤلاء المجرمين، في الحقيقة، إلا في نفس الزنزانة التي ستحتضن يوماً، أتمنى، علي عبدالله صالح وعصابته الكبرى!...
المفارقة المرعبة هنا أن انطلاق الربيع العربي، والبحث عن دساتير حديثة للأنظمة الجديدة، كان بإمكانه (لولا شللُ قيادات القضية الجنوبية، والسباتُ الشتوي المتأبد الذي يعيشه الحزب الاشتراكي اليمني) أن يُعِيدَ جنوب اليمن إلى واجهة البلدان العربية.
فأدبيّات نظام "اليمن الديمقراطي"، أي جنوب اليمن السابق، (قانون الأسرة، الدستور...) كان بإمكانها، بسبب أفكارِها المدنيّة الإنسانية الراقية، أن تكون المادّة الخام لأدبيات أنظمة الثورات العربية، لليمن الجديد، للجنوب الجديد... شريطة تنظيفها من المسلمّات المرتبطة بفلسفة المعسكر الاشتراكي و"الديمقراطيات الشعبية" قبل سقوط سور برلين...

==========================================

ـ متى سينسى سروري اليمن؟

=======

أود أن أرد على سؤالك، عزيزي مروان، بمقطع من حوارٍ جوهريٍّ بين أبي العلاء وهِند في "تقرير الهدهد":
= أستنساني إن غبتُ يوماً عنك؟، سألتْهُ هند...
=
لا أعرف كيف أنساك!...
=
ماذا؟
=
أينسى الإنسانُ رئتيه، دماغه؟...
أتنسى الخليّة نواتها؟»، كان سيقولُ حتماً أبو العلاء لو كان مفهومُ الخليّةِ الحيّةِ ونواتُها معروفاً حينذاك!)

هناك تعليق واحد:

  1. أستمتعت جداً بالمقابلة و الخوض في حديث علمان يمنيان لامعان... دمتما بود

    ردحذف