الأربعاء، 30 يناير 2013

مليارية الحسم!



مليارية الحسم!
حبيب عبدالرب سروري

عشيّة التوقيع على "وثيقة العهد والاتفاق" في عمان، أجرَتْ قناة إم. بي. سي مقابلة مع الشيخ عبدالله الأحمر، أتذكّرها إلى الآن
قال فيها: لا أفهم لماذا يتصايحوا (قصده: علي وعلي)، والبلد ميزانيّتها إلى هناك، إلى هناك!... (أو، بلهجته المحليّة الشهيرة: لاهاناك، لاهاناك).

بعد دقيقة من الحوار، أدركتْ الصحفيّة أنها تعيش لحظة تلفزيونية لا تتكرر، بفضل عبارة: إلى هناك، إلى هناك
عادت  "رِيْوَس" (أي: إلى الخلف) بسؤالٍ خبيث
"ممكن يا حضرة الشيخ أن تقول لنا، وأنت رئيس البرلمان اليمني، كم ميزانية اليمن بالضبط؟".
ردّ عليها منزعجاً قليلاً من "عدم فهمهما" لردّهِ السابق، قائلاً
"قلتُ لكِ قبل قليل: إلى هناك، إلى هناك"!...

يبدو لي أن ثقافة "إلى هناك، إلى هناك" اكتسحَتْ كلَّ اليمن، شماله وجنوبه، وأن "العقليّة المرعوشة" صارت أكثر وحدويّة من أي وقتٍ مضى!...
إذ تمّ استبدال "إلى هناك، إلى هناك" اليوم بكلمة رشيقة، جميلة، لكنها مماثلة تماماً من حيث عدم الدقّة والفهلوة (أو: "الدَّحبشة" بالمعنى الاصيل للكلمة، الخالي من أي بُعدٍ جغرافيّ): مليونيّة!

سمعتُ كلمة "مليونيّة" لأول مرّة عند مسيرةٍ كبيرةٍ ورهيبةٍ جدّاً في صنعاء، قبل عام ونصف تقريباً. لعلها اقتربت من الخمسة والسبعين ألف (هذا رقم كبير جدّاً، في رأيي). ربما الثمانين ألفاً، من يدري!.
أتفجّرُ سعادةً وفخراً عند رؤية مسيرات بهذا الحجم في أي مدينة يمنيّة.

لكني امتعضتُ يومها مع ذلك، وقلتُ في موقع "حريّة" إن استخدام كلمة "مليونيّة" غير دقيق، لا يحترم الرياضيات!...
ثمّ لم يتوقف امتعاضي منذ سنة ونصف كلما أسمع كلمة "مليونية" تستخدم في كلِّ مسيرة تقريباً، حتى اليوم!...

شعرتُ بنوعٍ من الغِيرة ربما لأني قضّيتُ كل حياتي في المسيرات في فرنسا (بلد المسيرات منذ سنين السنين. يخرجُ أهلها للمسيرات لكلّ صغيرة وكبيرة. اكتسبوا بفضل إضراباتهم ومسيراتهم كل المنجزات الاجتماعية في تاريخهم الحديث) دون أن أعيش مليونية واحدة!

أشارك شخصيّاً في المسيرات في باريس وغيرها من المدن، بانتظام. لكن الأرقام التي أسمعها بعد الاحصاء متنوّعة ومتواضعة جدّاً بالمقارنة بأرقامنا اليمنية
عشرة ألف أحياناً، خمسة عشر ألف، عشرين ألف عدّة مرات، خمسة وعشرين ألف مرّات لا بأس بها، خمسين ألف بضعة مرّات، خمسة وسبعين ألف، مرّتين أو ثلاث

أكبر مسيرة عرفتها كانت لرفض قانون للتقاعد عاشت خلاله فرنسا ما يشبه الإضراب العام لبضعة أسابيع. عدد المتاظهرين: مائة وخمسة وسبعين ألف متظاهر في باريس. كان طولها عدّة كيلومترات.
(أعتمدُ دائماً على أرقام النقابات وليس على أرقام البوليس الأقل دائماً من أرقام النقابات لاستخدامهم طريقة حساب مختلفة لا أثق بها!)...

ثمّ في الاحتفالات الشهيرة لرأس السنة، (عندما يتوافد كل بشر باريس والسوّاح الأجانب، بمختلف تنوع أفكارهم وانتماءاتهم، من المساء حتّى الفجر، ويملأون كل المسافة من قوس النصر إلى الكونكورد وكلّ الشوارع المحيطة) لم يصل العدد، منذ أكثر من ثلاثين سنة، إلا مرّة واحدة إلى حوالي: ستمائة ألف!... 
أي: نصف مليونية، وقليل. لا غير!

ومع ذلك: الأرقام هي الأرقام، في فرنسا واليمن، حسب معرفتي!...
والحساب التقريبي لعدد المتظاهرين ليس صعباً كي نُردّد عبارة الشيخ عبدالله الأحمر: إلى هناك، إلى هناك
أو رديفتها بِلُغة الدلّع: مليونيّة!...

واضح جدّاً في الحقيقة: إذا كان هناك مليون متظاهر فذلك يعني أن مساحة المظاهرة حوالي مليون متر مربع في أقل تقدير.
(في كل المقاييس المتداولة هناك متظاهر واحد بالأكثر في المتر المربع، في المتوسط. لأن هناك فراغات كثيرة هنا وهناك، في أي مسيرة
أو برقمٍ أدق: هناك سبعة من عشرة متظاهر في المتر المربع، حسب المتخصصين!).

ذلك يعني: إذا كان عُرض المسيرة خمسين متراً فطولها على الأقل عشرين كيلومتراً في لحظةٍ معيّنة (أو في حدود ثلاثين كيلومتراً تقريباً بالأحرى، كما يقول المتخصصين)!
عشرين كيلومتر: أكثر من طول شوارع الزبيري وحدّة وتعز معاً في نفس الوقت!...

وإذا كان عرض المسيرة مائة متر (وهذا نادر جدّاً في شوارعنا وساحاتنا) فيلزم أن يكون طولها عشرة كيلومترات على الأقل، أو خمسة عشر كيلومتراً حسب رأي المتخصصين!...
ولا أعتقد أن مسيرة يمنية واحدة تجاوز طولها يوماً بضعة كيلومترات تُعدُّ بأصابع اليد.

نفس ثقافة الشيخ الأحمر هذه اكتسحت اليوم عدَن التي صارت كلمة "مليونية" تُستخدم فيها في كلّ الصوصات: مليونية الحِراك، مليونية التصالح والتسامح، مليونيّة حميد الأحمر!...

ربما حان الوقت لأن نرمي بثقافة الشيخ الأحمر، ثقافة مليونيّات "إلى هناك، إلى هناك"، وأن نستخدم أرقاماً أكثر دقّة (ثمّة أرقام كثيرة مُشرّفة جدّاً بين الألف والمليون، يمكننا استخدامها بدون خجل!)...
لن أمتعض شخصيّاً إذا سمعتُ كلمة "مليونيّة" ترافق مسيرةً تبدأ في ذماز وتنتهي عند مشارف صنعاء، أو أخرى تبدأ في لَحْج وتنتهي في جولد مور...

ما دفعني لكتابة هذا المنشور العاجل على صفحتي في فيسبوك هو أني قرأتُ أحدهم قبل قليل، على صفحة فيسبوك، (يبدو أنه خزّن قاتاً من نوعٍ شرسٍ معادٍ لجدول الضرب والهندسة الفراغية!)، يستخدم عبارة: "مِلياريّة الحسم!"...
كدتُ "اشترغ" بلا قات، وأنا أقرأهُ!...





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق