أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 يونيو 2014

مقال الأستاذ على زيد في القدس العربي عن ابنة سوسلوف

رواية "ابنة سوسلوف"
وربيع الهاوية
علي محمد زيد
تنتمي رواية "ابنة سوسلوف" (للكاتب حبيب عبدالرب سروري) الصادرة في بيروت حديثا عن دار الساقي، إلى عالم القرن الواحد والعشرين، من حيث مسرح أغلب أحداثها وفضاء انفعالاتها والسباحة في العالم الافتراضي، وبخاصة الفيس بوك الذي لعب دورا مهما في تحريك الأحداث والتأثير في مجرياتها خلال السنوات الأخيرة. يتحدث راوي الحكاية، أو الشخصية الرئيسة فيها، بصيغة المتكلم، ليسرد حكاية ممتعة وصادمة وكاشفة لخبايا الظاهر الخادع، تبدأ في مطلع صباه، وتربط ما بين المحلي والعالمي من خلال الحضور الكثيف للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والرسائل القصيرة والكمبيوتر المحمول وأحدث أجهزة التلفون الجوال.
ومع أن الرواية تتناول الأحداث المتسارعة في اليمن، وبخاصة منذ أن بدأت الحركة العاصفة التي أُطلِق عليها "الربيع العربي" (تشبها بما حدث في شرق أوربا في السنوات الأخيرة، وربما تعبيرا عن الحلم بالتغيير في منطقة تستعصي على التغيير وعلى السير نحو مستقبل أفضل لإنسانها)، فإنها تعكس حوادث خطيرة ما تزال تتفاعل في أكثر من بلد عربي، وتكشف عن زمن يدور حول نفسه في أحسن الأحوال، أو "يتقدم إلى الخلف". صحيح أنها تبشر بأن "جدار الخوف قد تحطَّم"، لكنها تصدم ركوننا إلى الحلم بكشفها أن تحطيم الجدار الذي حلمنا أن يدفعنا على طريق "الحرية والخبز والكرامة" والتنمية والنهوض الحضاري، قد وضعنا وجها لوجه أمام هاويات تلف بعضها بعضا، وخراب لا يقود سوى إلى الخراب، وكارثة كان الجدار يسترها بحيث يسمح لنا بهامش من التحليق في فضاء الأحلام الجميلة، وحروب تتناسل عنفا أشد وأشرس يفجع المستنيرين ويقذف بهم خارج المسرح، وشعارات تتبدل وتتلطخ بالدم والدموع، وغرائز تنطلق من عقالها تحت نقاب التقى وادعاء الطُّهر، وتضحيات وبطولات لا توصل إلى الفردوس الموعود، وانتحار جماعي يدفع الناس على سلوك أقصر الطرق نحو جحيم يسبح فوق برك من دمائهم وأكوام من جماجمهم.
ولعل بدء زمن الرواية في عدن ستينات القرن العشرين دالا، لأنها لحظة تلبدت فيها غيوم كثيرة في الفضاء الذي تدور فيه أحداث الرواية، ستتفجر فيما بعد رعودا وبوارق تحرق الكثير وتترك آثارا لا حدود لها على شخوص الرواية. تزامنت طفولة الأحداث مع اندفاع المراهقة وترنح الجميع في كل الاتجاهات. شخصيات تدخل على استحياء سن المراهقة في غفلة من البيئة العمياء المنشغلة بهمومها الصغيرة عن إدراك الرغبات التي تتبرعم من حولها. تتداخل مراهقة الشخصيات ومراهقة التاريخ بعد هدوء طال.  
مسرح ذكريات طفولة الراوي ضاحية الحلم والحنين (الشيخ عثمان) على ضفاف المدينة المفتوحة على البحار والمحيطات. يغذي الراوي خياله باستيحاء تفاصيل الحياة في هذا الحي باعتباره جسرا عبرت عليه الطلائع والأفكار والأحلام، والقادمين من الأرياف ومن الخارج ليلتحقوا بالمدينة المستقرة على ضفاف بركانها الخامد. لكنهم يحركون ذلك البركان ويشعلون فيه نار الطموحات والأحلام في بحثهم عن مستقر ينقلهم من هامش المدينة إلى متنها.
وهناك تبدأ العواصف في الاختمار شيئا فشيئا وتفاجئ الجميع بانفجار غير متوقع يرحل من عدن ليهز صنعاء الغارقة في سباتها. وسرعان ما يمس اللهب شبه الجزيرة العربية والمنطقة العربية كلها ليعود مرة ثانية إلى عدن في شكل اندفاع محموم لا يتوقف. هنا تبدأ حكاية الراوي، عمران، مع فاتن، ابنة "سوسلوف" عدن، البؤرة المشتعلة من بؤر الحرب الباردة. وسوسلوف، منظِّر قادم من ريف معزول ليسلق النظريات ويخلط بين الأشياء على نحو فج ويسير باندفاع على طريق حيرته الدائمة.
ندخل الرواية في لحظة جنون، يختلط فيها نشيد السماع الصوفي وشهوة الجسد وواحة الرغبة "السيسبان" (الماخور) في فيلم إباحي شاشته واحة رملية تظللها الأعشاب، أو "مملكة شهوات". تصدم المراهق الذي لم يغادر بعد طفولته، وتدفعه نحو عالم الكبار كي "يدخل التاريخ" من ثقب آسر بين فخذي امرأة. ينتقل من الحب العذري مع فاتن إلى الرغبة الجسدية المتحررة من كل القيود في علاقته بـ"الدكتورة" في فنتازيا تشد القارئ منذ لحظات القراءة الأولى
رجل مجنون، في ضاحية مجنونة على تخوم مدينة مشدودة إلى البحار والمحيطات البعيدة وبرٍّ مقيد بسلاسل قاسية تمنعه من التحرر من هاويته السحيقة. زمن آخر مجنون يحول صنعاء إلى جمهورية غريبة عن محيطها تحاصرها قطعان من قبائل قادمة من جحور التاريخ السحيق لتقاتل بشراسة من أقلقوا سباتها. وتستفيق عدن على عاصفة لن تهدأ حتى اليوم، تتالى فيها الصرخات والتوترات في فرح يقطر بالألم ويمتد إلى اليمن كله ويفيض عنه إلى الجوار وإلى البعيد. أطفال يلهون بأناشيد الكبار، ومجنون يعبِّر بلا قيود بلغة شعبية تكتنز فنتازيا أكثر عنفا. بعدها يندفع الجميع نحو المجهول في سعادة وانخطاف وقد اعتقدوا أن الأرض ستجدد دورانها وتتحرك حسب الإرادة، فإذا بالبركان العدني الخامد يندفع بلا اتزان حتى يفقد بوصلة الاتجاه. يترنح الجميع في كل الاتجاهات ولا يلوح أي أمل بأن هذا الاندفاع المجنون يوشك أن يتمخض عن الجمال المنتظر
إنها حكاية طفل وطفلة تبدأ رغبات الكبار في التقريب بينهما في غفلة من محيط يتجاهل قرار الطبيعة بأن تمنح كل طفل في بداية سنوات المراهقة القدرة على الحب والتوق والالتحام في كائن افلاطوني واحد، يعود فيه النصف الذكوري إلى النصف الأنثوي ليتكون منهما إنسان كامل. تحيط بالمشهد تفاصيل حميمة من الحياة الشعبية في الستينات. لا يجيدان مهارات العشق فيقضيان الساعات في نظرات هائمة وشهوات مكبوتة تعجز عن الانطلاق، وغرائز مبثوثة في الهواء نحو العينين والشفتين والنهدين الصغيرين الواعدين. ابتسامات رضى تشجع النظرات الهائمة الآمنة من تبعات العشق غير العذري. عشق ينتمي إلى سينما صامتة تفصح عن كل شيء دون كلمات. بلغة الجسد الملهوف الظامئ إلى الحب. 
يتنقل الراوي بين اندهاشه وصدمته، بين نظرية التهمت مطلع شبابه وأشعلت حماسه، من جهة، وما يكشف له السفر إلى أوربا من جهة أخرى. وشكَّل الوصول إلى باريس هزة كونية عصفت ببساطة الأفكار وبالأوهام الكثيفة التي تقمصها في سنوات المراهقة. ويتعرف على نجاة، اليمنية الباريسية، التي أعادت صياغته وشكلت وعيه ومشاعره وزادت في داخله الانشطار بين المحلي والفضاء العالمي، بين الفراغ والعنف من جهة، والعولمة من جهة أخرى. ويمضي الراوي في رحلة بحث عن مستقر سعيد في باريس، رمزه نجاة، خليط من السياحة في العالم المتقدم ومن الذكريات والحنين إلى مرابع الطفولة. تقوم نجاة بدور مهم في سحب الراوي من قناعاته الأولى الساذجة التي كان يعتبرها راسخة، وتؤثث قاموسه السياسي والاجتماعي بألوان أخرى أكثر اتساقا مع مسرح الحياة الواقعية، وهكذا تتغير المصطلحات وتحل محلها أخرى أكثر خبرة بحياة العالم وبالفكر الجديد، ويبتعد الراوي عن العنف المحلي اليومي الذي تشربت به أفكاره ومصطلحاته، وعن تشنجات الجسد لفظا ومعنى. لكن عنف العالم الذي اعتقد أن نجاة قد حررته منه، يلاحقه إلى باريس، إذ يودي تفجير إرهابي في مترو باريس بحياة أبرياء شردهم هذا العنف الهمجي من بلادهم ولاحقهم ليقتلهم خلال سعيهم عن لقمة العيش في بلاد المهجر، وتكون نجاة أحد ضحايا جهاد الإرهابيين العبثي في مترو باريس.
تتناثر في ثنايا الحكاية شظايا الحروب والصراعات والعنف، كل حرب تلد أخرى، ولكل عنف ضحاياه ودماره المبثوث في نفوس الشخصيات وعلى أرض الحكاية وفي الهواء الذي يتنفسه البشر. حروب مع أعداء خارجيين وبين القوى الداخلية المتصارعة في المعسكر ذاته، بين القبائل والجماعات والتيارات الأيديولوجية والموروثات المتعمقة في بيئة الأحداث. ولا نعود كقراء نهتم بمعرفة الحجج التي يسردها كل طرف لتبرير دعواه، ولا نفهم سوى أن النظريات والدعوات والطوائف على اختلاف مشاربها تبث الأحقاد وتسفك الدماء وتترك الأرض يبابا، ويضيع أطفال في متاهات هذه الصراعات الرعناء، وتجري التضحية بأجيال، فإذا بها تملأ الفضاء بالإحباطات والخيبات، وتتحول بعض شخصيات الرواية من اليسار إلى اليمين إلى منتهى التطرف الديني. ويتماثل القمع في كل الحالات بتشابه "هرب إلى الشمال" و"هرب إلى الجنوب" بمعنى خرج من الحياة بأية وسيلة قمعية.
حلم يقظة يستغرق الرواية كلها ويؤثثها بالاحتجاجات الغريبة وبالمتع والشهوات والرغبات الحبيسة، وتصل الفنتازيا ذروتها حيث تصبح "جمعة الغضب" التي شهدت ذروة العنف ضد البعض جمعة الرضى والخيانات والعربدة المنطلقة بلا قيود ولا قيم عند البعض الآخر، في تعايش غريب بين المتناقضات
يندهش الراوي قائلا "اعتدت عشق الثورات وتخيل سناريوهات مهرجانات ممتعة كم تبهجني، لكني لم أتخيل الموت فيها قط". ويتعلق أحيانا بخيط واه رفيع عله يجد منفذا من هذه الورطة القاتلة لكي يبقى الحلم متقدا في أعماقه "يكفي في الواقع أن أرى الناس تتحرر من قيودها وتنزل متكاتفة لتغمرني السعادة". هكذا تتواضع الطموحات وتتراجع الأحلام أمام صدمة المشهد غير الافتراضي
تتكثف في الثلث الأخير من الرواية شظايا ثورات بدأت تدعو للحرية والخبز والكرامة وانتهت دعوات مرعبة للقتل وللعودة إلى ماض متخيل سحيق ومواصلة الخراب الذي ثار الناس عليه. فتضاف الخيبة إلى الخيبة، والإحباط إلى الإحباط، وينسد الأفق من جديد، ويتحول الجميع إلى ضحايا في هذه المراوحة التي تهدر عقودا من الزمن وتعيد التساؤل إلى البدايات، وتختلط كلمات "تغيير، تكفير، تحرير، تفجير ...". وحتى سقوط جدار الخوف من أدمغة الناس تسقط معه أشياء كثيرة حميمة مثل الأمن، والماء، والكهرباء، والوقود، وفرص العمل والتنمية والأحلام. ويوضع الناس في النهاية امام اختيار مستحيل "بين سرطان الدم وسرطان المخ" كما تقول الرواية.
وقد استخدمت الرواية ثلاث وسائل تقنية لتليين صرامة السرد الروائي، الأول تكنيك البوح الممتع والمتميز لملَك الموت وكأنه صديق حميم، 
والوسيلة الثانية السباحة في عالم افتراضي رمزه الفيس بوك يغرس القص الروائي في العالم المعاصر، وفي عوالم الجيل الجديد الذي يتماهى مع الوسائط الاجتماعية ومع الحاسوب المحمول والتلفون الجوال الموصل بالإنترنت ليبقى متصلا بعالمه في كل لحظة وفي كل مكان. وبذلك تكشف الرواية عن عالم افتراضي يسمح للإنسان في المجتمعات المقموعة (فاتن أو هاوية كنموذج) بأن تسبح في هذا الفضاء متحررة من القيود الاجتماعية الصارمة، ومن قيود الأيديولوجيات والقناعات الدينية، لتخوض نقاشات بلا أسماء تسهل التعبير عن الرغبات والانحرافات والشذوذ النفسي، والانغماس في ملذات الجسد الممنوعة. لذلك تكون نقاشات الفضاء الافتراضي في الرواية صارخة بلا مواربة، تخرج الشخصيات من الزمان ومن المكان وتنقلهم إلى نعيمهم الخاص أو إلى جحيمهم المكبوت بلا حواجز ولا قيود. تغوص الرواية في هذا العالم الافتراضي وتتملص من النفاق الاجتماعي الكثيف وتكشف عن مدن أخرى تحت جلد المدينة الظاهر للعيان، حيث تكتظ أحشاء المدينة بمدائن صغيرة متداخلة، تضج بالمتعة والزهد والتقى والعشق العذري أو الماجن
والوسيلة الثالثة اللغة الشاعرية الممتعة والحالمة فلا نعود مهتمين سوى باستغراقنا في متعة القراءة بصرف النظر عن واقعية السرد أم انتمائه إلى عالم الفنتازيا والخيال، لأن لغة الشعر تحلق فوق الواقع الملموس والافتراضي وتدخلنا في جمالياتها واندهاشها: "مليون سر وحلم يختفي في دماغ" إنسان المدينة، و"مليون حزن وجرح، ومليون ألم وكآبة وسعادة صغيرة" كما تقول الرواية. "يتوحد فيها الكبت والسر ليل نهار، ينتقلان في ساحتها من رقصة فالس" إلى رقصة شعبية، و"يتعانق فيها السيل الشفاف الرقراق والمستنقع". أو "نزيف من الصدق، روح رشيقة ... نقاشات ثنائية حميمة، موسيقى ثورية، وشعارات تردد هنا وهناك، ندوات، صلوات، خطابات دينية". " يختلط الحابل بالنابل". "صوتها ومضات ملونة، قوس قزح". تعزف على جسدي "كبيانو تناغم تشنجاته بعناية وحب مهرجان سعادة. علمت نخاعي الشوكي كيف يقرأ نوتات أطراف أصابعها، كيف يرقص ...". "عينان مترعتان بالليل" و"جمال متأجج تغذَّى منه خضاب دمي الأحمر، وعاش عليه".
بهذه اللغة الشاعرية يكشف الراوي عن حياة بائسة يلفها الفقر والجهل والاستبداد والتيه، عن أزمة وجود وأزمة حياة وأزمة اجتماعية، يرسم بريشته المبدعة هامشا اجتماعيا ضائعا على محيط حياة صاخبة في عالم مستغرق في غناه ولهوه ومصالحه واهتماماته، يتواجه فيه الفقر الفادح والغنى الفاحش، وبينهما أوهام وأيديولوجيات وحروب ومناهج قاتلة ومباهج صغيرة منتزعة من أنياب حياة قاسية. "مسرحية مجانين" تعرض في مستشفى مجانين كما تقول الرواية. 
  
  

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق