الخميس، 31 مايو 2012

هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (٤)


هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الرابع والأخير)
حبيب عبدالرب سروري
٢ يونيو ٢٠١٢
وماذا إذن عن خطاب "الانفصال أو الموت"؟، سألني ع.م مواصلاً حديثَنا الأخير من حيث توقَّفنا (١): 
يثيرُ غثياني مثل خطاب "الوحدة أو الموت"، لكن لأسباب مختلفة. تتلوّى في ذلك الخطاب أحياناً العقليّة العرقيّة والمناطقيّة التي تثير كلّ تقزّزي.
يحرص بعض أصحاب هذا الخطاب، بِشططٍ وتطرّف، على الحديث عن كتلتين منفصلتين: الجنوبيون والشماليون
موقعُ المرء من قضية الجنوب مرتبطٌ، في عقليّتهم، بموقعِ ولادتهِ المسجّلِ في بطاقتهِ الشخصيّة: الصراع في رأيهم هو صراع بين الجنوبيين والشماليين. ليس بين من هم "ضد" قضية حق الجنوب في استعادة ما نهب منه وتقرير مصيره، ومن هم "مع" هذه القضيّة
ضمن هؤلاء الأخيرين، لِحسن الحظ، كثيرون جدّاً من مواليد وساكني الشمال، لكن قضيَّةَ استعادة الجنوب لِكلِّ ما نُهِبَ منه وحقَّ سكّانِهِ في تقرير مصيرهم هي قضيّتهم أيضاً. نرى بعض هؤلاء اليوم، بكلِّ إعجابٍ وسعادة، في طليعة النضال من أجل المدنيّة والحريّة.
هؤلاء عدنيّون حتّى مخ العظم (لأن الانتماء لِعدَن، مثل أيِّ مدينةٍ ذات ثقافةٍ مدنيّة حديثة، انتماءٌ ثقافيٌّ وليس انتماءً عِرقيّاً)، تَشِعُّ عدَن في أحرفهم، في سلوكِهم، في مظاهرهم...
في انتمائهم الروحيّ هذا لِعدَن تجسيدٌ لِمفعولِ وهجِ ثقافتِها الأصيلة التي احتضنت الجميع بشكلٍ تجاوز حدود البطائق الشخصيّة والعصبويّات البليدة...
كلُّ ما قدّمهُ الحراك الجنوبي السلمي من قوافل شهداء وأبطال، وكلّ نضالاته التي ألهمَتْ الثورات العربية، كانتْ مثار فخرِهم ومُلهِمَهم أيضاً في الثورة ضد صالح!...

إعلم عزيزي الغالي ع.م: إذا كانت قضيّة الجنوب عادلةً نبيلة، فخِطاب بعض الانفصاليين في الدفاع عنها مضرٌّ لها، يُثير السخط والنفور أحياناً، إن لم يكن مثيراً للسخريّة في أحيان أُخَر. يستخدمون غالباً لغةً آتيةً من العصر الحجري تمّ تجاوزها منذ أمد.
شعارُهم مثلاً (وإن كان ظرفيّاً ولأسبابٍ نبيلة يوم إطلاقه): "دم الجنوبيّ على الجنوبيّ حرام!" متخلّفٌ جدّاً: لعلّ الإسلام قد رفع سقف هذه الأخلاقيات قبل أكثر من ١٤ قرنٍ بعبارته الشهيرة: "دم المسلم على المسلم حرام"، قبل أن ترفع الحضارة الحديثة وأخلاقيّاتها المدنيّة ذلك السقف حتى القمة بِتحريم دم الإنسان على الإنسان، عندما بلورت ذلك مفاهيم "حقوق الإنسان" ومواثيق الأمم المتحدّة التي تلتزم بها كلُّ الدول!...
ما زال بعضهم حتّى اليوم يستخدم مصطلحات قبلية عتيقة: "الدّم الجنوبي"، "الدّم الشمالي"، الهيموجلوبين الجنوبي والشمالي ربما!... تتحوّل اليمن هكذا في خطاب بعض هؤلاء الانفصاليين إلى قبيلتين من قبائل العصر الحجري. إحداهما "تَبْتَرِع" في الشمال وهي تغني: "دم الشمالي على الشمالي حرام!"، والثانية تترندع في الجنوب وهي تغني: "دم الجنوبي على الجنوبي حرام!"...
ها نحن معهم نعود "كَبْعاً" لِحرب داحس والغبراء، وذلك في معمعان القرن الواحد والعشرين!...
لهؤلاء أقول: من حقِّ المرء أن يطلب الانفصال متى ما أراد، ولا شك. (أفضِّله شخصيّاً على من يخضع لِواقعٍ فرَضَتهُ عليهِ حربٌ وطاغية). بيد أنّ علِيه، في هذه الحالة، أن يطلبهُ بأناقةٍ على الأقل، بمشروعٍ مدنيٍّ وأهداف إنسانيةٍ راقيةٍ نبيلة!...

بعضُ هؤلاء المتطرّفين من الانفصاليين قرّر أننا لسنا يمنيّين!... نحن "جنوبيون عرب" وبس. أي أنهم، كردِّ فعل على هذه الوحدة اليمنية الفاشلة، يرمون ماء الحوض الوسخ (هذه الوحدة اليمنية التي لم تخدم إلا الناهبين) مع الطفل (اليمن) الذي يغتسل فيه!...
بديلهم "الجنوب العربي" أسعدني في البداية: كنتُ أظنّ أنه مفهومٌ أكثر اتّساعاً من اليمن الحالية، يضمّ كل جنوب الجزيرة العربية التقليدية، بكلِّ مدنها التاريخية الشهيرة، من جبال عمان شرقاً حتى تهامة وباب المندب غرباً، مروراً بنجران!...
طلع جنوبهم العربي هذا، في الأخير، إعادةً حرفيّةً لِ"جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" باسمٍ آخر. بدون مليميترٍ واحدٍ أكثر أو أقل. وأدخلوا الله على الخط أيضاً، بنفس طرائق الظلاميين، لأنه مثلما يقول بعضهم "خلق الجنوب العربي منذ ملايين السنين!".
أي أنه خلق قرية "كرِش" من ناحية (وقال: "إلى هنا ينتهي الجنوب العربي")، وقرية "الشُّريْجة" من ناحية ثانية (وقال: "من هنا يبدأ الشمال العربي"!)، ووضع بينهما مسامير وما إلى ذلك من التفاهات الصغيرة. يضيفون لذلك بهاراتٍ عِرقيّةً بدائيةً متخثّرة: "الدم الجنوبي"، "الدم الشمالي"...

شخصيّاً، لا أمانع أحداً من تغيير أسماء الكواكب والمجرات إذا أراد، من تغيير أسماء الأنبياء والفلاسفة إذا أحب، لكن شريطة أن يترك للآخرين حقّهم في استخدام هذه الأسماء الأليفة (التي يستخدمها أيضاً كلُّ كتاب وباحثي الأرض). أقصد هنا اسم "يمن" عمر الجاوي، "يمن" إدريس حنبلة (صاحب قصيدة "حبيبتي ي.م.ن")، "يمن" لطفي جعفر أمان (الذي أسماها "الوطن الأكبر")...
فإذا كانت هذه الوحدة اليمنية الفاشلة، لِسوء حظّنا، مِلكُ علي عبدالله صالح وعصابته، فاليمن مِلكُنا نحن جميعاً، على الأقل، انفصالاً كان هناك أم لا. إذ يلزم التمييز دوماً بين ماء الحوض الوسخ وبين الطفل الذي يغتسلُ فيه. بين علي عبدالله صالح، أولاد الشيخ الأحمر، علي محسن، الزنداني والديلمي من ناحية، وسكّان شمال اليمن من ناحية أخرى!...

يصرّ بعض الانفصاليين، بعقليّةٍ غير رفيعة المستوى، عند حديثهم عن حلّ القضية الجنوبية، بالحديث عن "الحوار بين الجنوبيين والشماليين" متناسيين أن الرئيس الحالي لليمن ورئيس وزرائها (الذين لا أعتقد أنهم مع الانفصال) "جنوبيّون" أصلاً...
أعترفُ أن كونهما جنوبيَّين لا يعني شيئاً للقضية الجنوبية، بل لعلّهُ أشبه بذرّ الرماد على العيون على هذا الصعيد. أي أنهُ أشبهُ بِجرعةٍ تخديريّةٍ تُوهِمُ الجنوب بأنه تمّ الاصغاء لِقضيّته، وتماطلُ، لأطولِ وقتٍ ممكن، بِموعدِ استعادة كلّ ما نُهِبَ فيه من قبلِ صالح وعائلته، أولاد الأحمر، علي محسن وبقية العسكر والشيوخ، إلى أن يتحوَّل ذلك النهب إلى واقعٍ يحميهِ تقادم الزمن. وتؤخّر في نفس الوقت من تحقيق مطالب الجنوب في محاكمة الظلاميين الذين أطلقوا الفتاوي لقتل أبناء الجنوب في ١٩٩٤: الزنداني، الديلمي...
غير أن كون هادي رئيساً لليمن (وإن كان حلّاً اضطراريّاً لا يعبر عن حالة وعيٍّ جمعي) مكسبٌ تاريخيٌّ على الصعيد المدنيّ على الأقل (من كان يستطيع، قبل أن تتفجّر ثورة فبراير اليمنية، مجرد الحلم بأن يكون لِليمن رئيسٌ من أبْيَن أو تعز أو الحديدة أو حضرموت أو عدَن؟)، وانتصارٌ، بشكلٍ أو بآخر، لِروحِ عدَن المدنيّة التي علّمت الجميع كيف يلزم تجاوز حدود عقليّة البطاقة الشخصيّة، وأنارتْ هكذا بإشعاعها المدنيّ مشروع اليمن الجديد.

لا يبقى لنا إلا أن نحلم في أن تتّسِع دائرة هذه الأخلاق لنقبل أن يكون رؤساءنا ذات يوم يمنيّين من أصولٍ حبشيّة أو صومالية أو هندية، مسلمين أو يهوداً أو مسيحيين، مؤمنين أو غير مؤمنين!...

المفارقة الكبرى: في حين تتقدّم هكذا اليمن خطوةً حميدةً على هذا الصعيد الأخلاقيّ المدنيّ، نرى، على سبيل المثال، بعض المتطرّفين من الانفصاليين يصرّون على تأجيج النعرات المقيتة. بعض مرعوشيهم ما زال لا يستطيع أن يهضم حتّى اليوم أن جنوب اليمن تَرَأسَّهُ ذات يوم رجلٌ لم يولد في ريف الجنوب، اسمهُ عبد الفتاح اسماعيل.
نجد هؤلاء يُخرِجون في إيميلاتهم ونصوصهم كل حقدهم المقيت عليه. يضيفون لاسمهِ تارةً "الجوفي"، وتارةً "البرغلي" بعبارات مرافقة غير أنيقةٍ إطلاقاً...
إذا كان عبدالفتاح إسماعيل له ما له وعليه ما عليه (مثل بقيّة من حكموا الجنوب سابقاً، لا أكثر ولا أقل، والذين لا أكنُّ لهم جميعاً أي إعجابٍ خاص) فهو ولا شك من أكثر هؤلاء عدنيّة: درسَ ودرَّس في مدارس عدَن، عمل في مصفاتها، جسّد في سلوكهِ على الأقل روحَها المدنيّة المناهضة للقبليّة والمناطقيّة... لا أدري أي حقدٍ كان سيصبّهُ هؤلاء المتطرّفون عليه لو كان أيضاً من مواليد عدَن، لأنهم، كما يبدو، ما زالوا حتّى اليوم بِعقليّة "الأيام السبع" التي طُرِدَ خلالها كثيرٌ من أبناء عدَن من مدينتهم، وبِعقلية "البطاقة الشخصيّة" التي استُخدِمت لِتصفية الناس جسديّاً في حرب ١٩٨٦ بِخساسةٍ يصعبُ وصفُها!...

الأدهى (والذي لم استطع استيعابه حتى اللحظة) هو أن هؤلاء المتطرّفين من الانفصاليين يعيشون في دولٍ غربيّة بإمكان رئيسها أن يكون من أصولٍ عِرقيّة بعيدةٍ عن البلد الذي يترأسُه (مثل ساركوزي ابن المهاجر المجرَي، الذي ترأس فرنسا مع ذلك)، يمتلكون جوازات غربية، لهم بفضلها نفس حقوق وواجبات أبناء تلك البلدان الغربية التي وُلِدوا بعيداً عنها آلاف الكيلومترات!...

خلاصة القول: طرحُ هؤلاء المتطرّفين من الانفصاليين يُسيئ لِعدَن التي احتضنَتْ الناس بغض النظر عن موقع ولادتهم.
هم خاسرون لا محالة لأن من يخسر قضيّته على الصعيد الأخلاقيّ يخسرها على كلّ الأصعدة بعد ذلك: كلُّ القضايا العادلة تُكسَبُ، في الواقع، عندما يكون المدافعون عنها، بادئ ذي بدء، حضاريّين وإنسانيّين في طرحها والدفاع عنها.

يكفي تذكّر أن انتصار نيلسون مانديلا ومناهضي الابارتايد في جنوب أفريقيا سبقه انتصارُهم الأخلاقي والإنساني في التعامل مع البيض من سكان جنوب أفريقيا، ونُبلُ لغتِهم التي تجاوزت بما لا حدّ له خطاب العنصريين المثير للتقزّز.
ثمّ طرحُ هؤلاء المتطرّفين مضرٌّ تماماً بالقضيّة الجنوبية. لأنه بدلاً من تكريس الجهود لِطردِ اللصوص الذين نهبوا عدَن والجنوب: صالح وذويه، أولاد الشيخ الأحمر، علي محسن وبقية العسكر والشيوخ والظلاميين، يضيعون الوقت في صناعة حدودٍ بين قلوب الناس وعلاقاتهم الإنسانية (بجانب الحدود الجغرافية)، وفي إثارةِ النعرات التافهة والعصبويّات المقيتة التي لا يوجد أخطر منها عندما يتمُّ تهييجها.

بدلاً من قضاء وقتِهم بمصارعة عصابة أولئك اللصوص (الذين لم نعد نرى أسماءهم في نصوص وخطابات هؤلاء المتطرّفين) يصبّون جام هجومِهم، بشكلٍ لا يخلو من الجبن في آخر التحليل، على أصحاب "جواري" الفواكه والخضروات من فقراء الشمال الذين يبحثون عن لقمة العيش في مدن وقرى الجنوب، مثل كلّ أولئك الجنوبيين الذين يعيشون في مُدُن الشمال لنفس الغرض، منذ أن هاجروا جنوب اليمن عقب اندلاع "العنف الثوريّ المنظّم"!...

قاطعني ع.م:
لعلّك أكملتَ ما تريدُ قولَه عن خطاب بعض المرعوشين من الانفصاليين! لكنك لم تجب على السؤال الأول حتّى الآن: هل أنت مع الانفصال، الفيدرالية، أم الوحدة؟
بالعكس عزيزي ع.م: أجبتُ عليه منذ البدء!... قلتُ لك حينها: هذه وسائل وليست غايات.
اعطني أوّلاً مشروعاً انفصاليّاً يشرح لي كيف سيتمّ طرد عصابة اللصوص من عدَن والجنوب، كيف سيتمّ المحاكمة المدنيّة لكلّ القوى القديمة التي دمرّت جنوب اليمن في حرب ١٩٨٦ بدلاً من عودتها من جديد لقيادة القضية الجنوبية بعد أكثر من أربعين عاماً من القيادة التي انتهتْ بالفشلِ المُطلق، وكيف سيتمُّ بناء دولةٍ مدنيّة حديثة بالمعنى الذي شرحتُه لك في حلقتنا الأولى، لأقول لك بدون تردّد: ذلك رائع جدّاً!...
اعطني مشروعاً للفيدرالية يقنعني أنه قادرٌ على تحقيق تلك الغايات، بشكلٍ أفضل من مشروع الانفصال، لأقول لك حينها: ذلك الأنسب!
أو اعطني مشروعاً لوحدةٍ يمنيّة جديدة (لا علاقة لها من شقٍّ أو طرف بهذه الوحدة المقيتة) يُحقّق تلك الغايات بشكلٍ أفضل، لأقول لك: ذلك الأروع.
سأضيف حينها في هذه الحالة الثالثة: أتمنّى أن تكون عدَن عاصمة هذا اليمن الجديد! ليس لأن علاقة عِرقية أو ميتافيزيقية تربطني بها، بل بسبب تاريخها وثقافتها المدنيّة التي عرفتُها في طفولتي والتي أتمنى أن تعمَّ كلَّ اليمن...

لسوء الحظّ لا يوجد حتّى اللحظة مشروعٌ يُبَشِّرُ بخير. لم تحمل الثورة اليمنية حتّى الآن شيئاً للجنوب وقد صار ضمن رموزِها كبار ناهبِيه: حميد الأحمر وأخوانه، علي محسن، وأصحاب فتوى نهب الجنوب وتدمير أبنائه أثناء حرب ١٩٩٤: الزيداني، الديلمي، التي تلتها اليوم فتوىً نتنةٌ جديدة أدخلت الله على الخط المناهض للفيدرالية!... 
ولا يحمل الفيدراليون والانفصاليون أملاً هم أيضاً، وما زال يقودهم كبار رموزِ الفشل والخراب، بِثُقلِ تمزقهم وصراعاتهم وأحقادهم القديمة، منذ أكثر من أربعين عاماً... 
ما زلنا في الواقع، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بحاجةٍ ماسّة لتفكيرٍ عميق، لِقياداتٍ جديدة ومشاريع جديدة وعقولٍ جديدة...

أما إذا كان أصحاب الانفصال والفيدرالية والوحدة يريدون انضمام الناس لِاختياراتهم قبل أن يُحدِّدوا غاياتهم بعقليّاتٍ وقياداتٍ جديدة، مُعِيدينَ بذلك كوارث حياتنا بأشكال وأوجه مختلفة، فسأقول لهم جميعاً دون تردّد: لِيكنْ لنا موعدٌ في يمنٍ آخر!...
المراجع:
(١) هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الأوّل والثاني والثالث). حبيب عبدالرب سروري.
http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق