أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 أبريل 2012

مقال سوسن حسن في القدس عن تقرير الهدهد



'تقرير الهدهد' لحبيب السروري: نص سردي يخرج من عباءة 'رسالة الغفران' 
سوسن جميل حسن

ولدت الرواية، وكان 'حبيب عبد الرب سروري' هو ذلك الخالق، كبرهان على مقولته: "أليس للروائي سلطة الإله؟ أو بالأحرى، أليس للإله سلطة الراوئي؟" بلى لقد كان يمارس سلطته بغواية ساحرة وفتنة مثيرة.

http://alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C24qpt897.htm&arc=data%5C2012%5C04%5C04-24%5C24qpt897.htm



2012-04-24

24qpt897.jpg 
في صحيفة القدس العربي:


في روايته 'تقرير الهدهد' الصادرة عن دار الآداب 2012، يبوح اليمني 'حبيب عبد الرب سروري' بشغفه الكبير: 'الرواية' متوِّجاً هذا الجنس الأدبي على عرش القدسية: 'سيطلق بشر الأجيال القادمة على هذا المشروع اسماً يسجد الجميع عند سماعه: الرواية'. وهو إذ يشتغل على روايته هذه، فإنه يشكلها مثل فنان يغمض عينيه ويستحضر رسالة الغفران للمعري بكل مفاتنها وغواياتها، ليعيد صياغة رجعها في وجدانه وقد امتلأ بها حدّ النشوة، ويبدع نصه الخاص:
'تقرير الهدهد' عمل يقحم القارئ منذ فقرته الاستهلالية في عالم من الفانتازيا المذهلة، يتماهي فيه الواقع بالخيال بحِرَفية عالية وإبداع جميل.
بقدر غرابة المشهد الذي يؤسس للرواية، فهو يقدم المبرر من خلال السرد: 'رسالة الغفران' وما تحمل من غرائبية وتخييل في نص سردي مثير تدور أحداثه في دار الخلود، ويجتمع فيها في لحظة راهنة متجاوزة منطق الزمن الأرضي، شخصيات من الميثولوجيا الإسلامية ورجالات الأدب والفكر. كذلك 'تقرير الهدهد'، حيث تبدأ الحكاية في 'السماء السابعة والسبعين'، في 'مقهى الكوكبة' الذي يرتاده عدد كبير من الشخصيات التي تركت بصماتها على الحضارة الإنسانية عبر التاريخ، وحول طاولة محددة اعتادت أن تجتمع كوكبة مؤلفة من: داروين، بيكاسو، نيتشه، ماركس، فرويد، وأبي العلاء المعري. يقترح على 'الأعلى جداً' مديرُ مكتبه 'أمينيائيل' أن يرسل أبا العلاء المعري إلى كوكب الأرض ليطلع على وضع البشر فيها بعدما كان الأعلى جداً قد تفقده وهاله الحال الذي وصل إليه هذا المخلوق العزيز على قلبه: الإنسان الذي، بفضل دماغه قد امتلك السلطة الأكبر على الأرض: الخيال، هذا السلاح ذو الحدين، الدين والعلم. وأن يوافيه بتقرير يضمّنه ملاحظاته حول وضعها الراهن سمي 'تقرير الهدهد'، على شاكلة التقرير الذي قدمه الهدهد إلى النبي سليمان كما جاء في الميثولوجيا، والذي أفرد له الكاتب مساحة في النص هي الفقرة 46 بعنوان ساخر جميل 'مناقصة كسرت ركبة الفيزياء، يروي فيها الأسطورة، ويعتمد تناصات عديدة من القرآن، ثم يخضع الحكاية لقوانين الفيزياء والمنطق.
رحلة النزول هذه، أطلق على أبي العلاء فيها لقب 'أبو النزول'، أو سندباد الزمكان، فيها من الفانتازيا الحاذقة والمثيرة ما يجعلها ترسّخ في الذاكرة كلّ حمولتها من المعارف والاكتشافات العلمية، وقوانين الفيزياء والضوء والفلك ونشوء الحياة وأصل الأنواع، كما علوم الرياضيات والكومبيوتر، وترشرش أدبيات أبي العلاء وأفكاره نثاراً بديعاً، مثلما لو أنه بريق تلك الحمولة المعرفية وطيف ألوانها، أو جوهرها المشع.
في رحلة النزول، مثلما يواكب فيها أبو العلاء سيرة الكون منذ اللحظة الأولى للوجود بعد الانفجار الكبير، حيث يتعين الزمان والمكان، فهو يستعيد سيرته الشخصية أيضاً، قصة عشقه لتلميذته 'هند' التي اختفت من حياته فجأة من دون أثر أو إشارة. لكن 'هند' المختفية بعد أن حققت حلم حياتها وهو الإنجاب من أبي العلاء، هي لعبة أخرى من التخييل في الرواية، رسم الراوي لأبي العلاء فيها حياة ثانية غير ما وصلنا عن سيرته الذاتية، وكان اختفاء 'هند' هو الجذوة التي راحت تحرقه وتدفعه في دروب البحث عنها، مثلما لو أنها صارت ملهمته وقبلة ومحرق أشواقه وأشعاره وغاية إبداعه، لا يكتب إلاّ لها ومن أجلها. وإذ يحلّق في التخييل فإن 'هند' تنجب 'نور' البنت الذكية التي تنشأ في بيت ثقافة وعلم، وتحلم بالتتلمذ على يد أبي العلاء بعدما كبر معها الشغف به من خلال حكايات أمها عن معلمها ذاك، ويكون لـ 'نور' ما أرادت، لتصل إلى مجلس أبي العلاء جاهلة بأنه والدها، كما لا يعرف هو أنها ابنته، وتتفجر مواهبها عنده، فتحقق حضوراً فذّاً في مجلسه وتهزمه في لعبة شطرنج أرادت لها أن تكون بالشرط الذي يحكم معلمها، الظلام، فلعبت مغمضة العينين.
يعدّ أبو العلاء مشروعه الجديد ويختار 'نور' بعدها 'لتواكب هذا المشروع كفاعلة وناقدة وكاتبة لنص يوازي نصه، يعلق عليه ويحلله'، هذا المشروع السردي هو الرواية التي'سيستثمر فيها الميثولوجيا الدينية الشعبية كما لم يستثمرها أحد، سيفكك مفاهيمها الجوهرية: الغفران، القدرة الإلهية.. سينقش معالمها بريشة فنان، سيقدمها أحياناً كثيرة بكاريكاتورية فنية مترعة بالذكاء والمتعة. فهل تحيلنا 'هند' إلى حلم الربيع العربي؟ و'نور'، هل هي رمز الشباب المتلهف إلى تحقيق هذا الحلم، وكتابة تاريخ جديد كـ 'نص جديد، يعلق عليه ويحلله' ويكون العقلُ إمامَه؟
الراوي 'نبيل بدر سليمان'، الذي ينحدر من سلالة أبي العلاء عن طريق أمه 'نوال التنوخي' الأستاذة الجامعية، يهجس بأبي العلاء الذي ورث مخطوطاته في صندوق خاص عن أمه، وحمّلته الأمانة، كان يحلم بكتابة نص عن أبي العلاء، ويخبر زوجته ومعشوقته 'لمياء' بمشروعه، لكن لمياء تضيع منه مثلما ضاعت هند من أبي العلاء، فينطلق في رحلة بحث غرائبية عنها، مثلما هام أبو العلاء خلف هند، وصار يكتب لها. حيث تتغير معالم المدينة في أول صباح من العالم الجديد، تهرب الأمكنة من أمكنتها، إلا مقهى وحيد كانت لهما طاولتهما الخاصة فيه، يدخله ليجد امرأة أخرى مع رجل آخر، يتعرف على المرأة بعد أن يغادرها الرجل، فيدخلنا الراوي بحالة مثيرة أخرى، المرأة هي 'ل. هـ'، والرجل معها هو 'ن.س'، مثلما لو أن الراوي يقابل حياته وجهاً لوجه، يلعب الأدوار فيها شخصان مطابقان، فالمرأة مغرمة برجل مكلف بمهمة 'ميتافيزيقية' يكتب فيها نصاً لا يتوقف هو 'تقرير الهدهد'، ويرسل رسائل إلى السماء السابعة والسبعين، ويحكي عن مشروع اسمه 'مشروع أبي العلاء'. في لقائه مع 'ل. هـ' يغني الكاتب الرواية بحوار غني شيق يسلط الضوء على واقعنا العربي، الذي تقول عنه 'ل. ه' عندما تحكي عن كاتبها 'ن. س': 'يغادر كثيراً إلى الشرق الأوسط وبلاد العرب المسلمين، ليعود منها أكثر يأساً وقهراً وقلقاً وخيبات'. حوار رشيق هادف يوصل الهم والشاغل الرئيسيين للعمل، مركزاً على دور الشباب في صناعة التغيير، ملمحاً إلى فكرة التناسخ حيث تقول 'ل. هـ': 'يقول لي إنه هو نفسه كان أبا العلاء في حياة سابقة'.
ويتبين أن هذه الحكاية هي حلم داخل حلم، وأن نبيل سليمان العازم على كتابة رواية عن أبي العلاء يستيقظ على سؤال لمياء له عما أسمتها هلوساته وهو نائم، صبيحة اليوم الأول في السنة الجديدة، وتسأله ماذا حلّ بنصه السردي، في الوقت الذي كان النص قد انكتب وانتهى عند 'حبيب عبد الرب سروري'، ليخرج 'تقرير الهدهد' محلقاً بجناحين، تاريخي وتخييلي، مرتكزاً كما دأب أبو العلاء على المنطق والحجة العلمية، والنظرة النقدية، بأسلوب جميل مشغول بلغة تتراقص بين مفردات علمية وكلمات شعرية، عابرة للأزمنة بين زمن حاضر وماضٍ، مستشرفة مستقبلاً في الماضي ومستقبلاً سوف يأتي، محتوية في الوقت نفسه زمناً سرمدياً ضرورياً للفضاء المتخيل في العمل.
عمل روائي غني يخرج من عباءة رسالة الغفران صارخاً في وجه الضمير العربي كي يستيقظ ويمشي خلف إمام هو العقل، نحن بأمس الحاجة إليه للنهوض من كبوتنا التي طالت تحت رزء سلاطين عتاة يلبسون السياسة والدين والأعراف ويحشرون شعوبهم في خيام يحكم هواءها ويملأ فضاءها تفكير ظلامي يدفع الحياة بعكس ركب التطور. الحل هو: الفصل بين (مجتمع الشرع الذي يعبد) ومجتمع (القياس الذي يحرر)، بين مجتمع (الحاكم الجلاد الذي يشرع له الفقيه) ومجتمع (القانون والمؤسسات المدنية والحرية المفتوحة على الحضارة والمستقبل)، وإن كان هناك أمل في ثورة بلاد العرب على منظومتها السياسية والثقافية السحيقة، فهو في بعض شباب الأجيال الجديدة الذي اكتشف أخيراً لغة (لا أمام سوى العقل) لغة العصر.
ولدت الرواية، وكان 'حبيب عبد الرب سروري' هو ذلك الخالق، كبرهان على مقولته: "أليس للروائي سلطة الإله؟ أو بالأحرى، أليس للإله سلطة الراوئي؟" بلى لقد كان يمارس سلطته بغواية ساحرة وفتنة مثيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق