الخميس، 1 سبتمبر 2011

حرية، حرية، حرية...


حرية، حرية، حرية... (*)
حبيب عبدالرب سروري

1)) وباء الحرية
«كي تحكم اليمن 33 عاماً يلزم أن تكون ثعباناً يرقص فوق هامات جياع!». أجاد علي عبدالله صالح تطبيقَ هذا الشعار بمنهجيّةِ رئيس عصابةٍ مهنيٍّ جدّاً.
كان شعارُ ثعبانِ اليمن ناجحاً جدّاً قبل أن يجتاح البلد مرضٌ اسماهُ الثعبان: «انفلونزا الجيران». لم يُوفّق كثيراً هذه المرة: ما اجتاح اليمن هو وباءٌ كاسح اسمه: وباء الحريّة، وباء الكرامة، وباء إرادة إسقاط نظام التجويع والاستبداد وكل منظومته الاقتصادية والثقافية والتعليمية والسياسية، وباء الرغبة العارمة بحياة أخرى، مؤسسةٍ على العلم والمدنيّة، مفتوحةٍ على الحضارة والمستقبل...

2)) إذا منعتمونا من الحلم، فسنمنعكم من النوم!...
دعونا نحلم: سيبدأ قريباً عصرٌ يمنيٌّ جديد تشرئب فيه حضارةٌ مجيدةٌ شامخة. ستصبحُ فيه عدَن، التي دمرّتها الحروب والنهب والتهميش، فنارَ الجزيرة العربية، وواجهةَ اليمن المدنيّة ومفتاحَ اندماجها في العصر الحديث.
ستقبِرُ فيه صنعاء إلى الأبد عهدَ آخر إمامٍ همجيٍّ متخلف (علي عبدالله صالح) أغرق كلّ اليمن في وحل الفساد والجهل والفقر والتخلف. سيتحوّل فيها قصرُه الرئاسي (الذي تفوق مساحته مساحة قصور رئاسات الخمس الدول العظمى مجتمعة، والمدجّج بالملاعب الخيالية والترف المثير للاشمئزاز) إلى مؤسسات تعليمية وجامعة علمية وتكنولوجية حديثة تنافس أرقى الجامعات المتقدمة... ستتحولُ فيها جامعةُ الإيمان (مرتع الظلامية والتعليم السلفي الذي لا موقع لهما من الإعراب في الدولة المدينة التي قامت من أجلها الثورة) إلى جامعةٍ مدنيّةٍ للعلوم الاجتماعية والتاريخ، بمناهج مدنية حديثة.
ستتحول تعز إلى عاصمة الثقافة والإبداع اليمني، والمختبرَ الحي لصيانة الثورة وتطوير الديمقراطية اليمنية. سيكون للمكلا، للحديدة، لذمار وإب، ولكلّ مدن اليمن أدوارها الطليعية في بناء حضارة جديدة سامقة...
دعونا نحلم!...

3)) نريدها حرّةً كريمةً لأننا لن نعيشها مرّتين
ثمة نضجٌ ديمقراطيٌّ وسياسيٌّ فيما سمعناه من أحاديث الساحات الثورية أمس: لا زحف نحو القصر الرئاسي، لأن مختلف الاتجاهات في الساحات ليست متفقة على ذلك بعد...
طبيعيٌّ جدا أن ينال قرارٌ هامٌّ كهذا موافقة الأغلبية الساحقة من الثوار: وحدةُ قوى الثورة شرطٌ جوهريٌّ لنجاحها: كل تجارب الثورات تبرهن ذلك. فالثورةُ ليست قراراً طائشاً لرئيس عصبةٍ من الهنود الحمر. لكنها، مع ذلك، صاعقةٌ تسقط على رأس الطاغية في لحظة يلزم اختيارها بذكاء وإجماع...
أي أنه إذا قُرِّر الزحفُ فليكن في لحظةٍ مضمونةِ العواقب، لا يمكن لها إلا النجاح. لأن أروعَ الانتصارات هي تلك التي تأتي دون ذرف قطرة دمٍ واحدة، ولأننا ضد استخدام العنف حتى ضد الطاغية صالح: لا نريد إلا محاكمته وسجنه على جرائمه واستعادة كل ما نهبه هو وحلفاءه...
نحن ضد قتل كل المجرمين والطغاة: بن علي، مبارك، صالح، القذافي، بن لادن، بشار الأسد... القتل سلاح السفلة، وشعارات الانتقام المتخلفة، مثل «العين بالعين، والنفس بالنفس» لا تنتمي لقواميسنا النبيلة الراقية...
نحن ثوار الحياة!
لن نقْبلها (هذه الحياة) وجهاً آخر للموت، كما يريد الطغاة. نريدها حرّةً كريمةً، لأننا لن نعيشها مرّتين!...

4)) كيف يمكن تجميل دماغٍ منقوعٍ بالخراب؟
لا شيء غير التناغم: وجهٌ مصنوعٌ من ثاني أكسيد الكربون، يخرج إلى الشاشة، من عاصمة المملكة السعودية، في يوم الخراب الأكبر: 7 يوليو، بعد 17 سنة من يومِ تحويلِ عدَن وجنوب اليمن إلى غنيمةٍ لعصابةٍ من مجرمين وسفلة دمروا اليمن بحرب 1994 القذرة.
ثمان عمليات تجميلٍ لِجُثّةٍ بشعة، بشعةٍ جداً... النتيجة: مومياء مهشّمة كسيحة صالحة أخيراً للعرض!... لكن كيف يمكن تجميل دماغٍ منقوعٍ بالصديد، مصنوعٍ من عصبونات الخراب؟
حتّى وإن لا يسوى صاحبُ هذه الصورة منديلاً قديماً للشهيد ناصر فدعق، أو حذاءً للشهيد نزار هائل سلام، أو لغيرهم من شهداء هذه الثورة، أو لمن
اغتالهم وأبادهم خلال 33 عاماً من البطش، فصاحب هذه الجثة كائنٌ حيّ، يستحق جهازه البيولوجي منّا الرثاء والأمنيات الطيبة المخلصة. يستحق أن نتمنى له دهراً كله عمليات تجميل، وعمليات تشريح، وعمليات استبدال أعضاء بيولوجية بأخرى جديدة، لاسيما عملية استبدال دماغه بدماغٍ جديدٍ لإنسانٍ آخر...
هذا الزاهد الذي قال إنه بعد 33 عاماً قد ملّ السلطة، يتمسّك بها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى. حتّى لو بقى من جسده أنصاف اشلاء فستنبتُ في أطرافها جميعاً أظافر وأسنان للتشبّث بمقاليد الحكم وتسليمه لعصابة أولاده وأولاد أخيه الذين ورثوا منه كل دمويتهِ واحتقارهِ لحاجةِ هذا الشعب لحياةٍ أخرى حرّة كريمة...
لو كان لهذه الصورة فضلٌ واحدٌ فقط فهو كونها أضافت تنويعاً جديداً لمصير الطغاة العرب: بعد بن علي الهارب في منفاه السعودي، ومبارك الذي ينتظره في أفضل الأحوال قضاء بقية حياته في سجنه المصري، ها نحن أمام ديكتاتورٍ ثالث دخل مزبلة التاريخ جثّةً متفحّمةً كسيحة.
أرثي مسبقاً القذافي وبشار الأسد وبقية الحرامية والمجرمين...

5)) الثورة اليمنية: جمودٌ غير مفهوم. احتاجُ لتنوير
يبدو من بعيد أن النظام اليمني معلّقٌ بخيطٍ رفيع: الرئيس في السعودية بدون رئتين، النظام هرول تقريباً بشكل كامل، إن لم يكن قد سقط، معظم المحافظات والمدن في شبه استقلال كامل... غير أن القصر الرئاسي وأجهزة القمع العسكرية بيد العصابة العائلية: ميراثهم العائلي الذي يرفضون التخلي عنه!...
مرّت في الحقيقة أسابيع عديدة منذ أن غادر الرئيس وأعمدة نظامه اليمن، دون جديد. تعيش الثورة اليمنية جموداً ملحوظاً، كما يبدو للمراقب من بعيد.
أعرف مع ذلك أن الثورة اليمنية هي الأصعب عربيّا لأسباب ثلاثة على الأقل: الأمن والجيش بيد عائلة الديكتاتور (مثل ليبيا وسوريا)؛ الدول المجاورة لليمن لا يهمها شيء أكثر من إجهاض هذه الثورة ومنع بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة في اليمن؛ والعالم الخارجي لا يقدم أي دعم حاسم أو ملموس للثورة اليمنية (بعكس ليبيا)...
أعرف أيضاً أن الثورة عموماً عملية شاقة طويلة (حالتا تونس ومصر استثنائيتان جدّا، حالفهما تأثير عنصر المفاجأة وشروطٌ ذاتية ناضجة): لا يضحكني أحد أكثر من صديق لي زعلان جدا لأن ستّة اشهر مرت على بدء الثورة اليمنية ولم تغدو اليمن إثرهما حتّى الآن دولةً مدنيّةً على نمطٍ اسكندنافي، كما يهوى!...
لكن هذا الجمود يربشني قليلاً. أحتاج لِمن يشرح لي كيف أفكك طرفي هذه المعادلة التي تبدو لي ضبابية أكثر من أي وقتٍ مضى. احتاج لتنوير...

6)) عن حرية العسل وكرامته
يترجم أهل المغرب الأعزاء، التي أقضي فيها جزءاً من إجازتي الآن،
«Miel Pur»
المكتوبة في علب العسل المغربية، ب: عسل حر، بدلاً من: عسل نقي أو صافي!...
كدت اضيف هذه الترجمة لقائمة الترجمات المغربية الخاطئة لولا ملاحظتي أن الحرية، في آخر التحليل، ابنة عمة النقاء. بينهما حبل سريّ. عندما يتحرر الإنسان من أدران عبوديته يزدادُ نقاءً بالضرورة...
لن يخطئ كثيرا إذن من يتحدث عن حرية العسل وكرامته!...

7)) تعليقات مغربية مرحة عن ثورة اليمن
صديق مغربي ظريف جدا، قال لي أمس:
«الحكمة يمانية. الدليل على ذلك أن من أحرق علي صالح وزمرته في جامع النهدين اراد أن يعملوا دورة تدريبيبة (ستاج) قبل أن يقضوا حياتهم في افران جهنم.»
حكمة من جنوب المغرب: «اليمن سيارة ماكنتها مشحونة بالأحصنة، لكن سائقها حمار.»

(*) أوراق صغيرة من موقع فيسبوك: «حرية، حرية، حرية» الذي يشرف عليه صاحب المقال، والذي يحوي أكثر من 500 ورقة تتجدد يوميا منذ بدء الثورات العربية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق