الإنسان جسدٌ لا غير!
ظهر مفهوم «المُقدّس» في ثقافة الإنسان القديم قبل مئات آلاف السنين. تجلّى ذلك في طريقة تزيين الإنسانِ لِموتاه ودفنهم، وفي بعضِ شعائرِ حياته، كما تدلّ على ذلك الحفريات. بدى لهُ منذ ذلك الحين أن العالَم ينقسم إلى قسمين: مرئيٌّ وغير مرئي.
ثمّ تجلّى ذلك بشكلٍ أوسع منذ أن امتلك الإنسان الحديثُ دماغَه الحالي، قبل حوالي خمسين ألف عام من تاريخٍ بيولوجيٍّ عمرهُ بضعة ملايين سنة. أثاره الجانب اللامرئي أيّما إثارة: توجّس منه واعتبره «فاعلاً» يختفي وراء كلّ الظواهر الطبيعية: العواصف، الزلازل، الكسوف والخسوف... اتّهمه بأنه يسكنُ في الجسد ويفعل فعله أثناء المرض، عند الأحلام... ثمّ يكفي أن يغادر هذا الكائن اللامرئي الجسدَ ليموت الإنسان على التوّ!...
أرعب الموتُ الإنسانَ منذ الأزل أيّما إرعاب. لاحظ أن من يموت موجودٌ وغيرُ موجودٍ في نفس الآن: موجودٌ بجسده، بذكرياته، بالأشواق والحنين الذي يسبّبه. لكنه غير موجودٍ أيضاً، بلا حياة، جثّة لا تسمع أو تجيب: فقدَ إذن شيئاً ما...
آه، نعم، فقدَ شيئاً ما!...
أسمى الإنسان الأوّل ذلك الشيء اللامرئي المفقود: الروح! شبّهها بنفخة الزفير أثناء التنفس. اعتبرها آخر النفخات التي تغادر الجسد لينطفئ بعدها ويموت!...
اعتبرت معظم الأساطير القديمة، في الحقيقة، أن الإنسان جسدٌ تتحرك فيه نفخةٌ سحريّة، أشبه بِشبح، اسمها الروح: جذوةٌ تضطرم بفضلها الحياة في جسد ابن أديم الأرض الذي نفخ فيه الإلهُ فمنحهُ الحياة، كما جاء في ملحمة جلجامش التي كُتِبت قبل أكثر من ألف عامٍ من التوراة.
الروح إذن نفخةٌ تسبح في طين. شبحٌ يحوم في ماكينة!...
استمرّ اعتقادُ الإنسان، حتى ظهور العِلم الحديث، في أن هذه النفخة اللامرئية، أو الشبح الذي يحوم في الجسد، سبب كل نشاطات الإنسان الروحية: التفكير، الكلام، الأحاسيس من حبٍّ أو كراهيةٍ أو قلق، اللاوعي... اعتبرها بعض العرب أشبه بنوعٍ من الجن (بني الشيصبان) يوحي للشاعر بكلماته:
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان فحيناً أقولُ وحيناً هُوَه!...
ظلّ الروحُ لغزَ الإنسان الأكبر قبل أن يبدأ العِلم الحديث فكّ أسرار هذا اللغز.
يعتبر العِلمُ الحديث في الحقيقة أن الدّماغ وحده مركز كل النشاطات الروحية، لا غير. جميعها تيارات كهروكيماوية بين آلافِ مليارات عصبونات الدماغ التي يتفاعل كل واحدٍ منها مع عشرة آلاف عصبون في نفس الوقت: شبكة عصبونات لا يمتلك تعقيدها وشساعتها أي حيوانٍ آخر...
لاحظ العِلم، مستخدماً أحد أعظم اكتشافاته: سكانير الدماغ، أن لهذه الشبكة خارطتها الجغرافية المذهلة: مناطق اللغة، 50 منطقة للنظر ترتبط بالعين، مناطق تحليل العلاقات الاجتماعية...
لا يتوقف العِلم يوماً بعد يوم، مستنداً على هذا الجهاز العبقريّ المذهل، عن دراسة مجرّات هذه العصبونات، بغية فكِّ شفراتها وكشف أسرارها واستيعاب علاقاتها ولغة تفاعلاتها المعقّدة التي تشكَّلَتْ خلال عدّة ملايين سنينٍ من التطوّر البيولوجي...
لا وجود للروح إذن إلا كنشاطٍ دائمٍ للدماغ: كلّ النشاطات الروحية للإنسان تياراتٌ كهروكيماوية تتحرك وتتفاعل داخل شبكة هذه العصبونات.
فالرّوح مثل برامج الكمبيوتر: لا توجد بشكلٍ منفصل عن الكمبيوتر، هي مكتوبةٌ على ذاكرته الإلكترونية وفي «دِسْكه» و «وحدتهِ المركزية». يتم تجسيدها وتفعيلها عبر تياراتٍ الكترونية تتفاعل مع بعضها البعض داخل شبكة ترانسيستورات هذه الأجهزة لِتنفيذِ خطوات كل برنامج وتحقيق مآربه... عندما «يموت» الكمبيوتر لا تغادرهُ تلك التيارات، كنفخةٍ ميتافيزيقية، نحو عوالم مجهولة بعيدة. تموتُ بموتهِ لا غير...
كان الإنسان قبل العِلم الحديث يظنُّ أن الروح تختفي في القلب، أهم أعضاء الجسد بالنسبة للإنسان البدائي.
كشفَ العِلمُ أن القلب ليس أكثر من مضخةٍ للدّم، يمكنُ استبدالهُ إذا تعطّلَ بِقلبِ إنسانٍ آخر، أو بقلبٍ بلاستيكي (من يدري!). أما الدماغ فلا يمكن استبدال حتّى شذرةٍ واحدةٍ منه فقط، وإذا ما تعطّل مات الإنسان على التو. فالموت سكتةٌ دماغية بادئ ذي بدء...
ليس القلب بطبيعة الحال مركز الحبّ كما كان يظن الإنسان الأول، بل الدماغ!...
باختصارٍ شديد، الدماغ مركزُ قيادةِ الإنسان، روحُه، نواتُه، أهمُّ أعضاء جسدِهِ قاطبة. أما بقية الجسد، كلّ الجسد، فليس أكثر من قشرةٍ بيولوجية تحيط بالدماغ كَثوب!...
أن يُستبدلَ دماغُك بدماغِ إنسانٍ آخر يعني أنك صرت ذلك الإنسان الآخر لا أكثر ولا أقل! (من لم يحلَم يوماً أن يُستبدَل دماغُه بِدماغٍ شبيهٍ بدماغ داروين أو اينشتاين أو أبي العلاء المعري؟)...
في الغرب، حيث «لا إمام سوى العقل» كما قال أبو العلاء، تستولي علوم عصبونات الدماغ وعلوم الذكاء الإصطناعي على شغفِ البحث العلمي ومشاريع عوالم المستقبل!... ما إن وُلِدتْ علوم الكمبيوتر على سبيل المثال حتّى انطلق مشروعٌ شهير، إثر اجتماعٍ تاريخيٍّ لعلماء الذكاء الإصطناعي والكمبيوتر والرياضيات والإلكترونيات في عام 1956 في معهد إم آي تي الأمريكي، هدفه النهائي صناعة كمبيوتر قبل نهاية القرن العشرين يتمتّعُ بكلِّ ذكاءِ دماغ الإنسان ويفوقه!...
برهنت نهاية القرن العشرين أنه كان مشروعاً طوباويّاً إلى حدٍّ ما، لأنه يصعب استيعابُ تعقيدِ جهازٍ كالدماغ، تشكّلَ خلال ملايين السنين من التطوّر البيولوجي، في أقلِّ من خمسين عام فقط!...
تحقّقَ مع ذلك جزءٌ ملحوظٌ من ذلك المشروع: صار الكمبيوتر يهزم الإنسان في الشطرنج، يُجيدُ لِوحدهِ برهنةَ بعض النظريات في الرياضيات، يُحاكي الذكاء الإنساني في كثيرٍ من التطبيقات الكمبيوترية في أكثر من مجال...
ما زال الباحثون يطمحون اليوم لانجاز ذلك المشروع الاستراتيجي التاريخي وإن احتاج لعقودٍ كثيرة!...
من جانب آخر، تتمحورُ أبحاثُ علوم العصبونات، المُنصبّةُ على كشف خارطة الدماغ وآلياته، في قلب مشاريع علميةٍ أوربيةٍ أمريكيةٍ شرق آسيويةٍ عملاقةٍ عديدة. إهتمامُ الناس بنتائجها وتفاصيلها يزداد يوماً بعد يوم. هناك على سبيل المثال أسبوعٌ كل سنة، في فرنسا، اسمه «أسبوع الدماغ» يمتلئ بالفعاليات العلميّة المفتوحة للناس، لتوضيحِ كلِّ جديدٍ سنويّ يخرج من مختبرات الأبحاث الدماغية وشرحِه. جديدٌ زاخرٌ بشكلٍ خاص لأن العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، الذي شهد تفجُّر اكتشافاتٍ عديدة في هذا المجال وأبحاثٍ طليعيةٍ جديدة، سُمِّيَ في الدول المتطوّرة: «عقد الدماغ»!...
ماذا عن العالم العربي الذي يحتفل منذ زمن ب «قرون نوم الدماغ»؟...
ما أحوجنا، نحن أحفاد من قال قبل ألف عام: «لا إمام سوى العقل»، لأن يخرج هذا الدماغ أخيراً من قمقمه، وأن يترجَّل!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق