الثلاثاء، 29 أبريل 2014

مقابلة معي في مجلة « لها » بمناسبة عيد الكتاب:


مقابلة معي في مجلة « لها » بمناسبة عيد الكتاب:



عندما يقع الإنسان في عشق الورق تُصبح العلاقة بينهما ملتبسة ولا يُمكن أحداً أن يفكّ لغزها إلاّ الإنسان العاشق نفسه الذي يرى في كتبه ثروته الحقيقية... ولأنّ المكتبة هي الركن الذي يُخبّئ فيه القارئ النهم ثرواته الورقية الثمينة، قمنا بزيارة استكشافية لمكتبة أحد «عشاّق الكتب» الخاصّة وجئنا بالاعترافات الآتية...

علاقتي بمكتبتي
علاقة حميمية جدّاً. لحظة خلو يومي بالكتب والموسيقى والنوع نفسه من الصمت والعزلة. لكنها علاقةُ عرفانٍ مطلق، إذ ثمة كتب غيّرت حياتي ونظرتي إلى الوجود. أحتاج إلى الاختلاء بها أحيانا أو البقاء قربها يوميّاً.
أزور مكتبتي
أزور مكتبتي الورقية مرّة كلّ يوم أو نصف يوم. أما مكتبتي الرقمية فهي معي حيث أكون، على «آيبادي» الصغير المرتبط بالشبكة العنكبوتية في كل مكان ولحظة، والمرتبط بالضروة بملايين كتبها ونصوصها الرقمية.
أنواع الكتب المفضلّة لديّ
رواية، كتب علمية، فكر وفلسفة.
كتاب أُعيد قراءته
أكثر من كتاب بالفرنسية، إضافة إلى الإلياذة، ألف ليلة وليلة، رسالة الغفران...
كتاب لا أعيره
كل روايات من أحبُّهم وكل الكتب التي غيّرت رؤيتي للحياة.
كاتب قرأت له أكثر من غيره
فيليب سوليرس، دورميسون، أمين معلوف، باتريك بيسون.
آخر كتاب ضممته إلى مكتبتي
«مراسلات جيني وكارل ماركس». عجيبٌ جدّاً هذا الثنائي المكافح الدي تشرّد كثيراً وتبادل العشق الحقيقي خلال نصف قرن، ولم يتبادل الرسائل الحميمية إلا قليلاً. وكأنَّ كميّة الثرثرة في العشق تتناسب عكسيّاً مع طاقته الثرموديناميكية. 
المثير أيضاً أن كارل كان يوقِّع رسائله الغرامية لجيني بتوقيع «العربي»، كلمة السر بينهما. ربما بسبب لونه الذي يميل قليلاً إلى اللون الأسمر.
كتاب أنصح بقراءته
«هكذا تحدَّث زرادشت»، و«رسالة الغفران»...
كتاب لا أنساه أبداً
كتاب مهم جداً لباسكال بوييه.
بين المكتبة والإنترنت أختار
لم يعد اليوم لهذا السؤال محل حقيقي من الإعراب. لكل مكتبة جانباها الورقي والرقمي. ثمّة تكامل بينهما، لكن لا يُلغي أحدهما الآخر.
ألجأ مثلاً إلى موسوعة ويكيبيديا الرقمية مرات عدة يومياً، فيما صارت موسوعة يونيفرساليس الورقية الضخمة، في مكتبتي، للزينة فقط. لكنني على السرير أفضّل الكتب الورقية...

لحظاتٌ مرموقة للحضورِ الفلسطيني، نادرةٌ جدّاً

لحظاتٌ مرموقة للحضورِ الفلسطيني، نادرةٌ جدّاً
حبيب سروري

ثمّة مفارقةٌ فاقعة للعين المجرّدة: تُمثِّل معاناة الشعب الفلسطيني إحدى أكبر التراجيديّات الإنسانيّة المعاصرة، فيما تحريكُها للرأي العام العالمي وجذبُها لِتضامن المثقفين والمنظمات الاجتماعية والحركات الشعبية ضئيلٌ جدّاً، إن لم يتضاءل هذه الأيّام أكثر فأكثر.

فإذا كان ما يحياه الشعب الفلسطيني من تمييزٍ عنصري، ومن قتلٍ لِشعبه ونهبٍ لأراضيه ومياهه من قبل إسرائيل، يجعلُه في رأس قائمة من يعانون اليوم من وطأة مزيجٍ من الأبارتايد والاستعمار، فالتضامن الدوليّ والإنساني معه أبعد ما يكون عن التضامن الذي عرفته قضايا إنسانية عادلة لشعوبٍ عانت من أشكال متنوِّعة من الأبارتايد والاستعمار.

لدعمِ هذه القضايا خرجت شعوب العالَم في مسيرات تضامنيّة ضخمة، ونظّمت فعاليات فنيّة وثقافيّة واسعة داعمة لقضايا تلك الشعوب المضطهدة، انتهت بانتصارها. من يستطيع أن ينسى التضامن الشعبي العارم في الغرب وفعاليّاته الضخمة لدعم سودِ جنوبِ أفريقيا أو الشعب الفيتنامي أو شعب البوسنة مؤخراً؟

نصيب القضيّة الفلسطينية من ذلك الدعم ضئيلٌ جدّاً. لعلّ لذلك أسباب عدّة تتجاوز حيز وموضوع وإمكانيّات هذا المقال. تستحقُّ جميعها الجدل العميق والصريح جدّاً، لاسيّما الأسباب المرتبطة ببعض أشكال النضال الفلسطيني التي تضعف أو تمنع من التعاطف الدوليّ مع قضيّته العادلة.
أحد الأسباب التي تهمّ مقالي تتعلّق بِضعف الحضور الإعلامي الفلسطيني كمّاً ونوعاً. سأركِّز هنا فقط على شهادةٍ شخصيّة وملاحظات تقييمية عن الحضور الإعلاميّ الفلسطيني، كما أراه في حياتي اليوميّة في فرنسا.

إذا ما سألتُ نفسي متى لمستُ (في السنوات الأخيرة) حضوراً إعلاميّاً شعبيّاً هامّاً للقضيّة الفلسطينيّة في فرنسا، يستحقّ الذكر، فلن أجدَ غير ثلاثة لحظات هامّة.

اللحظة الأولى موعدٌ سنويٌّ يتمّ الحديث عن هذه القضية فيه خلال حوالي نصف ساعة، في ظهيرة ثاني يومِ أحد من شهر سبتمبر من كلِّ عام، خلال "عيد اللومانيتيه" (عيد الإنسانيّة): العيد السنوي لصحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي. تقليد فرنسيٌّ عريق يدوم ثلاثة أيّام. ينعقد في ضواحي باريس، ويحضره بشرٌ من كلِّ أطياف المجتمع الفرنسي (ما يقارب المليون أحياناً)، ومدعوون من كل أنحاء الأرض... يمتلئ العيدُ بِنشاطات ثقافية وسياسية متنوّعة، وندوات تضامنية مع كل القضايا العادلة في العالَم، لاسيّما فلسطين.

في العام الماضي، كان الحديث المباشر في الساحة الكبرى للعيد مع زوجة المناضل والسجين الشهير مروان البرغوثي، أمام عشرات آلاف الحاضرين لحظةً إعلاميّةً قويّةً مؤثّرة. 
الحضور الإعلاميّ الفلسطيني في هذا العيد كان دوماً ملحوظاً، لاسيّما عندما كانت تساهمُ فيه بخطاباتٍ تفاعليّةٍ حيّة في الاحتفال الكبير في ظهر الأحد المناضلة الفلسطينيّة ليلى شهيد، ذات الخطاب الكاريزمي والتأثير الشعبي الملحوظ.

الموعد الثاني الذي كان الحضور الإعلاميّ فيه للقضية الفلسطينيّة مرموقاً جدّاً: مهرجان أفينيون المسرحي في يوليو ٢٠١٣، عند عرض فيلم «هاملت في فلسطين»، للمخرج نيكولا كلوتز، الذي يسرد تفاصيل عرض المدير الفني لمسرح برلين: توماس اوسترمايير (أحد أكبر المخرجين المسرحيٍّين الدوليّين المعاصرين) لِمسرحيته «هاملت» في رام الله العام الماضي، في «مسرح الحريّة» بِمخيّم اللاجيئين في جنين.
«عندما ذهب أوسترمايير لفلسطين لِعرض شكسبير كان يعرف جيّداً أنه سيجدُ له أصداء كبيرة في بلاد شعبٍ يواجههُ يوميّاً هذا السؤالُ الشكسبيريّ المصيري: أن تخضع أو تناضل؟، أن تكون أو لا تكون؟»، كما تقول نبذة تقديم الفيلم...
ليس بدونِ مدلول أن موعدَ العرضِ الأوحدِ للفيلم والحوار مع الجمهور حوله، كان السابعة من مساء ١٤ يوليو، يوم الثورة الفرنسية.

يوثِّق فيلم "هاملت في فلسطين" رحلةً قام بها أوسترمايير لِيعرضَ مسرحيةَ "هاملت" في "مسرح الحريّة" بجنين. إذ تلقّى دعوةً لذلك من صديقه مدير هذا المسرح، جوليانو خميس، لكنه تأخر عن تلبيتها قليلاً. 
أغتيلَ خميس ببشاعة قبيل تلبيتِها، على بعدِ خطوتين من مسرحه!

إذا كان الهدف الرئيس للفيلم معرفة "من قتل جوليانو، ولماذا؟"، فالفيلم أثناء محاولته لتقصّي الحقائق، وأثناء تصويره للمعاناة اليوميّة للفلسطينيين، يثير سؤالاً أوسع من ذلك: من يقتل الفلسطينيين؟...

يحبك أوسترمايير في فيلمه بذكاء تزاوجاً فنيّاً بين تراجيديا هاملت وتراجيديا الشعب الفلسطيني. يستخدم الفن كسلاح لِكشفِ حقيقة مقتل صديقه، عبر توثيق حوارات طويلة مع كل زملائه وأصدقائه والمعنيين باغتياله. يفجّر خلال ذلك تساؤلات صارخة:
"لماذا قُتلَ خميس؟": يبدو من الردّ الضمني للفيلم أن نجاحات مسرح خميس واستقطابها للجمهور الفلسطينيّ ضايقت في نفس الوقت الطغيان الإسرائيلي والتطرف الفلسطيني معاً، لأن خميس أراد انتصار قضيته أخلاقيّاً وإنسانيّاً بالثقافة والفن، لا غير.
"من قتل خميس؟": لعلَّ ردّ أحد أبطال الفيلم، زكريا، يكثِّف الإجابة على هذا السؤال المحوري: "قتلتهُ إسرائيل بأيادٍ فلسطينيّة!".

يلزم الذكر هنا أن مهرجان أفينيون الشهير يحتلُّ معظم شهر يوليو، ويُعتبَر أهمَّ مهرجانٍ ثقافيٍّ دوليٍّ يُعرضُ فيه عددٌ خياليٌّ من المسرحيات والعروض الفنيّة الشيّقة التي تُغطّي كلّ أنواع وأجناس الفنّ المسرحي: أكثر من ١٣٠٠ مسرحية في عام ٢٠١٣. دون الحديث عن أكثر من ٧٠ مسرحيّةٍ دوليّةٍ كبيرة تستحوذ اهتماماً استثنائياً في الغالب. كلّ ذلك في مدينةٍ تاريخيّةٍ دافئةٍ فاتنة، مهيَّئةٍ لاستقبال كلِّ تلك الفعاليّات خلال شهر.
تتناثرُ في ثنايا المهرجان كثيرٌ من النشاطات الفنيّة والمحاضرات والندوات الثقافية ذات التأثير الملحوظ. والتظاهرات الإعلاميّة السياسيّة أيضاً: من لا يتذكّر الصورة التي أُخِذَت بالهيلوكبتر لِحشود الحاضرين في المهرجان، وهي تنبطح كموتى على الأرض، في نفس اللحظة، في ساحة قصر البابوات والشوارع المجاورة، في عام ١٩٩٥، استنكاراً لما كان يعيشه شعبُ البوسنة من ذبحٍ وإبادةٍ جماعية؟

كان الحوار المباشر بين اوسترمايير والمشاهدين حول زيارته لفلسطين مثيراً وغنيّاً جدّاً. تجاوز الساعات الثلاث. أمتلأت خلاله صالة "مسرح الأوبرا" الواسعة، الذي دار بها ذلك الحوار، بالبشر وبالتساؤلات حول يوميّات تجربة أوسترمايير وفريقه الذي سافر لفلسطين بجهودٍ ذاتيّة واجهتها صعوبات جمّة.
برهن أوسترمايير في فيلمه أن الفن والحوار العميق مع الرأي العام، في عصرنا اليوم، أقوى سلاح للنضال السلمي الفعّال ولِكشف الحقائق الخفيّة للملأ. كلّ ما عداه فقاعات وضجيج تضرّ القضية أكثر من أن تنفعها!...

أنتهى الحوار بإعلان تشكيل لجنةٍ لِتقصّي حقيقة مقتل خميس يترأسّها أوسترمايير والمخرج المسرحي الكبير بيتر بروك (الذي أجريتُ معه مقابلةً خلال مهرجان أفينيون نشرتها صحيفة الحياة).

الموعد الثالث كان لحظةً تاريخيّة لن تتكرّر، في ليلة ١٤ يوليو ٢٠٠٨، عيد الثورة الفرنسيّة. 
قبيل وفاته بثلاثة أسابيع (وبعد خمس سنوات من رحيل فلسطينيٍّ عظيم آخر: إدوارد سعيد) ألقى محمود درويش في تلك الليلة، في المسرح القديم بمدينة آرل بجنوب فرنسا، آخر أمسياته الشعرية.
حضورٌ إستثنائيٌّ زاخر في ليلة فريدة، وأمسيةٌ خالدةٌ لا تنسى (حضرتُها مع كلِّ عائلتي).

أراد درويش في تلك الليلة أن يسمعه الناس: "كشاعرٍ من فلسطين، وليس عن فلسطين"، لكن صوت فلسطين كان تلك الليلة في أوج خفقانه وتجليّاته وروعته بفضل هذا الاختيار الفنّي بالذات. لأن الشعر في الأساس "صراعٌ ضدّ العدم والموت"، كما قال هذا الفلسطيني الخالد.
إلقاء درويش الذي صاحبه بالفرنسية الصوت المتأجج البديع للمثل والمخرج ديدييه ساندر، ضمن إخراجٍ فنيّ متميّز في مسرحٍ ميثولوجي، كان لحظةً شعريّة وفنيّة وفلسطينيّة لا تُنسى...

إذا استثنيتُ هذه اللحظات المرموقة للحضور الفلسطيني المتميّز فلا أجد في مذكّرتي لحظات هامّة قُدِّمت قضيةُ الشعب الفلسطيني فيها بهذه المستويات الراقية.

هي قطعاً لحظاتٌ قليلة جدّاً ومحدودة التأثير، بالمقارنة بما تحتاجه قضية فلسطين.
ما أشدّ بعدها، في كلِّ الأحوال، عن تلك التي عرفته قضيّة نضال شعب جنوب أفريقيا عندما توجّه كبار فناني العالم إلى ميدان ملعب ويملبي بلندن، ومعهم مئات الآلاف من الشباب الذين أتوا من كل فجٍّ عميقٍ في أوربا للاحتفال غناءً خلال ١٢ ساعة متواصلة، بِعيد الميلاد السبعين لنيلسون مانديلا وهو في السجن، يُرافقهم أمام الشاشات مئات الملايين من البشر، في نفس اللحظة، من أقصى الأرض إلى أقصاها!
("لعلّ الأبارتايد سقط في تلك الليلة إلى الأبد!"، كما كتبتُ في رسالتي لنيلسون مانديلا في مجلة الدوحة الثقافية).

ثمّ ما أشدّ تضاؤل الحضور الفلسطيني بشكلٍ عام في هذه السنوات المظلمة التي رحل فيها كبار رموز فلسطين كدرويش وإدوارد سعيد، وارتكن الدعم الإعلاميّ لقضية فلسطين على النوايا الحسنة لمناصريها الأجانب من مناضلين تقدميّين في "عيد اللومانيتيه" أو مثقفين كبار، في هذا الحدث الاستثنائي أو ذاك!...

خلاصة القول: ثمّة حاجات ملحّةً قصوى لحضورٍ إعلاميٍّ فلسطينيٍّ كثيف، يستند على الثقافة والفن، يرفض العنف، يدين الطغيان والتطرف، ينتصر للدولة الفلسطينية المغدورة، للسلام بين شعبي فلسطين وإسرائيل، ينتصر للحياة.
حضورٍ كميٍّ ونوعيّ، يحوِّل كل مأساةٍ فرديّةٍ في فلسطين لروايةٍ ومسرحيةٍ وفيلم، تستجوب ضمير كلِّ إنسان في العالم، تصلهُ حيثما كان، بمختلف الوسائل الإعلامية الحديثة، بما فيها الشبكات الاجتماعية.

الجمعة، 4 أبريل 2014

حوار بين سلفيّة وعلماني




حوار بين سلفيّة وعلماني

حبيب سروري

حوار حقيقي، بين علمانيٍّ وأكثر من سلفيٍّةٍ وسلفيّ، إثر منشور على حائطٍ بفيسبوك، أجمعهُ هنا دون فذلكةٍ سرديّة.
أُسمِّي مجموع السلفيّين هنا باسم افتراضي واحد: جهاد عبدالحق، وأسمّي محاورهم العلماني: مشتاق عبدالباري (الردماني).
أشكر جميع المتحاورين. دونهم لم أكن قادراً على تخيُّلِ هذا الحوار.
أضع بين أربعة أقواس أحياناً ما كان يهامسني به سرّاً صديقي العزيز مشتاق عبدالباري، في بعض لحظات هذا الحوار الخالد...


المنشور (على حائط صفحة مشتاق عبدالباري بفيسبوك):
تطوَّرتْ حضارةُ الغرب الحديثة في كلِّ الاتجاهات بعد أن منع القانونُ هناك الدِّينَ من التدخُّلِ بشئون المدرسة والسياسة والحياة العامة (لكنه يحترم الدِّين كلَّ الاحترام كنشاطٍ روحيٍّ للفرد، مجالهُ الفضاءُ الشخصي الخاص فقط).

تعليق جهاد عبدالحق:
وضعُنا في الدول الإسلامية مختلف عن دول النصارى واليهود. نحن لن نُبعِدَ ديننا عن السياسة والتعليم، مهما أراد أعداء الله والإسلام، لأننا وصلنا يوماً بفضله إلى أطراف الصين وجنوب أسبانيا. والعِلم في مجتمعاتنا الإسلامية لم يتطوّر إلا في ظلِّ ديننا فقط.

مشتاق عبدالباري (الردماني)، معلِّقاً:
دينهم أيضا، عزيزتي الأستاذة جهاد، غزا العالَم ويتواجد حتى اليوم من أطراف الأمريكيتين إلى أطراف استراليا، وفي ظلِّهِ (عندما كان مهيمناً على حياتهم) تمَّ ابتكارُ الاختراعات العملية من التلسكوب إلى الكهرباء، فيما لم نصنع في عزِّ حضارتنا أي اختراع عمليٍّ ملحوظ عدا تطوير الإسطرلاب الصيني القديم ربما... 
ورغم ذلك منعوا دينهم اليوم من التدخل بالتعليم والسياسة!
طبعاً نحن أنجبنا فلاسفةً ومفكرين وعظماء كانوا متقدِّمين على العالَم بعدَّة قرون كأبي العلاء المعري (بطل رواية "تقرير الهدهد"، ٤٠٠ صفحة، دار الآداب، للروائي حبيب سروري) لكنا حاربناهم ولم ندرس تراثهم الرائد العظيم حتى اليوم...

جهاد:
لكن الله أعزَّنا نحن فقط بالإسلام، وليس هم!

مشتاق:
باين جداً عزيزتي الأستاذة جهاد!... ألا تلاحظين أننا نتمرّغُ في قعرِ البؤس والتخلف، نتقاتل باسم الدين منذ قرون، نهرول بلا توقّف نحو حضيضِ العالَم، ضجيجُ هزائمنا المتتالية يصمُّ الآذان؟

جهاد:
الخطأ ليس في الإسلام، ولكن فينا نحن المسلمين الذين لا نُطبِّقه!

مشتاق:
بعد هذه القرون من الفشل لا أعرف كيف ستتغيرُ المعادلة أيتها الأستاذة الفاضلة، ولا أدري كيف يمكن استبدالُنا بأمّةٍ جديدةٍ أخرى تقيّةٍ صالحة تفهمُ وتُطبِّقُ ما يريده كهنتنا!...
في منظور هؤلاء: الخطأ ليس في خرافاتهم وتعاليمهم ونواميسهم التي بلَّدتْ العقول ولا تواكب العصر، ولكن فينا نحن البلداء العصاة!... ومع ذلك لا ندرسُ  ولا نعرفُ إلا التاريخ الديني الذي يُلقِّنوننا إيّاه، لا نرى الكونَ والحياةَ إلا من منظورِهم، لا نتعلَّمُ إلا من مقرّراتهم التعليمية. (شريعتهم قوانينٌ يعاقبُ أو يباد من يخالِفها).  خطيئتنا بالنسبة لهم جذريّة كأنّنا خرجنا نحن أيضاً من ضلعٍ أعوج!

((إنتهتْ افتتاحيّة مباراة الشطرنج، عزيزي ح.س. ستبدأ الحرب الآن!))

جهاد (مقاطِعةً مُحاوِرَها بشكلٍ حاف):
أنتَ لا تستوعب شيئاً، وتستخدم كلمات، مثل "الكهنة"، لا محلّ لها من الإعراب في ديننا الحنيف: قبل "قرون الفشل"، كما تقول، كنّا بإرادة الله في مقدمة العالَم بفضل تطبيق تعاليم الإسلام، ونستطيع أن نعود إن شاء عزّ وجل في المقدمة بفضل تطبيق تعاليم الإسلام.

مشتاق:
عزيزتي: لعلّنا نُشبِهُ، ونحن نتحدَّثُ عن الزمن الذي كنّا خلاله في مقدِّمةِ العالَم، حيواناً من فصيلة الزواحف لم يستطِع مغادرة الكهف (لأنه لا يمتلك أجنحةَ وزعانفَ الحداثة)، لكنه لا يملّ من تذكير مجدِه السحيق لِديناصورٍ طائرٍ يهيمن اليوم على الأرض والبحر والسماء، قائلاً: "تيرارام! تيرارام! عندما كنتَ زاحفاً تسكنُ الكهف مثلي، كنتُ أقوى منك!".
صحيحٌ أنّا كنّا بالفعل في مقدمة العالَم في العصور الوسطى (الأمويّة والعباسيّة)، ولو توقّفَ الزمنُ في تلك الأيّام لكنّا دوماً أسياده.
مشكلتُنا الرئيسة: الزمن لا يتوقّف، وعقارب الوقت تلسعُ من لا يتزامن مع حركة العصر:
مرّتْ، عزيزتي، عدّةُ قرونٍ (منذ تلسكوب جاليلو، ثمَّ قرن الأنوار وعصر الحداثة) اختلفت خلالها ماهيّة العقليّة التي تستطيع اليوم أن تسودَ العصر. فيما لم تتغيّر عقليتنا.
بقينا زواحف كما كنّا، فيما زاحف الغرب، الذي كان أضعفَ منّا بالفعل، اكتسب زعانف وأجنحة مارد، وسيطر على الكون.
زعانفُه وأجنحتُه: التحرّر من وصاية وسلطة المسلّمات غير العلميّة.
عزيزتي: ثمّة قطيعة بين منهج إنتاج المعارف اليوم ومنهج انتاجها في الأزمنة الغابرةِ التي لم نستطع مغادرتها.
أجنحة وزعانف منهجِ اليوم:
 البرهان العلمي الذي لا يأخذ بالاعتبار أيّة مسلمّة غيبيّة؛
التجربة الملموسة؛
الشك والتساؤل الذي لا يعترف بأيّة خطوطٍ دينيّةٍ حمراء؛
الفصل بين التاريخ الديني والتاريخ العلمي، بين المسلمات الدينية والحقائق العلميّة، وعدم الاعتراف بالأولى (ابتداءً من خلقِ العالَم في ستة أيام، حواء التي خرجَتْ من ضلع أعوج، التفاحة، الطرد من الجنة...) كما لو كانت حقائق علمية، ولكن حقائق دينية. (للعِلم الحديث رؤىً وحقائق أخرى معاكسةٌ تماماً لهذه المعتقدات العتيقة)؛

جهاد (مستفَزَّة ومتنرفِزة جدّاً):
إنتبه يا هذا: أنت تطعنُ في ديننا، في يقيننا، في منهج حياتنا... استغفرْ الله على هذا الشطط والكفر. سأدعو لك بالهداية!

مشتاق:
عفواً عزيزتي الأستاذة جهاد: أتكلّمُ معكِ بِلغة الرياضيات، وتردّي عليّ بلغة التشكيك والتكفير. أنتظرُ أن نعود للجدل بالحجج وبالمنطق...

((لم تُعلِّق... لعلّها حاولت أن تهدئَ نفسها بأعجوبة. تعرفُ بالطبع أن ثمّة آلاف من متابعيها يقرأون وسيقرأون كلَّ حرفٍ من هذا الحوار الذي تهافتتْ على بعض تعليقاتها خلاله مئات "اللايكات" الفيسبوكية من قطيعها والمعجبين بها، فيما لم ينحطّ على أيّ تعليقٍ لي خلاله أكثر من سبعة لايكات فقط، من سبعة علمانيين خجولين، يختفون هم أيضاً وراء هويّات تنكريّة، أسمّيهم: "السبعة الكرام البررة"!...
توقّعتُ أنّ جهاد لن تواصل الحوار بعد التعليق الأخير، لكنها عادت بلُغةٍ واستراتيجيّةٍ شطرنجيّةٍ هجوميّةٍ شرسة!))

جهاد:
تعلّمْ دينك أوّلاً قبل أن تناقش أيها الغبي! دِينُنا يقبل الشك والتساؤل. تجهلُهُ أنت يا ردماني تماماً، ولا تخجل من النقاش فيه....
خذْ مثلاً قصصَ النبي إبراهيم عليه السلام وغيرها التي استخدَمَتْ منهج الشك. على سبيل المثال: عندما كان سيدنا إبراهيم يرى النجوم ويقول: "هذا ربي"، قبل أن يصل إلى الحقيقة واليقين بوجود الله عزّ وجلّ جلاله...

((بدأ يحلو النقاش، عزيزي ح.س، واحتدمتْ المباراة. راجتْ تجارةُ هؤلاء كما تعرف لأنهم أمّموا التاريخَ وصاغوه كما يحبّون. لن يمرّوا!...))

مشتاق:
لا نتحدثُ هنا عن نفسِ الشك، عزيزتي الأستاذة القديرة جهاد. الشكُّ العلمي شيءٌ آخر. لا يقبل بأية مسلمات غيبية. على سبيل المثال: شخصية سيّدنا إبراهيم نفسه، مثله مثل سيّدنا موسى، ليست شخصيات تاريخية من وجهة نظر العِلم، لأنه لا يوجد دليلٌ علميٌّ واحدٌ على تاريخيّتهما، غير ذكرِهما في التوراة التي نزَلَت، حسب التاريخ الديني، أكثر من ١٢ قرناً قبل الميلاد، في جبل سيناء، بالألواح المكتوبة بيدِ إلهِ بني إسرائيل على النبي موسى مباشرة... 
لكن التاريخ العلمي الذي يستخدم تحليلات مخبريّة، بالكربون ١٤، لِتَاريخيّةِ الأوراقِ والحجارة، ومناهجَ حديثة لِتحليل تاريخ الكلمات وأصول النصوص، يقول (بعد قرنين من الأبحاث العلميّة) إنها (أي: التوراة) أُلِّفتْ من أكثر من 60 كاتباً (أهمُّهم الراهب أسدراس الذي كان على رأس الرهبان اليهود الذين عاشوا في بابل أثناء الهجرة والشتات)، بِلغاتٍ مختلفة، انطلاقاً من تراثٍ يهوديٍّ كهنوتيٍّ قديم، وشفطاً من نصوصِ حضارات ومعتقدات أخرى سابقة، في فترةٍ تواصلت بين القرن السابع والرابع قبل الميلاد. تمتلئ غالباً بخرافات لا يعترفُ بها العِلم، كحرب موسى وفرعون وغيرها من القصص الغرائبية التي لا أساس لها من الصحّة.
هل تقبلين بهذا الشكّ العِلمي؟...

جهاد (بدأتْ تفقدُ أعصابَها وتلجأُ لِمناوشات ما قبل التفجيرات الإنتحارية على قطعة ملِك الشطرنج):
أوّلاً: هل أنت مؤمن بالله يا من اسم أبيك: عبدالباري؟ اعترفْ أوّلاً: هل أنت مسلم؟

((دوّيتُ بيني وبيني، عزيزي ح.س:
= "واااااااو!"، تعليقٌ باهرٌ في عمقِهِ الفكري ومستوى حوارِهِ الرفيع! نالت ٩٧١ "لايك" عليه. لعلّهُ آخر زأراتِ الأسدِ قبل الهجومِ النهائي!))

مشتاق (الذي ألِف هذا الهجوم في حواراته اليوميّة مع قطيعها):
سؤال فلكولوري ينتمي إلى بلاغة القرون الوسطى!... نحن في عصر "حرية الضمير" (أي: حرّية أن تؤمن أو لا تؤمن بِدِين، وأن تغيّر معتقداتك كما تحب). الاعتقاد أو عدمه يمسّ الفضاء الشخصي الخاص. نحن هنا على فيسبوك في فضاءٍ عام، نتكلَّمُ فيه عن قضايا تمسُّ الفضاء العام.
سؤالكِ، عزيزتي جهاد، يشبه: "ما هو فصيلة دمك؟": سؤالٌ شخصيٌّ بحت لا محلَّ له من الإعراب في الفضاءات المدنيّة العامّة.

جهاد:
ويحكَ يا هذا، لا أملَ فيك. تريدنا أن نشكَّ في عقيدتنا فيما هي شاملةٌ كاملةٌ ثابتة، منذ قال تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي".

((وصلَ النقاشُ ذروتَهُ عزيزي ح.س، واقتربَ أحدُنا من "شيك مات"...
لهؤلاء، كما تعرف أكثر مني، علاقةُ عداءٍ جذريٍّ مع مفهوم الزمن. "لو كان الزمنُ رَجُلاً لَقتلوه". لعلّهم ملقّحون ضده، مثلهم مثل المجانين بيولوجيّاً. هذه إذن فرصتي الكبرى: وضعُ الكتكوتة جهاد وجهاً لِوجه مع البعد الرابع، الزمن. أليس كذلك؟))

مشتاق (مقاطِعاً، وناسخاً من أحد مقالاته بعض العبارات والأمثلة الجاهزة، لِيفتحَ لِجهاد ألف جبهةٍ هجوميّةٍ "زمنيّة" على قطعةِ ملِكها العاري، قبل أن تأخذَ زمامَ الطعن بالسلاح الأبيض. يشعرُ أيضاً أنه يقترب من نهاية هذا الحوار الشهير الذي تابعه عددٌ كبير من المفسبكين):
يكمن جذر مأساتنا، عزيزتي الأستاذة جهاد، في تفسيركِ لِلآية بهذه الطريقة. لم نعد نتقدّمُ، بكلِّ أمانة، بسبب هذا التفسير.
سأشرح نفسي بمثال: موقف الإسلام من العبودية.
الإسلام لم يحرِّمها كما حرم أكل الخنزير، لكنه حثّ على عتق رقبة العبد.
كان ذلك رائعاً ومتقدِّماً على عصرهِ في القرن السادس ميلادي، قرن الرسول العظيم. لكننا لم نتقدّم أخلاقيا بعد ذلك:
لم يوجد مفكِّرٌ أو حاكمٌ أو فقيهٌ طالبَ بِتشريعِ إلغاء العبودية في مجتمعاتنا التي أزدهرَ فيها عدم المساواة وامتلأت بالعبيد والجواري، منذ ذلك الوقت وحتّى ألزَمَنا ميثاقُ حقوق الإنسان، الذي فرضهُ الغرب في ١٩٤٨ عبر الأُمم المتّحدة، بعد أن ألغى العبودية في دِيارِه، ابتداءً من القرن الثامن عشر، قرن التنوير!...
لا أظنُّ أن ذلك يمنعكِ من النوم، أنتِ الغيورة على دِينِك. فيما يؤرقني فعلاً أنّهُ لم يوجد مسلمٌ واحدٌ طالب بإلغاء العبوديّة خلال ١٤ قرناً، بحجّةِ أن الشريعة اكتملتْ ولا يلزم تغييرها!...

ألاحظُ من حوارنا، عزيزتي الفاضلة، أنكِ ترفضين الاعتراف بأن العالَمَ تغيّر خلال هذه القرون. إليكِ مثالٌ سيساعدك على استيعاب أهميّة إدراك ذلك:
لو وُجِدَتْ "منظمة القاعدة" (بأفكارها ونظرياتها الجهادية وسياستها الحالية، ونظامها الطالباني) قبل ١٤ قرناً، لكانت في قمّة الحضارة الإنسانية حينذاك. ولكان قادتُها أشبهَ بِكبار الصحابة أو بعض الخلفاء الراشدين
لكنها من منظور عصر "حقوق الإنسان"، منظمةٌ إرهابية أنجبتْ نظاماً نموذجيّاً في صناعة الجهلِ والتخلفِ والدمار: طالبان. وليس لقادَتِها موقعٌ في عالمنا اليوم غير موقع القتلة والمجرمين.

جهاد (مقاطعة، بعد أن فقدت أعصابها أمام هذه العبارات التي سقطتْ على جمجمتِها دفعةً واحدة، كجلمود صخرٍ حطّهُ السيل من علّ... شيءٌ طبيعي: مفهوم الزمن لا يدخل في أدمغة السلفيّين، لا يطيقونه. يخرجون سلاحَهم الأبيض عند سماعِه.):
أنت كافر، ملحد، عدوُّ الله!... ما رأيكم يا شباب؟

مشتاق (استُفِزَّ وتنرفزَ بعدما أخرجتْ سلاحها الثقيل: "عدوُّ لله"، ولجأت لِقطيعها الفيسبوكي لِيدخلَ على خطِّ لعبة شطرنجٍ ثنائيّة خالصة، بعبارة: "ما رأيكم يا شباب؟"):
فعلاً، أنا في عداءٍ يوميٍّ مع إله تنظيم القاعدة والظلاميين!
أما إله الحلاج وابن عربي وأبي العلاء المعري، فأعشقهُ عشقاً...
اخبريني لو سمحتِ، أيّتها العزيزة جدّاً: عن أيِّ إلهٍ منهما تتحدّثين؟...

((عزيزي ح.س:
"ما رأيكم يا شباب؟" التي لجأت لها جهاد عبدالحق أطلقت من لجامها عشرات الأصوات التكفيرية العنيفة:


تعليقاتٌ وفتاوى متطرِّفة هجمتْ على صفحتي بعبارات نابية، وبذاءة مقزِّزةٍ أحياناً، قبل أن تُغلِقَ إدارة فيسبوك صفحتي بشكلٍ نهائيٍّ هذه المرّة، وقبل أن أفتح صفحةً جديدةً باسم مستعارٍ جديد...))