الثلاثاء، 31 مايو 2011

الثوراتُ العربية وسقوطُ نظريةِ صراع الحضارات


الثوراتُ العربية وسقوطُ نظريةِ صراع الحضارات

لكلمتَي «الشعب يريد» ما يُشبِهُ مفعولَ صيغةِ «افتح يا سمسم» السحريّة: ما إن صدحتْ بهما حناجر ساحات وشوارع الثورة العربية، منذ بضعة أشهر، حتى سقطت ديكتاتوريتان عاتيتان، تَلتْهما ثلاثٌ على وشك السقوط، ستلحقُها أُخَر... رافقت كلُّ ذلك تداعياتٌ وتغيّراتٌ تأخذُ اليوم بُعداً كونيّاً يتجاوزُ بقاع العرب والمسلمين.

بفضلهما مثلاً سقطت كقصورٍ من ورق إكليشاتُ نظريات «صراع الحضارات»: طأطأ رأسَهُ من روّجَ أن لِشعوبِ العرب هويّةٌ ثقافيّةٌ ملقّحةٌ ضد إرادة الديمقراطية وحب الحريّة، مفعمةٌ بِعشق الجلّاد، مجبولةٌ على حكمٍ استبداديٍّ متأبّدٍ عتيقٍ، يجيد الاحتماء بالدين، لا يتناغم مع الحضارة الإنسانية الحديثة المؤسسة على مبادئ حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.

عندما يرى المراقب أن الشعوب العربية تصنع اليوم كتائبَ من شبابٍ يواجهُ بصدورٍ عارية، وبشجاعةٍ ملحميّة نادرة، رصاصَ الطغاة وقنابل بلاطجتهم، مُقدِّماً نفسَه أضحيةً لآلهةِ الحريّة والكرامة وحقوق الإنسان، يشعرُ ذلك المراقب بالإحراج إذا كان قد روّج قبلها للقول بإن حضارات العرب والمسلمين لا تجيد إلا صناعة إنتحاريين يُفجرّون أنفسهم وسط كتل الأبرياء في الحافلات وناطحات السحاب الآمنة...
تزداد وطأةُ ذلك الإحراج عندما يرى ذلك المراقب أن شباب الديموقراطيات العربية الناشئة في تونس ومصر باتوا يبدعون صيغاً جديدةً لتطوير الديمقراطية وصيانة الثورة، يوجِّهون يوميّاً إيقاع سيرورة الحياة المدنيّة والسياسية، يمنعون انغلاق الحكام في أبراجهم العاجية واكتفاءهم بإدارة لعبة الاستفتاءات والانتخابات الدورية... لعلّ كثيرين من مواطني الديموقراطيات الغربية «الشائخة» يعضون شفاههم هذه الأيام غِيرةً من حيويّةِ إنجازاتِ هذا الشباب العربي الجديد، وهم يلاحظون أن إضراباتهم النقابية الطويلة ومسيراتهم اليومية الرافضة لم تعد تؤدي إلى إسقاط هذا القرار أو ذاك، أو إلى التأثير على مسار هذه الأزمة المالية أو تلك...

ناهيك أن ذلك المراقب يفقد آخر أوراقه وهو يرى هذه الثورات العربية ترفع اليوم جليّاً في مقدمة أهدافها شعارَ «الدولة المدنية الحديثة»، بعد أن برهن الثائرون على سلوكهم المدنيّ الراقي وجسّدوه يوميّاً في ساحات اعتصاماتهم الحضارية التي تستلهمُ روحَها من تقاليد يوميات «ساحة التحرير» في القاهرة.
تُمثِّلُ هذه الساحات، كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، كومونات مدنيّة راقية (صحيفة اللوموند، 19 فبراير 2011). يبرهن الشباب فيها أن الموقف المتحجّر من المرأة، وكلّ اعتداءات اللاتسامح الدينيّ والعنف الطائفي (التي يُقدِّمها البعض كهُويّةٍ ثقافيةٍ ثابتة تبرِّرُ نظرية صراع الحضارات) تختفي فجأة عندما تغيب أجهزة أمن النظام القمعي، كما هو الحال في «الكومونات» أو المدن «المحرّرة» من سلطة النظام القمعي. يبدو جليّاً حينها أن أجهزة النظام هي من تُدبّر تلك الاعتداءات في الغالب، لِتكريس تناحر الناس والتفريق بينهم بما يضمن لها الديمومة والسيادة.
من لم تدمع عيناه أثناء أداء المسيحيين والمسلمين قدّاسهم وصلاتهم جنباً إلى جنب، أو عند رؤية الشباب المسيحي المصري يحرس صلوات الشباب المصري المسلم في ساحة التحرير؟...
من لم تهتزّ جوانحه وهو يرى الشبابَ اليمني في ساحات الحرية والتغيير يشيّد كرنفالات مدنيّة يتعلّم فيها منذ 3 أشهر ممارسة ثقافة الاختلاط والحوار، أرقى الفنون والطقوس والأخلاق المدنيّة،  تاركاً سلاحَهُ في المنزل ونزاعاته الطائفية لأحلام الحاكم، مواجهاً رصاص قناصة وبلاطجة الطاغية بصرخات: «سلمية، سلميّة!»؟...
الأكثر إثارةً هو أن بذور هذه الثقافة المدنيّة الجديدة أرعبت الرئيس اليمني الذي قضّى ثلث قرنٍ يُكرِّس ويصون ثقافةً متخلِّفةً مضادّة، لدرجة أنه قال في خطابه المقتضب في 15 ابريل 2011 إن الاختلاط في ساحات الثورة «يحرِّمهُ الشرع»، متحوّلاً إلى فقيهٍ طالبانيٍّ يُزايد على كبار السلفيّين اليمنيين التقليديين الذين لم يقولوا كلمةً حول ذلك الاختلاط!...

إذا كانت استعارةُ «الشعب يريد» تلخِّصُ فعلاً جوهرَ معالمِ الحضارة الإنسانية الحديثة (منذ الثورة الفرنسية التي أسّستْ مداميك هذه الحضارة، حتّى ثورات شرق أوربا في 1989، مروراً بربيع ثورات الشعوب الأوربية في 1848)، فلعلَّ هذه الاستعارة لم تدوِّ بهذا الجلاء والقوّة كما هو الحال اليوم في بلدان العرب.
لعلّ عذرَ من اعتنق نظرية صراع الحضارات يكمن في أن أحداً لم يتوقّع أن تخرج هاتان الكلمتان من قمقم بلاد العرب التي راوحت منذ قرون في ما يشبه «النقطة الثابتة»، معيدةً صناعة واقعها الاستبدادي وتخلفها السحيق، جيلاً بعد جيل.
فلقد كانت الثقافة العربية قبل هذه الثورات أسيرةَ مبدأ «الحاكم يريد»، «الله يريد» (التي تبدأ بها أكثر من آيةٍ قرآنية). أما الشعب فهو «يطيع وليّ الأمر»، يصبرُ، يصبر... يصبرُ على ذمّة أغنية: «دولة الظلم ساعة، ودولة الحق حتى قيام الساعة» ذات الإيقاع الرتيب الخانع...

نعم، لم يستشرف أحدٌ إمكانية ظهور طفرةٍ في سلوك الشعوب العربية تؤدي إلى انهيارِ جدار الخوف من الطاغية والبحثِ عن حياةٍ أخرى. لسنا هنا بصدد تفسير ذلك. لكننا بصدد إجلاء البعد الميتافيزيقي والمدنيّ لاستعارة «الشعب يريد» في سياقها الثقافي العربي...

عندما يقول الشعب الحاضر، بضمير الغائب: «الشعب يريد»، فثمّة بلاغةٌ جبّارة تجعل هذا الشعب الحاضر يمتلك قوّة الإله الغائب، وكأنه يقول ضمنيّاً: «ما يريده الشعب يريده الله»!... تنطبق بعد ذلك على الشعب كل الصفات الميتافيزيقية التي صُمّمت للآلهة: «لا حاكم إلا الشعب»، «لا عاصم إلا الشعب»...

ربما لذلك يتضايقُ السلفيّون في قرارات أنفسهم من قوّة هاتين الكلمتين. ولذلك حاول بعضهم في مسيرات الثورة اليمنية تسريبَ بديلٍ لهما أحياناً: «يا الله، يا الله، اسقط علي عبدالله!» التي لا تختلفُ في الجوهر على شعار مناصري رئيس اليمن وهم يرددون مقابل مبالغ يومية: «يا الله، يا الله، احفظ علي عبدالله!»...

الجميل هنا أن هذا البُعدَ الميتافيزيقيَّ لاستعارة «الشعب يريد» يرفدُ بقوّة بُعدَها المدنيَّ الذي ينطوي على منحِ السلطة للشعب دون وصايةٍ أو وسيط!...
لعل اندماج التيارات الإسلامية التقليدية (حزب النهضة التونسي، الإخوان المسلمين المصري، الإصلاح اليمني...) في أتون هذا المشروع المدنيّ هو ما يوجّه الضربة القاضية لمروجيّ نظرية صراع الحضارات.
فمن الملفت جدّاً التفاعلُ الايجابيُّ لقطاعٍ عريضٍ من أعضاء هذه التيارات الإسلامية مع حركة الثورات العربية. فمنذ أن تخلّصت هذه التيارات من معظم عناصرها المتطرفة التي غادرت بلدانها للاندماج في الحركات الجهادية الإرهابية، وبعد أن أفلس الخطابُ السلفيُّ المتطرفُ ودعواتُه للحفاظ على هويّةٍ ثقافيةٍ لا تضمنُ إلا إعادة إنتاج الاستبداد والتخلف، لاسيما في أوساط الأجيال الشبابية الجديدة المنفتحة على التكنولوجيا الحديثة ولغة العصر الحديث، صارت التيارات الإسلامية عنصراً مهيئاً لِرفد حركة الثورات العربية.
احتاجت الأوساط الثقافية الغربية التي لم تستوعب ذلك، لاسيما المتأثِّرة بمفعول نظرية صراع الحضارات وعقدة 11 سبتمبر، لبضعةِ أسابيع من الارتباك قبل أن تعترف بأن هذه الثورات العربية تختلف عن الثورة الإسلامية الإيرانية، وقبل الإقرار النهائي بأنها «ثورات شعبية»، لا علاقة لها بخطاب آيات الله أو فقهاء الإسلام السياسي، يحرّكها شبابٌ مدنيٌّ منفتحٌ على الحضارة الإنسانية وقيم الحرية والكرامة والديمقراطية.

ذلك ما دعى المفكّر الفرنسي اوليفيه رُوْي التأكيد على أن هذه الثورات العربية ثورات «ما بعد إسلامية» (صحيفة اللوموند، 14 فبراير 2011). وذلك ما جعل كلمة «تحرير»، نسبة لساحة القاهرة، تدخل القاموس الإنساني من أقدس أبوابه!...

يكفي على سبيل المثال ملاحظةُ الدور المتميّز الذي يلعبه كثيرٌ من شباب حزب الإصلاح في الثورة الشبابية اليمنية، لاسيما توكّل كرمان ذات الخطاب المدنيّ الذي يتناغم تماماً مع الخطاب المدني للثائرات اليمنيات المدنيّات في طليعة حركة هذه الثورة مثل أروى عبده عثمان، بشرى المقطري، سامية الأغبري، وهدى العطاس على سبيل المثال لا الحصر.
غير أن التطور الأكثر عمقاً يبدو جلياً في تجربة حزب النهضة التونسي الذي يعيش جدلاً يفرزُ أكثر فأكثر خطاباً مدنيّاً (صحيفة اللوموند، 11 ابريل 2011) يوشك أحياناً أن يتجاوز خطاب بعض الأحزاب العربية ذات التاريخ المدنيّ!...

لعله لا يمكن بعدُ التأكيدُ على أن التيار الإسلامي قد تغيّرَ وتمدّنَ تماماً في معمعان هذه الثورات العربية لدرجةٍ لن تجعلهُ يعيق بناء النظام المدني المنشود. فما زالت بعض الكتل الظلامية في حزب الإصلاح اليمني، على سبيل المثال، تُمثِّلُ خطراً حقيقيّاً على مستقبل مَدنيّة الثورة اليمنية.
لن يضمحلَّ هذا الخطرُ إلا بنبذ الخطاب الظلاميّ لهذه القيادات، وإعادة صياغة مؤسساتها، مثل «جامعة الإيمان» السلفيّة التي لا محلّ لها من الإعراب في الدولة اليمنية الجديدة إلا إذا تحوّلت إلى جامعةٍ مدنيّةٍ حديثة.

أودّ في الختام أن استشهد بعبارة كامو الشهيرة: «القرن الواحد والعشرين سيكون دينيّاً أو لا يكون!» التي ترى حضارتنا الإنسانية، بكل تنوعاتها وأطيافها، واحدةً إحدى في هذا القرن...
لعله اليوم في الطريق لأن يكون فعلاً قرناً مَدنيّاً في كلِّ أرجاءِ كوكبنا الأزرق!...

السبت، 14 مايو 2011

لنفصل الدين عن مدرسة الدولة المدنية!

لنفصل الدين عن مدرسة الدولة المدنية!
يزداد الحديث اليوم عن مفهوم الدولة المدنية التي تنشدها الثورات العربية. غير أن هذا المفهوم لم يتم تحديده بدقة حتى الآن.
نعرف جميعاً ما يعني مفهوم الدولة الدينية: المثل الأكبر على ذلك المملكة السعودية.
نعرف أيضاً ما يعني مفهوم الدولة العلمانية: المثل الأكبر على ذلك فرنسا، وإلى حدٍّ كبير بقية دول أوربا من فرنسا إلى تركيا، وعدد آخر من الدول المتطورة.
ربما يلزم أن أعطي تعريفاً أدق لمفهوم الدولة العلمانية دون الاكتفاء بالأمثلة.
الدولة العلمانية دولةٌ تحترم حريّة الضمير والاعتقاد: الإيمان أو عدم الإيمان فيها بدين أو عقيدة لا يُهمّ إلا المؤمن أو الملحد وحده.
القانون فيها لا ينطلق من أي شريعةٍ سماوية أو عقيدةٍ إيديولوجية، لا يُميز بين الناس انطلاقا من عقائدهم ودياناتهم. يتساوى أمامه الجميع بغضِّ النظر عن جنسهم، عرقهم، لونهم، عقيدتهم، ديانتهم أو إلحادهم...
الدين في الدولة العلمانية مفصولٌ عن الدولة: تمّ البدء بذلك الفصل، في فرنسا، في عام 1871. ألغيت حينها ميزانية دعم العبادات، وتحوّلت الكنائس إلى ملكية للدولة، شأنها شأن المتاحف. يزورها من يحب من البشر، بغض النظر عن هويّته، للتمتع برؤيتها كتراثٍ معماري، أو لسماع الموسيقى، أو للعبادة إذا أحب!... كلّ ما يحتاجه المتدينون، لممارسة عباداتهم في الدولة العلمانية، يتم تمويله من قبلهم فقط. لا يحق للدولة دعم ذلك...
لكن الدولة العلمانية تحترم كل الأديان، وإن لا تعترف بها في الجوهر. لم يكن الإتحاد السوفيتي في عصر ستالين، على سبيل المثال، دولة علمانية، لأنه أغلق الكنائس وضايق الأرثوذيكسيين في عباداتهم...
المدرسة في الدولة العلمانية لا تعترف بأي دينٍ كان. أُقِرَّ ذلك، في فرنسا على سبيل المثال، بقانونٍ شهير في 1905، سُحِبتْ إثرهُ كل صور المسيح وكتب التوراة والأيقونات الدينية من المدارس.
الأهم هنا هو أن الدّين لا يُدرَّس في مدرسة الدولة العلمانية لأنها لا تعترف به في الجوهر. مبدأها أن التعليم الحقيقي لا يمكنه إلا أن يكون علمانيا، لأن الأديان تتطلب اليقين والإيمان المسبق بكلّ خطابها وتفسيرها للوجود والحياة، فيما منهج العِلم معاكسٌ لذلك تماما: يرفضُ العِلمُ اليقينَ المسبقَ بأي خطاب. يتكئ على مبدأ البرهان العلمي لا غير. يتطوّر ويتجاوز نفسه يوماً بعد يوم.
المدرسة العلمانية لا تعترف، على سبيل المثال، بنظرية الخلق الدينية (قصة حواء التي خرجت من كتف آدم، التفاحة، الحيّة، الهبوط من السماء للأرض كعقوبة على هذه الخطيئة... وكل التاريخ الديني الذي تقدمه الكتب السماوية). لا تدرَّسُ فيها إلا النظرية العلميّة التي تفسر نشوء الحياة على الأرض: نظرية النشوء والارتقاء...
حاول التعيس جورج بوش (مدعوماً ب «الخلقيين» في أمريكا: منظمةٌ يدعمها اليمين المتطرف والظلاميون) السماح، في بعض الولايات الأمريكية، بتدريس نظرية الخلق الدينية بجانب النظرية العلمية. أثار ذلك حينها رفضا وصراعاً كبيرا بين الخلقيين من ناحية، والعلماء والتربويين من ناحية أخرى...
انتهى كل ذلك الآن، لاسيما بعد انتخاب أوباما الذي أعاد المياه إلى مجاريها مكرّراً أن نظرية الخلق الدينية ليست علمية، ولا يُسمح لذلك تدريسُها في مدارس أمريكا...
باختصارٍ شديد، الدولة العلمانية دولة الحريّة والقانون المدنيّ والمساواة والعلم الحديث. لكن ماذا تعني الدولة المدنية؟
إذا كانت تعني الدولة العلمانية فذلك جليٌّ رائع في نظري، أما إذا كان لها تعريفٌ آخر، فيلزم تحديده بدقّة.
لأن هذه الدقة تنقص في كثيرٍ من التعريفات التي تصاغ اليوم، في صحفنا العربية، لمفهوم «الدولة المدنية». ثمّة اتفاقٌ فيها على أن الدولة المدنية «تحقق جملة من المطالب المتعلقة بالمواطنة المتساوية، وبالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وتحديث التعليم وتطويره وغيرها من المطالب المتصلة بحاجة الشعوب العربية إلى التطور والتنمية»، لكن هذه التعريفات لا تميل غالباً للتحديد الدقيق لعلاقة الدين بالدولة المدنية.
أفهم تماماً أن واقعنا العربي وسياقه التاريخي يختلف عن واقع وسياق تاريخ الغرب، وأن استيراد مفهوم الدولة العلمانية بصيغته الغربية لا يناسب واقعنا العربي الراهن.
لا يضايقني قط شخصيّاً أن تدعم الدولُ المدنية المنشودة لثوراتنا ميزانيات المساجد والكنائس ومعابد اليهود وبقية العبادات، وتهتم بها كلّ الاهتمام. لكني أعتقد أن إنجازاً تاريخياً عظيماً لثوراتنا العربية سيتحقق إذا ما فصلَتْ الدين عن المدرسة على الأقل.
اعترف أن بقاء تدريس الدين في المدرسة، كما كان عليه قبل هذه الثورات العربية الظافرة، لن يمنع التعليم العربي من تخريج أطباء ومهندسين وفنيّين يجيدون استخدام ما أنتجته الحضارة الغربية.
لكن ما أتمناه لواقعنا العربي هو أعظم من ذلك بما لا حدّ له. أريده أن لا يكون مستخدِماً لحضارة الغرب وحسب، بل مساهماً، شأنه شأنها، في صناعة الحضارة الإنسانية.
لن يتم ذلك إلا عندما يكتسب الطالبُ، بفضل مدرسة الدولة المدنية، العقليةَ العلميةَ الماديّةَ المبنيةَ على التساؤل والرفض والنقد والبرهان.
الدينُ عائقٌ طبيعيٌّ أمام اكتساب هذه العقلية، لأنه يؤسس عقليّةً غيبيّةً معاكسةً لها تماماً. ناهيك أنه يلجأ أحياناً لاستخدام المفاهيم الميتافيزيقية المشوِّشة، مثل مفهوم «الإعجاز العلمي في الكتب السماوية»، التي تحوِّل بوصلة العقليّة العلميّة 180 درجة في الاتجاه المعاكس...
باختصارٍ شديد: لتدعم دولتنا المدنيّة المنشودة المعابد الدينية ما شاءت، لكن ليكن تعليمُ مدرستنا الجديدة، على الأقل، علمانيا خالصاً. لأن التعليم الذي يصنعُ الحضارة لا يمكنه إلا أن يكون علمانياً خالصاً!...

أضواء على مباراة شطرنج بين صالح وشعب اليمن

أضواء على مباراة شطرنج بين صالح وشعب اليمن

ثمّة مفارقة يكررها الكثيرون: تبدو ثورة اليمن أعمق وأنضج الثورات العربية حتى الآن، في بلدٍ يوشك على الانهيار، رئيسه أضعف حلقات قادة العرب... فيما لم يسقط نظام الرئيس صالح حتى اللحظة!

ثمة في الحقيقة طلاسم يلزم فكّها لفهمِ خصوصيات الثورة اليمنية وتعقيداتها، وإجلاءِ خطأ هذه المفارقة.

صحيحٌ أن نظام صالح، بخلاف بقية أنظمة العرب، فشل جذريّاً وعلى كل الأصعدة: تمكّن صالح بنجاحٍ مذهل من أن يكون مهندسَ تدميرِ اليمن في كل المجالات: التنمية، التعليم، السياحة، الثقافة، المدنيّة، الأمن، الخدمات الكهربائية والمائية... لتصير اليمن «بفضلهِ» على شفير الانهيار والصوملة.

وصحيحٌ أن اليمنيين يهندسون اليوم أروع وأعظم الثورات العربية. أثبتوا أنهم يمتلكون إرادةً خارقةً صارت مضرب الأمثال: أكثر من ثلاثة أشهر من الإعتصامات والمسيرات المتصاعدة، التي لم تقتصر على بعض المدن الكبرى (مثل حالتي مصر وتونس)، بل شملت كل مدن اليمن وقراها من جزيرة سوقطرة حتى أطراف صعدة.

ليس ذلك فحسب، لكنهم ثاروا قبل كل ذلك على أنفسهم، صانعين ثورات اجتماعية وثقافية داخل ثورتهم السلميّة المذهلة: خرجت المرأة التي كانت أشبه بشمّاعةٍ منزليّةٍ في الغالب، لتحتلّ اليوم قلب الساحات إن لم تكن جذوتها أحيانا. ترك اليمنيّون أسلحتهم في البيوت (من كان يتوقع أن يحدث ذلك؟) ليحملوا الورود بدلاً منها ويواجهوا الطاغية بصدور عارية. حوّلوا ساحاتهم إلى كومونات تاريخية يتعلمون فيها الحياة المدنيّة، يكتشفون فيها أخيراً أنفسهم وملكاتهم، يكتبون فيها أحلامهم على البالونات ويطلقونها ببراءة أطفال، يرتّبون ساحاتهم وينظفّونها وينمقّونها لتكون نواة مدن المستقبل الزاهرة، يمارسون فيها الاختلاط الحضاري والفن والأدب والجدل والضحك حتى سقوط النظام!...

من قال عنهم صالح إنهم أصيبوا بـ«أنفلونزا البلدان المجاورة» هم في الحقيقة شبابُ شعبٍ فتك به وباءٌ عضال: وباءُ الحرية، الذي لن يطيح إلا بطبيب الزور الذي أخطأ التشخيص.

وصحيحٌ أخيراً أن صالح شخصيّةٌ فريدةٌ جدّاً: يحتقر التعليم والعلم بصدق وإخلاص. لا يحتقر شيئاً قدر ذلك: بعكس كل القادة العرب، لم «يخطئ» ولو مرة واحدة بتوجيه أحد أبنائه أو بناته للتعليم، في الداخل أو الخارج، أو حتى شراء شهادات ملفقة له!...

يكفي سماع شذرات من خطاباته لنستوعب مدى جهله وبلطجيته معا. لن أتحدث عن انتهاكه الدائم لإعراب جمع المذكر السالم فذلك ترفٌ لغويٌّ في حالته. سأذكر على سبيل المثال فقط عبارته التي تتردد كل ساعة في قناة الجزيرة والتي يقرأها من ورقة (وليس شفوياً):

«تُشكَّلُ لجنةً (بدلاً من لجنةٌ) من مجلس النواب والشورى لإعداد دستوراً (بدلاً من دستورٍ) جديداً (بدلاً من جديدٍ)»... لا يُسكِّن لِيسلم، كما اعتاد ناطقو العربية، لدرء ارتكاب خطأٍ في قواعد نحوها. يقرأ ببلطجيّة: ينصب كلّ الكلمات لمجرد أنه لا يعرف قراءة الضمّتين والكسرتين. من نصب على اليمن وشعبه طوال 33 عاماً لا يعرف إلا النصب، حتى في اللغة العربية...

الأسوأ أنه مستعدٌّ أن يُهزّئ أو يصفع أيّ مستشارٍ يتجرأ على مراجعته، كما حصل عندما تجرأ أحد مستشاريه، كما يقال، أن يشرح له الفرق بين «لم» و «لن»، الذي لا يعرف التمييز بينهما عند الحديث بعد 33 عاماً من الحكم!... يقضي اليمنيّون وقتهم في السخرية منه عند سماعه يستخدم «لن» في محل «لم» في كل عبارة!...

أنتقلُ الآن، بعد تذكير هذه البديهيات، إلى ما سيفسر إشكالية المفارقة الرئيسة التي استهلُّ بها مقالي هذا:

ليس صالحُ قطعاً أضعفَ حلقةٍ في الرؤساء العرب كما يقال. هو أصعبهم ولا شك، لأنه يكثّف في شخصهِ برعونةٍ مراوغة أبشعَ مساوئهم جميعاً كما سأحاول التوضيح. صالح داهيةٌ في صناعة الخراب، وفي صناعة الخراب فقط.

فالقوات المسلحة اليمنية أوّلاً (بعكس حالتي مصر وتونس) لاسيما الحرس الجمهوري والأمن المركزي، يقودها أبناؤه وأخوته وأبناء أخوته. ويعلم المراقب السياسي أن إسقاط النظام في هذه الحالة (كما هو الحال في ليبيا) يزداد صعوبةً وتعقيداً بكثير، لاسيما وأن الثورة اليمنية تفتقدُ (بعكس ليبيا أو سوريا) للدعم أو الضغط الخارجي. ليس ذلك فحسب، بل هي تثير في الجوهر مخاوف دول الخليج التي لا يعرفُ قاموسُها كلمتي: «الشعب يريد»، والتي لا تكنُّ عشقاً عارماً للثورات: تفضِّلُ قطعاً «الرئاسات الملكية» المتأبدة على الأنظمة الديمقراطية، خوفاً من تسلُّلِ عواصف رغبات التغيير والحريّة إلى شعوبها!...

ولعلّ الصعوبة الرئيس الثانية تكمن في أن أحدَّ أهم معالم صالح هو براعته الشديدة في تنفيذ شعارٍ يلخِّصُه أفضل تلخيص: كي تحكم اليمن 33 عاماً يلزمك أن تكون ثعباناً يرقص فوق هامات جياع!...

لذلك حرص علي صالح منذ بدء حكمه على تطبيق شعار الاستعباد العتيق: «جوّعْ كلبك يتبعك!». استولى وأتباعه على كل ثروة اليمن، لدرجة أن مثلاً يمنيّاً شهيراً ممتعاً يلخص ذلك (عند الحديث عن مصير موارد بترول اليمن الذي يُصدَّرُ من ميناء «بئر علي» في شبوة): «من بئر علي، إلى جيب علي»!...

يقضّى صالح وقته مثل شيخ قبيلة في دار الرئاسة، يوزّع ثروة اليمن كما يريد: يجوّع من يريد، يغْني من يريد، يقتل ويشتري من يريد... ليس له مشروعٌ في الحياة غير ذلك، لدرجة أوصلَتْ قطاعاً واسعاً من شعب اليمن إلى تحت خطّ الفقر والجوع، بجانب أميّتهم التي تضرب رقما قياسياً.

يزيد كل ذلك من تعقيدات الثورة اليمنية. فالأميّ الجائع، الذي لا يجد الماء والخبز النظيف في يمن اليوم، لا يميل لقضاء وقته في ساحات الاعتصام، أو في الانهماك في تنظيم الثورات عبر الفيسبوك.

ناهيك أن صالح، الذي صار اليوم متفرّغاً طوال الأسبوع لعمله الجديد كـ«مقاول مسيرات مضادة»، يجيد جلب هؤلاء الجياع من كل مدن وقرى اليمن النائية، بجانب من تبقى له من أنصار وخائفين من التغيير ومتذبذين ومطبلين وتنابلة وفاسدين سيفقدون مصالحهم بانتصار الثورة، إلى تجمُّعٍ أسبوعيٍّ يتيم في ساحة واحدة: ساحة السبعين بصنعاء (التي لا يمكنها أن تتجاوز رياضيّا المائة ألف شخص). في حين تمتلئ ساحات التغيير والحرية وشوارع مدن اليمن وقراه بأكثر من أربعة مليون متظاهر، ملأ منظرهم المدهش، وهم يرفعون سواعدهم المتلاحمة في لوحة فريدة، الصفحة الأولى من صحيفة اللوموند الفرنسية قبيل أسبوعين.

يطلق صالح في تجمعاته الأسبوعية خطابات رديئة مسعورة، تدوم دقيقتين، يشتم فيها الشعب بأشنع الأوصاف، على طريقة معمر القذافي. تتجلى في تلك الدقيقتين شخصيّته الظلامية المجرمة: يسبُّ مثلاً باسم الشريعة الإسلامية، على الطريقة الطاليبانية، تواجدَ المرأة في ساحات التغيير والحرية واختلاطها بالرجل، لتنطلق بعد ذلك مسيرات بلاطجته في صنعاء باتجاه ساحة التغيير قرب الجامعة مردِّدةً: «الجامعة الجامعة، عند القحاب الصائعة!» شاتمةً ببذاءة طليعة نساء اليمن الرائعات المتواجدات في الساحة!...

أجزم هنا أن صالح أسوأ من القذافي لكنه أكثر خبثاً وأقلّ ضجيجاً: لم يكن أقلّ دموية من القذافي عندما فجّر حرب 1994 أو حروب صعدة الستة، أو غيرها من الحروب على شعبه التي أزهقت أرواح عشرات آلاف اليمنيين. يكفي تذكُّرُ مناواراته عند توقيع «وثيقة العهد والاتفاق» مع الحزب الاشتراكي اليمني وغيره من القوى الشعبية قبيل حرب 1994 (التي تشبه مناوراته هذه الأيام للتهرب من توقيع معاهدة الصلح الخليجية مع اللقاء المشترك)، قبل التنصل من ذلك الاتفاق لشنِّ حربٍ طاحنة حوّل بعدها جنوب اليمن إلى غنيمة حرب، دمّر كل تقاليده المدنية وإدارته المتطوّرة، وعامل أبناءه كمواطنين ممتهَنين من الدرجة الثانية...

بعكس القذافي، عندما يقتل صالح خصومه منذ 33 عاماً، يخرج دوماً في جنازاتهم على رأس المشيّعين. لا يُسمي من أمر قناصتَهُ بقتلهم في ساحة التغيير في مجزرة 18 مارس «جرذاناً» كما فعل القذافي، ولكن «شهداء الديموقراطية»، متهماً، بكل برودة، سكان منازل تخوم ساحة التغيير الطيبين بقتلهم!... وعندما سئلَ: لماذا أصابت الرصاصات رؤوسَ أولئك الستّين شهيداً وأعناقَهم، بتلك المهنيّة المليمترية، أجاب، ببرودة أكبر، بأن كلَّ شعب اليمن قناصةٌ بالفطرة!...

يعرف صالح، كرئيس عصابةٍ محترف، كيف يكذب ويغيّر التزاماته ويقلب أقواله في كل لحظة، كيف يماطل ويناور. يسمّي ذلك «الرقص فوق رؤوس الثعابين». ناهيك أن تشبُّثَهُ وهوسَه بالبقاء في السلطة لا يقلّ عن معمر القذافي...

ثمّ لا يهمّ صالح، مثل القذافي، أن يكون مؤلف «نظرية ثالثة»، ولا تساوره الرغبة ببناء تماثيل شخصيّة له. هذه أمورٌ شكليّة من منظوره. تُهمُّه السلطةُ الكليّة والاستيلاء الكامل على الثروة وتوريثها لأبنائه، لا غير. يعتبر اليمنَ، بعد 33 عاماً من الحكم، «غنيمته» الشخصية التي لن ينتزعها منه ومن أبنائه أحد.

ما زاد من تعقيد ظروف الثورة اليمنية أخيراً هو أن صالح يحاول أن «تخرج عن النص»، وأن تبدو أزمةً بين حزبه الحاكم والمعارضة.

فهذه الثورة، من وجهة نظر شطرنجية (أي كمباراة بين الشعب وصالح: يريد الأول فيها إخراج الثاني من الحكم، ويريد الثاني إخراج الأول من الحياة)، وصلت إلى نقلاتها النهائية: لم يتبق لصالح إلا الملِكَ وبضعة بيادق، فيما يسيطر الشعب على كل أجنحة رقعة الشطرنج ومركزه.

أيُّ لاعب شطرنج يحترم نفسه كان سيستلم في هذه اللحظة ويترك المباراة. لكن صالح يلجأ اليوم إلى حركاتٍ بهلوانية لإرباك خصمه. يشتمه ويشتم أنصاره في قاعة المباراة. يهدد باستخدام المسدس لاغتياله. يراوغ، يركل بقدميه خصمه أسفل طاولة الشطرنج. يطلب من جيران صالة المباراة بالتوسط لإنهاء المباراة، يتركهم يتدخّلون بها ويمسّون قطعها... يريد فركشة اللعبة بأية طريقة قبل هزيمته...

ازداد تعقيد هذه المباراة اليوم بشكلٍ جليّ. ستطول كما يبدو، وستكون نتائج ذلك وخيمةً على الجميع، إذا لم يمارس المجتمع الدولي ضغوطه على نظام صالح...

لكن شعباً اكتسحهُ وباء الحرية بهذه القوة العاتية قادرٌ حتماً، في كلِّ الأحوال، على الصبر ومواصلة ثورته السلمية حتى النصر.

استدراك: كنتُ أتصفح قبيل قليل بعض صفحات الفيسبوك. وجدتُ فيها هذا الدعاء الأنيق لعزت القمحاوي الذي كتبه قبل شهرين: «يارب كل الوحوش: خلِّصْ سورية من فم الأسد، وخلِّصْ ليبيا من فم السلعوة، أما علي عبدالله صالح فاتركه لليمنيين، فهو أضعف من أن نشغلك به يا قادر يا كريم»... لعلّ الشيخ عزت يعيدُ صياغة دعائه بعد هذا المقال!...

الأربعاء، 11 مايو 2011

تفاصيل الساعة الأولى من لقائي برائدِ العلمانية الأول: أحمد جابر عفيف!

تفاصيل الساعة الأولى

من لقائي برائدِ العلمانية الأول: أحمد جابر عفيف!

(مارس 2010، حديث المدينة + الثوري + كيكا)

سأروي في هذا المقال تفاصيلَ الساعةِ الأولى من لقائي بالأستاذ أحمد جابر عفيف، وسأشرحُ كيف غيَّرتْ تلك الساعةُ برنامجَ اختياراتي وحياتي الثقافية تماماً!...

يلزمني أوّلا أن أذكِّرَ أن العلمانية (التي تأسستِ الحضارةُ والعلمُ الحديثين على صرحِها) تعني فصلَ الدينيّ عن الدنيوي: أي فصل العلمِ عن الدين، فصل السياسةِ عن الدين!...

رتّبَ لقائي بالأستاذ أحمد صديقي على محمد زيد، على هامش دعوةٍ استلمتُها من المركزِ الثقافي الفرنسي في أواخر التسعينات لزيارةِ صنعاء لإلقاء محاضرة عن روايتي: «الملكة المغدورة» التي كتبتُها بالفرنسية والذي أنهى علي محمد زيد ترجمتها حينذاك.

توجّهتُ مشياً نحو مؤسسةِ العفيف الثقافية! كان ذلك أوّل تجوّلٍ أقومُ به لوحدي في صنعاء التي لم تكن بالنسبة لي، قبل ذلك، أكثر من محطّةِ عبورٍ سريعٍ لعدَن!

عندما وصلتُ إلى الشارع المواجهِ عمودياً ل«مخبازة الشيباني» التي تقع المؤسسة على يساره والسفارة الفرنسية على يمينه، رأيتُ، على جدار ركن الشارع، عبارةً غريبةً جدّاً، جميلةَ الإيقاع، مذهلةَ التركيز، فاجأتني تماماً: «أمةٌ لا تنهض لصلاةِ الفجر، لا تستحقُ النصر!»...

هزَّتْني هذه العبارةُ التي تُكثِّفُ، أكثرَ من أية عبارة أخرى، سببَ تخلِّفِنا تماماً!... تساءلتُ: ما علاقةُ «صلاة الفجر» بـ«النصر»؟... النصرُ الكليّ الذي حقّقتهُ الشعوب المتطورةُ (التي لا تعرف غالباً ما هي صلاة الفجر) جاء بالتعليم والمعرفة والتنمية فقط، ولأنها استطاعَتْ في البدء الفصلَ بين الدينيّ والدنيويّ... فيما تكرِّسُ هذه العبارة السلفيّة الظلامية عكسَ ذلك تماماً!...

سأكتشفُ، ابتداءً من تلك اللحظة، أن هذه العبارة تلخِّصُ بشكلٍ عجيبٍ واقعَ اليمنِ المعاصر!... يلزمني أن أضيف (هذا ما سأدركهُ إثر انتهاء الساعةِ التاريخيةِ الأولى بلقائي بأحمد جابر عفيف): واقعَ اليمنِ المعاصرِ الموجودِ خارج أسوار مؤسسة العفيف الثقافية!...

بعد طرقي لِبابِ المؤسسةِ ورؤيةِ لوحةِ مدخلِها التي تمنع مضغ القات وحمل السلاح فيها، شعرتُ أنني أدخل مكاناً آمناً، غيرَ اعتياديٍّ جدّاً في هذا البلد، ينسجمُ كثيراً ومزاجي، يُشبِهُ مدخل اليمنِ التي أبحثُ عنها بصعوبة!...

رأيتهُ أخيراً بوجهِهِ الأبويّ الودود، بإيقاعه الودّي اللطيف، بصوتِهِ الهادئ الرخيم، بهندامهِ الأنيق الذي تفوح منه رائحةٌ خفيفة لِعطرٍ شرقيٍّ أصيل!... تحدّثنا لِوحدنا بهدوء! طاف بي في أنحاء المؤسسة، قدّمَ لي مكتبَتها، أثاثها، صورَها، أجهزتَها، قاعةَ محاضراتها... كان مُبرمِجاً مراحل الزيارة دقيقةً بدقيقةً!...

أكثرُ ما أثار انتباهي دقّةُ نظام المؤسسةِ وانسجام بُنيتِها مع أحدث المبادئ الثقافية في العالم المتقدم! على سبيل المثال: تحترمُ المؤسسةُ المبدأَ الجوهريّ الذي يؤكدُ استقلالية المؤسسات الثقافية عن النظام السياسي كما تمارسهُ المؤسسات الثقافية التي تحترمُ نفسها، لاسيما مؤسسات الشعوب المتطورة! الرمزُ الرائع لذلك: لم أر أي صورة لحاكمٍ يمنيٍّ في جدران المؤسسة!...

تنفّستُ الصعداء!... بدأتُ أشعرُ بأمانٍ عميق، براحةٍ أكبر!... بدأتُ أحبُّ كثيراً اليمنَ الموجودَ داخل جدران مؤسسة العفيف الثقافية!...

ثم بعد نصف ساعة تقريباً توجّهتُ إلى الحمام! فوجئتُ بعبارةٍ مكتوبةٍ على جدارهِ أذهلتني هي الأخرى (مثل عبارةِ ركن الشارع) لكن بشكلٍ عكسيّ: «ممنوع الوضوء! المسجد الأقرب في الشارع المجاور!»...

ماذا دار في خاطري حينها؟...

تذكّرتُ كم تعتبِرُ الثقافةُ الغربيةُ (باستعلاء وفخر) أنها وصلتْ إلى ذروةِ الانجازات: العلمانية (الذي تأسَّستْ في فرنسا بفضل مفكريّ التنوير: فولتير، ديدرو... وكثيرون غيرهما حرّروها، بعد قرونٍ من الكفاح الفكريّ، من هيمنة الكنيسة)! تذكّرتُ كم يعتبِرُ هؤلاء المثقفون أن العربَ يحتاجون لِعشرةِ قرونٍ للوصول إلى هذا الإنجاز الحضاري الحديث. دولُهم عاجزةٌ كليّةً عن الفصل الضروري بين العلم والدين، بين السياسة والدين. وكلُّ مفكريهم لا يمتلكون الشجاعةَ الشخصيّة الكافيةَ لممارسةِ هذا الفصل!...

بعد حوالي ساعة من اللقاء قال لي: «أودّ أن أسألك سؤالاً»!...

كنّا لوحدنا تماماً في مكتبه!...

نظرتُ إلى تقاسيم وجههِ باهتمام، أدركتُ منها ومن طريقةِ تقديمهِ لسؤالهِ أنه يقذف بي عموديّاً نحو مركزِ القضية الجوهرية الذي كرّس لها مشروعه الثقافي وهدف حياته! بعد ثوانٍ قال لي: «لماذا نحن مدانون في اليمن، وفي العالم العربي، بتخلُّفٍ يزداد أكثر فأكثر؟ ما الحل في رأيك؟»...

كان السؤال الأول مفاجئاً!... لم أرتّب أفكاري للإجابة عليه! تلعثمتُ كثيراً... بدأتُ أعزي كلّ شيء لِعدمِ وجودِ الديمقراطية!... (كان ينظر إلي بفتورٍ نوعاً ما، كمن يقول إنني لم أمسّ الجذر!)... ثم استرسلتُ متحدِّثاً عن التاريخ (لم يزد اهتمامه أكثر، فيما زاد تلعثمي!)...

ثم علّقَ: «تقول لي ذلك، أنت الآتي من فرنسا؟»...

لم أفهم!... كان من الأجدى بي أن أتذكّرَ العبارة التي قرأتُها في ركن الشارع والتي تلخِّصُ جوهرَ أزماتنا، وأقول له بكلماتٍ رمزيّةٍ مركّزة: «السبب مختزلٌ في عبارةٍ مكتوبةٍ في ركن شارعك، والحل ينطلق من عبارةٍ مكتوبةٍ في حمام مؤسستك!»

لم أمتلك، لسوء حظي، الألمعيّةَ اللازمة لذلك!...

ثم تساءلتُ لماذا ذكرَ فرنسا؟ هل بسببِ قانونها التاريخي في 1905 الذي حدّد العلمانيةَ أساسا للتعليم والنظامِ الفرنسي (المدرسةُ فيه لا تعترفُ بأيِّ دِينٍ كان، بما فيه المسيحية!)...

ثم أسعفني الأستاذ أحمد هو نفسه بالرد: «سببُ تخلفنا هو إقحامِ السلفية والدين في التعليم والسياسة والحياة العامة! نحن بحاجةٍ إلى تعليمٍ حديثٍ مستقل عن الدين، إلى نظامٍ سياسيٍّ مدنيٍّ حديثٍ حضاريّ، إلى حاكمٍ مدنيٍّ مثقف...» استغرقَ يتحدثُ بدقّةٍ ووضوحٍ عن هذه الفكرةِ المحورية، عن مشروعهِ الشخصي، عن مؤسسةِ العفيف الثقافية... عن مشروعه المستقبلي الهائل: «الموسوعة اليمنية» الذي موّلتهُ مؤسستَهُ خلال السنين التي تلت ذلك اللقاء، وأنهتهُ فعلاً بمجهودٍ جبّار استهلكَ كثيراً من مواردهِ الشخصية، وسنواتٍ من طاقته!...

انسابتْ كلماتُهُ ببطءٍ وهدوءٍ وسحر!... شعرتُ فجأة أنني بدأتُ فعلاً أعشقُ اليمنَ الموجودة داخلَ جدرانِ مؤسسةِ العفيف الثقافية!...

ما إن انتهى من حديثهِ حتى أيقنتُ أنني أوشك أن أبدأ منعطفاً جديداً من حياتي، بفضل تلك الساعة!...

تعمَّقتْ علاقتنا منذ ذلك اليوم! بدأتُ أكتبُ بالعربية من جديد متأكداً أن مؤسستَهُ ستعملُ اللازمَ لنشرِها وتوزيعِها! نشرتُ في مؤسستهِ ستةَ كتبٍ، خلقَ له أحدهم: «عن اليمَنْ، ما ظهر منها وما بطنْ» مضايقةً حادّةً من رأسِ القمعِ والاستبداد!...

لم يرضخْ، دفعَ غالياً من راحتهِ الشخصية وحقوقِ مؤسستهِ العامة كي ينشرَ ذلك الكتاب، وافقَ رأسُ القمعِ أم أبى!... آه، كم أحبُّ هؤلاء العمالقة الذين يُقدِّسون حريّةَ الكلمة، ويدافعون عنها دون خوف، أيا كان الثمن!...

ارتبطتُ به وبعائلتهِ بعلاقةٍ خاصة جدّاً، ألهمَتني تماماً!... في كل زيارةٍ لصنعاء (التي صرتُ أمكث فها طويلاً بفضله) لم يمر يومان دون زيارته!

ارتبطَ جميعُ أفرادِ عائلتي (زوجتي وابنتيّ) به وبزوجته السيدة الجليلة خديجة الشرفي (أم خالد) ارتباطاً عميقاً!... سأشرحُ بعد قليل ماذا حدث لأحد خواتم العقيق الأربعة الذي أهداه لنا في أول زيارتنا الرباعية لبيْتِه!...

اعتبرتُ الأستاذ أحمد أبي الروحيّ!... قال لي أحد أبنائه بِودٍّ ذات يوم: «صرنا نشعر بالغيرةِ من حبِّهِ لك»!... نُمتُ القيلولة مراراً في بيته! شاركتُ عائلتَهُ (بحضورٍ كثيفٍ، شبهِ مباشر) حفلتَهم، قبل بضعة سنوات، بمرور خمسين عاماً على زواج الأستاذ أحمد بالسيدة الرائعة الجليلة خديجة الشرفي!...

لم يمر أسبوعٌ قبل الأشهر الأخيرة من استفحال مرضِهِ (الذي بدأ في فبراير 2007. سافرتُ حينذاك لزيارتهِ لذلك) دون أن يتّصل بي أو أتصل به، من أي مدينةٍ أسافرُ لها، أو هو أيضاً!...

أتمنى أن أجدَ الوقتَ الكافي ذات يوم لِلكتابة عن تفاصيل تلك الذكريات!...

ثمّ اكتشفتُ لاحقاً انه فعلاً رائدُ العلمانية الأول! عرفتُ مثلاً أنه عندما قدّم مشروعَ بناءِ كليّةِ الحقوق في جامعة صنعاء (الذي كان مؤسسها، مثلما أسس مركز الدراسات والبحوث اليمني، ومركز البحوث والتطوير التربوي والكثير من المدارس والمراكز) خرجَ السلفيّون في مظاهرات تطالب بتسميتها بكلية الشريعة!...

نزل هو شخصيّاً (كان وزير التربية والتعليم حينذاك) إلى الصفوف الجامعية يحثُّ الجامعيين، طلبةً ومدرّسين، على القيام بمسيراتٍ ترفضُ ذلك!... قررَ الرئيس عبدالرحمن الإرياني حينذاك بتسميتها «كلية الشريعة والقانون»، كحلٍّ توفيقيٍّ لتهدئة الصراع بين تيار السلفية والوزير العلماني!...

سألتُ بعض زملائي المثقفين الغربيين: أيوجدُ في تاريخهم وزيرٌ نزل إلى الصفوف الدراسية لِيحثَّ على الخروج بمسيرات رافضة؟... كان ذهولهم كليّاً! اكتشفوا كم يجهلون الوجهَ العبقري المشرق للثقافة العربية الحديثة، وسيرةَ أبرز عظمائها الخالدين! ناهيك أن كثيرين لم يتوقّعوا أن هذا النموذج النقيّ من المثقف القائد العلماني يمكنه أن يوجد في أكثر الدول العربية تخلفاً وظلامية: اليمن!...

لعله يلزمني أن أختتم هذا المقال، بشكلٍ دائري، وأروي فيه كيف مرّت الساعةُ الأولى التي تلتْ علمي بوفاةِ الأستاذِ أحمد! (كان يوقِّعُ كل ايميلاته ورسائلهِ لي بـ«أحمد»، تماماً مثلما كنت أوقِّعُها بـ«حبيب»!)...

عرفتُ الخبرَ الحزينَ من علي محمد زيد الذي كان هو أيضاً أوّل من حدثني عن الأستاذ أحمد!...

في مواجهةِ خبرِ موتِ من أحبّ بشكلٍ حميميٍّ خاص (أبي، أمي...) أعيشُ حالةَ صمتٍ وشرودٍ غريبين، ورغبةً نفسيّةً بالهروبِ من وقْعِ الحدثِ الصاعق باللجوء إلى ملاذٍ آخر، والغرق به تماماً!... تعمَّمَ نفسُ هذا السلوك في عائلتي الصغيرة أيضاً!...

اتصلتُ سريعاً بأم خالد وأبنائها الأعزاء!... بكَتْ زوجتي وابنتي الصغيرة، عمبرين، لأوّل مرة، على خلاف عاداتهما!... اتصلتْ ابنتي الصغيرة بابنتي الكبيرة، كليمنتين، في غرفةِ دراستِها بباريس لتنبئها بالحدث! طلبَتْ ابنتي الكبيرة منها أن أجيء لزيارتها اليوم الثاني حاملاً خاتمَ عقيقها الذي أهداهُ لها الأستاذ أحمد!...

توجّهتُ حسب طلبها!... تناولنا الغداء في مطعم في الشانزليزيه دون أن نذكرَ الحدثَ الذي صدمَنا معاً، والذي لم نمتلك الجرأة على قولِ كلمةٍ واحدة عنه!... عند وِدَاعي لها سلّمتُها كيسَ بلاستيك، يختفي فيه الخاتم، دون أن أنبسَ بكلمةٍ أيضاً، وهي كذلك!...

تساءلتُ ماذا ستعملُ ابنتي بالخاتم وقد صار مقاسُهُ صغيراً جدّاً بالنسبة لأصبعها!... لم أتجرأ أن أسألها عن ذلك أيضاً!...

ثم تناولنا الغداء بعد أسبوعٍ من جديد، في مطعم آخر في الشانزليزيه عندما رأيتُ الخاتمَ مُعلَّقاً في عقدٍ فضيٍّ على صدرها!...

عرفتُ، بشكلٍ أو بآخر، أن زملاء ابنتي سألوها عن سرِّ ذلك الخاتم!... (زملاؤها، أقل من أربعين طالبا جامعيّاً، يعتبرون نخبةُ النخبةِ من طلاب فرنسا الذين يصلون إلى مدرستها «هنري الرابع»، بعد الثانوية العامة، بنظامِ امتحاناتٍ انتقائيةٍ صعبةٍ جدّاً، ليتم تأهيلهم فيها سنتين بشكلٍ خاص قبل زجِّهم في أرقى كليّات نخبة النخبة الفرنسيّة!... على سبيل المثال فقط: درس في نفس صفِّها، بعد أن نجح في نفس هذا النوع من الفرز الانتقائي: الفيلسوفان سارتر، وميشيل فوكو، الرئيس بومبيدو...)!

سعدتُ جدّاً أنهم اكتشفوا وأدركوا من هو أحمد جابر عفيف!...

ما أتمناه، قبل وبعد أي شيء، هو أن طاقم إدارة مؤسسة العفيف الثقافية اليوم، الممثل بالأستاذ عبدالباري طاهر، نبراسَ مفكريّ التنوير اليمنيين وقدوتَهم الأسمى، وأبناءَ الأستاذ أحمد، الذين رضعوا أفكار التنوير منذ طفولتهم وعاشوا يوميات رائدهِ الأوّل أكثر من غيرهم، سيواصلون مشروعَه التنويري العلماني، (شديدَ الجوهرية في يمن اليوم الذي ينزلق في وحل الظلامية والقمع والاستبداد والإرهاب) بنفس عزمِ وصلابةِ الأستاذ أحمد الذي قاوم «تأميمَ» المؤسسة من قبل أي سلطة أو حاكم!...

أما إذا خرجت المؤسسة عن منهجِ عملِها طوال أيام حياة مؤسسها، لسببٍ أو لآخر، فعلى اليمن السلام!...