لحظاتٌ مرموقة للحضورِ الفلسطيني، نادرةٌ جدّاً
حبيب سروري
ثمّة مفارقةٌ فاقعة للعين المجرّدة: تُمثِّل معاناة الشعب الفلسطيني إحدى أكبر التراجيديّات الإنسانيّة المعاصرة، فيما تحريكُها للرأي العام العالمي وجذبُها لِتضامن المثقفين والمنظمات الاجتماعية والحركات الشعبية ضئيلٌ جدّاً، إن لم يتضاءل هذه الأيّام أكثر فأكثر.
فإذا كان ما يحياه الشعب الفلسطيني من تمييزٍ عنصري، ومن قتلٍ لِشعبه ونهبٍ لأراضيه ومياهه من قبل إسرائيل، يجعلُه في رأس قائمة من يعانون اليوم من وطأة مزيجٍ من الأبارتايد والاستعمار، فالتضامن الدوليّ والإنساني معه أبعد ما يكون عن التضامن الذي عرفته قضايا إنسانية عادلة لشعوبٍ عانت من أشكال متنوِّعة من الأبارتايد والاستعمار.
لدعمِ هذه القضايا خرجت شعوب العالَم في مسيرات تضامنيّة ضخمة، ونظّمت فعاليات فنيّة وثقافيّة واسعة داعمة لقضايا تلك الشعوب المضطهدة، انتهت بانتصارها. من يستطيع أن ينسى التضامن الشعبي العارم في الغرب وفعاليّاته الضخمة لدعم سودِ جنوبِ أفريقيا أو الشعب الفيتنامي أو شعب البوسنة مؤخراً؟
نصيب القضيّة الفلسطينية من ذلك الدعم ضئيلٌ جدّاً. لعلّ لذلك أسباب عدّة تتجاوز حيز وموضوع وإمكانيّات هذا المقال. تستحقُّ جميعها الجدل العميق والصريح جدّاً، لاسيّما الأسباب المرتبطة ببعض أشكال النضال الفلسطيني التي تضعف أو تمنع من التعاطف الدوليّ مع قضيّته العادلة.
أحد الأسباب التي تهمّ مقالي تتعلّق بِضعف الحضور الإعلامي الفلسطيني كمّاً ونوعاً. سأركِّز هنا فقط على شهادةٍ شخصيّة وملاحظات تقييمية عن الحضور الإعلاميّ الفلسطيني، كما أراه في حياتي اليوميّة في فرنسا.
إذا ما سألتُ نفسي متى لمستُ (في السنوات الأخيرة) حضوراً إعلاميّاً شعبيّاً هامّاً للقضيّة الفلسطينيّة في فرنسا، يستحقّ الذكر، فلن أجدَ غير ثلاثة لحظات هامّة.
اللحظة الأولى موعدٌ سنويٌّ يتمّ الحديث عن هذه القضية فيه خلال حوالي نصف ساعة، في ظهيرة ثاني يومِ أحد من شهر سبتمبر من كلِّ عام، خلال "عيد اللومانيتيه" (عيد الإنسانيّة): العيد السنوي لصحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي. تقليد فرنسيٌّ عريق يدوم ثلاثة أيّام. ينعقد في ضواحي باريس، ويحضره بشرٌ من كلِّ أطياف المجتمع الفرنسي (ما يقارب المليون أحياناً)، ومدعوون من كل أنحاء الأرض... يمتلئ العيدُ بِنشاطات ثقافية وسياسية متنوّعة، وندوات تضامنية مع كل القضايا العادلة في العالَم، لاسيّما فلسطين.
في العام الماضي، كان الحديث المباشر في الساحة الكبرى للعيد مع زوجة المناضل والسجين الشهير مروان البرغوثي، أمام عشرات آلاف الحاضرين لحظةً إعلاميّةً قويّةً مؤثّرة.
الحضور الإعلاميّ الفلسطيني في هذا العيد كان دوماً ملحوظاً، لاسيّما عندما كانت تساهمُ فيه بخطاباتٍ تفاعليّةٍ حيّة في الاحتفال الكبير في ظهر الأحد المناضلة الفلسطينيّة ليلى شهيد، ذات الخطاب الكاريزمي والتأثير الشعبي الملحوظ.
الموعد الثاني الذي كان الحضور الإعلاميّ فيه للقضية الفلسطينيّة مرموقاً جدّاً: مهرجان أفينيون المسرحي في يوليو ٢٠١٣، عند عرض فيلم «هاملت في فلسطين»، للمخرج نيكولا كلوتز، الذي يسرد تفاصيل عرض المدير الفني لمسرح برلين: توماس اوسترمايير (أحد أكبر المخرجين المسرحيٍّين الدوليّين المعاصرين) لِمسرحيته «هاملت» في رام الله العام الماضي، في «مسرح الحريّة» بِمخيّم اللاجيئين في جنين.
«عندما ذهب أوسترمايير لفلسطين لِعرض شكسبير كان يعرف جيّداً أنه سيجدُ له أصداء كبيرة في بلاد شعبٍ يواجههُ يوميّاً هذا السؤالُ الشكسبيريّ المصيري: أن تخضع أو تناضل؟، أن تكون أو لا تكون؟»، كما تقول نبذة تقديم الفيلم...
ليس بدونِ مدلول أن موعدَ العرضِ الأوحدِ للفيلم والحوار مع الجمهور حوله، كان السابعة من مساء ١٤ يوليو، يوم الثورة الفرنسية.
يوثِّق فيلم "هاملت في فلسطين" رحلةً قام بها أوسترمايير لِيعرضَ مسرحيةَ "هاملت" في "مسرح الحريّة" بجنين. إذ تلقّى دعوةً لذلك من صديقه مدير هذا المسرح، جوليانو خميس، لكنه تأخر عن تلبيتها قليلاً.
أغتيلَ خميس ببشاعة قبيل تلبيتِها، على بعدِ خطوتين من مسرحه!
إذا كان الهدف الرئيس للفيلم معرفة "من قتل جوليانو، ولماذا؟"، فالفيلم أثناء محاولته لتقصّي الحقائق، وأثناء تصويره للمعاناة اليوميّة للفلسطينيين، يثير سؤالاً أوسع من ذلك: من يقتل الفلسطينيين؟...
يحبك أوسترمايير في فيلمه بذكاء تزاوجاً فنيّاً بين تراجيديا هاملت وتراجيديا الشعب الفلسطيني. يستخدم الفن كسلاح لِكشفِ حقيقة مقتل صديقه، عبر توثيق حوارات طويلة مع كل زملائه وأصدقائه والمعنيين باغتياله. يفجّر خلال ذلك تساؤلات صارخة:
"لماذا قُتلَ خميس؟": يبدو من الردّ الضمني للفيلم أن نجاحات مسرح خميس واستقطابها للجمهور الفلسطينيّ ضايقت في نفس الوقت الطغيان الإسرائيلي والتطرف الفلسطيني معاً، لأن خميس أراد انتصار قضيته أخلاقيّاً وإنسانيّاً بالثقافة والفن، لا غير.
"من قتل خميس؟": لعلَّ ردّ أحد أبطال الفيلم، زكريا، يكثِّف الإجابة على هذا السؤال المحوري: "قتلتهُ إسرائيل بأيادٍ فلسطينيّة!".
يلزم الذكر هنا أن مهرجان أفينيون الشهير يحتلُّ معظم شهر يوليو، ويُعتبَر أهمَّ مهرجانٍ ثقافيٍّ دوليٍّ يُعرضُ فيه عددٌ خياليٌّ من المسرحيات والعروض الفنيّة الشيّقة التي تُغطّي كلّ أنواع وأجناس الفنّ المسرحي: أكثر من ١٣٠٠ مسرحية في عام ٢٠١٣. دون الحديث عن أكثر من ٧٠ مسرحيّةٍ دوليّةٍ كبيرة تستحوذ اهتماماً استثنائياً في الغالب. كلّ ذلك في مدينةٍ تاريخيّةٍ دافئةٍ فاتنة، مهيَّئةٍ لاستقبال كلِّ تلك الفعاليّات خلال شهر.
تتناثرُ في ثنايا المهرجان كثيرٌ من النشاطات الفنيّة والمحاضرات والندوات الثقافية ذات التأثير الملحوظ. والتظاهرات الإعلاميّة السياسيّة أيضاً: من لا يتذكّر الصورة التي أُخِذَت بالهيلوكبتر لِحشود الحاضرين في المهرجان، وهي تنبطح كموتى على الأرض، في نفس اللحظة، في ساحة قصر البابوات والشوارع المجاورة، في عام ١٩٩٥، استنكاراً لما كان يعيشه شعبُ البوسنة من ذبحٍ وإبادةٍ جماعية؟
كان الحوار المباشر بين اوسترمايير والمشاهدين حول زيارته لفلسطين مثيراً وغنيّاً جدّاً. تجاوز الساعات الثلاث. أمتلأت خلاله صالة "مسرح الأوبرا" الواسعة، الذي دار بها ذلك الحوار، بالبشر وبالتساؤلات حول يوميّات تجربة أوسترمايير وفريقه الذي سافر لفلسطين بجهودٍ ذاتيّة واجهتها صعوبات جمّة.
برهن أوسترمايير في فيلمه أن الفن والحوار العميق مع الرأي العام، في عصرنا اليوم، أقوى سلاح للنضال السلمي الفعّال ولِكشف الحقائق الخفيّة للملأ. كلّ ما عداه فقاعات وضجيج تضرّ القضية أكثر من أن تنفعها!...
أنتهى الحوار بإعلان تشكيل لجنةٍ لِتقصّي حقيقة مقتل خميس يترأسّها أوسترمايير والمخرج المسرحي الكبير بيتر بروك (الذي أجريتُ معه مقابلةً خلال مهرجان أفينيون نشرتها صحيفة الحياة).
الموعد الثالث كان لحظةً تاريخيّة لن تتكرّر، في ليلة ١٤ يوليو ٢٠٠٨، عيد الثورة الفرنسيّة.
قبيل وفاته بثلاثة أسابيع (وبعد خمس سنوات من رحيل فلسطينيٍّ عظيم آخر: إدوارد سعيد) ألقى محمود درويش في تلك الليلة، في المسرح القديم بمدينة آرل بجنوب فرنسا، آخر أمسياته الشعرية.
حضورٌ إستثنائيٌّ زاخر في ليلة فريدة، وأمسيةٌ خالدةٌ لا تنسى (حضرتُها مع كلِّ عائلتي).
أراد درويش في تلك الليلة أن يسمعه الناس: "كشاعرٍ من فلسطين، وليس عن فلسطين"، لكن صوت فلسطين كان تلك الليلة في أوج خفقانه وتجليّاته وروعته بفضل هذا الاختيار الفنّي بالذات. لأن الشعر في الأساس "صراعٌ ضدّ العدم والموت"، كما قال هذا الفلسطيني الخالد.
إلقاء درويش الذي صاحبه بالفرنسية الصوت المتأجج البديع للمثل والمخرج ديدييه ساندر، ضمن إخراجٍ فنيّ متميّز في مسرحٍ ميثولوجي، كان لحظةً شعريّة وفنيّة وفلسطينيّة لا تُنسى...
إذا استثنيتُ هذه اللحظات المرموقة للحضور الفلسطيني المتميّز فلا أجد في مذكّرتي لحظات هامّة قُدِّمت قضيةُ الشعب الفلسطيني فيها بهذه المستويات الراقية.
هي قطعاً لحظاتٌ قليلة جدّاً ومحدودة التأثير، بالمقارنة بما تحتاجه قضية فلسطين.
ما أشدّ بعدها، في كلِّ الأحوال، عن تلك التي عرفته قضيّة نضال شعب جنوب أفريقيا عندما توجّه كبار فناني العالم إلى ميدان ملعب ويملبي بلندن، ومعهم مئات الآلاف من الشباب الذين أتوا من كل فجٍّ عميقٍ في أوربا للاحتفال غناءً خلال ١٢ ساعة متواصلة، بِعيد الميلاد السبعين لنيلسون مانديلا وهو في السجن، يُرافقهم أمام الشاشات مئات الملايين من البشر، في نفس اللحظة، من أقصى الأرض إلى أقصاها!
("لعلّ الأبارتايد سقط في تلك الليلة إلى الأبد!"، كما كتبتُ في رسالتي لنيلسون مانديلا في مجلة الدوحة الثقافية).
ثمّ ما أشدّ تضاؤل الحضور الفلسطيني بشكلٍ عام في هذه السنوات المظلمة التي رحل فيها كبار رموز فلسطين كدرويش وإدوارد سعيد، وارتكن الدعم الإعلاميّ لقضية فلسطين على النوايا الحسنة لمناصريها الأجانب من مناضلين تقدميّين في "عيد اللومانيتيه" أو مثقفين كبار، في هذا الحدث الاستثنائي أو ذاك!...
خلاصة القول: ثمّة حاجات ملحّةً قصوى لحضورٍ إعلاميٍّ فلسطينيٍّ كثيف، يستند على الثقافة والفن، يرفض العنف، يدين الطغيان والتطرف، ينتصر للدولة الفلسطينية المغدورة، للسلام بين شعبي فلسطين وإسرائيل، ينتصر للحياة.
حضورٍ كميٍّ ونوعيّ، يحوِّل كل مأساةٍ فرديّةٍ في فلسطين لروايةٍ ومسرحيةٍ وفيلم، تستجوب ضمير كلِّ إنسان في العالم، تصلهُ حيثما كان، بمختلف الوسائل الإعلامية الحديثة، بما فيها الشبكات الاجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق