يُماهون بين الله وفوتوشوب!
حبيب عبدالرب سروري
لِغيابِ العقليّةِ العلميّة في مجتمعاتنا العربيّة تجليّاتٌ لا حصر لها. لِتوضيحِ نماذج من هذه التجليّات، يكفي على سبيل المثال (لمن يجيدُ استخدام برمجيّة فوتوشوب لإخراج الصور الرقميّة على الكمبيوتر) فَبْرَكةُ صورةِ رجُل بِرأسين، أو إلصاقُ صورتَي شخصين ظهراً بظهر، كما لو كانا ملتَصِقَين فيزيولوجيّاً، وتصميمُ رئتين مشتركتين لهما معاً تبدوان مكشوفتين في الصورة...
يكفي بعد ذلك وضعُ هذه الصورة على صفحة فيسبوك مفتوحة مع خبرٍ على غرار: «يعيشان هكذا بقدرة الله ملتَصِقَين جسديّاً، بنفس الرئتين، منذ 48 عاماً!».
بدلاً من أن تسخر تعليقاتُ القراء من هذه الترّاهات المثيرة؛ أو أن تتساءل على الأقل، بِحِيرةٍ مبارَكة، كيف يمكن أن يكون ذلك ممكناً؛ أو أن تقول، وذلك أضعف الإيمان، إنها تنتظرُ تأكيداً وتفسيراً لهذه «الظاهرة» من جهةٍ علميّةٍ رسميّةٍ متخصِّصة؛ سينهمرُ على صفحة الفيسبوك «500 لايك في خمسة دقائق»، ويتوالى رتلٌ من تعليقات دينيّة لعلّ أقلّها خشوعاً: «إن الله على كل شيء قدير»، «سبحان الخالق!»...
يُماهون هكذا بغباءِ إيمانهم وفرطِ حماقتهم بين الله وفوتوشوب!
مثالٌ آخر: يكفي عند الحديث عن قطار اليوروستار (الذي يربط باريس بِلندن، ويمرُّ تحت بحر المانش) نقلُ الخبر التالي: هناك مشروعٌ عملاقٌ جديد سيبدأ قريباً لربط باريس بِنيويورك يمرُّ تحت المحيط الأطلسي!...
ستنهال حينها سريعاً من أكثر من مثقف خطبُ ندمٍ صادقةٍ صائبة على واقع بلداننا العربية التي تخلو بعضها، مثل اليمن، من أيةِ سكّةِ حديد فوق الأرض (وإن ردّد رئيسُها المخلوعُ طويلاً: «فاتكم القطار!» التي لعلّها تعني في الأساس: «فاتكم الحمار!»، لاسيّما بعد تنَحّيه)، تليها خطبُ إعجابٍ هائل بالمستوى العلميّ والتكنولوجيّ في الغرب الذي صعد إلى القمر، فكيف سيصعبُ عليه عبور الأطلسي بالقطار!...
تتوالى مثل تلك الخطب في الوقت الذي يلزم التساؤل بشكلٍ هادئٍ رصين: إذا كان حفرُ نفقٍ تحت شارع يحتاج إلى عدّة أشهر فكم قروناً سيحتاج حفرُ نفق طوله عدّة آلاف من الكيلومترات تحت محيطٍ أطلسيٍّ شديدِ العمق؟ هذا إذا كان هذا المشروع مجديّاً أو معقولاً على الأقل، وإذا لم يكنِ الخبرُ عنهُ مجرّد مزحةٍ من العيار الثقيل!...
يمكن، في واقعنا العربي، معايشةُ أو إخراج عددٍ لا نهائي من مثل هذه الأمثلة المُسلِيّة، والمحزنةِ أيضاً لأنها تكشفُ عورات عقولِنا العربيّة التي يخدِّرُها سماعُ الخرافات، بل تحتاج غالباً لسماعها كما يحتاج المدمنُ للمخدرات.
من الملحوظ لمن يتنقّل زجزاجيّاً بين ثقافتين غربيّة وعربيّة أنه يستحيل أن يُعلِّق طالبٌ صغيرٌ، درسَ وتربّى في مدرسة الغرب، على هاذين الخبرَين بنفسِ طريقتنا الإيمانيّة الساذجة. لماذا؟
السبب: ترعرعتْ في دماغِه بفضلِ المدرسة، وبشكلٍ مبكّر، ثقافةُ الشكِّ والنقد والرفض، ثقافةُ العقل المبنيّة على التساؤل والتحليل المستقل عن أية مُسلّمةٍ غيبيّةٍ يلزم الإيمان بها مسبقاً، ثقافةُ ال «لا» العبقريّة التي يلزم توجيهُها آليّاً، وبشكلٍ مسبق، قبل التحقّق من صحة الخبر، والتأكد من وجود برهان علميٍّ له... فيما ثقافتُنا عكسُ ذلك تماماً: ثقافة ال «نعم» البليدة التي اعتدنا أن نُشهِّد ونُكبّر بها آليّاً دون تمحيصٍ أو برهان!...
الفرق بين الثقافتين شاسعٌ جدّاً: يكفي في ثقافة ال «نعم» أن يمتلكَ المرءُ عقليّة الخروف ويزدرِدَ دون عسرِ هضم رتلاً من المسلّمات الغيبيّةِ والمُحالةِ الجاهزة، ويؤمنَ بها دون نقاش، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته! لا يُكلِّفه ذلك أي مجهودٍ أو وقت!... بيد أن ثقافة ال «لا» أصعبُ بكثير: يلزمُ فيها تبريرُ رفضِ كلِّ مقولة، دراسةُ كيف وُجِدت ولماذا، والبحثُ عن بديلٍ لها، والصمودُ أمام القوى الظلامية التي لا تقبل عدم الإيمان بمسلماتها، وتلجأُ حينها غالباً للتكفير والعنف...
في مدرسة الغرب (حيث لا يتدخّلُ الدِّينُ والغيبُ بشئون التعليم لا من قريبٍ أو بعيد) يعودُ الطالب إلى البيت كلّ يوم بعد أن يكون قد تعلّم كيف يكون فضوليّاً جدّاً، شكّاكاً جدّا، وكيف يستخفُّ بأي تفسيرٍ أو إجابة تأتيه من خارج المختبرات العلمية، وعلى صحنٍ جاهز! أي بعد أن يكون قد تعلّمَ كيف يرفضُ ألفَ مسلّمة، وكيف يقول ألفَ لا...
في حين لا يعود الطالب كلّ يوم من مدرستنا العربية (التي لا فصل فيها بين الدّين والعلم) إلا بعد أن يكون قد استلم ألفَ تفسيرٍ لا علميٍّ عن الكون والحياة تصله بقبضةِ يد من ألفِ مشعوذٍ وفقيه، وقد عزّز من «خروفيّته» وإيمانه وقناعاته البدائية أكثر من البارحة، وأضاف ألفَ حبّةِ «نَعَمٍ» جديدة لمسبحةِ نَعَمَاته الثقافية اللامتناهية!... نموذجُه في ذلك من قال عنه الفرزدق مادحاً:
ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّدِهِ لولا التشهّدُ كانت «لاؤهُ» «نَعَمُ»
لعلّ غيابَ عقليّةِ النقد والنفي والرفض في ثقافتنا يُفسّر إلى حدٍّ كبير لماذا كنّا في قمّة الحضارة في العصور الوسطى، عندما كان العِلم بدائيّاً لا يجيد ابتكار أكثر من البوصلة الصينية والاسطرلاب الإغريقي (الذي طوّرهُ العربُ ابتداءً من القرن الثامن) والسيف اليماني. أما في عصرِ العِلم الحديث الذي بدأ في القرن السابع عشر، عصر السفن الفضائية والكمبيوتر وإنترنت وسكانير الدماغ والطاقة الذريّة، فلسنا أكثر من مشاهدٍ مستهلكٍ، يلهث في المؤخرة مشلول الدماغ مكسورَ الركبة...
الأسوأ: نكتفي أكثر من اللازم بمدح ما قدّمناه للعِلم في تلك العصور الوسطى، رغم أن كلّ ما ساهمنا به طوال ذلك الزمن لا يستحقُّ الذّكر بالمقارنة بما يُنتِجهُ اليوم أصغر مختبرٍ غربيٍّ في أسابيع قليلة!...
ماذا حدث إذن أثناء تلك الثورة العلميّة الحديثة التي فصلتْ بين عهدين: عهدِ العلوم البدائية الذي كنّا خلاله في الطليعة، وعهدِ العلوم الحديثة الذي لم نستطع فيه أن نغادر القاع؟
حدث تغيّرٌ نوعِيٌّ جذريٌّ في طرائق صناعة المعارف: كانت المعارفُ قبْل العِلم الحديث تجريبيّةً مباشرة، تنسجمُ مع التوقّعات الحدسيّة للإنسان، لا تتطلبُ أكثر من مواهب الرصد والتمعّن والتنظير المباشر: كان يكفي للعِلمِ حينها تحديدُ علاقات زوايا وأضلاع الأشكال الهندسية التقليديّة ومساحات وحجوم الأجسام النافعة البسيطة، ومراقبةُ حركة الكواكب والنجوم ورصدها بوسائل في غاية التواضع، والتمعّنُ في أعراض الأمراض وعلاجها بِطُرقٍ بدائيّةٍ تجريبيّة...
أي كانت معارف أوّلية انتجتْها ثقافةُ ال «نعم» للحدس والطبيعة المرئيّة والواقع الملموس.
في عصر العِلم الحديث انقلب الأمر رأساً على عقب: أرست الثورة العلميّة ثقافة ال «لا». لأن التوقّعات الحدسيّة للإنسان ومسلّماته الغيبيّة، كما صاغها تاريخهُ التطوريّ، تخالفُ غالباً الحقيقةَ العلميّة، ويلزم لذلك دحضُها واستبدالُها بمعارف أخرى تسمحُ للحضارة الإنسانيةِ التقدُّمَ إلى الأمام!...
فكلُّ الاكتشافات العِلميّة الحديثة، من اكتشافات جاليلو الذي برهن، قبل 4 قرون، خطأ المعتقدات الفلكية السائدة ذات الأساس الدينيّ، حتّى اكتشافات العِلم الحديث لِلَحظة نشوء الكون إثر الانفجار الكبير (البيج بونج) قبل 13.7 مليار عام وتمدّدهِ الدائم مذّاك (مخالفاً كلَّ توقّعاتنا الحدسيّة عن ستاتيكية الكون، والخطابَ الغيبي حول خلقهِ في ستة أيّام)، وحتّى نتائج الفيزياء الكونتية، المربكةِ المذهلةِ بشكلٍ كليٍّ مدهش، مثل مبدأ هايزنبرج الذي ينصُّ على استحالة معرفة سرعة الجسيمات الذريّة وتحديدِ موقعِها في نفس الوقت؛ مروراً بنظرية داروين التي برهنت على نشوء الكائن الحيّ بطريقة تخرج تماماً عن كلِّ تصوراتنا البدائية أو الغيبية (مثل حكاية آدم وحواء والحيّة والتفاحة)، ونظرية آينشتاين عن نسبية الزمن التي خالفت فيزياء نيوتن وأعادت صياغتها: مقياسُ الزمن الذي يفصل حدَثين ليس ثابتاً ولكنه يرتبط بسرعة من يقيسه. (أو ما يحلو غالباً شرحه مجازاً: إن كنت تطير خارج الأرض بسرعةٍ تقترب من سرعة الضوء، لمدة عام من عمرك، فستعود إلى الأرض وقد شاخ أهلها وعاشوا عمراً أكبر بكثير من تلك السنة التي قضّيتَها بعيداً عنهم)... كل هذه الاكتشافات الجوهرية التي تأسّس عليها العِلمُ الحديث تُخالفُ كليّةً التوقعات الذهنية البديهية للإنسان والثوابت الغيبيّة التقليدية الأساسية، وتتطلب للوصول إليها عقولاً «لائيّةً» صارمة تمتلك روحاً نقديّةً خلّاقةً من طراز استثنائيٍّ شرسٍ صابرٍ عنود، يسمحُ لها بالتمرّد على تأثير وسلطة التوقّعات الحدسيّة والمسلمات الغيبية!...
السؤال الجذريّ الآن هو: ما هي العوائق التي تمنعُ انتقالَنا من ثقافة ال «نعم»، ثقافة العبودية والتقوقع والظلمات، إلى ثقافة ال «لا»، ثقافة الحريّة والتقدّم والعقلية العلميّة الحديثة؟
تحتاجُ الإجابة على هذا السؤال الجوهريّ جدّاً إلى مقال آخر.
إن واحدة من المشكلات التي يعاني منها التعليم عموماً والتعليم الجامعي وجه الخصوص إذا ما أردنا ثقافة الـ"لا" أن تتجسد في حياتنا هي مشكلة المنهج, وهل تتصور أحداً في هذا الكوكب وفي التخصصات المختلفة لا يعير أهمية لتدريس المنهج والمنطق أهمية, يا عزيزي هذين المقررين لا وجود لهما إلاّ في بعض المقررات الدراسية في بعض التخصصات بعد أن كانا موجودين في معظم التخصصات, هذه المقررات تم شطبها من التعليم بعد سلدت عقلية زندانية التعليم, لقد غزا ابن تيمية الجامعات اليمنية وفتوى ابن الصلاح" من تمنطق فقد تزندق" التي قالها في القرن السابع الهجري لا زالت تفعل فعلها في مجتمعاتنا وجامعاتنا خصوصاً في اليمن, لذا نحن بحاجة إلة ثورة في التعليم تخرجه من بؤسه هذا. أحسنت صنعاً بهذا المقال!!!
ردحذفوالسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون...........
ردحذف