الانفصال الحَميد وحدةٌ يمنيّة أخرى!
(مايو 2009، القدس العربي)
1) عن مأساة اليمن عموماً، ومأساة الجنوب خصوصاً
لم يعد خفيّاً على أحد أن نظاما فاسدا مستبدا فاشلا يقودُ اليمن. حكام اليمن لا يجيدون في هذه الدنيا غير وظيفتين: 1) الانقضاض على ثرواته حتّى نضوبها 2) العيش على طلب المعونات وخلق الظروف المتوترة التي تجبر العالم الخارجي على إرسال تلك المعونات!... ما أنكد شعب لا يمتلك حاكمه في الحياة مشروعاً آخر!...
فثروات اليمن البترولية، التي لم تنفع إلا لإشباع جشع شريحة فاسدة تنتمي لرأس الحكم، قد بدأت عدّها التنازلي باتجاه النضوب الكامل المتوقع نحو عام 2017، ليجد اليمن نفسه يهرول يوماً بعد يوم نحو مزيد من الفقر والمجاعات!... كان بإمكان عشرات مليارات الدولارات التي وردت منها أن تُستغلّ في بناء مشاريع تنمية حيوية (مصانع تحلية الماء، شبكة كهربائية حديثة، مكافحة الفقر والبطالة، نهوض التعليم...). أما الآن، فقد عبر قطار البترول بلا رجعة!...
لم يعد خفيّاً على أحد أيضاً أن هذا النظام اعتبر الجنوب غنيمةً للمنتصرين منذ حرب 1994. نهب عسكره المنتصرون أراضيه (وباعوا بعضها لسكان الجنوب بعد ذلك بأثمان باهظة)، محوا كل آثار التقدم والمدنية التي عرفها منذ عقود عديدة، عتوا في أرجائه استبدادا وإخضاعاً للمواطن، تاجروا بثرواته لغناهم الشخصي، وامتهنوا أبناءه بعنجهية وغطرسة تثير التقزز!...
الدفاع عن وحدَةٍ كهذه، تديرُها أسرةٌ حاكمة تمتلك كل السلطات العسكرية والسياسية والتنفيذية أفقرت اليمن (شماله وجنوبه) وجعلته من أكثر دول العالم تخلفاً، وحوّلت مجتمعا نشأت فيه تقاليد مدنيّة، كالجنوب سابقاً، إلى مجتمع تحكمه الأسرة والقبيلة، دفاعٌ عن الاستبداد والفساد!... إلغاؤها المأمول اليوم ليس بهدف عودة الانفصال بالطبع (الذي لا يستجيب للغة العصر ولا لأماني وأحلام ورغبة ومصالح اليمني والعربي والإنسان الحديث عموماً) بل لتُستبدَل بوحدةٍ أخرى، حقيقية، عادلة، لا علاقة لها بوحدة الظلم والبطش والنهب والامتهان هذه!...
2) مبدآن يلزم التذكير بهما
غير أن مراقبة سير الأحداث (لاسيما الحراك الجنوبي السلمي الرافض الرائع، وقمع السلطة البشع له) تستدعي ملاحظتين جوهرتين، حول مبدأين أتمنى أن لا ينساهما أحد:
1) الإنتماء لقضية الجنوب ثقافيٌّ لا عِرقي: قضيةُ الجنوب قضيةُ كل رافض للنهب، لتحويل شطر من اليمن كان يتمتع ب«قانون الأسرة»، والتعليم المختلط، والإدارة المدنية... إلى غنيمة للقبيلة وسلطة الأسرة الحاكمة! ليست قضية من وُلِد في الجنوب فقط. هي قضية كل يمني، وكل رافض للفساد، عربيّ كان أم أجنبي! أشعر بالخجل عندما أسمع عبارات قبليّة متخلفة مثل «دم الجنوبي على الجنوبي حرام»، وكأنه حلال في الحالات الأخرى! حرمة الدم لا علاقة لها بالبطاقة الشخصية لأي إنسان! عبارة كهذه تخدم الحاكم تماماً! أشعر بالخجل عندما أسمع من يتجرأ على التمييز بين الجنوبي والشمالي في مظاهرات الحراك، بحجة أن الثاني متعاطف مع النظام! كم تخدم هذه النظرة القبلية المغلقة النظام، وكأن المواطن في الشمال (الذي ذاق الأمرّين من هذا النظام) لم يعرف هو الآخر القهر والسجون والنهب والتعذيب والمذلات!... لم يكسب مانديلا قضية شعبه بعبارات مثل «دم الأسود على الأسود حرام». بل كسبها برؤية إنسانية عظيمة رائعة أكسبته المكانة العالمية التي انتزعها بجدارةً!...
قضية الجنوب هي قضية الجميع أمام المستبد نفسه!... هي قضية أبوبكر السقاف وعبدالباري طاهر معاً، اللذين لم يميز الحاكم الحالي بين موقع ولادة كل منهما في بطاقته الشخصية عند سجنهما أو ضربهما!...
2) حق تقرير المصير جوهريٌّ عضوي (لسكان أية بقعة في الأرض)، لا عدالة أو ديمقراطية بدونه! لا يرفض هذا الحق إلا ظالم مستبد! لا يحق لأحد أن يمنع سكان الجنوب (إذا قرّروا يوماً ذلك)، أو أية منطقة يمنية أخرى، من اللجوء إليه لتحقيق إرادتهم بحريّة ضدّ القهر والاستبداد!... لا أدري أي نظام سيختارون إذا لجأوا إليه. لكني أتمنى (في هذه الحالة) أن يكون نظاماً مدنيّاً حرّاً، يعيد «قانون الأسرة» والمجتمع المدني، ويتخلّى تماماً عن عقلية الحروب الهمجية والدسائس والمؤامرات ومغامرات الفاشلين الذين دمّروا بحروبهم جنوب ما قبل الوحدة!... نظاماً يعلن بوضوح وقوة أنه أساس لوحدةٍ يمنية جديدة لا علاقة لها بوحدة الظلم والاستبداد والفساد هذه!... لأن الانفصال بهدف الانفصال خطأ جذري لا يناسب حركة العصر وعواطف ومصالح الإنسان اليمني والعربي، والواقع الدولي الراهن! ناهيك أنه يحول الدكتاتور إلى بطلٍ وطني!...
شخصيّاً، أكره الحدود حتى بين القارات والكواكب! أعشق وحدة اليمن بشكل كليّ مطلق! لكني أمقت وحدة الاستبداد والقهر والنهب والإذلال هذه. ولا أريد لأي مطلب بتقرير المصير أن يؤدي إلى انفصالٍ للجنوب لا يتواشج مع وحدة يمنية أخرى، على أسس مدنيّة جديدة، تتخلص من رموز هذا الحكم الذي قهر اليمن وأستنزفها كليّةَ.
الانفصال الحميد هو بالطبع الانفصال عن الفساد والاستبداد والقهر وليس الانفصال بين مواطن جنوبي وشمالي، هو عودة الأراضي المنهوبة، هو استعادة كرامة المواطن الجريح، بهدف وحدة يمنية بمبادئ وممارسات جديدة أخرى. الإنفصال الحميد هو باختصار وحدةٌ يمنيّة أخرى! مالم يكن كذلك، فهو بنفس سوء هذه الوحدة البائسة، مدانٌ مثلها مسبقاً بنفس الفشل!...
3) لصحيفة الأيام كل الإعجاب والحب!
ما تعيشه اليوم الصحف الحرّة في اليمن (الأيام، النداء، التغيير، المصدر...) من حجب وهجومٍ عسكري يثير القلق والاشمئزاز.
لعلّ الحصار العسكري على صحيفة الأيام (الأعرق، الأكثر شعبية ومهنية، ذات التأثير الأوسع في اليمن عموماً، وفي الجنوب خاصة. تلك التي أفتتح بها يومي بعد الفطور مباشرة، أو «على الريق» أحياناً، منذ أكثر من عشرة سنوات) يكشف بشكل خاص مدى قبح هذا النظام وضعفه، ورجفته أمام الإعلام المستقل ونشر الحقيقة!... لأساتذتي وأصدقائي محرريها وكتابها: هشام وتمام باشراحيل، نجيب يابلي وبقية طاقهما الرائع، كل الإعجاب والمحبة والتضامن!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق