نظرية داروين: فرضيةٌ غبراء أم حقيقةٌ ساطعة؟
حبيب عبدالرب سروري
(1) مناسبتان تاريخيتان
يصادف اليوم، 12 فبراير 2009، عيد ميلاد تشارلس داروين، «مكتشفُ سرِّ أسرار الحياة»، كما يسميه البعض. يصادف هذا العام أيضاً مرور قرن ونصف على نشر كتابه: «أصل الأنواع» الذي عرض أهم الاكتشافات العلمية قاطبة، لاسيما في مجال علوم الحياة، والذي أثار جدلاً لا مثيل له، دام أكثر من قرن، كونه مسّ أكثر المواضيع جوهرية وحساسية في حياة الإنسان: سرّ وجوده!...
يكتظ هذا العام، في الغرب، بسيل لا ينقطع من الفعاليات العلمية المرتبطة بهاتين المناسبتين: برامج إذاعية وتلفزيونية، معارض ومتاحف متخصصة، أعداد خاصّة من المجلات المكرسة لذلك، مؤتمرات ومحاضرات علمية لا تتوقف...
وضع موقع جوجول الشهير على سبيل المثال، بمناسبة اليوم، في رأس صفحته على أنترنت، صوراً لطيور «الشرشور الجبلي» كرمزٍ لهذه المناسبة للتذكير بأن داروين لاحظ (أثناء رحلته حول العالم على السفينة الاستكشافية «بيجل» لمدة خمس سنوات) التنوّعَ البيولوجي لهذه الطيور في جزر أرخبيل الجالاباجوس (ثمّة 13 نوعاً بيولوجيا مختلفاً منها) بشكلٍ أثار استطلاعه: تنسجم هيئة الطائر في هذه الجزيرة أو تلك (حجم المنقار، طقوس التغذية...) مع البيئة الخاصة بالجزيرة. افترض حينها أن الأنواع المختلفة من هذه العصافير انبثقت من أصلٍ واحد آتٍ من شواطئ أمريكا الجنوبية، ثم تشكّلت اختلافاتها ونمت في معمعان تفاعلها مع ظروفها البيئية الخاصة!...
لعل تلك الملاحظة كانت شرارة انطلاق نظريته، التي لم يتوقف عن بناءِ صرحِها ومراكمةِ براهينها طوال عشرين عاماً، منذ بدء تلك الرحلة التاريخية وحتى ظهور كتابه الشهير في 1859.
(2) ماذا تعني كلمة «نظرية»: افتراضات أم حقيقة؟
لكلمة «نظرية» في العربية مدلولان مختلفان لعلهما سبب التباس كبير في بعض الأحيان. هي من ناحية مجموعة فرضيات تشرح موضوعاً ما، من وجهة نظرٍ محدّدة (مثل «النظرية الماركسية»)، بالإمكان قبولها أو الاختلاف معها. ومن ناحية أخرى هي حقيقة مبرهنة علميّا (مثل «نظرية النسبية»، «نظرية الجاذبية»...) يصعب الاختلاف معها!...
تظلّ كلّ نظريةٍ (طالما لم تبرهَن كلّيةً) فرضيةً لا غير، بهذه الدرجة أو تلك، في ضوء كمية أجزائها التي لم تبرهَن بعد. لنأخذ، على سبيل المثال، نظرية فيثاغورس (مساحة مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مساحتي مربعي الضلعين الآخرين): أدرك البابليّون، بشكل تجريبي، هذه العلاقة الرياضية قبل ميلاد فيثاغورس بستة قرون! لاحظوا صحتها في أي مثلث قائم الزاوية يمكن رسمه، واستخدموها عملياً في أكثر من مجال. ظلت تلك العلاقة، رغم ذلك، فرضيّةً لا غير، حتى برهنها فيثاغورس رياضياً وحوّلها من مشاهدة حدسية تجريبية إلى حقيقةٍ علميّة دامغة!...
السؤال هنا: ما موقع «نظرية داروين» من الإعراب، بين الفرضية والحقيقة؟... يلزم قبل الإجابة عليه تقديم حيثيات هذه النظرية بشكل موجز.
(3) نظرية داروين، بكلمتين
من المهم جدا القول بأن كلّ الأنواع البيولوجية الموجودة على الأرض لم تمتلك، بشكلٍ ثابتٍ منذ الأزل، هيأتَها البيولوجية الحالية. يكفي متابعة أحفوراتها لرؤية أنها تحيى في تطورٍ وتغيُّرٍ دائمين!...
ثمّة أنواع تنقرض، مثل الديناصور قبل 65 مليون سنة بعد تغيّرات حرارية ومناخية في بيئة الأرض إثر سقوط نيزك هائل عليها. أو مثل «هومو نيانديرتال»: (نوع آخر من الإنسان، يختلف بيولوجيا عن نوعنا: «هومو سابيانس»، أي الإنسان الحديث) انطفأ تدريجيا ولم يعد له وجود منذ حوالي 30 ألف سنة، بعد أن عاش على الأرض مجاوراً للإنسان الحديث!...
بشكل عام، كل الأنواع البيولوجية الحيّة، مثل الإنسان الحديث، لا تتوقف عن التحوّل والتطور الدائم، كما يتجّلى ذلك في الأحفوريات. تتكيّف بذلك مع بيئتها التي لا تتوقف هي الأخرى عن التغيّر والتشكّل المستمر: مرّت الأرض، منذ ميلادها قبل أربعة ونصف مليار سنة، بسلسلة رهيبة من الأحداث والتغيرات الجيولوجية والمناخية والفلكية شديدة التنوع والأهمية. خارطتُها الجغرافية الحالية محطة في مسيرة طويلة من الانشطارات والتوحّدات والتغيّرات والتبدّلات الهائلة ذات الآثارِ الجوهريّة الجذريّة على حياة الكائنات ونموها وتطوّرها... الإنسان الحديث لذلك، مثل بقية الأنواع، ليس أكثر من مرحلة في مسيرة سلالة أنواعٍ بيولوجية لم تنفك عن التطوّر والتكيّف مع بيئةٍ لم تتوقّف عن التغيّر منذ بدء الحياة على الأرض قبل 3,8 مليار عام!...
لم يكن داروين أوّل من أكتشف ذلك بالطبع. لامارك (1744م - 1829م)، قبله على سبيل المثال، عرض هذه الرؤيا التحوّلية للتاريخ الطبيعي للكائنات الحية، دون أن يعطي تفسيرا علميا لميكانيكا تغيّراتها. فسّر ذلك بشكل ميتافيزيقي: «ثمّة في كلّ الكائنات ميولٌ داخليّة للارتقاء!»...
أما داروين فقد قدّم نظرية متكاملة تشرح ميكانيكا ذلك التطور انطلاقا من مبدأ «الانتقاء الطبيعي». فكرة هذا المبدأ الجديد (المنطقي والبديهي جدا في جوهره، وإن لم يكتشفه أحدٌ قبل ذلك) تتكئ على دراسة أثر بعض «التغيّرات الأحيائية»، Mutations، أي التغيّرات المفاجئة التي تحصل أثناء وراثة الأبناء للتركيب البيولوجي لِسلفهم.
من الملاحظ جدّاً أن الأبناء ليسوا نسخاً دقيقة من أبويهم. لهم أحياناً أشكال وصفات بيولوجية تختلف أكثر أو أقل (يمكن مثلاً أن يلد طفلٌ بعينين فاتحتي اللون من أبوين لهما أعين بُنِّية اللون). بعض هذه التغيّرات الأحيائية تتناسب والبيئة أكثر من غيرها (ولادة زرافةٍ برقبة أطول من رقاب زرافات محيطها، أو إنسانٍ لهُ مقدرة في تحمّل مرض فاتك أفضل من أبناء محيطه، أو فراشة لها نفس لون جذع الشجرة التي تحطّ عليها مما يمنع العصافير من رؤيتها...)
لأولئك الذين يمتلكون هذه المؤهلات البيولوجية حظٌّ أوفر من غيرهم في البقاء على ظهر الحياة وفي الإنجاب، لاسيما في الظروف المحدودة الموارد! يتراكم أحفادهم من جيل لجيل، لِينتشروا ويسودوا أكثر من غيرهم... يؤدي تراكمهم، خلال آلاف السنين أحيانا، إلى ظهور نوع بيولوجي جديد يحلّ محلهم، يمكن رؤيته كفرعٍ ينبثق من نوعهم كما ينبثقُ فرعٌ من جِذع شجرة... يمكن تجسيد هذه العلاقة التناسلية بين الأنواع بِ «شجرة سلالات الكائنات الحية» التي تلخِّص تاريخ نشوء هذه الكائنات، وعلاقاتها ببعض، وتطوراتها منذ فجر الحياة على الأرض...
أجلى داروين تشعبات هذه الشجرة خلال دراسات طويلة لكائنات حية عاشت أو تعيش في مناخات بيئية مختلفة تربطها ببعضها علاقاتٌ عضويةٌ مختلفةُ الدرجات، ولِمُضغِ وأجِنَّاتِ الأنواع البيولوجية المختلفة وهي تنمو يوماً بعد يوم... لعلّ أكثر ما أثاره هو أن طول مدة التشابه بين أجنة الأنواع ينسجمُ ويتناسبُ مع قرب موقع هذه الأنواع من بعضها في شجرة السلالات!: أجنة الأسماك والزواحف والثدئيات، على سبيل المثال، تتشابه تماماً في البدء، ثم تختلف أكثر فأكثر: تبتعد الزواحف والثدئيات عن الأسماك بعد ذلك وتظلّ متشابهة معا فترةً أطول، ثم تتنافر هي الأخرى... وهكذا دواليك!... يستمر التشابه على سبيل المثال بين أجنة القرد والإنسان أطول فترة، قبل أن يتنافرا هما الآخران في نهاية المطاف. يتفق ذلك واقترابهما الشديد من بعضهما في شجرة السلالات!...
(4) قرن من الاكتشافات قبل اكتمال برهنة «نظرية داروين» وتصحيحها!
لعله يمكن القول إن برهان نظرية داروين لم يكن مكتملاً تماماً حتى منتصف القرن العشرين، رغم أن داروين راكم كمية هائلة من الملاحظات الحفرية والدراسات المختبرية التي ساهمت في برهنة نظريته، ورغم أن شجرة الأنواع التي تقترحُها مشاهداته وتجاربه تتفق مع نتائج علوم الأجنة...
يرجع سبب ذلك إلى أن «التغيّرات الأحيائية»، التي تحتلُّ موقعاً رئيساً في نظريته، كانت مبنية على ملاحظات عينية فقط، دون تفسير علمي لكيفية وميكانيكا حدوثها!... يرجع ذلك إلى أن «الجينات» (الموجودة في الخلايا، والتي يمكن رؤيتها كعباراتِ «انسكلوبيديا» شفرة التركيب البيولوجي الخاص بكل كائن حيّ، والتي توجّه صناعة البروتينات) لم تكن معروفة بعد في أيّام داروين!...
الحق أن تفسير داروين الشخصي لتلك التغيرات كان ناقصاً وغير صحيح: افترض أنها نتاج للعلاقة مع البيئة فقط. غير أن تفسيره يعتبر اليوم، من منظور الاكتشافات الحديثة، جانبياً فقط. يمكن فعلا، على سبيل المثال أن يؤدي التعرض لبعض الإشعاعات إلى مثل تلك التغيرات الجينية. لكنها تنبع غالبا مما يمكن تسميته مجازاً ب«الأخطاء المطبعية» أثناء نَسْخِ الجينات من الآباء إلى الأبناء!...
حدثت نقلةٌ نوعيّة في علوم البيولوجيا في عام 1953: تمّ فيه اكتشاف جزيء ال «دنا» الهائل، الموجود في كل خلية حيّة، والذي تتشكل من متوالياتِهِ الجيناتُ: أمكن بعد ذلك التحديد البيولوجي الدقيق لتلك التغيرات الجينية ورؤيتها مجهريّاً!...
ثمّ تمّ تشفير جينوم الإنسان («انسكلوبيديا» كامل المعلومات الوراثية المشفّرة في جيناته) بكل تعقيده الشاسع، وكشف أسرار شفراته. صار ممكنا أيضاً برهنة صحّة شجرة الأنواع من خلال المقارنة بين جينومات الأنواع البيولوجية وتحديد كميّة اختلافاتها!... على سبيل المثال، 5 في المائة فقط من جينوم الإنسان يختلف عن جينوم قرد الشمبانزيه (أقرب الأنواع البيولوجية للإنسان في شجرة الأنواع)!
ثمّ توالت البراهين الأخرى الجديدة لاسيما النابعة من علوم الأحفوريات. تمَّ مثلاً اكتشاف وتحديد المراحل السابقة لحياة سلف الإنسان الحديث، بعد العثور على حفريات نماذج من أنواع بيولوجية إنسانية عفا عليها الزمن، مثل هياكل لوسي وأورارون وتوماي الشهيرة، أسلافِ الإنسان الحديث الذي نشأ وترعرع في أفريقيا، لاسيّما بعد ظهور السافانا على أنقاض غابات شرق أفريقيا، في ظروف جيولوجية خاصّة حدثت قبل ملايين السنين!...
تلتها اكتشافات جديدة آتية من «علوم الأحياء الجزئية» التي أجْلَت التماثل الدقيق في التركيب الجيني لكل الكائنات الحية: ما يختلف بينها هو مدى تنشيط هذه الجينة أو تلك لصنع البروتينات! (على سبيل المثال: الجينة المتخصصة بصناعة بروتينات الرقبة تنشط في الزرافة أكثر منها من الفأر!)...
من جهة أخرى، صحّحت التجارب المختبرية لعلوم الأحياء الجزئية بعض الفرضيات الثانوية الخاطئة في نظرية داروين: كان داروين يظنّ مثلاً أن الانتقال من نوع بيولوجي إلى نوعٍ آخر يحتاج إلى آلاف السنين! تم البرهنة المختبرية على أنه يحتاج أحيانا، في ظروف محدّدة، إلى عدة أجيال فقط!...
باختصار شديد، لاحظت علوم مختلفة (انصبّتْ جميعها على دراسة نظرية داروين)، كلاًّ بطريقته، أن فروع شجرة الأنواع ترتبط ببعضها بنفس علاقة وتشعبات شجرة السلالات الداروينية. لها جميعا نفس الجذر الذي تشكّل قبل 3,8 مليار عام عند بدء الحياة على الأرض: الطحالب الزرقاء!...
(5) ما موقع «نظرية داروين» من الإعراب اليوم؟
أصبحت نظرية داروين اليوم، بعد قرن ونصف من نشر كتابه، أساس البيولوجيا الحديثة. لا يوجد مختبرٌ أو عالِمٌ بيولوجي واحد في الغرب لا يعتمدها قاعدةً لأبحاثه...
لعل سيرورة انتقالها من فرضية علمية، عند نشر كتاب داروين، إلى حقيقة علمية مبرهَنة اليوم، تشبه في نظري تماماً مرحلة انتقال نظرية فيثاغورس من حقيقة تجريبية (أيام البابليين) إلى حقيقة رياضية (بعد برهنة فيثاغورس لها).
بالمثل، كانت نظرية داروين طوال القرن الذي تلا ظهور «أصل الأنواع» فرضيّةً فقط (وإن كانت فرضيّةً راسخةً قوية، مبنيةً على كتلة هائلة من الملاحظات التجريبية والبراهين الفرعية). ثمّ تحوّلت إلى حقيقة علمية ساطعة لا تقلّ في ذلك عن نظرية نيوتن أو اينشتاين، بعد اكتشاف أساسها الجيني وبرهنتها من قبلِ علوم أخرى متنوعة: علوم الأحفوريات، البيولوجيا الجزئية...
لا تقلّ صحتها، على سبيل المثال، عن القول بأن «حربا عالمية حدثت بين عام 1939 و1945»! الدلائل التي تُبرهنُ على ذلك لا تُحصى: الكتب والصحف والصور والأفلام الحية المرتبطة بها، شهادات من عاشها من الأحياء والموتى، جثث الموتى... يكفي ذلك للإقرار بأن تلك الحرب العالمية وقعت دون شك، حتى وإن ظلّ تاريخها ويومياتها غير مدروسةٍ وموثقةٍ بالضرورة، دقيقةً دقيقة، في هذه القرية أو تلك، في هذا الحيّ أو ذاك... تتوالى الدراسات والاكتشافات بانتظام لتفاصيل جديدة حدثت هنا وهناك، تُكتشفُ بعض المقابر الجماعية الجديدة، يتمُّ تصحيحُ بعض التواريخ والأرقام، تنجلي أسرار جديدة هنا وهناك، لكن مجمل ذلك لا ينفي أن ثمة حرباً عالمية وقعت، بقدرِ ما يُعزِّز من برهان حدوثها بالطبع!...
ذلك أيضاً وضع نظرية داروين اليوم: صارت في الغرب أساس التعليم المدرسي للتاريخ الطبيعي للكائنات الحيّة. يتعلّمها الجميع، وتناقشها مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام والمتاحف والمحاضرات الثقافية دون توقّف...
أكبر شاهد على سيادتها في الغرب هو ركوع الكنيسة (التي أجبرتْ جاليلو في عام 1633 على الجحود بكروية الأرض ودورانها!) للاعتراف أخيراً بنظرية داروين! في رسالة الأكاديمية البابوية في 24 أكتوبر 1996 قال البابا يوحنا بطرس الثاني هذه العبارات التاريخية:
«ثمة معارف جديدة اليوم تقود للاعتراف بأن نظرية التطور والانتقاء صارت أكبر من فرضية! من الملحوظ في الواقع أن هذه النظرية فرضت نفسها تدريجياً على الباحثين، انطلاقا من اكتشافات نابعة من مجالات علمية شتى! فكَونُ هذه الاكتشافات المختلفة تصب في نفس النتيجة، بشكل غير مبرمج أو متوقع، دليل هام على صحة هذه النظرية!»...
من كان يتوقّع هذه الشهادة من الكنيسة التي أسمت داروين، على لسان أحد بابواتها في القرن التاسع عشر، «أصبع الشيطان»؟...
الغريب أن نظرية داروين، رغم ذلك، ما زالت تثير شكوك البعض هنا وهناك: حوالي 20 في المائة من الفرنسيين، على سبيل المثال، مازالوا يشكّون من صحّتها!... أسباب ذلك في اعتقادي كثيرة:
لم يتوقف الإنسان الحديث، منذ امتلاكه البنية المتطوّرة لدماغه الحديث (قبل حوالي 50 ألف سنة)، عن التساؤل عن تاريخه وأصله. لم يتوقف أيضا عن صنع عددٍ هائل من الإجابات التخيّلية، منذ ذلك الزمن السحيق: في مجتمعاتٍ أفريقيّةٍ قال إنه انبثق من مضاجعة الرب-السماء بالأرض-الأم... في مجتمعات التوراة قال إن الإله الأوحد بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام جمّع ترابا من كل أنحاء الأرض، نفخ فيه في اليوم السادس ليخلق الإنسان «على شاكلته»، قبل أن يأخذ إجازةً للراحة في اليوم السابع... في حضارات الصين القديمة يختلف السيناريو قليلا: من اضطرابٍ كونيٍّ أوليٍّ سحيق تشكَّلتْ بيضة، انبثق منها اليينج واليانج وعملاقٌ كونيٌّ كبير اسمه بانجو. من جسدِهِ وهو يُنَخِّرُ تشكَّلَ العالم: من عينيه انبثقت الشمسُ والقمر. من شَعرِ جلدِهِ ودمهِ الأنهارُ والبحار، ومن قملِهِ وصيبانهِ البشر!...
تصطدم نظرية داروين، بالضرورة، بكل هذه المعتقدات المستفحلة في التاريخ الثقافي الإنساني، وإن لم يكن لها أي هدفٍ إلحاديٍّ أو معادٍ مسبقاً لأي فرضية ثقافية أو دينية عن أصول الكائنات الحية. ناهيك أنها تلتقي في الجوهر مع الآراء الفلسفية العميقة التي لا تميلُ للحديثِ اليقينِ عن اتجاهٍ للحياة مُخطَّطٍ بشكلٍ مسبق، أو عن معنىً ما لِبدايتها ونهايتها، مثل رباعيّة الحيرة العلميّة النقيّة المباركة لِلشاعر وعالم الرياضيات العظيم الخالد عمر الخيام:
لَبستُ ثوبَ العيش لم أُستشَر وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَر
وسوفَ أنضو الثوب عنّي ولم أُدرك لماذا جئتُ، أينَ المقر
هدف نظرية داروين الوحيد تقديم تفسير علميّ لميكانيكا الحياة الطبيعية!... غير أنها، مثل بقية الاكتشافات العلمية، تصل في أرضية احتلتها إجابات غير علمية منذ الأزل، يصعب دحرجتُها بسهولة! مثل الاعتقاد البدائي بأن الجسم الثقيل يسقط من الأعلى إلى الأرض بسرعة أكبر من الجسم الخفيف، كما يتهيأ ذلك لحدسنا البسيط، وكما أكّده أرسطو!... لاحظ جاليلو أنهما يصلان في نفس الوقت (يقال إنه أثبتَ ذلك أمام الملأ برمي جسمين مختلفي الوزن من أعلى برج بيزا). بالطبع، تسقط الريشة (بسبب مقاومة الهواء) بسرعةٍ أبطأ من الفولاذ، لكنهما يسقطان بنفس السرعة في الفراغ!... ثمّ برهن «مبدأ نيوتن» ذلك رياضيّاً بشكلٍ دامغ!...
ناهيك أن نظرية داروين «جرَحَتْ نرجسيَّةَ» الإنسان، حسب تعبير فرويد: هذا الكائن الذي اعتبرته الثقافات «ألفا وأوميجا» الكون، الذي «خلقة الرب على شاكلته» كما تقول التوراة، الذي «نفخ فيه من روحه» كما يقول القرآن... ليس أكثر من ظاهرةٍ حديثة برزت في ظروفٍ بيئيةٍ عرفتها أفريقيا، قبل بضعة ملايين من السنين فقط (أي في «الليلة الماضية» من التاريخ الطبيعي للأرض)، لهُ نفس التركيب الجيني والتاريخ السلالتي لبقية الكائنات الحية!... انحدر هو والقرد من أبٍ مشتركٍ واحد لهُ أسلاف أكثر فأكثر بدائية!... آه، ما أجمل الخيال، وما «أقبح» العلم!...
أو بالأحرى، ما أعظم شاعرنا الضرير، أبا العلاء المعري، الذي امتلك بصيرةَ أحذقِ العباقرة عندما قال هذه الكلمات الإلهية التي كثَّفَتْ قروناً كاملةً من الأبحاث والاكتشافات العلميّة الحديثة:
والذي حارتِ البريّةُ فيه حيوانٌ مُستحدَثٌ من جماد
أجزمُ أنه لو وُلِدَ شاعرنا الكفيف في بلدٍ غير عربي (يهتمُّ بذكرى عظمائه، ولا يخجل من رفعِ لواءِ ألمَعيّتِهم الخارقة أمام العالم)، أو لو كان معروفاً خارج العالم العربي، لانحنى أمام قبره كوكبةُ عباقرةِ البشر!...
(6) خاتمة: ما موقع نظرية داروين في الثقافة والتعليم العربي اليوم؟
للإجابة على هذا السؤال، يلزم الخوض (دون نفاقٍ أو لفٍّ ودوران) في سؤال أعمق: ما هو الخطأ الأساسي الجوهري في التعليم العربي؟... سأتحدث عن هذا الموضوع في مقالٍ قادم!...
(*) عن صحيفة "القدس العربي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق