التعليم العربي: بناءٌ فوقيٌّ غربيّ، وتحتيٌّ تأسّسَ في عصر الانحطاط!
حبيب عبدالرب سروري
(1) لماذا لا يمكن للتعليم العربي الراهن غير إدارة التخلف؟
سأستهلُّ هذا المقال بحكمةٍ صينية شهيرة: «لو وهبتكَ سمكةً لأعطيتك ما يكفي للعشاء هذه الليلة. لكن لو علّمتك الصيد لوَهبتكَ ما يكفي للعشاء طيلة حياتك!». أحتاجُها، في الحقيقة، لتوضيح أن ثمّة نوعين من المعارف: الأولى أشبه بالسمك في المثل الصيني، والثانية بتعلم صيدِ وطباخةِ السمك!...
الأولى معارف منتَجة (بنصب التاء)، والثانية منتِجة (بكسر التاء) تسمى أحياناً «ما وراء المعارف»، أي المعارف التي تتّخذ المعارف موضوعاً لها: تصنعها، تبرهنها، تدرسها، تنتقدها، تعيد خلقها... الأولى تمثّلُ البناء الفوقي للمعرفة، أو ثمرَتها. والثانية بناءَها التحتي، أو أرضيّتَها وماءها وهواءها... مهمة التعليم تدريس الأولى، بالطبع. لكن مهمته الأهم والأعمق هي تجذير ممارسة الثانية، أي تعليم الطالب اكتساب ما يسمى بالعقلية العلمية!...
المعارف المنتَجة (بنصب التاء) التي تُدرِّسها مدارسنا العربية هي تلك التي ترجمناها من الغرب (باستثناء دروس اللغة العربية والدين أساساً، التي لم يكتبها الغرب لنا، فأخذناها من كتبٍ سحيقة، عمرها عدة قرون!). ربما هناك تأخرٌ في ترجمةِ ومتابعة جديد هذه المعارفِ الغربية غالباً، أو نقصٌ أكيدٌ في الإمكانيات أثناء تدريسها، لكنها معارف حديثة، لم تسمح لنا مع ذلك بأن نصل لمستوى الغرب أو حتى بالخروج من تخلفنا الذي يزداد يوماً بعد يوم!... أفضل ما يمكنها أن تقدّم لنا هو كيف نستخدم هذا الجهاز الغربي أو ذاك، كيف نعالج بعض الأمراض، كيف نقرأ آثارنا القديمة!...
السؤال الجوهري هنا: لماذا لا يمكنها أن تسمح لنا أكثر من استيراد سمك الغرب المطبوخ (الذي يصلنا غير طازجٍ غالباً)؟...
السبب الرئيس، الذي لا نتجرأ الخوض فيه بعمق، يكمن في أن البناء التحتي للتعليم العربي وادٍ غير ذي زرع (ظلّ ظلاميّاً كما هو، منذ عصر الانحطاط الذي ساد فيه فكرٌ سلفيٌّ أحاديّ الاتجاه في الثقافة العربية الإسلامية، أطاح بالتراث العقليّ لِلعصر الذهبي، لاسيما الفكر المعتزلي)... بناؤنا التحتي هو منبعُ تخلفنا لأنه يُعلّم الإنسان العربي بنجاح كيف لا يفكر، كيف يكتفي باستيراد السمك وأكله. هو أرضيةٌ جرداء لا تسمح بإنتاج المعارف! ثمة خللٌ جوهري في علاقته بالبناء الفوقي الذي استوردناه من الغرب ومقرّرات مدارسه الحديثة!...
(2) البناء التحتي للتعليم العربي معادٍ للعلم!...
لأوضّح ذلك يلزم التذكير بأن البناء التحتي للتعليم في الغرب تأسس في معمعان الصراع بين الكنيسة والعلم، منطلقاً من فكرةٍ جوهرية تفصل بين العلم والدين، تعودُ شرارتها الأولى لابن رشد الذي اعتبرهما، قبل 8 قرون، كرتين لا تقاطع بينهما: الأولى تتمحور حول البرهان، والثانية حول العقيدة. الأولى «علوم صنعيّة»، والثانية «علوم شريفة»!...
استندت الحضارة في الغرب على هذه الفكرة التأسيسية فيما ابتعدت الحضارة العربية الإسلامية عنها، وتجمّدت في قرون انحطاطٍ لم تنته بعد! طوّر الغرب بعد ذلك تلك الفكرة أقصى تطوير، لتصبح اليوم بشكلها الراقي ميثاق العلاقة الحضارية بين التعليم الحديث والدين، الذي يقوم على الأساس التالي:
للعلم والدين وظيفتان مختلفتان. العلمُ مجالُ نشاطِ المدرسة، يتخصصُ بدراسة وتفسير الكون والحياة. والدين مجالُ نشاطِ الكنيسة أو دور العبادات الأخرى، يختصُّ بالعلاقة الروحية بين الإنسان وإلهه، وتعليم من يريد القيمَ الأخلاقية الدينية: حب الآخرين، التعاون... لا يحقُّ لِلعلم المسّ الإيديولوجي بالدين أو التدخّل بشئون معابده، ولا يحق للدين التدخل في شئون العلم أو التسرب إلى المدرسة. الاحترامُ المتبادل بينهما ضرورةٌ اجتماعية جوهريّة يلتزم بها الجميع (وإن اعتبر بعض المفكرين، مثل دِريدا، أن الفكر الغربي أخطأ عندما رفض التدخل في الفكر الديني، وكأن هذا الفكر غير ناتج من الموروث الثقافي والحضاري. مما جعل نخباً عديدة من المفكرين في القرن العشرين يجهلون الفكر اللاهوتي وفلسفته ومكوناته، بسبب غلوهم ورفضهم لهذا الموروث)!...
هذا الفصل بين العلم والدين هو أساس البنية التحتية للمعرفة في الغرب. المدرسة الحكومية الفرنسية، على سبيل المثال، لا تعترف بأي دين كان، بما فيه المسيحية، منذ عام 1905 الذي نُزِعت خلاله آخر صورة للمسيح من آخر جدار مدرسة! لا تقبل هذه المدرسة العلمانية الحقائق الموجودة في الكتب الدينية. تعتبرها «أحداث دينية» لا علاقة لها بالحقائق التاريخية والعلمية...
تتأسس العقلية العلمية في هذا الصرح الملائم، بشكلٍ طبيعيٍّ متين. يتعلّم الطالب فيه أن الفضاء المعرفيّ الإنساني ممتلئٌ، منذ الأزل، بالإجابات اللاعلمية على كل الأسئلة، وأن حلول الإجابات العلمية محلّها صعبٌ جدّاً دوماً. مهمة العلم الكبرى هي تعليم منهجية القطيعة المعرفيّة معها، أي تعليم أنبل وأقدس الكلمات: «لا»، لغة العقل!... تاريخ العلم ليس أكثر من سلسلة لاءاتٍ لا غير!... تُعلِّم المدرسة الطالب كيف عليه أن يبرهن صحّة «لائِهِ» من ناحية، وأن يخترع «نَعَماً» بديلاً من ناحية أخرى. تُعلِّمهُ أن كلَّ من صنعوا التاريخ من عظماء وعلماء وأنبياء لم يقولوا أكثر من «لا»، فيما العبد والعاهرة والسفّاح لا يردِّدون غير «نعم»!...
تُعلِّمه منهجية التساؤل الحر والنقد الدائم والرفض، كيف يحوّل دماغه إلى سياجٍ (أو «لجنة رقابة») يمنع تسلّلَ الأفكار اللاعلمية. مبدأها الرئيس في ذلك: كل ما يصلك من معلومات وأطروحات وتأكيدات هو افتراضيٌّ وغير صحيح ما لم يبرهن علميا. تُعلِّمه ضرورة البرهان وطرائق صنعه!... هذه هي الأسس الجوهرية للبناء التحتي للتعليم في الغرب...
مدرستنا العربية تعتبر كل ما في الكتب الدينية حقائق علمية. أيُّ استنتاجٍ علميٍّ مخالفٌ لها مرفوضٌ بالضرورة. يتحول العلم فيها إلى مُطبِّلٍ للدين، مُلزَمٍ بأن يقبل كل مسلماته. العلم (كما تقدمه مدرستنا) موجودٌ في الكتب السماوية، وفقهاؤنا علماء رسميون، يتحدّثون كلّ يوم باسم العلم في الإذاعة والتلفاز والمدرسة!...
تنشأ وتنمو عقلية الطالب في هذه البيئة بطريقةٍ لاعلمية: تفسِّرُ الأحداث بشكل غيبيّ. يمكنها بسهولة (وبِتلذّذٍ أيضاً!) أن تقبل كل ما يخالف العقلية العلمية من معجزات وخرافات، لأن الدماغ خالٍ من أيّ سياجِ رقابيّ يمنع من تسلّلها إليه. هو بابٌ مفتوح على مصراعيه لِملاحم «اللاأشياء الصغيرة»، حسب تعبير شكسبير. يتعلم الطالب في هذه البيئة أن يخضع، أن يقبل كل شيء دون أدنى تمحيص أو شك، أن لا يقول غير لغة الخروف: «نعم». نموذجهُ في الحياة ذلك الإنسانُ الذي، كما قال الفرزدق:
ما قال «لا» قطُّ إلا في تشهُّدِهِ لولا التشهُّدُ كانت لاؤهُ «نعمُ»...
يتعلّم التلميذ في واقعنا العربي ثقافة «الثوابت»: العلم فيه يتحرّك في ظلِّ الدين، اللغة مجمّدةٌ من أجل الدين (في حين أحدث الانجليز والفرنسيون واليونانيون والإسرائيليون، على سبيل المثال، ثورات وإصلاحات متتالية في لغاتهم، لأن الأمة التي لا تطوّر لغتها في ضوء حاجة العصر، تظلُّ متخلفةً أبداً)... فيما يحتاج هذا التلميذ أن يتعلّم ثقافة «القطيعة»: كيف يتلو في كل لحظة ما تيسّر من سورة «القطيعة»، كيف يمارس يوميا قسطاً بسيطاً من القطيعة مع البارحة، مع ثقافة البارحة، مع مسلّمات البارحة، مع لغة البارحة…
يتعلم الطالب في المدرسة العربية كيف يتلقّن، كيف يسلِّم بالواقع ويكرّره، كيف يقبلُ رؤيةً ما للعالم كما هي. يتعلّم باختصارٍ شديد كيف يلغي الإرادة والعقل، ويعيش حياة الاستهلاك والتقوقع. فيما يلزم على المدرسة أن تُعلِّمه كيف يُكوّن رؤيته الخاصة للحياة دون أدنى فرضية مسبقة لا تقبل النقد والجدل والرفض، كيف يُفجّر إرادته وعقله وملكاته دون حدود، كيف يبني عالما على أنقاض آخر!...
ذلك وحده ما يسمح للإنسان بأن لا يكتفي بتعلم نظريات صنعها الغير، بل يتعلّم في الجوهر كيف يصنَعُ النظريات، كيف يخلق المعارف، كيف يكسِّر القيود المعرفية، كيف «يصطاد السمك ويطبخه». باختصارٍ شديد، يتعلّم كيف يتعلّم!... كم هي شاسعة تلك المسافة التي تفصل بين نوعين من التعليم: أحدهم يعلمك كيف لا تدري أنك لا تدري، والآخر يعلِّمك كيف تتعلّم أن تتعلّم!...
(3) نحو أسسٍ جديدة للبنية التحتية للتعليم العربي!...
لعل مدرستنا العربية صارت اليوم بِحاجةٍ مُخِّيّة عاجلة لإعادة بناء قاعدتها المعرفيّة التحتية على أساس الفصل بين «العلوم الشريفة» و«العلوم الصنعيّة». سأضرب مثلاً بسيطاً على ذلك من ردِّ «قارئٍ محايد» على تعليق أحد قرّاء مقالي الأخير في موقع صحيفة «القدس العربي» على أنترنت: «نظرية داروين: فرضيةٌ غبراء أم حقيقة ساطعة؟».
قال المعلّق: ((حتى نفِي العلمَ حقه يجب الرجوع بكل هدوء وسكينة إلى مرجع المسلمين الأوحد وهو بدون نزاع القران الكريم كتاب الله وبرهانه في ميادين المعرفة الإنسانية. وأنا على يقين أن من يقرأ: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج...» سيعرف كل شيء)). ردّ عليه «قارئ محايد» أتفِّقُ معه في الجوهر، قائلاً: ((القرآن الكريم الذي نحبه جميعا ليس كتاب بيولوجيا. لماذا تحشره في قضايا ليست من اختصاصه؟ هذا الخلط بين الدين والعلم هو مشكلتنا الكبرى وسبب تخلفنا. الإنسان يعرف، من قَبْل القرآن بآلاف السنين، أن الطفل يأتي من نطفة وجنين (بعد مجامعة بين رجل وامرأة). لماذا نحمل هذه العبارة أكبر من طاقتها ونطلب منها أن تكون درساً في البيولوجيا؟))...
لعلّ في هذا الرد أحد الأسس الجوهرية لبناءٍ تحتيٍّ جديد تحتاجهُ مدرستُنا. لأن إقحام «العلوم الشريفة» في مجالات «العلوم الصنعيّة» يسيءُ للأولى ويمنع الثانية من النشوء والتطور!...
أختتم مقالي بلفت نظر القارئ لتجربة اليابان التي أدركت في القرن التاسع عشر أنه كي تلحق بالغرب يلزمها استلهام تجربة تعليمهِ في بنائها الفوقي والتحتي معاً. ترجمَتْ كل مراجعه التعليمية، وأعطت لِبناء العقلية العلمية في ميزانيتها واهتماماتها نصيباً رئيساً. كانت قبل ذلك أكثر تخلفاً من مصر، لتصل اليوم إلى ذروة الحضارة الإنسانية وأعلى درجات التنمية البشرية، رغم أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية إطلاقاً. فيما قبعتْ مصر العظمى في الحضيض!...
ألا نحتاج نحن أيضاً للاستفادة من تجربة اليابان؟ أليس من حقّنا أن تعود إلينا بضاعة ابن رشدنا الذي استوردها الغرب منا ليبني حضارته؟...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق