هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (١)
حبيب عبدالرب سروري
١٩ مايو ٢٠١٢
تبادلتُ، اليوم ١٩ مايو، مع صديقٍ عزيزٍ جدّاً بينج بونج من الإيميلات، بدأَتْ بإيميل يسألني فيه:
− أنت مع الوحدة، الانفصال بين الجنوب والشمال، أم الفيدرالية؟
أجبتهُ بإيميل سريع:
− سؤالك نموذجٌ لما يُسمَّى علميّاً بالسؤالِ "السيئ الوضع".
"لماذا؟"، استفسر صديقي ع.م (الذي لا يُحبُّ إشهار اسمَه) بإيميل وصلني بأسرعِ من وصولِ قصر ملكة سبأ للنبي سليمان (١).
− الوحدة، الانفصال، أو الفيدرالية، عزيزي ع.م، ليست غايات بحدِّ ذاتها. هي جميعاً مجرَّدُ وسائل، لا غير.
إذا ما اتفقنا أوّلاً عمّا هي غايتنا فسيكون لِسؤالك مدلول، وللإجابة عليه معنى.
− غايتُنا واضحة: "الدولة المدنيّة"، ردَّ صديقي الباسل.
− دلا دلا، حبيبي!... (لا استخدم عادةً كلمة: "حبيبي" خارج دوائرها الرسميّة جدّاً، لكنها طَحَستْ هذه المرّة!). ثمّ أردفتُ:
− ليس ثمّة، عزيزي ع.م، من مصطلح أجوَف تُردِّدُهُ كلُّ الألسنة هذه الأيام مثل مصطلح: الدولة المدنيّة.
صار مدلولُهُ يُشبِهُ مدلولَ كلمة "الدِّين" الذي يعتنقه، في نفس الوقت، الجلّاد والضحية، المعتدِي والمعتدَى عليه، ويُطلقانِ باسمهِ الفتوى والفتوى الأخرى (المعاكسة تماماً).
− تنظيرٌ فضفاض ما تقولهُ يا بن خالتي، حبيب... ردّ صديقي الغالي.
− أصبتَ!... لأُحدِّد جوابي إذنْ بشكلٍ أدقّ وأفضل...
سأذكرُ لك بعض أبجديات بُنية كلِّ الدوَل المدنيّة في كُرتِنا الأرضية الحبيبة، وقلْ لي هل تلائم مزاجكَ أم لا!...
− هات!... (ردّ ع.م بإيميلٍ فارغٍ يحملُ كلمة "هات" كعنوان).
− الدولة المدنيّة تعني التعليمَ الحديث المختلف تماماً عن تعليمنا الحالي الذي يقود إلى التبليد في الجوهر. تعليمٌ مبنيٌّ على روح التساؤل والشك والنقد والرفض والبرهنة. مؤسسٌ على مناهج ومعارف النظريات العلميّة الحديثة في تفسير ودراسة كلِّ ما يتعلّق بالوجود والطبيعة والحياة والتاريخ. مفصولٌ تماماً عن الدِّين والغيب ونظرياتهما التي لا علاقة لها بالعِّلم من شقٍّ أو طرف...
− مفصولٌ كليّةً عن الدِّين والغيب؟ لا أوافق!...، ردّ صديقي.
− الدولة المدنيّة تعني المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كلّ الواجبات والحقوق...
− بالطبع لا يناسبني ذلك، لأنه يخالف الشرع. خذ مثلاً مسألة الإرث: للذَّكَرِ مثل حظِّ الأنْثَيَين!... عقّبَ ع.م.
− الدولة المدنيّة تعني ضمان سلسلةٍ لا عدّ لها من الحريّات، من حريّة التعبير حتّى "حرية الضمير" (أي حريّة أن تكون مؤمناً أو غير مؤمن أو ملحداً إذا أردتَ، أن تُغيّر إيمانك إذا أردتَ أيضاً)، مروراً بِحريّة الملبس: أي أن تكون المرأة سافرةً أو محجّبةً إذا أرادت، دون السماح لأيٍّ كان في التدخّل بشئونها وحريّتها.
أي، باختصار، العودة إلى روح عدَن الأصيلة التي كانت المرأةُ تسير فيها في الشارع، غالباً، بِلباسٍ مدنيٍّ سافر، إذا أرادت وبكلِّ حريّة، قبل الهجوم الظلاميّ السلفيّ الذي أجبرَ على ارتداء الحجاب والنقاب، إثر حرب ١٩٩٤ التي اقتلعتْ آخر شرايين المدنيّة في عدَن!...
− بالطبع لا، وألف لا!...
− سأتوقّف إذن عن سردِ بقيّة أبجديّات الدولة المدنية التي يبدو أن اختلافنا حول مفهومها جليٌّ جدّاً، لأقول لك إننا، كما ترى، لم نحدّد بعد غايتنا، فكيف لنا أن نتّفق على وسائل من العيار الثقيل: الوحدة، الانفصال، أو الفيدرالية؟...
ناهيك عن أن مشاريع هذه الوسائل الثلاث، كما يُقدِّمها خطاب الكثيرين من رموزها، تضاعِفُ في رأيي، في ظلِّ غياب البوصلة واستفحال الظلمة السائدة هذه الأيام، من التشويش واللخبطة!...
− مزيداً من التوضيح، فضلاً (استخدمَ ع.م، في الحقيقة، بدلاً من "فضلاً" كلمةَ: "بليز" التي تُعكِّر مزاجي لاسيّما عندما لا تُكتَبُ بِتشكيل أحرُفِ الهجاء: "بِلِيزْ")!
− الوحدة التي يصِرُّ على التشبّثِ بها كثيرٌ من الساهرين على حراستِها هي وحدةٌ مع العبودية والقهر والاستبداد والخراب. هي الخضوعُ لِسُلطة القبائل المنتصرة والاستسلام الدائم لنتائج حرب ١٩٩٤ التي دمّرت حياتنا منذ حوالي عشرين عاماً. مواصلة الحفاظ عليها تلاعبٌ بالوقت للحفاظ على غنائم الناهبين وديمومتها بفضل التقادم ومرور الزمن.
أما الانفصال الذي ينادي به معظم دعاة فكِّ الارتباط فهو فكُّ ارتباط مع الحاضر والمستقبل ودعوةٌ لاعادة كل رموز الماضي بنفس ذلك الخطاب العِرقيّ والمناطقيّ الذي لم يؤسِس إلا لِعقليّتين: عقلية "ترموست الشاي" وعقلية "البطاقة الشخصية"، أي عقلية الغدر وعقلية الانتقام اللتين لخّصتا حرب ١٩٨٦ بكلِّ ثقلها وبشاعتها...
− والفيدرالية؟
− أخشى أن لا تقود إلا إلى مزيجٍ كيماويٍّ فاتر من سيئات الإثنين معاً وهي تُراقِص بانتهازية أوبرا مُجرِمِي حرب ١٩٩٤، وتعيدُ بدون خجل رموز حرب ١٩٨٦ بعد ما يناهز أربعين عاماً من القيادة السياسية والتسلُّط والفشل!...
− ساتعِبُكَ عزيزي حبيب: لم أفهم، اشرحْ ما قلتَهُ بإسهاب!...
− عفواً، سنكتفي بهذا القدر من الكلام المباح هذه الليلة، لِنتحدّث غداً عن خطابَي الوحدة والانفصال اللذين يريدان أن نبقى أسرى لِحربَي ١٩٩٤ و١٩٨٦!...، أجبتُ صديقي وقد انهكني تلاطم إيميلاتنا الزجزاجية في هذا الوقت المتأخر من الليل...
− أوكيييه!... بسْ كلمةٌ أخيرة اليوم قبل أن نستطردَ الحديث غداً: قُل لي بالله عليك لماذا تعودُ دوماً، بعنادٍ ماكر، للتذكير بهذه الحروب التي تصافحْنا حولها، ونريد أن ننساها؟...، سألني ع.م مدحرجاً بلا وعي تأوّهاتٍ ملتويةً بين أحرفِ إيميل عاصفٍ أصم.
− عفواً، عفواً، عفواً!... تقول لي قبل قليل إنك مع "الدولة المدنية"، وتريد "كلْفَتَتِي" الآن بكلِّ سهولة.
في الدولة المدنيّة لا يتمّ نسيان الحروب إطلاقاً. لا معنىً فيها للصفح عن حربٍ إلا بعد محاكمات مدنيّة!... تُدرَّسُ فيها تفاصيل الحروب في المدارس كيما تظلّ ذكرياتها ملتصقةً أبداً في كلِّ دماغ لئلا تتكرّر.
ما أودّهُ أنا عكسَ ما تبغاه تماماً: إدخال تفاصيل هذه الحروب في المناهج الدراسية لكل الطلبة في كلِّ أنحاء اليمن. أريد أن نشرح لهم كيف عشنا حرب ١٩٨٦ منذ أن أُطلِقَ النارُ غدراً على أظهر بعض السياسيين في اجتماع المكتب السياسي إثر خديعة "ترموست الشاي"، ثمّ تفجيرها الجهنميّ بعد ذلك، حتّى سلسلة الانتقامات الجهنمية التي قام بها المنتصرون، بمجرد رؤية موقع ولادة الإنسان في بطاقته الشخصية!...
أريد أن يدرس الطالب كلَّ يوميات حرب ١٩٩٤ يوماً يوماً، أن يعرف كلَّ الأنفس التي قتلتْ غدراً قبلها، كلَّ الأراضي والمؤسسات والمزارع التي نُهِبتْ بقعةً بقعة، ناهباً ناهباً. كلَّ الفتاوي والإهانات التي عشناها إثرها والتي تحالفت في توجيهها أبشعُ عصابةٍ قبليّةٍ حاكمة مع فقهاءٍ ظلاميين لهم علاقةٌ تاريخيّةٌ بالإرهاب الدوليّ وتنظيم القاعدة. وكلَّ عواقب ذلك على حياتنا من طمسٍ ولطشٍ وفسادٍ وتخلّف...
أريد أن تُكتَبَ حول كل تلك الحروب مئات الروايات وأن تُخرجَ مئات الأفلام، مثلما يحدثُ في كلِّ دولة مدنيّةٍ تحترمُ مدنيّتها...
أريد، مثلما هو حال كلِّ "دولةٍ مدنيّة" في كوكبنا الأزرق، أن أرى في قلبِ كلِّ مدينةٍ وقريةٍ يمنيّة منصّاتٍ شامخةً من رخامٍ سميكٍ متين، تحوي أسماء كلّ من ماتوا فيها في كلِّ حروبنا دون استثناء، نفراً نفرا.
ليس في تلكما الحربين فقط، لكن كلَّ من قُتِلوا في الحراك الجنوبيِّ الجبّار الرائد، في ثورة ٢٠١١ اليمنية الخالدة، في حروب صعدة المريعة الستّة، وفي كلِّ حروبنا ومجازرنا وتصفياتنا الحديثة دون استثناء!...
تذكّرْ يا "عاقل": من ماتوا ليسوا بعوضاً لِنجهل اسماءهم، متى ماتوا، وكيف ماتوا!... هذه إحدى أقدس أبجديات "الدولة المدنيّة" التي نلوك الحديث عنها جميعاً...
قاطعني ع.م بإيميلٍ غامض:
− أوكييه، خلّي الباقي لِبُكرة، أنا فِدا لك!... تصبحْ على خير!...
المراجع:
(١) هدهد سليمان عظمٌ في حنجرة التعليم. حبيب عبدالرب سروري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق