هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (٢)
حبيب عبدالرب سروري
٢٠ مايو ٢٠١٢
− ماذا قُلنا البارحة؟، سألني ع.م وهو يفتحُ معي "دردشةً إلكترونية" مباشرة ("تَشَات") يبدو أنه فضّلها هذه الليلة على بينج بونج إيميلات البارحة (١).
أجبتهُ:
− لا أتذكّر إلّا أشياء صغيرة أهمّها: الوحدة، الانفصال، أو الفيدريالية ليست غايات بحدّ ذاتها.
غايةُ الإنسان: السعادة، الأمن، التعليم الحديث، الحياة الحرّة الكريمة... إذا كان لا بدّ لِتحقيق ذلك من وحدةٍ أو انفصالٍ أو فيدرالية، فطوبى لنا بها وحدة أو انفصال أو فيدرالية.
لا الوحدة "نهاية التاريخ"، ولا الانفصال أو الفيدرالية كذلك. لا الوحدة خطٌّ أحمر كما يقول الوحدويون "حتّى الموت"، ولا الانفصال هدفٌ مقدّس كما يقول الانفصاليون "حتّى الموت". كرامة الإنسان وحريّته وحدهما الخط الأحمر والهدف المقدّس. لهُ وحده تعودُ حريّةُ اختيار وسيلةِ بلوغهما أو تغيير تلك الوسيلة متى ما أراد...
الإنسانُ الحرّ هو من لا يرضخ لِقيد الواقع. هو من يحتقر تقديسَ الحدود إذا كانت سجناً له. هو من يبحث عن حياةٍ حرّة لا يمتهنهُ فيها أحد. هو من يوسِّع يوماً بعد يوم حدود دوائر حريّاته وأخلاقه وقيَمِه ومعارفِه وعلاقتِه بالآخر...
كان العبدُ يُردّدُ سابقاً: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ". أما الحرّ فيثور ضدّ الجور وضدّ ثقافة العبودية... كان العبد يخضعُ صاغراً للجغرافيا، أما الحرّ فتخضع الجغرافيا صاغرةً لإرادته.
− أوكيييه، أوكيييه!، قاطعني ع.م... لِنتركْ هذا التحليق والتنظير ولِنعدْ إلى أرض الواقع!...
− حسناً!... إنظرْ لِخارطة العالَم وقلْ لي هل ترى دولةً واحدةً لم تتغير حدودها أو بنية نظامِها خلال القرون الأخيرة، بل العقود الأخيرة فقط في كثيرٍ من الأحيان؟
العالَم في تغيّرٍ ديناميكيٍّ أبديّ، قسريٍّ حيناً وطوعيٍّ في أحيان أكثر فأكثر. لعلّك لاحظتَ كم تشظّت دولٌ عديدة إلى دويلاتٍ منفصلة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكم اتّحدَت دولٌ عديدة أيضاً...
فرنسا مثلاً (التي تُعتبر ربما من أكثر المجتمعات والدول ثبوتاً وتماسكاً) لم تتوقّف خارطتها عن التغيّر: احتفلت مدينة نِيس (التي كانت إيطالية) مؤخرّاً بمرور قرن على اندماجها بفرنسا. مقاطعة الألزاس في شرق فرنسا لم تتوقّف عن التنقّل الزجزاجي المتواتر بين فرنسا وألمانيا حتّى القرن العشرين.
ناهيك عن مقاطعات فرنسيّة بعيدة كانت أصواتٌ عديدة تنادي فيها بضراوة، حتى أمدٍ قريب، بالاستقلال عن فرنسا، قبل أن تضمحِلّ فيها تلك النداءات تماماً بعد أن تحقّقت مطالبها الحياتيّة بِشكلٍ أفضل. ومقاطعات أخرى (مثل مقاطعة الكورس التي ولِد فيها نابليون بعد عامٍ من خروجِها من إيطاليا وانضمامها لفرنسا) صوَّتت في التسعينات من القرن العشرين لحق تقرير مصيرها. بيد أن تصويت أغلبية سكّانها نجح في أن تظلَّ منصهرةً بِفرنسا...
عدَن لم تنفك هي الأخرى عن التغيّر والبحث عن نفسها: رفرف فيها علَم "الجنوب العربي" التي كانت عاصمته، ثم علَم "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" التي أضحت "الديمقراطية الشعبية" والتي كانت عدَن عاصمته أيضاً، قبل أن يرفرف فيها علَم "الجمهورية اليمنية" التي أصبحت "عاصمته الاقتصادية والتجارية" (إحدى أكذوبات نظام صالح التاريخية!)، قبل أن يعود علَم "الديمقراطية الشعبية" ليرفرف عليها من جديد، بجانب علَم "الجمهورية اليمنية"، إثر نزعةٍ انفصالية جليّةٍ حديثة جرّاء فشل "هذه" الوحدة اليمنية!...
لم تتغيّر في عدَن أشكال وألوان الأعلام فقط لكن أنسجة التجمّعات البشريّة أيضاً: عرفتُها في فجر طفولتي مرتعاً يحتضن الجميع: العدنيّ، الحضرمي، "البدوي"، "الجبلي"، الزبيدي، الصومالي، الحبشي، التنزاني، الهندي، "البينيان"... في وعاءٍ كوسموبوليتيٍّ إنسانيٍّ رائع (لم يكن ربما نقيّاً من كل الشوائب في إنسانيتهِ ورفضهِ للنظرات العرقيّة والمناطقية، في ظلِّ الثقافة المحدودة وتخلّف وسائل المواصلات والبنية التحتية آنذاك...) لكنه كان نموذجيّاً جدّاً في سياقهِ الزمني والجغرافي...
كانت عدَن أُمّاً حنوناً تحتضنُ الجميع كبيضِها، دون التفتيشِ عن أصولهم المناطقية والعِرقية أو أيّة تفاهاتٍ صغيرةٍ من هذا النوع...
ثمّ عرفتُها في سنوات المدرسة الإعدادية (لاسيما إثر "الأيام السبعة المجيدة") بؤرةً ترتجفُ من الخوف، هجم عليها بعض المرعوشين من أبناء "الريف الثائر"، وعثوا في أجوائها الكوسموبوليتيةِ فساداً، بِجموحٍ وهوَسٍ عِرقيٍّ مقيت...
ضيّقوا الخناق على سكّانها، اعتبروهم رمزاً "للميوعة والحياة الرخوة المُدلّلة". هربَتْ معظم أقليّات عدَن حينها وكثيرٌ من أبنائها أيضاً جراء اكتساح أولئك المرعوشين لها واستحواذهم على قيادتها وممتلكاتها "بعنفٍ ثوريٍّ منظّم" على إيقاعِ هذه الشعارات الجمريّة (التي كانت تُغنَّى بلحنٍ دينيٍّ رخيمٍ مع ذلك!):
عادت الأرض بالقوة وبالانتفاضات
عنفِ بالعنف لولا العنفِ الاقطاع ما مات
ولولا بالعنف ما سقطت جميع الحثالات
ولولا بالعنفِ ما العالم تفجّر بثورات!
لِكلِّ هؤلاء "الهاربين" وغيرهم فتحتْ تعز أحضانها بنفس روحِ عدَن الخمسينات والستّينات. ضمّتهم بحنانٍ وأمومة. وهاهم بمطاعمهم الحضرمية أو بمؤهلاتهم الدراسية يؤثثون مدن شمال اليمن دون أن يخطر ببال أحد أن يُعكّر مزاجهم أو يُنكّد على حالهم بتجريم أصولهم الجنوبية أو أيّة تفاهات صغيرةٍ متخلّفةٍ من هذا النوع...
ثمّ عرفتُ عدَن بعد ذلك، لاسيما منذ نهاية السبعينات، بؤرةً أخرى أكثر تسامحاً واحتضاناً للطبقات المسحوقة: كان بإمكان المرء فيها أن يأتي من أكثر الشرائح الاجتماعية فقراً وبؤساً وتهميشاً (لا أحبّ التسمية الشعبيّة التحقيرية لهذه الشريحة الاجتماعية)، ويصير مثلاً عضواً بارزاً في المكتب السياسي للحزب الحاكم، كما حصل في الواقعِ فعلاً!...
فتحتْ عدَن حينها من جديد، كما كانت دوماً، ذراعيها لكلّ "الهاربين" من نظام قتلة الرئيس المتنوّر إبراهيم الحمدي وكلّ الحالمين بيمنٍ جديد. احتضنتهم بدفءٍ وأمومة، كما تفعلُ أيّة مدينةٍ حضاريّةٍ راقيةٍ في العالم.
لم تكتفِ عدَنُ بذلك لكنّها استقبلت حينذاك المقموعين من كبار المثقفين والمناضلين العرب (من السودان، العراق...) وصارت مَكَّتهم ومحرابهم الأثير. تغنَّى بها كثيراً كبار الشعراء العرب، مثل محمود درويش وسعدي يوسف، قبلةً لِقوى التنوير العربية، رمزاً وأمل...
لعلّ عنوان ديوان الشاعر العربيّ الكبير محمد الماغوط: "شرق عدَن، غرب الله" (الذي كان ينطقهُ فعلاً بِنَصبِ الدّال وليس بتسكينه) يجوز تأويلهُ (كما أفعلُ أنا، وغيري آخرون) في نفس هذا الاتّجاه الذي يموضعُ عدَن في النصف الأيسر من علّيين!...
ثمّ عرفتُ عدَن إثر حرب ١٩٨٦ البشعة مدينةً مُقرفةً لا تطيقها حتّى الجنّ والشياطين، قبل أن يتفجّر فيها الأمل جبّاراً عارماً بعد الوحدة اليمنية في ٢٢ مايو ١٩٩٠ وقبل حرب ١٩٩٤.
ثمّ رأيتُها وهي تُستنزَفُ وتحتضر رويداً رويداً بعد هذه الحرب لتصبح اليوم، بعد أن تجندلتْ مكتسباتها التاريخيّة وهويّتها الثقافية، في أسوأ حالاتها: محطّمة، بدون أمل، يعيش أهلها بؤساً وإقصاءً وإحباطاً وصل حدّ الانسحاق!...
تحوّلت نعمةُ الوحدة اليمنية إلى نقمةٍ حقيقية...
قاطعني ع.م بقليلٍ من "التنكيش":
− إخرجْ قليلاً من عدَن التي لا تكفّ بِدورِكَ عن احتضانها كبيضة!...
− حسناً، حسناً!... دعني أقول لك شهادةً شخصيّةً، رمزيةً جدّاً، أوسع ربما من حدود أوجاع عدَن وما عاشته من مدٍّ وجزر: كان عدد مبعوثي جنوب اليمن للدراسات الجامعية والعليا إلى فرنسا في السبعينات والثمانيات من القرن المنصرم أكثر بكثير من عدد مبعوثي شمال اليمن. قارب الخمسين أحياناً. لكن منذ نهاية حرب ١٩٩٤ لم يصل مبعوثٌ واحدٌ فقط لِفرنسا من جنوب اليمن سابقاً (تصوّر لم يصلْ مبعوثٌ واحدٌ فقط!)، فيما لم ينقص عدد المبعوثين إليها من شماله حتّى اليوم!...
نبّهتُ، أكثر من مرّة منذ عدّة سنين، إلى هذا السلوك المُشين المُخجل، الذي يشبه "التصفية العرقية" الجذريّة. لكن دون جدوى!...
لعلّ شهادتي الشخصيّة هذه رمزيّةٌ وقليلةُ الأهميّة إذا ما قورنَت بما يعانيه سكّان عدَن والجنوب من حكم نظامٍ نهبَهم حتّى مخ العظم، وامتهنهم دون توقّف.
لِأعُدْ إلى المدِّ والجزر الذي تعيشهُ خرائط مجتمعات الدّنيا منذ الأزل، وأأخذ حالة اليمن عموماً وليس جنوبه فقط.
إنظر لخارطة اليمن بشكلٍ عام! لا أدري ما حصل لها وأنا أقارن بينها وبين الخارطة التي عرفتُها في طفولتي: "شَمَرت" (أي: انكمشت واضمحلّت) من كلِّ النواحي، من الشرق، من الشمال...
(أعرفُ أن اليمن ما برحت في بداية تشكّلها ومحاولتها الاندراج في العالَم المعاصر: مجتمعاتُها حديثةُ الاندماج واكتشافِ بعضِها البعض. تحتاج بالضرورة لزمنٍ طويل من الحياة الديموقراطية الحقيقية والتجريب السياسي والإدراي المتنوّع والتقارب الأسري والانصهار وإعادة صياغة الذات واكتشاف الآخر...)
كمثلٍ على تدحرجِ وضمورِ خارطتِها، أتذكّرُ عندما كنّا نغني، في المدرسة الإعدادية، بألحانٍ صوفيّة رومانسية:
نجران جيزان اليمنية لن نتركها للرجعية
سوف تعودْ، سوف تعودْ بحربِ التحرير الشعبية!
أين نجران وجيزان وعسير اليوم؟ من مِن سكّانها، أو من سكّان اليمن، يرثي مغادرتها لليمن وانسلاخها من خارطته (إلى الأبد، أو إلى حين؟)...
هنيئاً لِسكّانها سعادتهم في السعودية إذا كانوا كذلك. وإلى اللقاء بهم ربما، إن لم يكونوا، في يمنٍ آخر، من يدري؟... يمنٍ حرٍّ عادلٍ ديمقراطيٍّ حديثٍ سعيد، لا علاقة له بِيَمنِ علي عبدالله صالح وقيران وأولاد الشيخ الأحمر والزنداني وعلي محسن الأحمر وعبده الجندي... أو إلى اللقاء بهم في جغرافيّةٍ جديدةٍ قادمة، في كوكبنا هذا أو في كوكبٍ آخر!...
قاطعني ع.م من جديد بأناقة:
− طرْتَ لِنجران وجيزان الآن!... خلاص، عُدْ لِعدن، ذلك أفضل: تُكرِّرُ دوماً الحديث عن نهب عدَن، أو الجنوب "حتى مخّ العظم"، كما قلتَ قبل قليل! ألا ترى أن كلَّ اليمنِ منهوبةٌ عن بكرة أبيها؟
− اسمع عزيزي الغالي: ها أنت تفتحُ لي سؤالاً عميقاً شائكاً جديداً، وما زلنا لم نبدأ بالتطرّق لموضوعٍ توقّفنا عنده البارحة: مساوئ خطابَي الوحدويين "حتّى الموت"، والانفصاليين "حتّى الموت".
بس مش مشكلة: لِنبدأ غداً بسؤالك الأخير هذا، ثم لِنعُدْ للخطابين بعد ذلك...
− غداً؟... يعني أضْحتْ دردشتنا: ألف ليلة وليلة؟...
− عفواً، يكفي ما قلناه اليوم! "ما فيبيش طافة" أواصل. أحتاج أيضاً لِساعتين لأعيد صياغة محضر هذه الليلة وأبعثه للنشر في موقع "التغيير"... دعْ ما تبقّى لبكرة "أنا فدا لك!"، كما قلتَ البارحة!... ليلة سعيدة!...
المراجع:
(١) هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الأوّل). حبيب عبدالرب سروري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق