هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الثالث)
حبيب عبدالرب سروري
٢٧ مايو ٢٠١٢
− ماذا قُلنا المرّة الأخيرة؟، سألني ع.م قبل أن يُذكّرني، هو نفسه، بسؤالهِ الذي توقّفنا عنده (٢):
تتحدثُ عن نهب الجنوب فيما اليمن كلّها، من طرفها إلى طرفها، منهوبةٌ تماماً. أليس في ذلك مسٌّ من شيطان الخطاب المناطقيّ الذي لا تتوقفُ عن تجريمهِ مع ذلك؟
أجبتهُ:
− أعترف بالتأكيد أن كلّ اليمن منهوبةٌ عن بكرة أبيها. وأن أنيميا الجنوب واستباحتَه ونهبَه ليس أبشع، في مجالات عدة، من حال تهامة مثلاً، التي أعشقها عشقاً ويؤلمني بشكلٍ خاص، منذ صِغري، ما تعانيه من تهميشٍ وتحقير.
لكنّ سؤالك (الذي يطرحهُ بِحُسنِ نيّةٍ وإخلاص كثيرٌ من كُتّابنا الرائعين) لا يختلف في تقويمهِ لوضعِ اليمن الصحيّ عن تشخيصِ طبيبٍ أتاهُ مريضٌ مصابٌ بالسرطان، لدغهُ ثعبان، لِيطلب من الطبيب علاج اللدغة واستخلاص السم. فأجابهُ الطبيب: لا داعي لذلك لأن كلّ جسدك مصابٌ أساساً بالسرطان!...
صحيحٌ ومؤلمٌ جدّاً أن تهامة أكثر قحطاً وتهميشاً من الجنوب عموماً. خذ مثلاً موضوع المنح الدراسية لِفرنسا التي تحدّثتُ عنها المرّة الماضية. نوّهتُ فيه أن عدد ممنوحي الجنوب كان أكبر من عدد ممنوحي الشمال في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. ثم لم يصل إلى فرنسا طالبٌ ممنوحٌ واحدٌ من الجنوب منذ ١٩٩٤!
حالُ تهامة بهذا الصدد أكثر كارثيّةً ولا شك: لم أعرف واحداً من أبنائها نال منحةً لِفرنسا، لا قبل ١٩٩٤ ولا بعده، وكأنّها تُعاني من قمع نظام الأبارتايد (التمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا سابقاً).
لا يعني ذلك أن علينا أن نكتفي بالتأوّهِ ونقول: "ثمّة من يعيش في اليمن في وضعٍ أسوأ من الجنوب!"... ذلك منطقُ العبيد وطريقتُهم التقليديّة في التفكير والاستسلام.
ناهيك عن أن نظام علي صالح قطع شوطاً في "أتْهَمَةِ" الجنوب، خلال أقل من عقدين تلتْ حرب ١٩٩٤، أكبر من نصف الطريق تقريباً الذي قطعه في تهميش تهامة واستنزافها الكامل!...
ثم إن "أتْهَمة" الجنوب تتمُّ بِسياسةٍ "ابن كلبيّة" مُنافقةٍ لا يُجيدها إلا طاغية محتالٌ مخادعٌ كصالح. لاحظ هنا، عزيزي ع.م، فيما يتعلّقُ بِموضوع البعثات إلى فرنسا: كلُّ وزراء التعليم العالي منذ الوحدة كانوا غالباً أو دوماً ربما، لا أتذكّر، جنوبيين: الشعيبي، باصرة!
أجاد هكذا صالح دوماً، وبِخبثٍ ماكر، في هذه القضية كما في غيرها، اختيار أحذيتهِ التي كان يدوسُ بها رؤوس أبناءِ اليمن عامةً، والجنوب خاصة. ويعرفُ الجميع أن أحذية الطاغية "أسفل" من الطاغية على الدوام!...
خذْ مثلاً آخر أشدّ دلالةً وعموميّة من موضوعِ المنح إلى فرنسا: هل تعرف قائداً يمنيّاً عسكريّاً من تهامة؟ هل تعرف جنديّاً يمنيّاً من تهامة؟ ألا يُعتبر ذلك الإقصاء نوعاً من الجرائم العنصرية المقيتة؟... (يُروَى أن هناك شرطيّاً من تهامة يعملُ في تعز! لا يتردّدُ البعضُ هناك، كما قيل لي، عن منحهِ الورودَ والهدايا بين الحين والحين باعتباره، كما يقولون، "ثروةً وطنيّة". ويُفكّرُ آخرون بتشييدِ تمثالٍ له بعد وفاتِه!).
من المؤكّد أن وضعَ الجنوب في هذا الجانب مختلفٌ تماماً عن وضع تهامة. لكن تسريح نظام صالح للعكسريين الجنوبيين وإقصاء الكوادر الجنوبية بشكلٍ عام، بعد ١٩٩٤، كان أوّل خطوة لِ"أتْهَمَةِ" الجنوب على هذا الصعيدِ أيضاً!...
بشكلٍ عام، المقارنةُ بين إقصاء تهامة والجنوب لا محلّ له من الإعراب من منظور المنطق والمنهج، لأن الجنوب كان يمتلك دولةً وجيشاً، وكان بإمكانه أن لا يتّحد بالشمال في ١٩٩٠ ويواصلَ بكلِّ هدوء بعث طلابِه للدراسة في كل مكان في العالم كما كان الحال سابقاً، ويحتفظ بكوادره المدنيّة والعسكريّة في مواضعهم السابقة دون أن يهين كرامتهم أحد، ويواصل الحفاظَ على نظامِه التوظيفيّ الذي كان أكثر تطوّراً من نظام الشمال، خالٍ تماماً من البطالة إذا لم تخُنّي ذاكرتي!...
المقارنةُ بين نهبِ الجنوب ونهبِ "المناطق الوسطى" اليمنيّة، كمثالٍ آخر، ليس في محلّهِ أيضاً، لأن نهب المناطق الوسطى تمّ قبل حوالي قرنين عندما اجتاحتها القبائل واستولت على أراضيها. (أجبَر الناهبُ حينها صاحبَ الأرض على العمل فلّاحاً عنده، ولم يمنع نفسَه من أن يتزوّجَ زوجةَ الفلاح أيضاً التي اعتبرها غنيمةً له. لا يختلفُ ذلك في الجوهر عن منطقِ القوّةِ والإذلال والاستعبادِ الذي مارسه منتصرو حرب ١٩٩٤ على الجنوب إلا في تفاصيل شكليّة صغيرة لم تعد ممكنةً تماماً في القرن العشرين).
صار اليوم أحفادُ الناهبين الأُوَل للمناطق الوسطى شيوخاً بالوراثة لتلك المناطق (مثل شيوخ عائلة "أبو راس" القادمين من قبائل بكيل، إبان حروب نهب المناطق الوسطى، قبل أكثر من قرنين).
اختلط هؤلاءُ الأحفاد بِسكّان المناطق الوسطى اختلاط الشاي بالحليب، ولا أعرف كيف يجوز أو يمكن مقاضاتهم على جرائم إنسانية ارتكبها أجداد أجدادهم!...
أما الوضع في جنوب اليمن فمختلفٌ تماماً: الناهبون أحياء يُرزقون، لهم أسماءٌ شهيرة: عائلة علي عبدالله صالح، عائلة الشيخ عبدالله الأحمر، على محسن الأحمر، وكلّ كبار الشيوخ والعسكريّين المنتصرين في حرب ١٩٩٤ التي حوّلت الجنوب إلى "غنيمة حرب"، بكلِّ ما في هاتين الكلمتين من دلالاتٍ مرعبةٍ غاشمة.
كونُ الجنوب غنيمةُ حرب خصوصيّةٌ جوهريّةٌ تجعلهُ يختلفُ تماماً في إشكاليّتِهِ وقضيّته عن واقع مناطق اليمن الأخرى. ناهيك عن أن نهبَهُ كغنيمةِ حرب والاستقواءَ على سكّانه بالعنف والامتهان والتجويع لا تتّسع لِسردها إلا عدّة مجلدات.
دعني، عزيزي الغالي ع.م، أذكر لك بضع عيّنات فقط من أُلْبُوم نهبٍ وانتهاكِ حُرمَات لا نهائي الجراح:
مزارع قطن الجنوب نهبَها ابن أخ صالح المشهور بانحطاطه: يحيى صالح الأحمر.
مساحاتٌ هائلة من أرض مِملاح عدَن (الذي اعتبرهُ أهلُ عدَن دوماً أراضٍ مقدّسة لم يخطر ببال أحدٍ مسَّها ذات يوم: هل، في الحقيقة، للمتر المكعب في الكعبة أو قبّة الصخرة ثمن؟) نهبَها حميد الأحمر عقب حرب ١٩٩٤.
نفطُ شبوة تتقاسمُ أرباحَهُ شركة حميد الأحمر وغيره من الناهبين الذين يستلمون اليوم مجّاناً نِسباً من حصصِ الشركات العالميّة من ناحية، ويتقاسمون مع الشركات المحليّة أرباحها مقابل حمايتهم الأمنيّة لها من ناحيةٍ أخرى.
إذ احتكرتْ شركة حميد الأحمر تسويقَ النفطِ الخام للخارج بِعقدٍ ربطها بِعلي عبدالله صالح لسنوات طويلة، قبل أن ينفرط شهرُ عسلِهما (الذي دام كلّ سنوات ما بعد حرب ١٩٩٤) في الأعوام القليلة الماضية فقط.
لِحميد الأحمر أيضاً حصّةٌ محمولةٌ حتّى اليوم من إحدى الشركات الغربية في أحد قطاعات النفط في شبوة.
بشكلٍ عام، كلُّ مشاريع البنيَة التحتيّة في الجنوب تعاني من نفس هذا الأسلوب الأخير الذي يشترك فيه بتحالفٍ مافياويٍّ لصوصٌ جاثمون على اليمن عموماً، من تهامة حتّى المهرة، وعلى الجنوب بشكلٍ خاص باعتبارهِ "غنيمة حرب"، بكلّ ما في هاتين الكلمتين من معانٍ لم يستوعبها الكثيرون بعدُ حتّى اليوم!...
ثم الفرق الأخير بين نهبِ الجنوب وغيره من أراضي اليمن هو كون ذلك النهب قد بُرِّر بفتوىً دينيّة شهيرة: أفتى الزنداني بِجواز ذلك لأن "النبيّ أقرّ نهب أرض العدوّ بعد هزيمته، وأقرّ بيع نساء العدو وأطفالهم كعبيدٍ في المزاد"، كما قال في فتواه الظلامية الشهيرة أثناء حرب ١٩٩٤. ومن جانبهِ أفتى الديلمي بِقتل أبناء الجنوب، بكلِّ بساطة!...
فتاوٍ شنيعة أشعرُ عند تذكّرِها أن الدولة المدنيّة الحديثة في اليمن ستبدأ، ولا شك، يوم أن يتحول مطلبُ محاكمةِ هؤلاء الظلاميّين على جريمة هذه الفتاوي إلى مطلبٍ جماهيريٍّ عارم، ليس في الجنوب فحسب، بل في كلّ اليمن!...
خلاصةُ القول: جثمَ على الجنوب أبشع همجٍ عرفهم تاريخُ اليمن: صالح وعائلته، الشيخ الأحمر وعائلته، علي محسن الأحمر، الزنداني والديلمي وكبار الظلاميين والناهبين. شعارُهم: "ضمُّ الفرع إلى الأصل"، أي "أتْهَمَة" الجنوب في الجوهر. شعارٌ قذِرٌ شكلاً ومضموناً، لا يختلف عن شعارات الأبارتايد وناهبي أرض فلسطين!...
المشكلةُ الجديدة المُعقّدة جدّاً أن بين أفراد هذه العصابة من "تشعبطوا" بالثورة اليمنيّة، كحميد الأحمر وعلي محسن والزنداني والديلمي، وصاروا من كبار رموزها، فيما لم يعترفوا حتّى اللحظة بِنهبهِم للجنوبِ واستنزافِه، بعد أكثر من عامٍ من اندلاع هذه الثورة الخالدة.
حميد الأحمر، الذي لا يختلف في شيء عن رأس الخراب وقائد العصابة: علي عبدالله صالح، كما بَرهنتْ وتبرهنُ الأحداث يوماً بعد يوم، يبدو الآن أكثر فأكثر كما لو كان وريثَ صالح القادم، رغم أنفِ هذا الأخير.
لنتذكّرْ مع ذلك: لا يعرف هؤلاء القراصنة عموماً إلا "لغة الصميل". كلّ تاريخهم يشهدُ على ذلك. ألم يقل حميدُ الأحمر لِعلي صالح عندما انفرط شهرُ عسلِهما الأزليّ، قبيل سنوات: "لِيُخرجَ كلٌّ منّا صميله!"...
ما قالهُ حميد اليوم، ٢٧ مايو، لِصحيفة النيويورك تايمز للتحريض على نساء ساحة التغيير في صنعاء، لا يقلُّ انحطاطاً، في الحقيقة، عمّا قاله صالح قبل عام.
ها هو مثلهُ، يتسلّطُ ويتدخّلُ في حياتنا بعنجهيّةِ شيخ قبيلةٍ الغاشم. ها هو، مثل كل ظلاميٍّ حقيقي، يرتجف هلعاً من حضورِ المرأة الرائع في ساحة التغيير بصنعاء، واختيارِها الثورةَ نهجاً ووعاءً لبناءِ اليمن الجديد، ورغبتِها المتصاعدة في حياةٍ إنسانيةٍ مفعمةٍ بالحبّ والانعتاق والحريّة!...
طَرْدُ كلِّ أفراد هذه العصابة كلصوص، وإقصاؤهم عن قيادة اليمنِ الجديد (وإن ظلّوا مواطنين بطبيعة الحال)، مقاضاتهم، واسترجاع ما نهبوه وينهبوه يوميّاً، يلزم أن يكون هدفَ جميع اليمنيين، في الشمال والجنوب معاً، إذا أردنا إنقاذ اليمن من الانفصال، والبدء بالتفكير بمشروعِ وَحدةٍ يمنيّةٍ جديدةٍ حقيقية.
هذا هو الدواء العاجل لإنقاذ اليمن من لدغة ثعبان حرب ١٩٩٤. لعل تناولَه بشكلٍ سريعٍ جدّاً ضروريٌّ قبل البحثِ عن استئصال كلِّ سرطان اليمن بعد ذاك: هكذا يلزم أن يكون، في رأيي، تشخيصُ أيّ طبيبٍ لحالة المريض الكبير الذي تحدّثنا عنه في بدء دردشتنا اليوم: اليمن!...
دون البدء بعلاج سريعٍ لِلدغة حرب ١٩٩٤ فالانفصال، لسوء الحظّ، على الأبواب. وخطابُ رموزِ "الانفصال أو الموت" ومُتطرّفيهِ العِرقيّين (ناهيك عن الجهاديّين الذين تسلّلوا إليه) يُثير كلّ تقزّزي، وأريد أن أتحدثَ عنه وأناقشَهُ طويلاً.
− تحدثْ وناقشْ يا بن خالتي ما شئت، أجاب ع.م الذي بدا لي اليوم صامتاً مرهقاً لا يتفاعل معي بشكلٍ مباشرٍ كعادته!...
− غداً سأفعل!... ليلةٌ سعيدةٌ قبل ذلك!...
المراجع:
(١) هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الأوّل). حبيب عبدالرب سروري.
(٢) هل أنت مع الوحدة، الانفصال، أم الفيدرالية؟ (الجزء الثاني). حبيب عبدالرب سروري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق