السبت، 14 مايو 2011

لنفصل الدين عن مدرسة الدولة المدنية!

لنفصل الدين عن مدرسة الدولة المدنية!
يزداد الحديث اليوم عن مفهوم الدولة المدنية التي تنشدها الثورات العربية. غير أن هذا المفهوم لم يتم تحديده بدقة حتى الآن.
نعرف جميعاً ما يعني مفهوم الدولة الدينية: المثل الأكبر على ذلك المملكة السعودية.
نعرف أيضاً ما يعني مفهوم الدولة العلمانية: المثل الأكبر على ذلك فرنسا، وإلى حدٍّ كبير بقية دول أوربا من فرنسا إلى تركيا، وعدد آخر من الدول المتطورة.
ربما يلزم أن أعطي تعريفاً أدق لمفهوم الدولة العلمانية دون الاكتفاء بالأمثلة.
الدولة العلمانية دولةٌ تحترم حريّة الضمير والاعتقاد: الإيمان أو عدم الإيمان فيها بدين أو عقيدة لا يُهمّ إلا المؤمن أو الملحد وحده.
القانون فيها لا ينطلق من أي شريعةٍ سماوية أو عقيدةٍ إيديولوجية، لا يُميز بين الناس انطلاقا من عقائدهم ودياناتهم. يتساوى أمامه الجميع بغضِّ النظر عن جنسهم، عرقهم، لونهم، عقيدتهم، ديانتهم أو إلحادهم...
الدين في الدولة العلمانية مفصولٌ عن الدولة: تمّ البدء بذلك الفصل، في فرنسا، في عام 1871. ألغيت حينها ميزانية دعم العبادات، وتحوّلت الكنائس إلى ملكية للدولة، شأنها شأن المتاحف. يزورها من يحب من البشر، بغض النظر عن هويّته، للتمتع برؤيتها كتراثٍ معماري، أو لسماع الموسيقى، أو للعبادة إذا أحب!... كلّ ما يحتاجه المتدينون، لممارسة عباداتهم في الدولة العلمانية، يتم تمويله من قبلهم فقط. لا يحق للدولة دعم ذلك...
لكن الدولة العلمانية تحترم كل الأديان، وإن لا تعترف بها في الجوهر. لم يكن الإتحاد السوفيتي في عصر ستالين، على سبيل المثال، دولة علمانية، لأنه أغلق الكنائس وضايق الأرثوذيكسيين في عباداتهم...
المدرسة في الدولة العلمانية لا تعترف بأي دينٍ كان. أُقِرَّ ذلك، في فرنسا على سبيل المثال، بقانونٍ شهير في 1905، سُحِبتْ إثرهُ كل صور المسيح وكتب التوراة والأيقونات الدينية من المدارس.
الأهم هنا هو أن الدّين لا يُدرَّس في مدرسة الدولة العلمانية لأنها لا تعترف به في الجوهر. مبدأها أن التعليم الحقيقي لا يمكنه إلا أن يكون علمانيا، لأن الأديان تتطلب اليقين والإيمان المسبق بكلّ خطابها وتفسيرها للوجود والحياة، فيما منهج العِلم معاكسٌ لذلك تماما: يرفضُ العِلمُ اليقينَ المسبقَ بأي خطاب. يتكئ على مبدأ البرهان العلمي لا غير. يتطوّر ويتجاوز نفسه يوماً بعد يوم.
المدرسة العلمانية لا تعترف، على سبيل المثال، بنظرية الخلق الدينية (قصة حواء التي خرجت من كتف آدم، التفاحة، الحيّة، الهبوط من السماء للأرض كعقوبة على هذه الخطيئة... وكل التاريخ الديني الذي تقدمه الكتب السماوية). لا تدرَّسُ فيها إلا النظرية العلميّة التي تفسر نشوء الحياة على الأرض: نظرية النشوء والارتقاء...
حاول التعيس جورج بوش (مدعوماً ب «الخلقيين» في أمريكا: منظمةٌ يدعمها اليمين المتطرف والظلاميون) السماح، في بعض الولايات الأمريكية، بتدريس نظرية الخلق الدينية بجانب النظرية العلمية. أثار ذلك حينها رفضا وصراعاً كبيرا بين الخلقيين من ناحية، والعلماء والتربويين من ناحية أخرى...
انتهى كل ذلك الآن، لاسيما بعد انتخاب أوباما الذي أعاد المياه إلى مجاريها مكرّراً أن نظرية الخلق الدينية ليست علمية، ولا يُسمح لذلك تدريسُها في مدارس أمريكا...
باختصارٍ شديد، الدولة العلمانية دولة الحريّة والقانون المدنيّ والمساواة والعلم الحديث. لكن ماذا تعني الدولة المدنية؟
إذا كانت تعني الدولة العلمانية فذلك جليٌّ رائع في نظري، أما إذا كان لها تعريفٌ آخر، فيلزم تحديده بدقّة.
لأن هذه الدقة تنقص في كثيرٍ من التعريفات التي تصاغ اليوم، في صحفنا العربية، لمفهوم «الدولة المدنية». ثمّة اتفاقٌ فيها على أن الدولة المدنية «تحقق جملة من المطالب المتعلقة بالمواطنة المتساوية، وبالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وتحديث التعليم وتطويره وغيرها من المطالب المتصلة بحاجة الشعوب العربية إلى التطور والتنمية»، لكن هذه التعريفات لا تميل غالباً للتحديد الدقيق لعلاقة الدين بالدولة المدنية.
أفهم تماماً أن واقعنا العربي وسياقه التاريخي يختلف عن واقع وسياق تاريخ الغرب، وأن استيراد مفهوم الدولة العلمانية بصيغته الغربية لا يناسب واقعنا العربي الراهن.
لا يضايقني قط شخصيّاً أن تدعم الدولُ المدنية المنشودة لثوراتنا ميزانيات المساجد والكنائس ومعابد اليهود وبقية العبادات، وتهتم بها كلّ الاهتمام. لكني أعتقد أن إنجازاً تاريخياً عظيماً لثوراتنا العربية سيتحقق إذا ما فصلَتْ الدين عن المدرسة على الأقل.
اعترف أن بقاء تدريس الدين في المدرسة، كما كان عليه قبل هذه الثورات العربية الظافرة، لن يمنع التعليم العربي من تخريج أطباء ومهندسين وفنيّين يجيدون استخدام ما أنتجته الحضارة الغربية.
لكن ما أتمناه لواقعنا العربي هو أعظم من ذلك بما لا حدّ له. أريده أن لا يكون مستخدِماً لحضارة الغرب وحسب، بل مساهماً، شأنه شأنها، في صناعة الحضارة الإنسانية.
لن يتم ذلك إلا عندما يكتسب الطالبُ، بفضل مدرسة الدولة المدنية، العقليةَ العلميةَ الماديّةَ المبنيةَ على التساؤل والرفض والنقد والبرهان.
الدينُ عائقٌ طبيعيٌّ أمام اكتساب هذه العقلية، لأنه يؤسس عقليّةً غيبيّةً معاكسةً لها تماماً. ناهيك أنه يلجأ أحياناً لاستخدام المفاهيم الميتافيزيقية المشوِّشة، مثل مفهوم «الإعجاز العلمي في الكتب السماوية»، التي تحوِّل بوصلة العقليّة العلميّة 180 درجة في الاتجاه المعاكس...
باختصارٍ شديد: لتدعم دولتنا المدنيّة المنشودة المعابد الدينية ما شاءت، لكن ليكن تعليمُ مدرستنا الجديدة، على الأقل، علمانيا خالصاً. لأن التعليم الذي يصنعُ الحضارة لا يمكنه إلا أن يكون علمانياً خالصاً!...

هناك تعليقان (2):

  1. اسمح لي يا دكتور بأن أختلف معك في نقطه واحده وهي فصل الدين عن المدرسه، ان كان هذا يطبق في دول عديده فلا أظن انه يمكن تطبيقه في دولنا العربية الاسلامية، لأن ديننا هو جزء من شخصيتنا و هويتنا و مثلما علينا ان نحرص على انشاء العقليه العلميه المبنيه على النقد والبرهان التي تبدأ في المدرسة علينا ايضا الا نهمل تعليم اسس الدين التي هي جزء من تربية الفرد في مجتمعنا، و ربما لهذا السبب نجد ان المجتمع في الدول العلمانية بعيد عن الدين، ولا أعتقد بان تعليم الدين في المدارس قد يؤثر على إمكانية الحصول على العقلية العلمية القائمه على الرفض و النقد و البرهان طالماأن التعليم كنظام و منهج قائم على هذا الاساس، لذا ربما بإمكاننا ان نأخد من المنهج العلماني ما يتناسب و خصوصية مجتمعاتنا الإسلامية.
    إعذرني على الإطاله ..

    ردحذف
  2. ان الذي يعتقد بوجود الخالق الحكيم الذي خلق كل شيء فاحكمه وجعل النظم لهذا الكون المترامي الاطراف والذي الى الان يجهل العلم الحديث ما وراء مجموعتنا الشمسية فان من يعتقد به يعتقد بانه ارسل الرسل ووضع القوانين والاحكام التي من خلالها قامت الدولة الاسلامية فان فصل الدين عن ادارة البلاد فانكم تقولون ( اننا اعلم من ربنا بحكم البلاد ووضع القوانين ) وهذا هو الجهل بعينه ، ان العيب ليس في الاسلام بل العيب في المسلمين والنظام العلماني او المدني ليس هو الحل بل ان الحل هو الالتزام بالنظم السماتوية التي لم تنالها يد التحريف

    ردحذف