الثوراتُ العربية وسقوطُ نظريةِ صراع الحضارات
لكلمتَي «الشعب يريد» ما يُشبِهُ مفعولَ صيغةِ «افتح يا سمسم» السحريّة: ما إن صدحتْ بهما حناجر ساحات وشوارع الثورة العربية، منذ بضعة أشهر، حتى سقطت ديكتاتوريتان عاتيتان، تَلتْهما ثلاثٌ على وشك السقوط، ستلحقُها أُخَر... رافقت كلُّ ذلك تداعياتٌ وتغيّراتٌ تأخذُ اليوم بُعداً كونيّاً يتجاوزُ بقاع العرب والمسلمين.
بفضلهما مثلاً سقطت كقصورٍ من ورق إكليشاتُ نظريات «صراع الحضارات»: طأطأ رأسَهُ من روّجَ أن لِشعوبِ العرب هويّةٌ ثقافيّةٌ ملقّحةٌ ضد إرادة الديمقراطية وحب الحريّة، مفعمةٌ بِعشق الجلّاد، مجبولةٌ على حكمٍ استبداديٍّ متأبّدٍ عتيقٍ، يجيد الاحتماء بالدين، لا يتناغم مع الحضارة الإنسانية الحديثة المؤسسة على مبادئ حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.
عندما يرى المراقب أن الشعوب العربية تصنع اليوم كتائبَ من شبابٍ يواجهُ بصدورٍ عارية، وبشجاعةٍ ملحميّة نادرة، رصاصَ الطغاة وقنابل بلاطجتهم، مُقدِّماً نفسَه أضحيةً لآلهةِ الحريّة والكرامة وحقوق الإنسان، يشعرُ ذلك المراقب بالإحراج إذا كان قد روّج قبلها للقول بإن حضارات العرب والمسلمين لا تجيد إلا صناعة إنتحاريين يُفجرّون أنفسهم وسط كتل الأبرياء في الحافلات وناطحات السحاب الآمنة...
تزداد وطأةُ ذلك الإحراج عندما يرى ذلك المراقب أن شباب الديموقراطيات العربية الناشئة في تونس ومصر باتوا يبدعون صيغاً جديدةً لتطوير الديمقراطية وصيانة الثورة، يوجِّهون يوميّاً إيقاع سيرورة الحياة المدنيّة والسياسية، يمنعون انغلاق الحكام في أبراجهم العاجية واكتفاءهم بإدارة لعبة الاستفتاءات والانتخابات الدورية... لعلّ كثيرين من مواطني الديموقراطيات الغربية «الشائخة» يعضون شفاههم هذه الأيام غِيرةً من حيويّةِ إنجازاتِ هذا الشباب العربي الجديد، وهم يلاحظون أن إضراباتهم النقابية الطويلة ومسيراتهم اليومية الرافضة لم تعد تؤدي إلى إسقاط هذا القرار أو ذاك، أو إلى التأثير على مسار هذه الأزمة المالية أو تلك...
ناهيك أن ذلك المراقب يفقد آخر أوراقه وهو يرى هذه الثورات العربية ترفع اليوم جليّاً في مقدمة أهدافها شعارَ «الدولة المدنية الحديثة»، بعد أن برهن الثائرون على سلوكهم المدنيّ الراقي وجسّدوه يوميّاً في ساحات اعتصاماتهم الحضارية التي تستلهمُ روحَها من تقاليد يوميات «ساحة التحرير» في القاهرة.
تُمثِّلُ هذه الساحات، كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، كومونات مدنيّة راقية (صحيفة اللوموند، 19 فبراير 2011). يبرهن الشباب فيها أن الموقف المتحجّر من المرأة، وكلّ اعتداءات اللاتسامح الدينيّ والعنف الطائفي (التي يُقدِّمها البعض كهُويّةٍ ثقافيةٍ ثابتة تبرِّرُ نظرية صراع الحضارات) تختفي فجأة عندما تغيب أجهزة أمن النظام القمعي، كما هو الحال في «الكومونات» أو المدن «المحرّرة» من سلطة النظام القمعي. يبدو جليّاً حينها أن أجهزة النظام هي من تُدبّر تلك الاعتداءات في الغالب، لِتكريس تناحر الناس والتفريق بينهم بما يضمن لها الديمومة والسيادة.
من لم تدمع عيناه أثناء أداء المسيحيين والمسلمين قدّاسهم وصلاتهم جنباً إلى جنب، أو عند رؤية الشباب المسيحي المصري يحرس صلوات الشباب المصري المسلم في ساحة التحرير؟...
من لم تهتزّ جوانحه وهو يرى الشبابَ اليمني في ساحات الحرية والتغيير يشيّد كرنفالات مدنيّة يتعلّم فيها منذ 3 أشهر ممارسة ثقافة الاختلاط والحوار، أرقى الفنون والطقوس والأخلاق المدنيّة، تاركاً سلاحَهُ في المنزل ونزاعاته الطائفية لأحلام الحاكم، مواجهاً رصاص قناصة وبلاطجة الطاغية بصرخات: «سلمية، سلميّة!»؟...
الأكثر إثارةً هو أن بذور هذه الثقافة المدنيّة الجديدة أرعبت الرئيس اليمني الذي قضّى ثلث قرنٍ يُكرِّس ويصون ثقافةً متخلِّفةً مضادّة، لدرجة أنه قال في خطابه المقتضب في 15 ابريل 2011 إن الاختلاط في ساحات الثورة «يحرِّمهُ الشرع»، متحوّلاً إلى فقيهٍ طالبانيٍّ يُزايد على كبار السلفيّين اليمنيين التقليديين الذين لم يقولوا كلمةً حول ذلك الاختلاط!...
إذا كانت استعارةُ «الشعب يريد» تلخِّصُ فعلاً جوهرَ معالمِ الحضارة الإنسانية الحديثة (منذ الثورة الفرنسية التي أسّستْ مداميك هذه الحضارة، حتّى ثورات شرق أوربا في 1989، مروراً بربيع ثورات الشعوب الأوربية في 1848)، فلعلَّ هذه الاستعارة لم تدوِّ بهذا الجلاء والقوّة كما هو الحال اليوم في بلدان العرب.
لعلّ عذرَ من اعتنق نظرية صراع الحضارات يكمن في أن أحداً لم يتوقّع أن تخرج هاتان الكلمتان من قمقم بلاد العرب التي راوحت منذ قرون في ما يشبه «النقطة الثابتة»، معيدةً صناعة واقعها الاستبدادي وتخلفها السحيق، جيلاً بعد جيل.
فلقد كانت الثقافة العربية قبل هذه الثورات أسيرةَ مبدأ «الحاكم يريد»، «الله يريد» (التي تبدأ بها أكثر من آيةٍ قرآنية). أما الشعب فهو «يطيع وليّ الأمر»، يصبرُ، يصبر... يصبرُ على ذمّة أغنية: «دولة الظلم ساعة، ودولة الحق حتى قيام الساعة» ذات الإيقاع الرتيب الخانع...
نعم، لم يستشرف أحدٌ إمكانية ظهور طفرةٍ في سلوك الشعوب العربية تؤدي إلى انهيارِ جدار الخوف من الطاغية والبحثِ عن حياةٍ أخرى. لسنا هنا بصدد تفسير ذلك. لكننا بصدد إجلاء البعد الميتافيزيقي والمدنيّ لاستعارة «الشعب يريد» في سياقها الثقافي العربي...
عندما يقول الشعب الحاضر، بضمير الغائب: «الشعب يريد»، فثمّة بلاغةٌ جبّارة تجعل هذا الشعب الحاضر يمتلك قوّة الإله الغائب، وكأنه يقول ضمنيّاً: «ما يريده الشعب يريده الله»!... تنطبق بعد ذلك على الشعب كل الصفات الميتافيزيقية التي صُمّمت للآلهة: «لا حاكم إلا الشعب»، «لا عاصم إلا الشعب»...
ربما لذلك يتضايقُ السلفيّون في قرارات أنفسهم من قوّة هاتين الكلمتين. ولذلك حاول بعضهم في مسيرات الثورة اليمنية تسريبَ بديلٍ لهما أحياناً: «يا الله، يا الله، اسقط علي عبدالله!» التي لا تختلفُ في الجوهر على شعار مناصري رئيس اليمن وهم يرددون مقابل مبالغ يومية: «يا الله، يا الله، احفظ علي عبدالله!»...
الجميل هنا أن هذا البُعدَ الميتافيزيقيَّ لاستعارة «الشعب يريد» يرفدُ بقوّة بُعدَها المدنيَّ الذي ينطوي على منحِ السلطة للشعب دون وصايةٍ أو وسيط!...
لعل اندماج التيارات الإسلامية التقليدية (حزب النهضة التونسي، الإخوان المسلمين المصري، الإصلاح اليمني...) في أتون هذا المشروع المدنيّ هو ما يوجّه الضربة القاضية لمروجيّ نظرية صراع الحضارات.
فمن الملفت جدّاً التفاعلُ الايجابيُّ لقطاعٍ عريضٍ من أعضاء هذه التيارات الإسلامية مع حركة الثورات العربية. فمنذ أن تخلّصت هذه التيارات من معظم عناصرها المتطرفة التي غادرت بلدانها للاندماج في الحركات الجهادية الإرهابية، وبعد أن أفلس الخطابُ السلفيُّ المتطرفُ ودعواتُه للحفاظ على هويّةٍ ثقافيةٍ لا تضمنُ إلا إعادة إنتاج الاستبداد والتخلف، لاسيما في أوساط الأجيال الشبابية الجديدة المنفتحة على التكنولوجيا الحديثة ولغة العصر الحديث، صارت التيارات الإسلامية عنصراً مهيئاً لِرفد حركة الثورات العربية.
احتاجت الأوساط الثقافية الغربية التي لم تستوعب ذلك، لاسيما المتأثِّرة بمفعول نظرية صراع الحضارات وعقدة 11 سبتمبر، لبضعةِ أسابيع من الارتباك قبل أن تعترف بأن هذه الثورات العربية تختلف عن الثورة الإسلامية الإيرانية، وقبل الإقرار النهائي بأنها «ثورات شعبية»، لا علاقة لها بخطاب آيات الله أو فقهاء الإسلام السياسي، يحرّكها شبابٌ مدنيٌّ منفتحٌ على الحضارة الإنسانية وقيم الحرية والكرامة والديمقراطية.
ذلك ما دعى المفكّر الفرنسي اوليفيه رُوْي التأكيد على أن هذه الثورات العربية ثورات «ما بعد إسلامية» (صحيفة اللوموند، 14 فبراير 2011). وذلك ما جعل كلمة «تحرير»، نسبة لساحة القاهرة، تدخل القاموس الإنساني من أقدس أبوابه!...
يكفي على سبيل المثال ملاحظةُ الدور المتميّز الذي يلعبه كثيرٌ من شباب حزب الإصلاح في الثورة الشبابية اليمنية، لاسيما توكّل كرمان ذات الخطاب المدنيّ الذي يتناغم تماماً مع الخطاب المدني للثائرات اليمنيات المدنيّات في طليعة حركة هذه الثورة مثل أروى عبده عثمان، بشرى المقطري، سامية الأغبري، وهدى العطاس على سبيل المثال لا الحصر.
غير أن التطور الأكثر عمقاً يبدو جلياً في تجربة حزب النهضة التونسي الذي يعيش جدلاً يفرزُ أكثر فأكثر خطاباً مدنيّاً (صحيفة اللوموند، 11 ابريل 2011) يوشك أحياناً أن يتجاوز خطاب بعض الأحزاب العربية ذات التاريخ المدنيّ!...
لعله لا يمكن بعدُ التأكيدُ على أن التيار الإسلامي قد تغيّرَ وتمدّنَ تماماً في معمعان هذه الثورات العربية لدرجةٍ لن تجعلهُ يعيق بناء النظام المدني المنشود. فما زالت بعض الكتل الظلامية في حزب الإصلاح اليمني، على سبيل المثال، تُمثِّلُ خطراً حقيقيّاً على مستقبل مَدنيّة الثورة اليمنية.
لن يضمحلَّ هذا الخطرُ إلا بنبذ الخطاب الظلاميّ لهذه القيادات، وإعادة صياغة مؤسساتها، مثل «جامعة الإيمان» السلفيّة التي لا محلّ لها من الإعراب في الدولة اليمنية الجديدة إلا إذا تحوّلت إلى جامعةٍ مدنيّةٍ حديثة.
أودّ في الختام أن استشهد بعبارة كامو الشهيرة: «القرن الواحد والعشرين سيكون دينيّاً أو لا يكون!» التي ترى حضارتنا الإنسانية، بكل تنوعاتها وأطيافها، واحدةً إحدى في هذا القرن...
لعله اليوم في الطريق لأن يكون فعلاً قرناً مَدنيّاً في كلِّ أرجاءِ كوكبنا الأزرق!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق