زواج الأطفال الإناث في اليمن:
أكاذيب كبرى ونزوات همجيّة
(الثوري، مارس 2010)
انتشرت على الإنترنت، خلال اليومين الماضيين، عبارات وبيانات لفقهاء دين يمنيين تناهض توقيع اليمن للاتفاقية الدولية التي تمنع زواج الصغيرات. رافقت ذلك مسيرات سلفيّة نظّمتها «جامعة الإيمان». سبقَتْ هذه الحملة ومهّدتْ لها عبارةُ أحد رؤوس أولئك الفقهاء الذي لم ينفِ بعدُ أحدٌ أنه قال، قبيل أيام في إذاعةٍ يمنيّة، هذه الأكذوبةُ الخسيسةُ الكبرى: «يُطلَب من الأطفال في مدارس أوربا وأمريكا واليابان التعري وممارسة الجنس داخل الصفوف الدراسية»!...
لا يقلقني هنا إمكانُ عدمِ توقيعِ اليمن لِمثل هذه الاتفاقية الدولية، أو تراجعها عن ذلك: لم يعد هناك نظامٌ في الأرض (بما فيها معظم الأنظمة العربية) يتجرأ على عدم منع زواج الأطفال الإناث، لسببٍ بسيط: هذه النزوةُ الهمجيّة (التي انحدرت، مثل أكل لحوم البشر، من عصورٍ بدائية سحيقة) عفى عليها الزمن، واستطاعت الثقافات الإنسانية الحديثةُ كبحَها ومنعَها في كلّ مكان تقريباً!...
ستنضوي اليمن في نفس السرب الدولي بفضل رفض معظم أبنائها المدنيين والإنسانيين هذه الممارسة التي لا تليق إلا بالبيدوفيليين (مغتصبي محارم الأطفال)، وبفضلِ عدمِ استطاعتها، في كلّ الأحوال، أن تكون الوحيدةَ التي يشار لها بأصابع اليد كبلدٍ تُحلِّلُ عاداتٍ مارسها بعضُ بشرِ الكهوف والغاب في عصورٍ عتيقة سبقت الحضارة الإنسانية بكثير!...
ما يزعجني هنا هي الأكاذيب الكبرى التي يلجأ إليها بعض فقهاء اليمن! يدّسون أكذوبتهم الأولى باللجوء إلى الماضي الذي اعتادوا مغالطتنا به واختراعه كما يريدون! يقولون: تزوج الرسول الطفلة عائشة وهي في التاسعة من العمر!...
كذّبَ هذه الحجج علماءُ دينٍ نيّرون كثيرون برهنوا رياضيّاً أنها تلفيقات تثير التقزز!... ترفضها، قبل هذا وذاك، عقولُنا (الذي لم يتوقف شيوخنا عن إهانتها بأكاذيبهم) وهي تردّ عليهم: لا يمارس هذا السلوك الهمجيّ إنسانٌ مهذَّبٌ قط، لم يمارسْه بالتأكيد عظيمٌ أو مصلحٌ أو نبيٌّ، فما بالكم برائدِ ثورةٍ أخلاقيةٍ تاريخيةٍ إنسانيةٍ ضد الاستغلال والظلم والقهر والعادات الهمجية، بعظمةِ وإنسانيةِ النبي الأمين محمد ابن عبداللاه؟... كيف تتجرأون على وضع هذا النبي الخالد في هذا الدرك المهين، لتبرير أهواء ونزوات مرضى نفسيّين من منتهكي محارم الأطفال؟...
غير أن بشاعةَ أكاذيبهم تتجلّى، بشكلٍ لا يحتاجُ إلى تفنيدِ عقلٍ أو تحليلِ مفكّر، عندما تمسُّ الحاضرَ الذي نعرفُهُ ونشاهدُه بأمِّ أعيننا الآن!... في مدارس الغرب الذي تحدّثَ عنها ذلك الفقيهُ اليمني ملايينٌ من أبناء العائلات المسلمة، وأخرى من أصول عرقيّة ودينيّة ولا دينيّة شتّى! بينهم أطفال وأبناء موظفين ومهندسين وأطباء، علماءٍ ومؤرخين، علمانيين وفقهاء إسلام كبار وأئمة مساجد، ملوك ورؤساء ووزراء وبسطاءٍ أيضاً!...
يعتبر كل هؤلاء الآباء والأمهات، دون استثناء، أن أعظمَ منجزات حياتهم (التي هي آخر ما يمكنهم التفريط به) دراسةُ أطفالِهم وأبنائهم في هذه المدارس والجامعات!... كل حكام العرب وكبار مسئوليه تقريباً، كل الميسورين من المسلمين وغير المسلمين، هم أول من «يكافح» لبعث أطفاله وأبنائه للدراسة في هذه المدارس والجامعات بأي ثمن!...
لماذا؟... لأن هذه المدارس أعظمُ ما أنتجت الحضارةُ الإنسانيةُ الحديثة، وأهمُّ من كلِّ اختراعاتِ الإنسان المعاصر واكتشافاتِه في كلِّ المجالات: هي وحدها منبعُ كلِّ ذلك!... هي مختبرُ التربية والتعليم الحقيقيين، لا سجنُ التجهيل وتلقين ثقافة القطيع! هي مصنع الأخلاق الإنسانية النبيلة، لا معقل أخلاق النفاق والكذب!... لها بالتأكيد أخطاء وتقصير وعيوب هنا وهناك، لكنها لا تتوقّف عن دراسةِ تجاربِها ونقدِها وتجاوزِها وتحسينِها يوماً بعد يوم!...
لم تستفد هذه المدارس من أفكار عصر التنوير الأوربي فحسب، بل من كل التيارات الإنسانية المضيئة، لاسيما ذات الأصول العربية والإسلامية! من لا يعرف أثر ابن رشد والتيار العقلاني الإسلامي على فكر الغرب في العصور الوسطى؟...
صدق شاعرُنا العربي عندما قال:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإن همو ذهبَتْ أخلاقهم ذهبُوا
أو «فإن همُ نهضَتْ أخلاقُهم نهضوا»، سيّان!...
إذ لم تنهض شعوب الغرب واليابان علميّاً ولم تسُد العالم في كل المجالات إلا لأنها نهضت أوّلاً أخلاقيا قبل كل شيء! ولا نعيش، نحن العرب والمسلمون، في عصر انحطاط مستمر إلا لأن ثقافتنا تكرِّسُ أخلاقَ النفاق والكذب والخنوع والانحناء أمام الحاكم، وقبول المنكر أو السكوت عليه!...
سأضرب مثلاً بسيطا من وحي حياة اليوم: تُعلِّمُ المدرسةُ الغربيةُ الطفلَ «أن القانونَ يمنعُ قتل الإنسان»! يُطبَّقُ ذلك حرفيّاً داخل بلدان الغرب (وإن كان لبعض هذه الدول معايير ظالمة، وسياسات غير عادلة خارج بلدانها)! يمكن أن تمر في هذه الدولة الغربية أو تلك «ثورة أبناء الضواحي» التي استمرت أسابيع وأحرقت مئات السيارات والمكاتب، دون أن يُطلِق البوليس الغربيّ رصاصةَ مسيلاتِ دموعٍ واحدة عليها، فما بالكم بالرصاص الحي؟...
وتُعلُِّم مدْرستُنا اليمنية «أن قتل المسلم للمسلم حرام، كما تقول الشريعة الإسلامية!» فيما يتم إطلاق الرصاص الحيّ في اليمن على أية مظاهرةِ جياع في صنعاء أو تعز أو عدن، على كل مظاهرات الحراك السلمي في الجنوب!... يُختَطفُ الصحفيون كهشام باشراحيل وعشرات غيره من بيوتهم، يُختَطف ويُعذَّبُ في وضح النهار صحفيٌّ كمحمد المقالح، دون أن يقول أحدٌ تقريباً كلمةً مستنكرِة، دون أن تخرج المسيرات الغاضبة من كلِّ المدارس، دون أن يدين ذلك فقهاءُ الدين أو ينبسون بأدنى كلمة استنكار، وكأن وظيفتَهم الوحيدة في الحياة هي أن يكونوا حرّاس الحكام وصمام أمام بقائنا في عصور الانحطاط!...
لذلك قال الشيخ الكبير رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر بعد ما جاء للدراسة في الغرب: «لقد وجدتُ هناك إسلاماً بلا مسلمين، ووجدتُ هنا مسلمين بلا إسلام»!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق