عرش أدوليس، وحروب البحر الأحمر عشية الإسلام
حبيب سروري
جليٌّ أن الهوَس الذي يقود المؤرخين للبحث عن حقيقة الماضي من نفسِ معدنِ الهوَسِ الذي قاد مؤخراً سفينةً فضائية أوربيّة لِقطعِ مسافة ٥١٠ مليون كلم بحثا عن كويكب ظهرت فيه بالصدفة جزيئياتٌ عضوية من مواد جامدة، مثلما حدث في كوكبنا الذي ظهرت فيه نفس الجزيئيات، وقادت بعد بضعة مليارات سنين من التطور البيولوجي إلى "والذي حارتِ البريةُ فيهِ: حيوانٌ مستحدثٌ من جماد": الإنسان، كما قال أبو العلاء.
في كتابهِ الأخير: "عرش أدوليس"، يضيئ المؤرخ الأمريكي الكبير جلين باورسوك، بروفيسور التاريخ القديم في جمعة برنستون، تاريخ الحقبة الزمنية التي سبقت ظهور الإسلام، في الجزيرة العربية لاسيّما جنوبها، ومملكة أكسوم الحبشية.
يستند في كتابه المهم هذا على أحدث دراسات المتخصصين بقراءة نقوش ومخطوطات وآثار اللغات القديمة: السبأئية (الثريّة بالمراجع)، الحبشية، السيريانية، الإغريقية... في مناطق مختلفة في الجزيرة العربية وشرق أفريقيا. وينطلق بشكل خاص من الاكتشافات الأخيرة لِقِطعٍ من عرشٍ كان منتصباً في مدينة أدوليس الإرتيرية (كانت تطلّ على البحر الأحمر بالقرب من أسمرا اليوم) وكتابٍ إغريقيٍّ قديم: "طوبوغرافيا مسيحية" يحتفظُ بنصوصٍ كانت منقوشةً على العرش.
في كتابه "طوبوغرافيا مسيحية" (٥٥٠م)، سرد التاجر المسيحي، كوسماس انديكوبوستيس، ملاحظات دوّنَها خلال رحلاته العديدة، لاسيّما تلك التي قادته في حدود عام ٥٢٠ إلى مدينة أدوليس. حيث نسخ خلال إقامته فيها، بناء على طلب ملك الحبشة كاليب في العاصمة أكسوم، كلَّ النصوص المنقوشة على عرشٍ من الرخام الأبيض، وعمودٍ ضخم من البازلت منتصب خلفه.
ترتبط هذه النصوص بفترات مختلفة من تاريخ المنطقة، درس كتاب باورسوك تفاصيلها في فصولٍ منفردة.
كان الملك كاليب حينها على وشك المضي لِهجوم جديد، عرمرمٍ هذه المرّة، على مملكة حِمْيَر (بعد مجزرة نجران، في ٥٢٣م) ويهمّه ما كان مكتوباً على العرش من سردٍ لانتصارات ملكٍ حبشيٍّ سبقه (في بداية القرن الثالث) احتلّ مملكة حِمْيَر، لتظلّ تحت السيطرة الحبشية حتّى ٢٧٠م. (فصلٌ كاملٌ في كتاب باورسوك يتناول تاريخ ذلك الاحتلال).
نقل كوسماس لكتابه أيضاً كل تلك النصوص، والأحداث التي رافقت إقامته هناك، مضيفاً فيه رسوماً للعرش وخارطة موقعه.
يلزم التذكير أوّلاً: اعتنق أهل الحبشة المسيحيةَ ابتداءً من عام ٣٤٠م تقريباً، في حين اعتنق عرب مملكة حِمْيَر (كل اليمن الحالية، ونجران) الدِّينَ اليهودي في حدود ٣٨٠م، وإن ظلّت ثمّة أقليّة مسيحيّة. كان الحِمْيَريّون متشدّدين في انتمائهم الديني اليهودي (كما تبرهنه كل المخطوطات والنقوش السبأية لِتلك الفترة). يشرح الكتاب تفاصيلُ نشوء اليهودية في اليمن وتحوّلِها إلى دينٍ سائدٍ متزمت.
سادت الديانتان التوحيديتان هكذا مملكتي ضفتي البحر الأحمر. ولعلّ امتلاك كلٍّ منهما صيغتَهُ المحليّة التي تخصخصُ وتوظِّفُ لحساب تاريخه الوطني أسطورةَ ملكةٍ تزور الملك سليمان، ما يلخِّص تنافسهما الديني حامي الوطيس!...
كان الملك كاليب قد قام بحملة سابقة في ٥١٨م لتعزيز التواجد المسيحي في حِمْيَر، لاسيما أن مسيحيّاً حميريّاً استطاع انتزاع السلطة اليهودية بين ٥٠٤م و ٥٠٩م في ظروفٍ غامضة. ولم يعد كاليب لأكسوم إلا بعد أن ثبّت فيها ملكاً مسيحيّاً جديداً: معدي كرب يعفر.
للاحتفال بانتصاراته، وبتنصيبهِ ملكاً مسيحيّاً لِحِمْيَر، شيّد كاليب صروحاً تتغنّى بأمجاده باللغات الحبشية والسبأية.
غير أن الحِمْيَري اليهودي الأوصولي يوسف عازار أطاح بالملك المسيحي بعد ذلك، ليصل إلى السلطة ويدمّر الكنائس المسيحية في عاصمة حِمْيَر، ويأمر بإبادة مسيحيي نجران في ٥٢٣م!
ليس ذلك فقط، لكنه كان فخوراً بهولوكوست نجران، حيث أرسل في عام ٥٢٤ رسالةً لمؤتمرٍ دوليٍّ انعقد في رملا (بجنوب العراق الحالي) تصف مجزرته! تناقلت الأوساط المسيحية وكل كنائس الشرق هذه الرسالة الصادمة، وحثّ إمبراطور بيزنطة (غوسطين) الملكَ كاليب على "ضرب هذا اليهودي المجرم القذر".
أعدّ كاليب هجوماً شاسعاً في ٥٢٥م على حِميَر يساعده أسطولٌ ضخمٌ من السفن البيزنطية القادمة من العقبة، هزم فيه يوسف، أسقط المملكة اليهودية، وتوّجَها بملك حبشيٍّ لِحمير: سوميفا أشوع، وبعمودٍ ضخمٍ منتصبٍ في مأرب، يسرد انتصاره.
تضاعفت شهوات القوتين الأعظم: الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية، أكثر من أي وقتٍ مضى، للهيمنة على مناطق ضفتي البحر الأحمر وموانئه، وطريق الحرير. أرسل قسطنطين، أمبراطور بيزنطة، سفيرين للمملكة المسيحية الحميرية بغرض تأسيس تحالف استراتيجي معها ومع الحبشة وقبائل عربية نافذة في قلب الجزيرة ككندة، وذلك بهدف إغلاق موانئ المنطقة على تجار فارس.
أطاح الحبشي إبرهة بعد ذلك (٥٣٠م) بالملك سوميفا الذي كان ضعيفاً وخاضعاً للحبشة، ليستقلّ بشكلٍ جهورٍ معلن عن النفوذ الحبشي المركزي، ويدخل في صراعٍ جبهويٍّ مع كاليب.
ساهم إبرهة بتعمير حِميَر حيث أعاد ترميم سدّ مأرب، ونصب عموداً ضخماً في مأرب، في ٥٤٧م، يخلِّد ذكراه (صورته وترجمة نقوشه في الكتاب).
دعى لمؤتمر دولي، "أهم مؤتمر في المنطقة منذ مؤتمر رملا الذي بعث له يوسف رسالته الكارثية"، حضره المناذرة، الساسانيون، حاكم فلسطين الذي عينه الإمبراطور البيزنطي، وممثلون من فارس وبيزنطة.
رسم إبرهة لمملكته هكذا دوراً إقليمياً طليعياً يستغل موازين القوى الجيوسياسية لصالحها.
"غاب عن هذا المؤتمر العرب الوثنيون ومتعدِّدو الآلهة، كقبائل يثرب، الذين لم يكن لهم ممثل يجمعهم". من كان يتصوّر آنذاك أن يثرب هذه (التي كانت تحتدم فيها أطماع البيزنطيين والفارسيين الزرادشتيين، وتتنوع فيها المعتقدات الدينية الموالية لهذه القوى) ستكون قريبا الأرض الخصبة لنشوء ديانة جبارةٍ جديدة؟
ثمّ ازدادت أطماع إبرهة في إخضاع قلب الجزيرة العربية لنفوذه: أرسل حملة لها في ٥٥٢م باتجاه النفوذ الفارسي في الحيرة (يختلف هنا، على سبيل المثال، التاريخ العلمي مع التاريخ الديني الذي يضع هذه الحملة في عام ٥٧٠م، عام ميلاد الرسول، ويطلق عليها "عام الفيل" مضيفاً لها قصصا ميثولوجية شهيرة).
"تفاصيل هذه الحملة موجودة على نقوشٍ نُشِر محتواها لأول مرة في ١٩٥١".
تمّ إجهاض هذه الحملة التي رافقها صراعٌ بين أبناء إبرهة. غير أنها أذكت حاجة فارس للعودة والهيمنة على منطقةٍ ربطتها بها تاريخيا علاقةُ تعاطف مع يهود حِميَر، وخسرت كثيراً فيها منذ انتصار كاليب.
ستعود فارس فعلا إلى المنطقة بُعيد قليل من ذلك، استجابةً لدعوة اليهودي الحميري سيف بن ذي يزن...
كان معمعانُ هذه الحروب الدينية المتعاقبة، والممتزجة بالمصالح الجيوسياسية الإستراتيجية الشرهة للقوى العظمى، الوعاءَ الذي نشأت فيه ديانة الإسلام.
من خرائبها وتأرجحاتها وتعاقب هزّاتها الزلزالية، برزت الظروف الملائمة لانطلاقةٍ ظافرةٍ للدين الجديد الذي نهض مستقلاً عن مصالح القوى العظمى وصراعاتها، رافعاً إلى السطح قوىً شتّتتها أوثانُها ودياناتُها المختلفة، وهمّشتها الأقطابُ الجيوسياسية السائدة.
لم تحتج هذه القوى الجديدة إلا لعقودٍ قليلة لِتطمّ المنطقة بأسرها وقواها العظمى المتاخمة، ابتداءً من فارس بعد عقود قليلة من نشوء الإسلام، وانتهاء بعاصمة الإمبراطورية البيزنطية نفسها، القسطنطنية (إسطنبول) في ١٤٥٣... ولِتخلق بدورها صراعاتٍ دينيةً جديدةً ما زالت تشتعل حتّى اليوم!...
إذا ما نظر المراقب السياسي لتحالفات القوى السياسية في منطقتنا اليوم، حيث بعضها سفنٌ فضائية للغرب أو سفنٌ فضائية تدور حول سفنهِ الفضائية، والأخرى بيادق لإيران أو بيادق لبيادقها؛ وإذا ما نظر لعنف تحالف الطغاة والأصوليين في منطقتنا وحروبهم المتوالية؛ فلا يسعه إلا أن يقول: "ما أشبه الليلة بالبارحة!".
أمّا الأديب فسيلجأ للسخط الأنيق وهو يتأمل منحنى الزمن العربي وهو يرجع دائرياً إلى الخلف. سيستحضر عبارة هرقليطس العميقة: "لا يستحمُّ المرء في النهر نفسهِ مرّتين!" متسائلاً بمرارة إن لم نكن نميل بضراوة، نحن العرب، للاستحمام في بحرٍ ميّت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق