ثورات اليمن المجهضة .. وانتصار الظلام
قراءة في رواية «ابنة سوسلوف»
برغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي، ونجاح الثورة التونسية في الإطاحة بنظام بن علي في 14 يناير 2011، وما أعقبها من طوفان ثوري أطاح بعدد من طغاة الزمن العربي الرديء، فإن الربيع العربي لم ينتج نصوصه الأدبية الكبيرة بعد. فالنصوص الأدبية هي أكثر الكتابات كشفا عما وراء السطح وقدرة على إثارة الأسئلة المدببة التي تضيء الوعي وتكشف المسكوت عنه. وهي الكاشفة لحقيقة قاعة المرايا التي يبدو أن الربيع العربي قد تاه في أبهائها، وتشوهت صورته في تقعراتها وتحدباتها. فكثير مما يحدث في تونس أو مصر يجد مراياه الصقيلة منها أو المعتمة في اليمن، وما يدور في سوريا تنعكس أشباحه الكئيبة في ليبيا وإن بصورة متغايرة. لذلك فإنني في انتظار الأعمال الأدبية التي تكتب هذا كله، وأحرص على البحث عنها وقراءتها. فباستثناء عمل سعد القرش التوثيقي المهم (الثورة الآن: يوميات من ميدان التحرير) عما جرى في مصر إبان ثورة 25 يناير، فإنني لم أقرأ نصا عن الربيع العربي بأهمية هذه الرواية اليمينة الجميلة، أو بعمق استبصاراتها. صحيح أن السيد نجم أصدر مطلع هذا العام رواية جديدة عن الثورة المصرية، بعنوان (أشياء عادية تحدث في الميدان)، وأن هناك أعمالا كثيرة أخرى تسعى للاقتراب من الربيع العربي وسبر بعض أغواره لم تتح لي الوصول إليها بعد، وخاصة في سوريا، لكنني لم أقرأ عملا قادرا على إضاءة ما جرى وموضعته في سياقاته الأوسع مثل هذه الرواية الجميلة (ابنة سوسلوف) للكاتب اليمني المرموق حبيب عبدالرب سروري.
وسروري كاتب من طراز فريد في سياق الرواية العربية، ناهيك عن الرواية اليمنية الوليدة التي تركت بصماتها الخاصة عبر أعمال محمد عبدالولي، وزيد مطيع دماج، اللذين رحلا مبكرا، ووجدي الأهدل ومحمد الغربي عمران ونادية كوكباني وغيرهم. لأن حبيب سروري الذي نجد شيئا من سيرته الذاتية، وقد انتابها الكثير من التحوير الروائي، وهي تتجلى في شخصية بطل هذه الرواية الجديدة، عمران، له خصوصيته الفريدة. ليس فقط لأنه جاء من عدن في جنوب اليمن، بينما انحدر أغلب كتاب الرواية اليمنية من الشمال، ولهذا الأمر أهميته بسبب خصوصية التجربة اليمنية في الجنوب أثناء سنوات تكوينه، ولكن أيضا لأنه بدأ كتابة الرواية بالفرنسية، حيث صدرت روايته الأولى (المملكة المغدورة) بها عام 1998، ثم انتقل إلى الكتابة بالعربية، ونشر بها حتى الآن (عرق الآلهة)، وثلاثية (دملان) الروائية، ثم (طائر الخراب) و(تقرير الهدهد) و(أروى) قبل أن يعود في روايته السابعة إلى سيرته الروائية يعتمد عليها في الكتابة عن الربيع العربي في اليمن. فالكتاب عادة ما يلجؤون إلى سيرتهم الذاتية في رواياتهم الأولى.
لكن تجربة حبيب سروري المتفردة، والتي جاءت به لفرنسا في بواكير الشباب للدراسة بها، ثم انتهت به إلى الاستقرار والعمل فيها، تركت ميسمها الواضح على مسيرته الروائية. فهو أستاذ لعلوم الكومبيوتر في قسم هندسة الرياضيات التطبيقية، كلية العلوم التطبيقية، بجامعة روان في فرنسا، كما يقول التعريف المكتوب على ظهر غلاف روايته. وله أبحاثه العلمية في هذا المجال؛ ولكنه يكتب الرواية إلى جانب البحث العلمي في عدد من فروع الرياضيات النظرية منها والتطبيقية. وهو الأمر الذي ترك أثره على روايته (عرق الآلهة) بتجربتها الفريدة التي يزاوج فيها بين الاستقصاءات العلمية في الرياضيات وأبحاث الدماغ، وتقنيات رواية الخيال العلمي لسبر جوهر العلاقات الإنسانية وردود الفعل البشرية. كما أن ولعه بالبحث في التراث العربي أسفر عن رواية (تقرير الهدهد) التي تتمحور حول عالم أبي العلاء المعري وشخصيته. أما (أروى) التي نشرها العام الماضي، وقرأتها قبل هذه الرواية الجديدة، فهي قصة حب يمنية شيقة وغريبة تكتب زمن الشتات العربي، وتفاعلاته مع اليمن أسطوريا وواقعيا معا، وتدور الكثير من أحداثها بين اليمن وأوروبا، وقد أعود يوما للكتابة عنها لما تتسم به من بنية روائية شيقة؛ كشفت عن نضح فني استفادت منه بلاشك هذه الرواية الأخيرة (ابنة سوسلوف) مما مكنها من سبر أغوار الربيع العربي في اليمن، وخارجه معا.
فنحن إذن بإزاء كاتب يمني من جنوب اليمن، أمضى الشطر الأكبر من حياته في فرنسا فتكون فيها علميا وثقافيا وفكريا، وتكشف لنا الرواية عن بعض أدوات هذا التكوين المفتوح في مناخ من الحرية والجدل العقلي، ولكنه لم يستطع أن ينزع قلبه من اليمن، ومن اليمن الجنوبي على وجه التحديد. وظلت شمسه الحقيقية هي شمس اليمن الجنوبي وبحر عدن، بالرغم من شغف حبيب سروري بشمس الجنوب الفرنسي ومهرجاناته الثقافية، التي ألتقيه فيها كل صيف. ولذلك كانت العودة بعد مسيرة من النضج الفكري والتجربة الروائية، إلى سيرته الذاتية يمتح منها ما يمكنه من وضع خبرته بما دار في اليمن منذ اندلاع الثورة فيه، في سياق سياسي واجتماعي وتاريخي أعرض. وربما كانت المسافة التي تتيحها له الحياة في فرنسا من ناحية، والعمل في مجال علمي خالص، بعيدا كل البعد عن هموم الوطن العربي عامة، واليمن خاصة من ناحية أخرى، هي التي أتاحت لهذه الرواية أن تكتب الربيع العربي في اليمن من مسافة ضرورية لرؤية الكثير من أبعاده، والكشف عن المسكوت عنه فيها.
والواقع أن عودة الكاتب إلى سيرته أو بأحرى إلى تجربته اليمنية يافعا في يمن الثورة الاشتراكية في عدن كانت ضرورية لسببين: أولهما أن الروايات الجيدة تعتمد على خبرة الكاتب الحقيقية بموضوعها، وليس أكثر حقيقية من خبرة الكاتب الذاتية، فتكسبها هذه الخبرة زخما خاصا وتتيح للتجسيد فيها أن يسبر أغوار الواقع ويغوص فيه. وثانيهما أن تغطية الرواية لهذا الزمن التاريخي العريض الذي يمتد لنصف قرن من أواخر ستينيات القرن الماضي حتى الآن، مكن الرواية من تقديم استقصاءاتها المهمة حول كيف تحول الواقع العربي عامة، والواقع اليمني خاصة، من زمن الحلم بالتحرر والتقدم والعدل والاشتراكية، إلى «زمن انتصار الخراب والظلمات» وتكريس الموت وتحجيب العقل، وإجهاض كل حلم بالتحرر والتغيير. وهو الزمن الذي استطاع أن يلتهم الربيع العربي في اليمن برغم عرامة الثورة فيه وعنفوانها. وأن يحيل ما جرى فيه إلى مرآة نستطيع أن نتأمل في انعكاساتها كيف أصبح الإسلامجية (وهو المصطلح الذي أفضله لكل الذين يتاجرون بالإسلام دون أن يطبقوا على أنفسهم غير قشوره، ويستخدمونه مطية سياسية، ويحيلون قيمه النبيلة إلى أدوات للاستيلاء على السلطة وتكريس التخلف والفساد) في كل مكان أداة من أدوات الثورة المضادة، وقوة من قواها الشريرة التي تسعى لإجهاض الحلم بالعدل والتقدم والثورة وتدميره.
عتبات الرواية واستهلالاتها:
تستقطب الرواية اهتمام القارئ أولا باسمها الغريب (ابنة سوسلوف). وهو بلا شك عنوان طريف لرواية يمنية عن الربيع العربي، خاصة وأن عدد من يتذكرون اسم ميخائيل سوسلوف (1902 – 1982)، السكرتير الثاني والمنظر الأيديولوجي للحزب الشيوعي السوفييتي أيام الحرب الباردة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بين القراء قليل. لكن هذا العنوان مهم في المخطط العام للرواية، وفي نصها الأيديولوجي إن صح التعبير. لأنه أولا يضع الفكر وتحولاته في بؤرة اهتمام الرواية، أو يوجه نظر القارئ إلى أهميته وجعله من مضمرات العنوان. ولأنه ثانيا يجعل التجربة اليمينة في عدن أو جنوب اليمن الاشتراكية مرتكز السرد فيها، ومنطلق عالمها الروائي من ذروة الحلم بالعدل والحرية إلى حضيض العبودية المختارة والتخلف. ثم تبدأ الرواية التي يكتب فيها حبيب سروري ما جرى للثورة اليمنية، أو بالأحرى ما جرى لحلم اليمن مع الثورة على مد أكثر من نصف قرن من الزمن، بمقتطف دال من الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو، وهو أكثر شعراء فرنسا صلة بعدن، وبتخثر حلم الشعر والثورة فيها. كما أنه يجلب فرنسا منذ هذا المقتطف الاستهلالي إلى قلب اليمن التي عاش فيها رامبو عدة سنوات من عمره حيث يقول: «الحرب الروحية لا تقل شراسة عن معارك الفرسان». فالرواية في بعد من أبعادها هي رواية تلك الحروب الروحية التي خاضها بطلها «عمران» في مسيرته التكوينية بتحققاتها وخيباتها معا، والتي رقشها اليمن في حياته وشكّلها عبرها، وهي رواية التضافر بين الحروب الروحية اليمنية، وبين تجربة الكاتب/ الراوي/ البطل في الغرب أيضا.
وتستخدم الرواية في هذه الكتابة مجموعة من التقنيات أو الاستراتيجيات النصية الدالة من حيث محتوى الشكل فيها، والتي تبدأ بمنشورات الراوي على حائطه في «الفيسبوك»، وتتواصل عبر البوح المباشر أو المناجيات التي يحكي فيها الراوي بضمير المتكلم كثيرا من سيرته، أو مسيرته مع نفسه ومع اليمن، لملاك الموت: هادم اللذات ومفرق الجماعات، علّه يساعده على توضيح ما جرى وفهمه. وإذا كان الحكي قد بدأ مع شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) كأداة لتعليق الزمن ودرء عوادي الموت الغشوم بقوة السرد الناعمة، فإنه يتحول عند حبيب سروري إلى وسيلة للكشف عن حقيقة الموت الذي تحول إلى أحد أهم دوافع الشخصية اليمنية، وفهم الحياة وعبثية الموت الثاوي فيها معا، والذي لا ننجح أبدا في درء عواديه. كما يسعى في مستوى آخر للبحث عن سر سيطرته على التفكير العربي وتمترسه فيه. وهكذا يعود السرد وهو يحكي لملاك الموت بطريقته الخاصة أو المراوغة من جديد إلى وظيفته الشهرزادية البدئية في هذه الرواية، أي إلى رد عوادي الموت نفسه عنا بالفهم العقلي. لذلك يأخذ الحوار معه في هذه الرواية طبيعة سجالية في كثير من الأحيان، تتكشف لنا منذ كلماته الأولى معه في مطلع السرد: «لو طلب مني هادم اللذات ومفرق الجماعات أن أقول كلمتين تلخصان مشاعري حال رؤيته، فسأقول: ما حصل لحياتي يتجاوزني تماما. لم أستوعب منه شيئا، سأكون محظوظا وممتنا لو ساعدتني، عزيزي قابض الأرواح، على توضيح ذلك وفهمه، أنت الذي كشف لك الباري بالتأكيد أسرار البدايات وعرجنات المصائر».(1)
ويقدم الفصل الأول من الرواية الذي يبدأ ككثير من فصولها بمنشور على حائط الراوي في «الفيسبوك» أحد مفاتيح القراءة المهمة فيها. لأن هذه المنشورات التي تتناثر على مد السرد إذ يفتتح بها عددا لا بأس به من فصولها، تربطه بالفضاء الرقمي، والعالم الافتراضي الذي لعب دورا مرموقا في الربيع العربي من ناحية، وأصبح ساحة من ساحات نضالاته المفتوحة من ناحية أخرى. فقد زود «الفيسبوك» كل ما هو شخصي وحميم ببعد جمعي أو اجتماعي جديد. ومكن الفرد من التملص من سيطرة المجموع الخانقة، كي يتأمل ذاته وتواريخه ويعرض آراءه ومواقفه أمام الآخرين، أو يشركهم في هذا التأمل. وهو هنا في هذا السرد الروائي يلعب هذا الدور، ويكشف لنا عن اشتباكات الحياة الشخصية لكل من عمران وفاتن/ هاوية/ أمة الرحمن، بالحياة العامة لليمن، والتوازي بين ما دار لهما وما جرى لبلدهما الحبيب. فالرواية برغم أنها معمورة بالذرى والخيبات التي عاشها الراوي على مد نصف قرن من حياته هي في مستوى من مستوياتها قصيدة عشق للوطن، لليمن، وعدن وجزيرة عمران، وحيّ الشيخ عثمان الذي جاء منه البطل على وجه التحديد.
ويحرص هذا المنشور الافتتاحي على الربط بين ما جرى في مرحلة الطفولة والصبا الأول الذي عاشه الراوي في حيّ الشيخ عثمان في ستينيات القرن الماضي، وما يدور الآن بعد تخثر الربيع العربي وجناية الإسلامجية على الثورة اليمنية ووأدهم لها. فالأهزوجة التي كان يرددها الأطفال خلف مجذوب القرية «ماكينة الإضحاك» حسّاني، في سنوات صبا الراوي، سرعان ما تتبدى لنا تحويراتها الحماسية في مسيرات الجماهير الكادحة بعد وصول اليسار للسلطة في جنوب اليمن، وتأسيس جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية واندلاع انتفاضاتها الفلاحية: «عادت الأرض بالقوة وبالانتفاضات/ لولا العنف الإقطاع ما مات/ ولولا العنف ما العالم تفجر بالثورات/ ولولا العنف ما سقطت جميع الحثالات». (ص10) وبعد أربعين سنة أخرى تتحول الأهزوجة في مظاهرات مجاذيب مسيرات أسلمة الربيع العربي «كلما زدنا شهيد/ صرنا ثوار من حديد». (ص12) إلى صرخات للاحتفال بثقافة الموت وإبادة الذات، بدلا من الغناء القديم للثورة والحرية والانتفاضات الفلاحية.
وبموازاة هذه الأزمنة الثلاثة بأهازيجها المختلفة، تقدم الرواية فضاءات جغرافية ثلاثة هي عدن، وباريس وصنعاء. وتربط فضاء الطفولة العدني بمرحلة التكوين والتفتح على الحياة والحب والثورة وحلم الثورة الاشتراكية المفتوح، والذي يؤدي به إلى الحصول على بعثة للدراسة الجامعية في فرنسا فتربط الفضاء الفرنسي بتجربة التغير والتفتح والنضج، ثم تعود بعده إلى صنعاء لتكشف لنا لماذا تحولت أهزوجة الحساني الفكاهية التي كان يرددها أطفال حي الشيخ عثمان بمرح وراءه، إلى صرخات عدمية متشنجة لتمجيد ثقافة الانتحاريين (والتي ستتكرر في الرواية ص 76) هذه الأزمنة الثلاثة والفضاءات الثلاثة هي أداة الرواية للكشف عن كيف انزلقت اليمن من عصر «الحلم بالاشتراكية العلمية»، إلى «عصر الفجاجة والظلامية وإبادة الذات».
وتقدم لنا مفتاحا إضافيا لقراءة الرواية كعمل يسعى للكشف عن التحولات التي عاشها اليمن وفهم ما جرى له من خيبات انحدرت به من حلم الثورة الاشتراكية في عدن، إلى حضيض الظلام الطائفي والسلفي في صنعاء، عقب إجهاض الإسلامجية لربيعه العربي. فالتضافر بين الشخصي والعام هو ما يمنح هذه الرواية زخمها وأهميتها معا. كما أن الحرص من البداية على تتابع هذه الأزمنة الثلاثة: زمن الطفولة وبدايات الصبا والمراهقة في عدن وحي الشيخ عثمان، وزمن اليفاعة والثورة الاشتراكية بدايات اكتشاف الذات، وأخيرا زمن الربيع العربي وما جرى له من تحولات، يكشف للقارئ عما يمكن دعوته بزمكانات Chronotopes الرواية الثلاثة، في تعاقبها وتفاعلها، لأن كل زمن من هذه الأزمنة الثلاثة تديره الرواية في مكان مغاير يتحول فيه المكان إلى البعد الرابع للزمان، والزمان إلى البعد الرابع للمكان، وهو أمر سأعود إليه بعد قليل.
زمن التكوين والمتخيل الوطني:
تغنيك رواية (ابنة سوسلوف)، كالروايات الجيدة، عن قراءة الكثير من كتب التاريخ ودراسات التحول الاجتماعي والسياسي، وشبكة تيارات الحراك الفكري والاجتماعي المعقدة التي تكوّن فرادة الحالة اليمنية. لأنها توشك في مستوى من مستويات القراءة الممكنة لها، أن تكون رواية المتخيل الوطني اليمني: تكوينه وتحولاته. فهي ككثير من روايات المتخيل الوطني – ومن أبرزها في أدبنا العربي (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، و(ثلاثية) نجيب محفوظ، و(الرغيف) لتوفيق يوسف عوّاد – تكتب زخم التحولات التاريخية والسياسية من خلال الأسرة أو الفرد، وإن غلبت عليها كتابة الفرد بسبب المرحلة التي ظهرت فيها من تطور الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين. وتعي أن كتابة هذا النوع من الروايات تكون عادة مثقلة بالتواريخ، سواء ما تعلق منها بتواريخ الوطن، أو بما أدعوه بذاكرة النص الداخلية. حيث تجعل (ابنة سوسلوف) من التاريخ قماش لوحتها السردية التي ترقش عليها مصائر شخصياتها الأساسية منها والثانوية.
لذلك فإنها تبدأ ككثير من روايات المتخيل الوطني من مرحلة الطفولة، ومرحلة بداية التحول مما يدعوه والتر بينامين بالزمن السرمدي الثابت الأبدي إلى الزمن التعاقبي التاريخي المتحوّل. تبدأ من «دكان الأعمى» العم سيف العريقي الذي تبدو فيه عتمة الظل رخيّة، والزمن سرمديا ثابتا لم يتغير منذ بدء الخليقة. في هذا المكان/ الزمان، أو ما يمكن دعوته بزمكان البراءة السحري، حسب المفهوم الباختيني للمصطلح، تبدأ أحداث الرواية. حيث يشكل زمن التفتح والمراهقة البعد الرابع لهذا المكان. تبدأ قصة الراوي عمران الأولى مع الحب العذري، وهو حب الزمن السرمدي بلا نزاع، وهو يرامق هذه الصبية الفاتنة «فاتن» دون أن يجرؤ على الحديث معها. لكنه كما يقول لملاك الموت الذي يحكي له يفضل أن يسميها «هاوية»، وكأنه يريد أن ينبهنا إلى أنها ستكون هاويته التي بلا قرار. وستكون، كما هو الحال في كثير من روايات المتخيل الوطني استعارة للوطن الذي يتجلى في كثير من هذه الروايات في صورة امرأة، تشكل العلاقة بها، فهي العلاقة بالوطن نفسه، ثقلا باهظا لا فكاك منه.
أما فاتن والتي لا تقل أهمية في هذه الرواية عن عمران، إن لم تتفوق عليه في تعدد مستويات دلالاتها الروائية، فقد كانت تأتي مع أمها لزيارة بيت العم سيف العريقي، فقد ارتبط هذا المكان المتميز في لاوعيها هي الأخرى بالزمن السرمدي، فكانت تجربتها الأولى فيه، وهي في الثالثة عشرة من العمر، تجربة أبدية بشكل من الأشكال. ولفاتن/ هاوية أهميتها الخاصة في الرواية بسبب جينيولوجيا تكوينها المتفردة، فهي أبنة «فيروز» بنت نفس الشارع الذي ولد فيه الراوي. أو بالأحرى بنت أجمل بنات الشارع، فقد كان يطلق عليها ملكة جمال عدن وقتها، قبل أن تتزوج من سالم وتنتقل للحياة في فيلا في حي خورمكسر في عدن. هي إذن بنت أجمل ما أنجبه الشارع، وبنت «سالم» الذي عاد من دراسته للماركسية اللينينية في موسكو وعين رئيسا للمدرسة العليا للعلوم الماركسية، وأطلق عليه وقتها لقب سوسلوف الحزب، بمعنى أنها أيضا بنت أرقى ما وصل إليه الفكر السياسي في عدن وقتها. فقد «كان سالم قياديا من الطراز الرفيع، ودونجوان من الطراز الأرفع». (ص 14) وهو ما يمنح فاتن تلك الجنيولوجيا الخاصة التي جعلتها مستحيلة المنال وقتها، فكان هذا التواصل الخاص عندما حان الفراق بلغة الدموع: «في المرات الأخيرة التي سبقت سفري للدراسة في باريس، كان لقاء التمثالين ينتهي برجفة صامتة ومشاعر مزدحمة كثيفة. دمعتان تسيلان على وجه هاوية المشرق الواعد. تتلألأ معها عيناها السوداوان اللامعتان. ترافقهما دمعتان تسيلان بصمت وسرية في حناياي». (ص 17)
بعد البداية بفاتن والحب العذري والزمن السرمدي الجميل، ندخل في الفصل الثاني في قلب الزمن التاريخي وحراكه الجديد لتكوين المتخيل الوطني والحلم بالثورة والتغيير. لأن الفصل الثاني يقدم لنا الوجه الواقعي المناقض لكل ما ينطوي عليه الحب العذري من رومانسيات. وهو فصل بدايات الانفصام الذي يتجذّر في الرجل العربي بين الجنس والحب العذري منذ بواكير الصبا. بين تجربة حي الدعارة القديم و«مدينة السيسبان»، و«فقش» عذريته، على يدي «الدكتورة» الخبيرة بها والتي تتعامل مع مهنتها باحترافية وفن معا. وكيف يرى أن «فقش العذرية لحظة ثورية بامتياز، جذر الثورات» (ص31) كما يقول عمران لنا، وبين هذا الحب العذري الصامت لفاتن الجميلة، الذي يربطه بقدسية طهرانية بعيدة المنال: «أما وجه فاتن فكان أيقونتي الدينية التي تملأ السماء. أنظر إليه بقدسية، أحدّق فيه طويلا، أُسبّح له وأعبده» (ص37) لذلك كان طبيعيا أن يظل عاجزا أمامها عن النطق.
وينطلق بنا هذا الفصل إلى ما بعد تجربة «فاتن» الرومانسية، وإلى صبا الراوي وسنوات الدراسة الثانوية والمراهقة، إبان معمعان «مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية» والحلم بالتغيير في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لأن هذا الفصل وهو يبدأ بمنشور من حائطه على الفيسبوك، يكرس ثنائية السرد بين العام والتاريخي الذي نقرأه في منشوراته الحائطية على الفيسبوك، والخاص الفردي الذي يسر به لملاك الموت في سرده الروائي. لذلك كان طبيعيا أن يسجل في منشور حائطه على الفيسبوك مساهماته الثلاث في نشاطات الثورة الاشتراكية اليمنية وهو في شرخ الفتوة: كانت أولاها حينما انخرط في العاشرة من عمره في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، وكتب على جدران مدرسة «الست نور حيدر الابتدائية للبنات» شعارات شعرية رومانسية مطالبة بتحرير عدن ورحيل الاستعمار. أما المساهمة الثانية فكانت تأسيسه لحلقات ثقافية تضم طلابا في نهاية المدرسة الإعدادية في الشيخ عثمان، لتهيئتهم فكريا لدخول «الحزب الطليعي، حزب العمال والفلاحين»، وكيف حوّل أربعين منهم من أذكى الطلاب والطالبات، وكانت بينهم أخته «سمية»، إلى ثوار و«مناضلين طليعيين ماركسيين لينينيين من الطراز الرفيع» (ص21) أما المساهمة الثالثة فكانت أثناء خدمته الوطنية كمدرس في إعدادية الشيخ عثمان، حيث كان سكرتيرا ثانيا للمنظمة القاعدية للحزب الاشتراكي اليمني في منطقة الشيخ عثمان، فكانت محاولة محو أمية عمال النظافة في المنطقة. من «البوليتاريا الرثّة».
ولأننا في هذا المنشور الحائطي بإزاء نوع خاص من السرد التاريخي، فإنه لا يهتم بالتشويق كما هو الحال في السرد الفردي، ولكنه يعمد إلى إجهاض التوقعات واستباقها، فيخبرنا وهو يروي لنا تفاصيل تلك الإسهامات الثلاث تخثراتها وانقلاباتها المدوخة. وكيف تحوّل اسم المدرسة المدني الراقي في المساهمة الأولى إلى «مدرسة 7 يوليو 1994»، وهو الاسم الذي «يمقته الجميع لأنه يذكرهم بيوم تحويل الجنوب إلى غنيمة حرب للقبائل المنتصرة في حرب 1994، وبفتوى الشيخ الزنداني حينها بإحلال دم سكانه للقبائل الناهبة». (ص21) وكيف تحول أيضا بعض من جندهم في المساهمة الثانية إلى «ظلاميين من الطراز الرفيع أيضا في هذا الزمن الجديد؛ زمن انتصار الخراب والظلمات». (ص 21) أما من حاول محو أميتهم من «البلوريتاريا الرثّة» فما أن عاد بعد تنظيم تلك الدروس منتشيا بما حققه في المساء، حتى وجد النساء منهن قد توجهن إلى أمه «يبكين ويطلبن منها أن تتوسط عنده كي يعفيهن، ويعفي الرجال أيضا، من حضور هذه الدروس دون أن يقطع رواتبهم». (ص24).
زمكان التكوين المغاير والحب والحرية:
كان طبيعيا أن يواصل الراوي/ عمران سرده لما جرى له بعد «فقش» عذريته في فصل سردي ثالث لا يبدأ بأي منشور على حائطه في الفيسبوك. حيث يقدم استمرار حراك الزمن التعاقبي به في عدن، ودخوله في مرحلة من التطور التدريجي والنضح، وقد شارف على الانتهاء من دراسته في المرحلة الثانوية. وأن يعود إلى منشورات الفيسبوك حينما يقترب السرد في الفصل الرابع من أحد مفاصل التحول الأساسية الأخرى في حياته، وهو التمهيد للانتقال إلى إلى فرنسا وزمن آخر ومكان جديد، أي بالتعبير الباختيني «زمكان» مغاير كليّة. لأن منشور الفيسبوك في الفصل الرابع يسجل مفارقة البراءة أو السذاجة الثورية مع كل ما سيتكشف عنه الزمكان الجديد من متغيرات. فحينما يجيب الراوي على سؤال الموظف المسؤول عن المنح في وزارة التعليم: «إذا خيروك يا ابني بين ألمانيا الديموقراطية وفرنسا، فماذا ستختار؟ فرنسا! لماذا؟ لأنني أعشق منظر الغروب! عفوا لا أفهم! أريد مشاهدة غروب الرأسمالية بأم عينيّ، أما الاشتراكية فسيكون لي ما تبقى من العمر لأساهم في بنائها». (ص39)
هنا يضحك الموظف حتي كاد أن يشترع من شدة الضحك! فقد كان الراوي في نظره ضحية شعارات تلك المرحلة التي تكرر يوميا الحديث عن أفول الرأسمالية وشروق عصر الاشتراكية. ولا يكتفي بالضحك الذي لم يشرح للراوي سببه، ولكنه يطلب منه: «في يوم ما إذا استرجعت ذكرى حديثنا هذا فاكتبه كما حدث، قائلا أنني ضحكت من أعماقي بعد ردك، ضحكت كثيرا جدا بغزارة». (ص 40) وكأنه يرسي بذلك قواعد الكتابة في منشورات الفيسبوك من هذه الرواية، وهي إجهاض التوقع واستباق الأحداث، في سخرية الموظف المضمرة من مقولات الراوي الساذجة. لأن الرواية تأخذنا بعدها إلى زمكان مغاير: فضاؤه باريس وزمنه هو زمن الحب والتحرر من كل المقولات الدوجماتية الثابتة.
حيث تجعل الرواية انتقال البطل/ الراوي إلى باريس نقلة نوعية في الزمان والمكان معا. هنا ينتهي الانفصام الذي عاشه في عدن بين الحب العذري الطهراني والجنس، لأنه يعيش في فضاء باريس الحب الحقيقي والنضج المعرفي الذي أجهز على تلك الانفصامات والتبسيطات الفكرية معا، فقد كانت النقلة لفرنسا بمثابة الانفجارة الكبرى «Big Bang» أو الارتجاج الكوني الذي تخلقت بعده الحياة في نظريات نشوء الكون. حيث غيرت الحياة فيها عمران إلى غير رجعة. فيها التقى بحب حياته «نجاة» زميلته الجميلة في الجامعة، وهي «من أب يمني وأم فرنسية» (ص42) مما أهلها لأن تقوده في عملية الخروج الصعبة من تبسيطات سنوات عدن، والتحول من «هومويمانس» مليء بالتناقضات اليمنية والتبسيطات الساذجة، إلى «هوموسابيناس» أي إنسان حديث وفق المعايير الدارونية والإنسانية الحديثة معا.
أدخلته «نجاة» في تعقيدات الحياة الغربية الحديثة وثرائها، بصورة لم يبعده معها عشقه لباريس عن عشق عدن. «بقدر شدة اندماجي بباريس، ازداد استيطان عدن لي» (ص41) كما يقول، ولا حتى عن قناعاته اليسارية الماضية. لأنه عاش مع «نجاة» تجربة يسارية مغايرة لتلك التي عاشها في عدن، هي تجربة الاشتراكية في مناخ الحرية، وفي أعياد صحيفة «اللومانيتيه» السنوية التي تتحقق فيها كما يقول اسمها «الإنسانية» المنشودة، وعالم الإنسان الأعلى الذي بشر به نيتشه. دخلت به إلى فراديس الحب الحقيقي الذي يستمتع بلذاذات الحياة البسيطة من مأكل ومشرب ورفقة راقية، بعدما تزوجا وأخذا ينضجان فكريا واجتماعيا معا، ويسافران في العالم. يوسع السفر فيه أفقهما وفكرهما معا، في حياة أقرب ما تكون إلى الحياة المثالية المنشودة. لكن هذه الحياة الجميلة التي تجذرت فيها نشأته اليمنية في فرنسا سرعان ما اغتالتها تفجيرات السلفيين الإرهابية أثناء العشرية الجزائرية السوداء الذي طال عنفها محطة مترو سان ميشيل في باريس في يوليو عام 1995. وهو لمرارة المفارقة، أو لمهارة البنية الروائية، العام التالي لاغتيال اليمن الجنوبي بأكمله، بعدما اجتاحته جحافل القوي السلفية والقبلية والعسكرية والجهادية من الشمال، وانتهت في يوم مشؤوم من يوليو عام 1994. وماتت معها طفلتهما الأولى التي كانت لاتزال جنينا في أحشاء أمها في شهره الخامس، لم يستقرا بعد على تسميتها: شهرزاد أم هيلين (ص49).
وفي موازاة الزمكان الباريسي وتجربة العشق والتغيير، يحكي لنا النص ما دار في جنوب اليمن الذي خلفه الراوي وراءه من تحولات وانتكاسات. فبدلا من أن تفضي به التجربة بعد 15 – 25 سنة كما كانوا يتنبؤون إلى الاشتراكية والحرية، ها هي تؤدي به في السنوات التي كان الراوي يعيش فيها أبهى تجارب حياته في باريس، إلى الحرب الأهلية الطاحنة عام 1986 والتي ارتدت فيها الثورة إلى حضيض الاصطفافات القبلية، وراح ضحيتها 13 ألف قتيل. وبالتوازي مع الصراع السياسي والإيديولوجي نشبت حروب فردية صغيرة أخرى داخل أسرة سالم/ سوسلوف نفسها بينه وبين فيروز، مما أدى إلى هرب «فاتن» للشمال بعد تلك الحرب، وهو الأمر الذي صدم عمران حينما بلغه في إحدى عوداته مع «نجاة» إلى عدن، لكل ما تعنيه مصطلحات «هرب إلى الشمال» أو «هرب إلى الجنوب» في التاريخ اليمني الحديث من دلالات على تخثر الوضع فيهما معا.
ثم جرت أحداث الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990 وأعقبتها عمليات المحو المنظم لكل ما يمت إلى تجربة عدن الاشتراكية بصلة، بدءا من إلغاء التعليم المختلط والفصل بين البنين والبنات في المدارس، إلى تعميم الحجاب وسيادة النفاق الديني، وأغلاق البارات ومصنع صيرة للبيرة، لصالح مهربي الكحول من أهل الشمال، والذي وصل أحدهم إلى قمة السلطة فيه (ص 52)، مرورا بـ«اغتيال 190 شخصية من قادة الحزب الاشتراكي اليمني واليسار وأبرز العناصر المدنية». (ص63) وصولا إلى اجتياح القوى السلفية والجهادية الجنوب «بعد حرب طويلة انتهت في يوم مشؤوم: 7 يوليو 1994» (ص 62) لذلك كان صادما أن يشهد في أول زيارة له مع نجاة عقب تلك الحرب المشؤومة تحولات مزلزلة في شخصية سالم/ سوسلوف «رئيس المدرسة العليا لعلوم الماركسية اللينينة في عدن حينما يرفض مصافحة زوجته حتى لا ينقض وضوءه» (ص 66). وهو أمر استعصى عليه استيعابه. وتوقت الرواية اغتيال «نجاة» نتيجة لإرهاب العشرية الجزائرية السوداء في قلب باريس، بعد صدمة معايشتها مع عمران لتجليات الاغتيال المعنوي لسالم ورفضه مصافحتها، كي لا يُنقض وضوؤه، في نوع من الربط الروائي بين الحدثين: الاغتيال المعنوي لليسار، والاغتيال الفعلي والاعتباطي معا للحب والحرية والتفتح.
صنعاء: زمن سيطرة الظلام والنفاق الديني:
مع وصول الراوي لأول مرة إلى صنعاء عام 1996 بعدما فقد حبيبته «نجاة» تعود بنا الرواية إلى وصل ما انقطع، عقب سفر الراوي إلى باريس، والكشف عما جرى لفاتن/ هاوية. لكنها لا ترجع إلى زمكان عدن الذي انتهى دلاليا واستعاريا على صعيد المتخيل الوطني، وزمكان الثورة والتحرر معا، وإنما إلى فضاء جديد وزمن جديد، وهو صنعاء. يكشف لنا عن التحولات المزلزلة التي انتابت اليمن، بدءا بما جرى لأخته «سمية»، الطبيبة بنت ثورة الجنوب وتعليم النساء فيه والحلم الاشتراكي من تحولات. حيث يجدها عمران وقد تحولت إلى امرأة أخرى، وغرقت في مستنقع من الشعوذات والأدعية. «دعاء السفر، دعاء العودة من السفر، دعاء قرع الباب، دعاء الدخول من الباب، دعاء الخروج من الباب، دعاء المطبخ، دعاء وضع الحذاء، دعاء خلع الحذاء، دعاء الذهاب للنوم، دعاء طرد الكوابيس» (ص70) فقد نجح التخلف في إحاطة المرأة بسياق كامل من الخطابات التنويمية المؤدلجة، التي تنزع منها عقلها. وتصدمه تلك التحولات التي انتابت أخته الصغيرة التي «كانت ناشطة ثورية نسائية مرموقة، لبست الميني جيب في ثانويتها، وها هي طبيبة مرموقة بنقاب طالباني أسود كثيف.» (ص71)
ومع اكتشاف ما جرى لأخته من تحولات، يكتشف عمران حقيقة تناقضات صنعاء التي يسميها «قلعة الموت بمساحة مدينة» فثمة «مليون مدينة تختفي داخل صنعاء، مليون سر وحلم يختفي في دماغ كل امرأة فيها، مليون حزن وجرح، مليون ألم وكآبة وسعادة ... يحدث في هذه المدينة في الخفاء كل ما يخطر ولا يخطر على بال. لقاءات قات ودية، اجتماعات قات مافياوية ... جلسات سكر وعربدات جماعية مغلقة .. دعارات فاحشة، ونفاق ديني صارخ لا حد له تقهقه له الشياطين ... صنعاء طفلة جميلة قاصرة ينتهكها شيخ قبليّ لم يغسل فمه من رائحة القات منذ سبعين سنة.» (ص72)
في تلك المدينة الغريبة المترعة بالتناقضات يلتقي عمران، وعند اخته «سمية»، بالداعية الإسلامية «أمة الرحمن» التي سنكتشف أنها ليست سوى «فاتن» حبه الطهراني الأول. ولكنها الآن تظهر تحت اسم جديد «أمة الرحمن» يكشف عن وقوعها كليا في أسر تلك العبودية الطوعية، التي تدفعها لقيادة مظاهرة ضد قانون منع العنف ضد المرأة، أو منع زواج القاصرات. (ص75) في تطور يناقض كل ما كانت تعد به «فاتن» القديمة، وأفكار أبويها التحريرية السابقة لزمنها. لذلك كان طبيعيا حينما ذكّرها بماضيها سائلا: «أأنت فاتن دكان سيف العريقي؟» أن ترد عليه بحسم: «عدني ألا تذكر هذا الاسم الفاسق مرّة أخرى، وألا تعود لحظة واحدة للحديث عن حياتي السابقة في عدن.» (ص 132) وسوف تكرر هذا الطلب لاحقا أكثر من مرة. لأنها في مستوى من مستويات الدلالة التي تنطوي عليها تناقضات حياتها، تسعى لنسيان تلك الحياة القديمة المفقودة، بينما هي غارقة، بنفس القوة في شبق الحنين لها واستعادتها، واسترداد حريتها المسلوبة عبر أطيافها، من خلال علاقتها الإشكالية التي ستتخلق مع عمران.
وقد تحولت فاتن/ هاوية/ أمة الرحمن فلأسمائها الثلاثة دلالات على طبقات المعنى الثلاث التي تمثلها، إلى ألعوبة أو أداة بائسة في حلبة صراع جبار بين قوى السلفيين وزعيمهم المنافق الأكبر «الإمام الهمداني»، وقوى اليسار. استخدم فيه السلفيون كل الوسائل القذرة في تلك الحرب. حرب دارت معاركها الفعلية على مد عقدين من الزمان منذ شق جبهة الثورة في الثمانينيات وحتى دحر فكرها في التسعينيات. فقد أقسم زعيم التأسلف الأشهر، أسامة بن لادن، والذي جاء أبوه نفسه من دوعن في جنوب اليمن: «لا نجوت إن نجا الحزب الاشتراكي اليمني.» (ص137) إذ لا يصح أن يحارب الشيوعيين في أفغانستان، ولا يحاربهم في قلب اليمن، موطن عائلته. فلم ينج بن لادن، بفضل أميركا التي لا تنسى قصاصها، ولم ينج الحزب الاشتراكي اليمني أيضا. (ص200)
لذلك عملت هيئة أركان بيت حليفه وأستاذه الإمام محمد الهمداني على استدراج «فاتن» الضائعة في شرخ الشباب في دوّامة الحروب والثارات البيتية الصغيرة بين أبويها، وجعلها ألعوبة في حلبة صراع جبار بين قوى السلفيين وقوى اليسار اليمني بعد تكليف عدد من السلفيات اللواتي تكاثرن في عدن بعد تراجيديا حرب يناير 1986، والمجيء بها إلى مجمع قصور الإمام الهمداني في صنعاء. وحينما «وصلت فاتن بسرية مطلقة إلى مجمع القصور العائلية للإمام في صنعاء .. انتصرت السلفية في اليمن بشكل استعراضي نهائي على الماركسية اللينينية.» (ص138) ولأننا في حرب قذرة، فقد «سُربت دعاية في الأوساط الفقيرة التي يتكاثر فيها الانتشار السلفي مفادها أن بنت كبير الكفار الشيوعيين، هربت من عدن لتلجأ إلى بيت الإمام في صنعاء. لأن أباها الفاجر كان يغتصبها، بمعرفة أمها الفاجرة التي كانت تقول لها: هو أبوك اسمعي كلامه.» (ص140)
لكننا سنكتشف أن الفاجر الحقيقي الذي اغتصبها فعلا لا قولا، لم يكن أبوها المسكين، وإنما هذا المنافق الكبير الإمام الهمداني نفسه الذي يسيطر على عقلها وجسدها معا، رغم أنه زوّجها لأبنه وخليفته السكير «عمر». فقد سقط الإمام نفسه «في غرامها مثل كل مفترس وحشي يعتقد أنها وصلته هدية ربانية مباركة، سبيّة طوعيّة سخرها الله له في حربه ضد الشيوعية، جهادية نكاح بكل بساطة» (ص 140) ولا يعادل احتقار «أمة الرحمن» لعمر وكراهيتها له، إلا وقوعها مسلوبة الإرادة كلية في فلك سطوة أبيه العنكبوتية. فبقدر حبها للأب الذي يواصل تنويمها الشرير بأن يفتتح صباح كل، يوم وينهي مساءه، بتلك العبارة التي تصلها ثلاث مرات متتالية: «احبك لله وفي الله ولا أحب غيرك، عشقي الأوحد، قلبي وقالبي، أمة الرحمن!» (ص130) وقد دربها على الرد عليها «وأنت كذلك عشقي الأوحد حفظك الله ورعاك» ترددها ثلاث مرات أيضا، فالترديد الببغائي جزء أساس من عملية التنويم المستمرة. «يحب هؤلاء المجاذيب ترديد كل شيء ثلاث مرات دائما، على سنة الله ورسوله، لاسيما في فجورهم الفاحش.» (ص 195) فنحن هنا لسنا بإزاء «أمة الرحمن» وإنما «أمة الهمداني» الفعلية التي ارتدت باختيارها إلى زمن العبودية، وأحالها إلى شريكة في الفجور والخطيئة والنفاق المحموم باسم الدين، الذي هو ديدن الإسلامجية في زمننا العربي الرديء.
وقد جندها الهمداني في حربه السياسية ضد خصومه، وفي دعوته الظلامية التي صبت فيها فاتن/ هاوية/ أمة الرحمن كل طاقتها الخلّاقة. فهي «باعتراف الجميع أفضل داعية إسلامية عرفتها اليمن، وخير زوجة يمكن أن يحظى بها على سنة الله ورسوله ابن كبير علماء الدين في اليمن، وواجهتهم الظلامية الشهيرة، وإن كان الأب نفسه، أكثر المتعلقين بها على غير سنة الله ورسوله» (ص83) كما نعرف. ولأن «أمة الرحمن» تحتقر زوجها الشائه الذي أدمن السكر، فإنها تغادر عصر كل يوم مجمّع قصر الإمام محمد الهمداني «لمهام سلفية نضالية لرفع آية الحق والإيمان، لانتصار دولة الخلافة والإسلام.» (ص81) وإدارة كمبيوترات ومواقع «جامعة التقوى» التي يترأسها الإمام الهمداني. والإشراف على «نضال رقمي كثيف، حضور سلفي جرار في فضاء افتراضي مدني. حرب روحية دائمة لا تقل شراسة عن الحرب العسكرية التقليدية.» (ص110) كما أنها علاوة على هذا كله، تقود المظاهرات النسائية الجرارة التي تعارض كل مشاريع أعداء الهمداني التنويرية، حتى لو كان الأمر استصدار قانون لمنع ضرب النساء، أو لتجريم زواج القاصرات.
لكن ما يكشف لنا عن أنها لا تقل عن إمامها تناقضا ونفاقا، وأن هدايتها الظاهرية مثله تنطوي على شبق داخلي سري، وحنين دفين لماضيها القديم، هو أنها ما أن تلتقي عمران صدفة عند اخته «سمية» التي يبدو أن اهتمامها بهدايتها لم يكن خالصا لوجه الله، وإنما كان اهتماما مضمرا بأخيها الغائب في فرنسا، والذي تعلقت به منذ بدايات المراهقة، حتى تتوجه إليه في فندقه في اليوم نفسه. وحتى تبدأ في تنفيذ خطتها القديمة في الاستحواذ عليه، واقتناصه في شباكها التي لابد وأنها تعلمتها من الصياد الأكبر أو الإمام المنافق الأكبر، وإيقاعه في حبها. حيث يعرف عمران فيما بعد «كان قرارها بضمنا وتوحدنا، كما باحت لي لاحقا قديما جدا،» (ص 91) منذ أيام مرامقات دكان الأعمى الخرساء في حي الشيخ عثمان. وتبدأ علاقة جسدية خالصة بين الاثنين تلعب فيها «أمة الرحمن» دور الأمة الكاملة في السرير، والمرأة المسيطرة على كل شيء خارجه، حتى على عمران نفسه، الذي ينقاد إليها بقوة انقيادها للشبق والانتقام، ولا يستطيع أن يأخذ منها إلا ما تقرر هي أن تمنحه له، حتى رقم تليفونها لم تسمح له بمعرفته.
وكالمنوّم هو الآخر استسلم لها، و«هرولت حياته منذ تلك اللحظات في هاوية بلا قاع.» (ص134)، تماما كالهاوية التي انحدرت إليها «فاتن» وهي تتحول إلى «أمة الرحمن» أو بالأحرى «أمة الهمداني» في مجمع قصور الهمداني وسراديبها السرية. لذلك كان طبيعيا أن يخلقا معا حياة سريّة في تلك الشقة الصنعانية التي يستأجرها خصيصا لهذا الغرض، ويتردد عليها بانتظام من باريس. وقد ارتد في تلك العلاقة إلى زمن ما قبل «نجاة» والانفصام بين الحب في النور والجنس في الظلام، وعلى أيدى إحدى قاتلاتها. لكن الفرق هنا هو أن «أمة الرحمن» استطاعت أن تقلب الأدوار في تلك اللعبة الرديئة، وأن تقوم هي في علاقتها مع عمران بدور المسيطر المتحكم في آليات العلاقة وقواعدها، دور الهمداني المتحكم في كل شيء في حياتها. وتحيله إلى حد ما إلى «عبد أمة الرحمن» دون أن يدري.
ويقع عمران في فخ أن ما يمارسانه معا هي «بروفات الفردوس» المترع في خيال المتأسلفين بحفلات الجنس، وما يمكن ممارسته فيه من أوضاع شاذة. لذلك يتعجب «لعل في كل سلفية ينام ذئب جائع للعشق، أخطبوط بسبعين ذراعا، كل ذراع منه حورية عين. ربما، ربما » (ص 101) وكأنهن ينتقمن من الحوريات اللواتي سيتمتع بهن الرجال في الجنة، أو «من لم يمارس العشق السرّي مع سلفية، لم يمارس العشق إطلاقا .. لكأن كل سلفية عندما تمارس العشق تنتقم من كل المحرمات والكبت والحواجز، أو كأنها ملزمة دينيا بالفعل بأن تكون بمثابة سبعين حورية عين في سرير واحد.» (ص125)
ويرتد عمران في هذا الزمكان الصنعاني إلى مرحلة ما قبل باريس وزمكانها المترع بالصدق والتحرر. لأنه يرتد في علاقته بأمة الرحمن إلى الانفصام القديم الذي ترسخه الثقافة العربية في الرجل العربي منذ بواكير الصبا، وهو المسؤول كما ذكرت عن كثير من الانفصامات الأكبر التي ستسفر عنها الرواية. فقد ظل عمران المراهق في الثامنة عشر والذي فقشت الدكتورة عذريته يحدق في وجه فاتن بنت الثالثة عشر ربيعا كلما أتت لحيهم دون أن يجرؤ على البوح أو التصريح لها بمشاعره. وظلت هي الأخرى تحدق فيه بصمت في انتظار أن يتكلم دون جدوى. حتى حانت لحظة الفراق حينما حصل على المنحة للسفر لفرنسا وغادر. وها هو الآن يدخل في شبكة مقلوب ما عاشه معها من قبل، وبنفس الدرجة من الانفصام، وكأنها أصبحت إحدى نساء مدينة السيسبان، أو هي «الدكتورة» في تجليها السلفي الجديد، وبنفس قدرتها على تحديد شروط العلاقة وحدودها.
جناية الإسلامجية على الربيع العربي:
«غير أن العشق السري مع هذه الشريحة من البشر قد يتحول سريعا إلى مستنقع.» (ص 126) وهذا هو ما جرى بالفعل حينما اكتشف أنها لاتزال على علاقة جسدية آثمة مع الإمام الهمداني، وهي لاتزال زوجة لابنه السكير، وغارقة حتى أذنيها في حبها له؛ تعترف له ليل نهار بأنه وحده حبها الحقيقي. ومع مواجهته بتلك التناقضات، يكتشف مدى خدعته في «بروفات الفردوس» تلك، ومدى سذاجته وهو يتوهم أن بإمكانه انقاذ حبيبته من مباءة الانفصامات السلفية والظلام. وأن باستطاعته أن يأخذها معه إلى فرنسا، وأن يحررها من شبكة العنكبوت الأكبر «الإمام الهمداني» التي لاتزال تتخبط في ظلماتها راضية بدلالة: «إيش أسوى؟ ما رضاش» (ص 130، 141، 196، 201) التي تتكرر أكثر من مرة، كلما طالبها بقطع علاقتها به.
وكأنها وهي التي تقرر كل شيء في علاقتها به، لا تستطيع أن تقرر شيئا في علاقتها بالمنافق الأكبر الذي يريدها دوما في الحرام، ويمارس عليها سلطة المنوّم المغناطيسي على ضحاياه. ويحاول عمران من خلال أندية التواصل الاجتماعي على الانترنت هدايتها لطريقته العقلية، أو تحريرها من شبكة العنكبوت السلفية فينفتح عليه «مختبر الشتم» (ص109) على الانترنت بموظفيه الرسميين في شبكات الحركات السلفية والمتطرفة في هذا العمل السري المنظم لجيوش الظلام السلفية، ولا ينجح أبدا في تغييرها. وهو ما يجعل عمران وهو يتأمل الموقف كله يصاب بالغم والإحباط من هذا الحضيض الذي وصل إليه هذا الإمام الفاجر، الذي يلعب بالنسبة لها دور العاشق والأب الذي حُرمت منه في صباها، بسبب حروبه الصغيرة مع أمها. لأن «تزويجه ابنه بهاوية، واستمرار علاقته الغرامية معها في الخفاء، بدت لي غاية في القذارة المفرطة والدناءة التي تتجاوز كل الحدود. لعله يحتقر ابنه بشكل يفوق كل ما يخطر على بال.» (ص146)
ويتفاقم الموقف في هذا المستنقع بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، التي ما أن اندلعت في تونس حتى كتب عمران، بينما كان «بن علي هاربا يلهث في طائرته بحثا عن بلد يأويه ... مقاله الأول: حان موعد رحيل طاغية اليمن.» (ص150) ثم يغرق في متابعة الثورات العربية وكأنها ارتدت به إلى زمن الصبا الجميل في عدن. وحينما وصلت الثورة إلى اليمن، كانت «أمة الرحمن» في مقدمتها تقود المظاهرات وتعقد المقابلات مع القنوات الإعلامية، إلى الحد الذي سماها البعض معه «جان دارك اليمن» أو «قَبول المجنونة». (ص 164) وحينما يعود إلى صنعاء إبان الثورة وإلى آخر «بروفات الفردوس» معها يكتشف أن حماسها للثورة وقيادتها لمظاهراتها النسائية جزء لا يتجزأ من زحف خفافيش الظلام التي كانت تعشش في قلب النظام القديم على الثورة للاستيلاء عليها. والتي لعبت دورا فعالا في الاستقطابات التي أودت بها مع اقتران ساحة التغيير بالتكفير، وساحة التحرير وبلاطجتها بالتفجير، وقد جمعت كل القتلة والمجرمين وبطارقة علوم التفجير. (ص158)
وكيف لا، وها هو الإمام الهمداني الذي كان أحد أدوات النظام المكروه، والتي لاتزال «أمة الرحمن» أداة من أدواته، «يُعتبر الآن من كبار معارضي الرئيس، فيما هو فلذة كبد نظامه، فيسافر إلى دولة مجاورة مع ابنه الإمام عمر خوفا من تعرضهما لاعتداء قوات الأمن، لأن خطاباته تُغلي وتُحرك الجموع المؤمنة ضد النظام،» (ص163) بينما ترك وراءه دعاة خطابه وميليشيات منظماته في «ساحة التغيير» للاستيلاء على الثورة أو إجهاضها. وها هو يقود الثورة إلى حتفها بمقابلاته على قناة «الجزيرة» وحثه الجيش على الانقسام، والدخول إلى ساحة التغيير، ومن ثم الهيمنة على الثورة. وبعد مجزرة «جمعة الكرامة» الدموية البشعة في 18 مارس 2011، «ينشق الجنرال الكبير، توأم رئيس العصابة الحاكمة ذو العلاقة القوية الدائمة بالسلفيين مع فرقته العسكرية عن جيش رئيس العصابة، ليلتحق بالثوار ويحمي الساحة» (ص 198) التي ترحب لمرارة المفارقة بهم، «حيا بهم .. حيا بهم!» (ص 207)
ونُهِبت الثورة ... هكذا نُهبت كلية، وتحولت الإمارات القندهارية الإسلامية إلى أعلى مراحل الثورة الوطنية الديموقراطية (ص199)، نُهبت بمبادرة دول الخليج، وقانون حصانة المخلوع، وتأسيس جامعة دينية ثالثة، بجانب جامعتين سلفيتين تخرّجان ظلاميين وإرهابيين خطوتان للوراء وخطوة للخلف، ومؤتمر الحوار الوطني. مسرحية منافقة دامت 11 شهرا «أن ما حدث بعدها يشبه مسرحية عرائس أبطالها ملك الذباب، جنرال الذباب، إمام الذباب، والعصفور الصغير: الشباب الثائر» (ص 205) بما تنطوي عليه الإشارات التوراتية والتي استقى منها جولدنج عنوان روايته الشهيرة من كوابيس. وترمدت في شبكة مؤامرات الثورة العنكبوتة المضادة كلمات سارتر المتفائلة: «ليس باستطاعة أحد حتى الآلهة، قهر إنسان تفجرت في روحه ينابيع الحرية.» (ص158) فعاد عمران من جديد إلى باريس. لا يعرف «أهذه ثورة؟ أم مطبّ؟ أمن الأفضل الإصابة بسرطان الدم، النظام الحالي، أم سرطان المخ، نظام السلفيين: الطاعون أم الكوليرا؟» (ص 163) هذه هي الخيارات التي يتكشف عنها الزمكان الصنعاني في الرواية في نهاية المطاف، فلا يجد أمامه سبيلا غير الهرب.
هكذا قدمت لنا الرواية من خلال التوازي بين ما دار لبطليها عمران وفاتن، وما جرى لبلدهما الحبيب، قصة اليمن مع الثورة المجهضة وحلم الحرية والتغيير. وإن كانت الرواية تنتهي بالفراق بين الاثنين، وقد غرق اليمن في مستنقع ظلام التأسلف والتخلف، فإن عمران في نهايتها يسعى إلى النجاة بنفسه، والانطلاق إلى عالم الصين المغاير والواعد بمستقبل بديل. فالرواية برغم أنها معمورة بالذرى والخيبات التي عاشها الراوي على مد نصف قرن من حياته، فإنها في مستوى من مستوياتها قصيدة عشق للوطن، لليمن، وعدن وجزيرة عمران. تكشف حقا مسيرة اليمن مع الحلم والثورات المجهضة، وعن آليات الدمار التحتية وأجنته التي تسللت إلى الحلم اليمني التحرري الأول عبر الخلافات داخل اليمن الجنوبي، وعبر عملية الوحدة اليمينة عام 1994، أو بالأحرى انتصار القبلية السلفية الرجعية على الاشتراكية وأحلام التحرر المدنية، التي كانت تتمثل في الجنوب.
وتكتب إلى جانب هذه الخريطة التاريخية الاجتماعية العريضة ما جرى للثورة اليمنية إبان الربيع العربي، على ظهار ما جرى لحلم اليمن مع الثورة على مد أكثر من نصف قرن. لكنها تكتب هذا كله بشكل روائي وتجسيدي من خلال سيرة بطلها «عمران» ومسيرته التكوينية بتحققاتها وخيباتها معا. وبالتناقض الصارخ بين مجتمع عدن المدني، وبين قبلية الشمال المتخلفة. وهي كالروايات الجيدة تغنيك عن قراءة الكثير من كتب التاريخ ودراسات التحول الاجتماعي، لأنها تكشف لك عن آليات الدمار التي انطوت انشقاقات الرفاق في اليمن الاشتراكية وحرب 1986، وأحابيل الوحدة اليمينة التي وقع فيها الجنوب أولا، ثم تحولت إلى انتصار القبلية الرجعية على الاشتراكية وأحلام التحرر المدنية. وعن قدراتها الجهنمية في توظيف الدين للقضاء على الحراك الشعبي، حتى قبيل الربيع العربي حينما أجهضت الحراك الجنوبي، أو الربيع الجنوبي الذي سبق الربيع العربي بثلاث سنوات، وأصبح عظما في حنجرة النظام منذ 2009 (ص153). وتكتب هذا كله بطريقة روائية شيقة تقيم ثنائياها المتعارضة التي تنطوي كل ثنائية منها على درجات من التعارض والتناقض الذي ينطوي في الوقت نفسه على درجات من التماثل: بين فاتن ونجاة حيث يواجهان نفس المصير: الاغتيال الفعلي للأولى والمعنوي للثانية من حيث التماثل، ولكنهما أكثر تعارضا حينما نربط كل منهما بزمكانها الروائي. ففي الزمكان الصنعاني تصبح هاوية والدكتورة التي «فقشت» عذريته مثيلتان، وتلعب أمة الرحمن دورا يربطها بدور أمها فيروز على صعيد الشخصيات النسائية، لكن أمة الرحمن كما رأينا تلعب دور المرأة المسيطرة كلية، والتي تكرر فيه دور الإمام المنافق الأكبر في علاقتها مع عمران، وكأنها تلعب دور الرجل وتترك له أن يسلم قياده لها كلية. أما من حيث الشخصيات الرجالية فإن الجدل فيها هو بين البطل عمران والإمام الهمداني من خلال حدة التناقض بينهما، ووجود درجات كثيرة من التماثل أيضا، وهو أمر قد يفتح الباب أمام استقصاءات مستقبلية لهذه الرواية، أتركها مفتوحة، وأدعو القراء الى استكناه ما بها المقابلات والتعارضات التي تثري فهمنا للرواية، وتطلب منها المزيد من التأمل في عالمها الشيق الفريد.
هوامش:
(1) حبيب عبدالرب سروري (ابنة سوسلوف) بيروت، دار الساقي، 2014، ص 12، وكل المقتطفات التالية من الرواية هي من هذه الطبعة، لذلك سنكتفي بذكر رقم الصفحة بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق