الخميس، 11 سبتمبر 2014

مقال الأستاذ يوسف ربابعة عن « ابنة سوسلوف » في القدس العربي


«ابنة سوسلوف» لليمني حبيب سروري: التحولات في زمن الصخب 

يوسف ربابعة
SEPTEMBER 10, 2014

يقدم حبيب السروري في روايته الصادرة عن دار الساقي رؤية نقدية جريئة لواقع المجتمع اليمني وتحولاته الصارخة خلال أربعين عاما، ابتداء من الايدولوجيا اليسارية الثورية ضد الرجعية والامبريالية، وانتهاء بأيدولوجيا الدين والمد السلفي العارم، وذلك عبر خلق شخصيات تبدو قريبة من الواقع حتى تجعلك غير قادر على التمييز بين كونها حقيقية أو متخيلة، وكذلك الأحداث بكل تفاصيلها، فالرواية إلى حد ما تبدو تسجيلية واقعية، تؤرخ لحالة اليمن عبر تحولات لا منطقية أحيانا، وربما فانتازية أحيانا أخرى.
تبدأ الرواية من حيث بدأ الربيع العربي في اليمن، مستذكرا بطلها نشيد الصوفي الذي كان يقود الناس ليرشدهم إلى طريق الخلاص الروحي، لكن هذا النشيد يتحول مرة واحدة إلى نشيد عنيف، يضج بالقوة والسخط، ليقول: «عادت الأرض بالقوّة وبالانتفاضات… عنف بالعنف لولا العنف الإقطاع ما مات… ولولا العنف ما تفجّر العالم بثورات… ولولا العنف ما سقطت جميع الحثالات!»، إنه التأسيس للعنف بكل تفاصيله وتحولاته، وهذا التناقض بين النشيدين يجعل بطل الرواية في حالة تيه فكري، ويتساءل: «لماذا لم تبتكر “الجماهير الشعبيّة الكادحة” لحناً آخر ينسجم مع هذه الكلمات الناريّة، بدلاً من ذلك اللحن الصوفي الرقيق الذي كنّا نغنّيه في طفولتنا خلف الحساني؟ ما أتفه الحسّ الفني للجماهير الشعبية الكادحة! ما أتعس الكسل! ما أقبح وألعن سوء الذوق!…».
وحتى لا نغرق في أحداث الرواية دون السباحة برفق على الشاطئ فإننا نشير إلى أن (سوسلوف) هو أحد القادة الشيوعيين اليمنيين، الذي كان يقود الجماهير الثورية ضد النظام الرجعي، وقد تحول فيما بعد إلى متدين سلفي، وابنته هي بطلة الرواية، التي كانت تقود الجموع في ميدان التحرير أثناء ثورة الربيع العربي، وهي من قادة السلفية الجهادية في اليمن، وسوسلوف وابنته وغيرهم هم رموز التحول من اليسار الثائر إلى اليمين الحائر، فـ»صاروا جميعاً حينها “مناضلين طليعيين”، ماركسين لينينيين من الطراز الرفيع، لمدة عقدين، قبل أن يتحوّل بعضهم إلى ظلاميين من الطراز الرفيع أيضاً، في هذا الزمن الجديد؛ زمن انتصار الخراب والظلمات!».
ترصد الرواية تحولات ابنة سوسلوف (فاتن) أو (هاوية)- كما كان يحب أن يسميها- من يسار علماني منفتح، إلى سلفية ظلامية– كما يسميها فيما بعد- فقد كان بطل الرواية (عمران) يحبها عندما كانت صغيرة، تأتي إلى الدكان مع أمها، وتنتمي للطبقة الغنية، لأن أباها سوسلوف من المسؤولين في الحكم، ويلتقي بها بعد طول غياب، ليعود إلى عشقها مرة أخرى، ولكن بطريقة درامية سرية، كما كانت تدير نشاطاتها بتلك السرية المفرطة.
ولا ننسى أيضا هنا في الحديث عن هندسة الأحداث أن نشير إلى أن حبيب سروري قد أدخل النمط الحديث في الرواية، حين كان يعتمد في بث أفكاره على حائطه في (فيس بوك)، مستخدما ذلك رمزا لتحولات الأدوات التي يمارسها السلفيون في اعتمادهم على الأدوات الحداثية في تسريب أفكارهم والتواصل فيما بينهم والرد على خصومهم، فكثير من الفقرات تبدأ بعبارة (منشور من حائطي في الفيس بوك)، كما أن السرد يقوم على مبدأ الاعتراف، وهو اعتراف ما بعد الموت أمام ملك الموت وهادم الملذات، ليعترف بكامل إرادته، ويقول: «لو طلب مني هادم الملذّات ومفرِّق الجماعات أن أقول كلمتين تلخّصان مشاعري حال رؤيته، فسأقول: ما حصل لحياتي يتجاوزني تماماً لم أستوعب منه شيئاً، سأكون محظوظاً وممتنّاً لوساعدتني، عزيزي قابض الأرواح، على توضيح ذلك وفهمه، أنت الذي كشف لك البارئ بالتأكيد أسرار البدايات وعرجنات المصائر».
لا يمكن للبطل ولا للراوي استيعاب ماحصل، كيف ينقلب الفكر إلى نقيضه مرة واحدة؟ وعند أول اختبار «حرب أهليّة انشطر فيها الجيش والحزب الحاكم على أساسٍ مناطقيٍّ قبلي، كاشفاً أن الأفكار الاشتراكية والبروليتارية كانت مجرد أقنعة يضعها ماركسيون أميّون ليسوا في العمق أكثر من قبائل همجيّة متخلفة!، وكيف يعيش سوسلوف بمغامراته الجنسية والسرية مع النساء، وانشطار عائلته وتفتتها، كما هو انشطار اليمن بين الجيش والحزب الحاكم»، وربما يصل ذلك التحول حد السخرية، فلا منطق ولا معقول، ويبدو أن السخرية قد دخلت في بناء الرواية، حين يتحدث عمران عن تاريخه في الحزب الشيوعي، وذات اجتماع مهم كان سيتقرر فيه تاريخ العالم، فيقول: «اتَّفقنا على كلِّ شيء تقريباً، إلا على تفصيلٍ لغويٍّ شكليٍّ جدّاً لا غير، في مشروع توصيةٍ من سطرين أو ثلاثة بالغة الأهمية، جوهريّةٍ جدّاً، ستُغيِّر موازين القوى في الكرة الأرضية والكواكب المجاورة، حول “دعم شبيبة أحياء الشيخ عثمان وضواحيها للثورة في موزمبيق!”. ولا يمكن فهم ما حصل عبر أربعة عقود من الزمن، فعندما تصادف وتلاقى عمران مع مدير المدرسة العليا الماركسية في الشارع العام، بدا الأمر أشبه بطلاسم لا يستوعبها العقل، إنه الموت الغامض الذي يلفنا ولا نعرف كيف وأين نغيب، التقيا .. ويقول: «عرَّفته بزوجتي التي مدّت يدها بشكلٍ طبيعيٍّ لمصافحته. اعتذر عن مصافحتها قائلاً إنه “متوضئ”! اعترتني، عزيزي قابض الأرواح، شحنةٌ كهربائية. غيضٌ، إهانة. كفرٌ بهذا التقلّب من أقصى الإلحاد الماركسي اللينيني المدويّ إلى أقصى التظاهر الشكلي والتشدّق الصارخ وغير المهذّب بالدين: رئيس المدرسة العليا لعلوم الماركسية اللينينية في عدن يرفض مصافحة زوجتي حتّى لا ينقض وضوءه…»
ابنة سوسلوف هي اليمن بكل ما فيها من تناقضات، عملٌ سرّيٌ منظّم. أسماء تنكّرية في كلِّ مكان. جيوشُ ظلام. جهادٌ سلفيٌّ بأحدث التقنيّات وبعبارات من عصور الأولّين. القرون السحيقة تنفجر من الضحك! بقينا زواحف كما كنّا، فيما زاحف الغرب، الذي كان أضعف منّا بالفعل، اكتسب زعانف وأجنحة مارد، وسيطر على الكون. زعانفه وأجنحته: التحرّر من وصاية وسلطة المسلّمات غير العلميّة. ولذا كانت ثورتها مزيجا من الظلم والظلام، لم يتغير شيء، إنها تريد أن تخرج من ظلمة لتدخل في أخرى «يبدو، مع ذلك، للعين المجرّدة أن ثمّة شيئاً ما يشبه الثورة، صور الطاغية ممزَّقةٌ على الجدران، شعاراتٌ جديدة تنبت هنا وهناك، نداءاتٌ وأحاديثُ متمرِّدة ألتقطها في المطار وأثناء عبور صنعاء المشطورة بين قوّتين: من الأفضل الإصابة بـ (سرطان الدم) النظام الحالي أم (سرطان المخ) نظام السلفيّين، الطاعون أم الكوليرا؟.
يرى كاتب الرواية على لسان بطله أن الثورة في اليمن ليست إلا فوضى جديدة، لا تحمل مشروعا حضاريا ولا رؤيا للمستقبل، هي فقط نوع من النفاق الشعبي والهستيريا الوطنية، فلا تصدِّق إطلاقاً أن هذا الشعب (الجمهوكي) أي: الجمهوري ملَكي يريد التغيير. هو أكبر منافقٍ في الكون، ابناً عن أبٍ عن جد. لا تصدِّقه إطلاقاً!»، إنه فوضى من الأهداف والأفكار والمشاعر والأحاسيس المتناقضة، مثل ابنة سوسلوف التي تمارس العفة والطهر علنا أمام الجماهير، وتمارس كل أنواع الغرائز الفاضحة في الخفاء، هي اليمن بكل ما فيها، «مدينة صغيرة، بداخلها جيش، شرطة، مواطنون، جامعة، أسواق، محاكم، مدارس، شوارع، محطات وقود، مطاعم شعبية، عشاق صغار، شعراء مغمورون، متصوفون زاهدون، تجمعات لسائقي البيجو في المساء، كهول حكّاؤون، أطفال حفاة وأمهات مصابات بالربو، عمال يؤوبون من مصانع الإسمنت عند الغسق، مدرّس للقرآن ذو مظهر كنعاني قديم، وبائع جرائد يفقد كل يوم نسخة من جريدة أو عشر نسخ»، وبكل هذه الفوضى العارمة يكون التدين وتنبت الأفكار، فلا ثورة تنجح في مجتمع لا يعرف ماذا يريد، ويسعى خلف السراب، فلا خاسر ولا كاسب «لم يخسر الأوّل إلا نصف سلطته ولم يكسب الآخر إلا نصفها. الخاسر هو العصفور الصغير الجميل، حلم الثورة اليمنية، الذي سقط على منقاره كعصفورٍ طار قبل موعده. سقط عموديّاً حيّا به، حيّا به! في مثلث برمودا ذو الرؤوس الثلاثة: شدق الملك، شدق الجنرال، وشدق الإمام». 
وتنتهي أحلام عمران بانتهاء حلم في حبه ووطنه، حين ماتت زوجته منذ البدء بحادث تفجير الأنفاق في فرنسا، ليفقد كل ما كان يحدوه من أمل، «وإن أمسى الشعب أكثر إرهاقاً من أن يريد فعلاً شيئاً ما. يكفيه أن يكون على قيد الحياة فقط. أما أن يكون فوق جناح الحياة، فذلك حلمٌ ناعمٌ لا يدغدغ اليوم إلا الشعراء وأنصاف المجانين…
كاتب أردني

يوسف ربابعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق