ماكانين يكتب الرواية كما يلعب الشطرنج
حبيب سروري
ثمّة مفارقةٌ فاقعة: يندرُ أن نجد مثقّفاً عربيّاً لم يتأثّر ببعض كبار كلاسيكيي الأدب الروسي من بوشكين إلى تشكيوف، مروراً بديستوفسكي وتولوستوي. في حين أنه، على الأرجح، يجهل تماماً الأدبَ الروسي المعاصر.
ألم يعد هذا الأدب، الذي ترعرع في بيئةٍ ثقافيةٍ عريقةٍ غنيّةٍ تحتدمُ فيها أهمُّ المتغيّرات الفكرية والسياسية والجغرافية المعاصرة، قادراً على إنجاب عباقرته، أم أن تراجيديا أنيميا الترجمة إلى العربية وصلَتْ ذروتَها فيما يخصّ الأدب الروسي المعاصر؟
سأضرب مثلاً هنا: الروائي المعاصر فلاديمير ماكانين (٧٥ عاماً)، «آخر الكلاسيكيين» كما يُطلَق عليه، المترجمةُ والمنتشرةُ أعمالَهُ في اللغات الأخرى، والمجهول تماماً في العربية إلا عند ذكر اسمه في أخبار الجوائز الأدبية العالمية.
له أكثر من ثلاثين عملاً. نشرَ روايتَهُ الأولى في ١٩٦٥، بيد أن نجمَهُ لم يسطع إلا منذ ثلاثة عقود، عقب البروستوريكا تحديداً.
نال من بريطانيا في ١٩٩٣ جائزة البوكر للرواية الأجنبية، لِروايته: «منضدة تتوسّطها قطيفةٌ وكُوز». ونال في ٢٠١٢ «جائزة الأدب الأوربي» لِروايته الأخيرة «آسلان»، التي مُنِحتْ قبيل ذلك إحدى أهمّ الجوائز الأدبية الروسيّة.
كل رواياته خلال العقود الثلاثة الأخيرة مترجمةٌ للفرنسيّة، في أهمّ دور النشر (أتابعُها بانتظامٍ وشغف). أقلُّ لغةٍ أوربيّة تُرجِم لها: الأغريقية، ٧ روايات فقط. فيما لم تُترجَم له روايةٌ واحدة إلى العربية، حسب معرفتي.
المادّة الرئيسة لأعماله الروائيّة هي الزمن المعاصر وما يرتكبه الإنسان فيه من انحرافات وخرائب. مسرحُها روسيا. لكن ماكانين يستخلص (بمقدرة تجريد عالِم رياضيات قديم!) من كلّ موضوع يتناوله في رواياته بُنيةً عامّةً وإطاراً «كليٍّا»، يتناسبان مع أي واقعٍ إنسانيٍّ آخر.
«عُزلتان»: أّوّل راوية قرأتُها لِماكانين. بطلاها رجلٌ في الخمسين وامرأة في الأربعين («أطفال المؤتمر العشرين»)، كانا شديدَي النشاط الاجتماعي في الزمن السوفيتي، ثم وجدا نفسيهما يعيشان عانسَين، في عزلةٍ اجتماعية كاملة بعد سقوطه.
لوحتا الشخصيّتين كما نقشهما السارد، لاسيّما تفاصيل يوميات عزلتهما، أثّرا عليّ كثيراً لدرجة أنّي أحياناً لم أعد أستطيع أن أقرأ أو أسمع كلمة «عزلة» دون أن استحضر بعض أحداث الرواية!
يحاول السارد (الذي كان صديقاً لِلشخصين معاً) أن يربط علاقةً بينهما. يقود ذلك إلى روايةٍ بحدّ ذاتها، على هامش الروية.
«الثُّقب» روايةٌ بديعةٌ تدور في عالَمين: فوق أرضي تكتسحه الفوضى والتدهور المعيشي والأمني والأخلاقي، وتحت أرضي تعيش فيه النخبة المثقّفة في بحبوحةِ المطاعم والنقاشات الفلسفية والفكرية المجرّدة.
يستطيع الساردُ (مثقفٌ بقي في العَالَم العلوي) التنقّلَ بين العالَمين عبر ثُقبٍ يؤدّي لخرطوم مياه ينتهي في مطعمٍ يبدأُ منه العالَم السفلي. يزحف السارد بطريقة كفكاوية عبر دهاليز الثقب، نحو هذا العالَم الذي تملؤه أضواء نيون تجرحُ العين، وينقصه الأوكسجين.
التفاوتُ الفاقع بين يوميّات هاذين العالَمين مثيرٌ جدّاً: يُمكنِ في العلويّ مثلاً أن تداهم عصابةُ لصوصٍ باصاً، تنزعُ كلَّ أحذية ركّابهِ لِسرقتها، في عزّ الشتاء الروسي، ثم تهرب في المحطّة القادمة...
في السفلي نقاشات حول مواضيع مختلفة: مواصفات الشخصيّة الشعبويّة التي يلزم ابتكارها للتأثير على الجماهير (وتنويمها المغناظيسي)، أسئلة الاستفتاءات الإعلامية للآراء...
تتواتر في الرواية تنقلات السارد المثيرة بين العالَمين ويوميّاتهما. ثم مع مرور الزمن يزداد الثقب انغلاقاً...
«منضدة تتوسّطها قطيفةٌ وكوز» تدور في ليلة استدعاء السارد للاستجواب رقم ١٨٦. ثمّة ثابتٌ تاريخيٌّ في ديكور الاستجوابات الروسيّة مهما اختلف النظام السياسي: في كل استجواب يجلس المستجوَب في صالة، حول منضدة تتوسّطها قطيفة وكوز. يقع جزء من المنضدة في كهفٍ مجاور للصالة (كان يُستخدَم للتعذيب قديماً).... تحيط بالمستجوَب، حول نفس الطاولة، لجنةٌ كبيرة توجِّهُ له ألف سؤال، حول حياته الخاصّة والعامّة. تدخل في كل تفاصيل حياته. تتركهُ يشكّ من نفسه دائماً، تربكه، وتجعله يهلوس من القرف والقلق والضعف، طوال الساعات التي تسبق الاستجواب.
قد يبدو في موضوع الرواية شبهاً ما برواية كافكا: «المحاكمة». بيد أن اللجنة هنا ليست قضائية، لكنها «رفاقيّة»، من ناسٍ «يحبّون» المستجوَب، يريدون أن يكون «مواطناً صالحاً». لا تبحثُ اللجنة هنا عن توجيه عقوبات له، تبحث «فقط» عن تفتيش كلِّ دقيقةٍ في حياته، عن قراءة نواياه وتقليب ما يدور في دماغه في كلِّ الاتجاهات. أن تكون معه وفيه في كلِّ لحظةٍ وسكنة... «محكمة تفتيش» عصريّة لا يُهمُّها سجن الجسد أو عقوبته، لكن سجن الروح والرقابة الكاملة على تفاعلات عصبوناته!
هلوسات السارد ليلة الاستجواب كوميديةٌ تراجيديّة، تحوم حول تحليل طرائق استجوابات أعضاء اللجنة فردا فرداً، ذكريات أسئلتهم، أحاسيسه تجاهها وتجاههم، رؤيته لشخصيّاتهم ونفسيّاتهم... تمتدّ إلى تخييلٍ عميقٍ ساخرٍ وواسع لِيوميّات حياتهم الخاصّة، لما يدور في خُلدِهم في كلِّ لحظة، لبؤس حياتهم أيضاً... يتخلّلُها سردٌ فنيّ حول مفهوم الاستجواب بحد ذاته، في مختلف أبعاده اللغوية والإنسانية والتاريخية والفنيّة والأخلاقيّة، مثل: «أن تستجوبَ الآخرَ يعني أن تخلعَ ثيابَه حتّى التعرّي. في ذلك جنسٌ وسرير: كلّ قطعةٍ تُنزَعُ تثيرُ وتُسخِّن أعضاءَ اللجنة، حيثُ للآخرِ هنا دورُ المرأة».
القلق والضغط يرتفعان كثيرا مع تواصل هلوسة ساعات الأرق، بانتظار موعد الاستجواب. قبل نهايةٍ حصيفة مؤثّرةٍ للرواية...
«آسلان» (جاليمار، ٢٠١٣) روايةٌ ضخمة، كلاسيكيةُ البنية، سينمائيةُ السرد، موضوعها الحرب الروسية في بلاد التشيتشان.
عنوانُها اسمُ إلهٍ وثنيٍّ (طائرٌ جبّار له يدا وعضلات إنسان) كان قبل الإسلام صنماً في أرض القوقاز، وبلاد التشيتشان خاصّة.
لعلّه ظهر قبل أكثر من ألفي عام كردِّ فعلٍ شعبيّ على اجتياح جيوش الإسكندر المقدوني للقوقاز: اخترعوه لِحمايتهم من سطوة جيوش الإسكندر الذي أرهب السكّان وأرغمهم على اللجوء إلى أعالي الجبال. أذهلهم وأثار إعجابهم أيضاً، لِدرجةِ أنهم أطلقوا لِصنمهم اسماً شبيهاً باسمه.
اختفت كل الآلهة الوثنيّة ما قبل الإسلامية من الذاكرة الجمعيّة التشيتشانية إلا «آسلان» الذي ما زالت له فُتاتٌ في اللغة هناك. وفي الميثولوجيا الشعبية: يعتقد البعض أن ثمة شيوخاً يعيشون في رؤوس الجبال، يذكرون اسم «آسلان» في السويعات الأخيرة قبيل موتهم...
ترى الرواية أن الاجتياح الروسي للتشيتشان «حربٌ قذرة» تُشبِه تماماً اجتياح المقدون لها: بقوّة السلاح والتدمير الشامل، وبالثقافة أيضاً (الذي يمثّل المال والفساد أحد أوجهها).
سارِدُها شخصيّةٌ مثيرة جدّاً: الإسكندر جيليني، قائدُ وحدةٍ عسكريّة، مسئولٌ على توزيع البنزين، يطلقُ عليه التشيتشانيون اسم: آسلان!...
يستغلّ آسلان، في الحقيقة، موقعَهُ العسكريّ للكسب الشخصي، لِبيع البنزين للتشيتشانيين، ولِبيع السلاح لهم لاحقاً (يَعتبر بكلِّ بساطة أن الفساد أفضل من الخراب والإنهيار!).
لا تخلو شخصيّته من براءةٍ و بُعدٍ إنسانيٍّ ملحوظ: يحمي ويدافع عن أكثر من شخص، جذّابٌ في سردهِ وحديثه، قلبهُ طيّب في العمق، يحبُّه القرويون التشيتشان...
أجاد عبره ماكانين إجلاء تعقيدات الطبيعة الإنسانية في الظروف الإستثنائية، وقدّم تفاصيل هذه الحرب الشنيعة، على لسانه، في نهرِ روايةٍ تجرّ القارئ بلاوعي حتّى صفحتها الأخيرة...
المثير أن فلاديمير ماكانين بدأ حياتَهُ باحثاً علميّاً ماهراً في الرياضيات التي هجرها بعد ذلك. الأكثر إثارة (والذي يجهله الكثيرون) أن شقيقَه البروفيسور جينادي ماكانين (الذي عمل حتّى التقاعد في معهد ستيكلوف في موسكو: قُدسُ أقداس الرياضيات الروسيّة) بدأ حياته شاعراً، ثمّ طلّق الشِّعر. وهاهو منذ عقود أحد أكبر علماء الرياضيات (صاحب خوارزميات حلّ «المعادلات الكلماتية»)... كلاهما كانا يوماً لاعبَين مرموقَين في الشطرنج!...
يقول فلاديمير ماكانين في مقابلة معه في صحيفة «رسائل روسيا»:
«أكتب الرواية مثلما ألعب الشطرنج: قبل البدء أعرف أني سألعب بالقطع البيض أو السود. إذا قرّرتُ اللعب بالبيض فأحافظ على نفس الإيقاع، لا أضيع الهدف. وإذا اخترتُ السود أتقدّم ببطء، أدرس كل خطوة، أستوعب موضوعي بعمق وكمال. من يختر القطع السود لا يبحث عن النصر، لكن عن هزيمة العدو!...
إذا قارنّا الشطرنجَ بالموسيقى، فمن يلعب بالقطع البيضاء كمن يعزف كونشيرتو، ومن يلعب بالسوداء كمن يعزف سيمفونية... كتبتُ رواية آسان لعباً بالقطع البيضاء»...
وكتب بالتأكيد سيمفونية «منضدة تتوسّطها قطيفةٌ وكوز» وهو يلعب بالقطع السوداء!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق