عناقُ الأدب والفن كموردٍ اقتصاديٍّ وطني
حبيب سروري
الهوية الثقافية لأيّة مدينة (التي يُصيغُها، في الأساس، تاريخُ المدينة وبيئتُها الجغرافية والاجتماعية) هي بمثابة شفرتِها الجينية. يتبلورُ، بفضلِ هذه الشفرة، المشروعُ الثقافي للمدينة.
بقدر أهميّة وتميّز مشروعها الثقافي تستطيع المدينةُ أن تؤثِّر على العالَم، تكتسِحَهُ وتجذبَ استثماراته وسُوّاحَه. إذ صار «الاقتصاد الإبداعي» (المتكيءُ على إشعاعِ هذا المشروع) جوهريّاً اليوم، من وجهة نظرٍ استثماريّة. بالإضافة، بالطبع، للدورِ التقليدي للمشروع الثقافي كوسيلةٍ لِلتنمية العقلية للإنسان وإثراء حياته الروحيّة.
المدينةُ التي ليس لها مشروعٌ ثقافي، في عصرنا هذا، محكومٌ عليها بالعزلة والتلاشي. فالعولَمة لن تؤدّي كما تصوّر البعض إلى تحويل العالَم إلى سبّورة بلونٍ واحد، بل إلى أرخبيل هويّاتٍ ثقافية، تربط جزرَهُ جسورٌ يزدادُ استقطابُها للناس وتأثيرُها عليهم، مع ازديادِ شغفِ العالَم بالمشاريع الثقافية لتلك الجزر.
سأتحدث هنا، كمثلٍ تطبيقي، عن مشروعَي مدينتين فرنسيّتين: أفينيون وروان، أتابعهما بانتظام. سيُوضِّحُ ذلك لماذا يزور فرنسا أكثر من ٨٥ مليون سائحٍ سنويّاً، يجعلها في رأس دول العالَم التي تجذب السوّاح، سابقةً من يحتلّ الدور الثاني بأكثر من عشرين مليون سائحاً.
لعلّ في حديثي ما سوف يُحفِّز الجميع على صياغة المشاريع الثقافية لِمُدننا العربية التي تزخر بثراء التاريخ ونعمة الجغرافيا، وتفتقر بشكلٍ تراجيدي لِمشاريع ثقافية بحجم مواردها وملَكاتِها الاجتماعية الثقافية.
تقع أفينيون في جنوب فرنسا. سُمِّيت «مدينة البابوات» لأنها لعبتْ، منذ ١٣٠٩ حتّى ١٤٢٣، دورَ روما الحالي كمركزٍ للمسيحيّة الكاثوليكية، وموقعٍ لِسكنِ بابواتها في «قصر البابوات» المتاخم للكاتدرائية، الذي أضحى اليوم صالة عرض المسرحيات الدوليّة الكبرى.
مشروع المدينة الكبير: «مهرجان أفينيون المسرحي». بدأ في ١٩٤٧، وارتبط اسمه بجون فيلار: ممثلٌ مسرحيٌّ ومديرُ مسرحٍ باريسي.
اندلعت فكرة المهرجان من مبادرة الشاعر رونيه شار الذي فضّل أن تُعرضَ مسرحيّتُه الشعريّة «موت في الكاتدرائية» في أفينيون أوّلاً، فاقترح ذلك لِفيلار، في ١٩٤٥.
بدأ بعد ذلك بسنتين «أسبوع الفن في أفينيون» الذي أداره فيلار، وعُرِضت فيه لأوّل مرّة أعمالٌ مسرحيّةٌ جديدة لم يبدأ عرضها كالعادة في المسارح الارستقراطية لِنخبة العاصمة باريس.
تطوّر كلُّ ذلك من عامٍ لِعام، لِيحتَلَّ المهرجانُ اليوم معظم شهر يوليو، وليكونَ الموقعَ الأثير لعددٍ خياليٍّ من المسرحيات والعروض الفنيّة الشيّقة التي تُغطّي كلّ أنواع وأجناس الفنّ المسرحي: أكثر من ٩٥٠ في عام ٢٠٠٥، أكثر من ١٢٥٠ مسرحية في العام الماضي ٢٠١٢، ومن ١٣٠٠ مسرحية متوقّعة في هذا العام.
دون الحديث عن أكثر من ٧٠ مسرحيّةٍ دوليّةٍ كبيرة (ذات دعمٍ دوليٍّ خاص، تُسمّى مسرحيات ال«إين»، in) تستحوذ اهتماماً استثنائياً في الغالب.
كلُّ الأعمال المسرحية والأدبية الكبرى، وكلُّ الأسماء الأدبية الخالدة والمعاصرة، تتوزّع خلال المهرجان على مسارح المدينة وقاعاتها ومرافقها وكنائسها، وخلاءات جبالها المتاخمة، وسُفن نهرِها (المهيئة جميعاً للعروض الفنيّة). كلّ ذلك في مدينةٍ تاريخيّةٍ دافئةٍ فاتنة...
ثمّة إسهاماتٌ عربية قليلة أحياناً في المهرجان: تألّقتْ، على سبيل المثال، في مهرجان ٢٠١١ مسرحيةُ «يحيى يعيش» التونسية، من انتاج فرقة فاميليا، وكتابة جليلة بكار وفاضل الجعايبي، وإخراج فاضل الجعايبي (إنظر دراسة الأستاذ صبري حافظ عن المسرحية، في صحيفة الشروق، ٢٩ يوليو ٢٠١١).
وإسهاماتٌ لِمُبدعين من أصول عربية: أبدعَ العامَ الماضي المغربي البلجيكي سيدي العربي الشرقاوي، مخرجُ الباليه المرموق. ويتألّق سنويّاً في المهرجان، وبشكلٍ كبير، اللبناني الكندي وجدي معوّض وفرقته المسرحية...
تتردّدُ على المهرجان سنويّاً قاماتٌ عربية رفيعة مثل المناضلة والمثقفة الفلسطينية ليلى شهيد الذي ينحني الجميع عند رؤيتها تعبر الشوارع، الناقد والروائي المغربي محمد برادة، الناقد المسرحي صبري حافظ الذي لا يفارقُه مصباحُه الضوئي الرفيع الصغير وهو يسجّل الملاحظات الفنيّة المباشرة على كرّاسته في ظلمات المسارح...
تتناثرُ في ثنايا المهرجان كثيرٌ من النشاطات الفنيّة والمحاضرات والندوات الثقافية. والتظاهرات السياسيّة أيضاً: من لا يتذكّر الصورة التي أُخِذَت بالهيلوكبتر لِحشود الحاضرين في المهرجان، وهي تنبطح كموتى على الأرض، في نفس اللحظة، في ساحة قصر البابوات والشوارع المجاورة، في عام ١٩٩٥، استنكاراً لما كان يعيشه شعبُ البوسنة من ذبحٍ وإبادةٍ جماعية؟
ثم كان هناك العام الماضي بيانُ الأدباء والفنانين، الذي ألقي على الحاضرين من علياء قصر البابوات، تضامناً مع سوريا التي تنزف، وإدانةً لنظامها السفّاح.
ثمة موعدٌ انتظرهُ بشكلٍ خاص: فيلم «هاملت في فلسطين»، للمخرج نيكولا كلوتز، الذي يسرد تفاصيل عرض المدير الفني لمسرح برلين: توماس اوسترمايير (أكبر مخرجٍ مسرحيٍّ دوليٍّ معاصر) لِمسرحيته «هاملت» في رام الله العام الماضي، في «مسرح الحريّة» بِمخيّم اللاجيئين في جنين (تمّ عرضُ نفس المسرحية في قصر الباوبات في ٢٠٠٨).
سيلحق العرضَ حوارٌ بين اوسترمايير والمشاهدين حول زيارته لفلسطين.
«عندما ذهب أوسترمايير لفلسطين لِعرض شكسبير كان يعرف جيّداً أنه سيجدُ له أصداء كبيرة في بلاد شعبٍ يواجههُ يوميّاً هذا السؤالُ الشكسبيريّ المصيري: أن تخضع أو تناضل؟، أن تكون أو لا تكون؟»، كما تقول نبذة تقديم الفيلم...
ليس بدونِ مدلول، في رأيي، أن يكون موعدُ العرضِ الأوحدِ للفيلم والحوار، السابعة من مساء ١٤ يوليو، يوم الثورة الفرنسية!
ولِمن فاتهُ عرضُ «عربات حرّة» (في بيروت وباريس سابقاً، وفي برلين حاليّاً) لِساندرا إيتشيه، له موعدٌ معه في المهرجان هذا العام.
كانت إيتشيه قد وثّقتْ وهي طالبة، في عام ٢٠٠٠، تاريخَ مجلة «أورينت إكسبريس» الفرانكفونية التي كان يديرها الصحفي والمؤرخ اللبناني سمير قصير. بعد قليلٍ من ذلك، في ٢ يونيو ٢٠٠٥، أغتيلَ الصحفيّ بسيّارةٍ مفخّخة!
مشروعُ «عربات حرّة» هو إعادة كتابة تاريخ فريق المجلة، وحاضر لبنان أيضاً. ليس انطلاقاً من منظور الواقع العربي الراهن وشقائه، لكن عبر التخييل المستقبلي: يدور العرض في عام ٢٠٣٠ مسترجعاً حاضر اليوم كماضٍ قديم!...
النموذج الثاني للمشاريع الثقافية: مشروع مدينة روان الفرنسية، عاصمة منطقة النورماندي التي تقع بين باريس وبحر المانش. مدينةٌ تاريخية كانت أهمّ مدن فرنسا في العصور الوسطى: منها انطلق الاحتلال النورماندي لإنجلترا وحواليها حينذاك، لجنوب أيطاليا وصقليّة، وبعضٍ من أراضي الإمبراطوريّة البيزنطيّة.
مدينةٌ فنيّة وثقافية أيضاً: عاش فيها أو حولها على سبيل المثال: فلوبير، مونيه، موباسان، كورناي، فيكتور هيجو في بيته الريفي... انطلقت منها المدرسة الانطباعية في الفن: بودان، مونيه، بيسارو... يعبُرها نهر السين الذي اعتبرَهُ مونيه «معملَه»، و«هوَسَهُ الفنّي»، كما يقول.
تنقّلَ عليه، في عام ١٨٩١، مع مرسمِهِ على قارب. يقول: «قضّيتُ حياتي أرسمه في كل ساعة. أحرقت ناظري بالتحديق بانعكاسات الضوء المتلألئة عليه».
للمدينة مشروعان ثقافيّان: «مهرجان الانطباعية» في الفن والأدب. يأتيه مليون زائر، تُعرَضُ فيه مئات اللوحات الانطباعية الكبرى، وتُقدَّمُ مئات الفعاليات الفنيّة والأدبية المتنوّعة خلال ستة أشهر.
و«أرمادا الحرّية» (أرمادا تعني: جيش، بالأسبانية): أسطولٌ من مئات السفن الشراعية الميثولوجية (عابرات المحيطات) التي تأتيه من معظم دول العالَم، وعددٍ من البوارج الحربيّة الكبيرة. يصلهُ عشرة مليون زائر. ثمّة سفينة عمانية رائعة (صُنِعت في اسكتلندا): «شباب عمان»، تتردّد عليه بانتظام.
خلال حوالي أسبوعين تعجُّ الأرمادا بفعاليات ثقافية وفنيّة متنوّعة. تبدأ بشفطِ جسر فلوبير ميكانيكيّاً ورفعهِ عالياً بواسطة بُرجين عملاقين في طرفَيه، عشية ٦ يونيو، لِتعبُرَ السفنُ الكبرى القادمة من البحر، صوب المركز التاريخي للمدينة.
ثم تنتهي الأرمادا بمغادرة كلِّ سفن الأسطول نهرَ السين، نحو البحر، في موكبٍ رهيب يرافقه مئات الآلاف من المودِّعين...
يربط المشروعين هذا العام محورٌ واحد: الماء. تدورُ حول المحور معظمُ الفعاليات الانطباعية كمعرض «انعكاسات وهّاجة» الذي يضمُّ لوحات تشكيلية كبرى تُجسِّدُ تنويعات انعكاس الضوء والصورة في الماء، تبدأ بلوحة «نرجس» (نيكولا لوبيكويه، ١٧٧١). يبدو عليها الإغريقي الميثولوجي نرجس مضطجعاً يُحدِّق بعشقٍ وافتتانٍ مُفرط في وجههِ في الماء!...
تُلخِّص محورَ المهرجانين هذه العبارةُ المنقوشةُ قرب جسر فلوبير: «أنظر أيها السيّد مونييه كم تغيّر نهر السين اليوم!».
خلاصة القول: عناق الفنّ والأدب في المشروع الثقافي للمدينة وسيلةٌ جوهريّة لِتنميتها وتطوّرها الروحي والاقتصادي. ليس غريباً لذلك مثلاً أن يكون المشروعُ الثقافيُّ بعيدُ المدى لِمدينة برلين هو منافسة باريس ذات يوم.
وليس غريباً أيضاً أن نسمع عن مشاريع ثقافية فرعونية في الصين اليوم، أحدها فقط (إربطوا أحزمتكم جيّداً!): بناء خمسة ألف متحف في السنوات القليلة القادمة!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق