من لم يقرأ بعدُ «فن الحرب»؟
حبيب سروري
«يكمنُ فن الحرب في هزيمة العدو دون مواجهة، دون أدنى خسارة، دون قطرة دم!»... «قبل خوض المعركة يلزم أن يكون النصر قد تحقَّق تماماً!»...
لعل هذه العبارات تُلخِّص جوهر كتاب الإستراتيجي الصيني الشهير سان تزو: «فن الحرب». السبيل إليها: «الذكاء المطلق»!...
لغةٌ لم تعتد عليها حضارتنا العربية، ولا الحضارة الغربية أيضاً...
ظهر هذا الكتاب في الصين قبل حوالي 2500 سنة، في عصر «المملكات المتصارعة» الذي اتَّسم بحروبٍ دائمة بين حوالي عشر مملكات صينية متجاورة، وبخسائر بشرية ومادية جسيمة، وبتغيُّراتٍ متعاقبة في عددِ وحدودِ تلك المملكات.
إذا كانت الفلسفة العسكرية لحضارة الإغريق (التي ازدهرت في نفس تلك الفترة) تمزج، كما هو حال الاستراتيجية العسكرية الغربية اليوم، بين أهمية استخدام الذكاء والحيلة في الحرب (الذي كان رمزه العبقري المجيد: عولس، صاحب فكرة حصان طروادة)، وبين المواجهة الجبهوية الدامية واستخدام القوة (الذي كان رمزه البطل الأسطوري الجبار: أشيل)، فإن الإستراتيجية الصينية، إنطلاقاً من فلسفة كتاب «فن الحرب»، أرقى بكثير:
تتكئ في الأساس على الذكاء المطلق، لا غير. على الحرب السريَّة غير المرئية. على الانتصار النقي. أي: تُلغي مفهوم البطولة والغطرسة والفخر، بكل بساطة. تُقيل أشيل لِصالح عولس، إذا جاز القول!...
يصعب تفسير ظاهرة الإعجاب بكتاب سان تزو والوله به في العقود الأخيرة، لا سيما في هذه الأيام الذي نجده في رفوف أفضل مبيعات الكتب في مكتبات فرنسا.
يُدْرَسُ في الكليات العسكرية بالتأكيد، والتجارية والاقتصادية أيضاً، في أقسام «الذكاء الاقتصادي والتحليل الاستراتيجي»، فن المفاوضات، التسويق، تطوير الشبكات الاجتماعية... ليس غريباً أن يقول وزير الاقتصاد أو رب العمل هذا أو ذاك: «فن الحرب» كتابي الأثير، كتاب مخدعي!...
يتوالى ذِكرُهُ في الروايات الأدبية التي تستعير منه قصصاً رمزيةً هنا وهناك. على سبيل المثال فقط: رواية «الفن الفرنسي للحرب» لأستاذ البيولوجيا اليكسيس جيني التي نالت جائزة جونكور ٢٠١١، وبعض كتب الفرنسي فيليب سوليرس (صاحب مقالة: «لماذا أنا صيني؟»، في كتابه «فرار»، جاليمار، ٢٠١٢) الذي اعتبرَ نفسَهُ دائماً «صينيَّاً»، بكل بساطة...
دون الحديث عن الأفلامِ وأغاني «الراب» وشعبيَّةِ مواقع الاستشهادات بعبارات سان تزو على «تويتر»، وبعض اللوحات الجدارية العشوائية (Tag، وَسْم) في المدن الغربية...
أيكمنُ سبب ذلك التشبُّث بكتاب «فن الحرب» في الأزمة الاقتصادية الحالية؟ أم في التفوق الاقتصادي الصيني الذي يعتقد الكثيرون (بما فيهم كاتب هذا المقال) أنه سيهيمنُ على العالَم في هذا القرن، بفضل اتكائه على الأفكار الاستراتيجية الصينية، لاسيما كتاب سان تزو، وعلى فلسفة الحضارة الصينية الرائدة؟...
قبل إجلاء أفكار الفلسفة الصينية التي تُبرِّر فحوى هذا الاعتقاد، يلزم الإشارة إلى أن للحضارات الأخرى مراجعها أيضاً في الذكاء السياسي والاستراتجيات العسكرية.
في الغرب هناك صاحب كتاب «الأمير»: المفكر الإيطالي ماكيافل الذي وُلِد في أواخر القرن الخامس عشر.
تلاه مرجعٌ جوهريٌّ أكثر حداثة: «عن الحرب» لكارل فون كلوسفيتز، الذي ظهر في 1832.
للعرَب أيضاً مراجعُهم في كتب الذكاء والحيل والاستراتيجيات. لعل أهمَّها وأبدعها: «رقائق الحُلَل في دقائق الحِيَل»، لكاتبٍ مجهول كتبه قرناً قبل ماكيافل. اكتشف الباحث رونيه خوام نصف فصول هذا الكتاب فقط، في مخطوطةٍ مودوعةٍ في المكتبة الوطنية في باريس، وترجمَهُ للفرنسية في 1976، قبل أن يظهر بالعربية في «دار الساقي» لاحقاً.
ثم هناك الشخصية المثيرة: لورانس العرب، صاحب كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» (١٩٢٢) الذي استقى منه الجنرال الفيتنامي جياب خططه في الانتصار على الفرنسيين في معركة دين بيان فو الشهيرة. الكتابُ الذي قدَّم نظريَّة حرب العصابات كسلسلةٍ بطيئةٍ طويلةٍ مخاتلة من عمليات شبحيَّة مفاجئة تُجنِّن بالعدو، وتجبره على أن «يأكل الحساء بالسكين» على حد تعبير لورانس العرب.
رغم أهميَّة هذه الكتب جميعاً، يظلُّ لـِ «فن الحرب» موقعه الأثير، الأرقى بكثير، والأشد تأثيراً حتى اليوم. ربما لأنه مؤسَّسٌ على فكرة «الذكاء المطلق» وعلى فلسفة وتجارب الحضارة الصينية العريقة وصراعاتها الطويلة، أو لأن مفهوم الحرب فيه شديدُ العمق والأناقة، يمكن أن يتَّسع إلى ما هو أكبر من الحرب العسكرية بكثير لِيشمل كل مناحي الحياة العسكرية والسياسية والاقتصادية، والخاصة أيضاً.
فالحياة في الفلسفة الصينية حربٌ لا تتوقّف: السلام وهمٌ يصدِّقهُ الأغبياء! العلاقة الغرامية حربٌ دائمة أيضاً. «جهاد النفس» كذلك تماماً. كتابة الرواية حربٌ باستراتيجيات شطرنجيّة متنوّعة، كما يراها الروائي الروسي فلاديمير ماكانين...
قبل استعراضِ بعض أهم معالم السياسة الصينية المعاصرة في ضوء أفكار كتاب «فن الحرب» يلزم التذكير بمبدأين جوهريين في الفكر الاستراتيجي الصيني وكشف بصماتهما في الكتاب:
١) الاستلهام من نموذج الطبيعة:
في رؤية سان تزو: يلزم أن تتناغم الحرب مع نموذج الطبيعة. استعارةُ الماء هامَّةٌ هنا، تتكرَّرُ في أماكن كثيرة من الكتاب. يقول سان تزو:
«يسيل الماء على إيقاع تضاريس الأرض. كذلك، بالانسجام مع تغيُّرات وضع العدو يُكسَبُ النصر. ليس للماءِ شكلٌ ثابت. كذلك، ليس للعمليات وصفاتٌ جامدة. من يستطيع الانتصار بفضل تكيُّفاته مع مختلف التغيرات يستحق أن يُسمَّى: محارباً إلهياً».
يقول استراتيجيٌّ صينيٌّ آخر عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، هواي نان تسو: «كنْ كالشبح الذي لا يترك أثراً، كنْ كالماء الذي لا يجرحهُ أحد».
يُصغي الماءُ للمناخ والتضاريس، يلتفُّ عليهم أو يتوحد معهم في ذات اللحظة. «يهرب من المرتفعات ويملأ الحفر»، كما يقول سان تزو. مثله، يلزم أن تسيطر الاستراتيجيةُ على كل الأوضاع والاتجاهات، أن تضمن الانتشار الناعم العميق المباشر، بدلاً من اللجوء إلى استعراضات التبجُّح والقوة.
لعل سعيَ الصين اليوم لإملاءِ كل شرايين الاقتصاد العالمي والسيطرةِ المتدرجة الهادئة عليه يعكسُ هذا الاختيار الاستراتيجي، الذي تقع في القطب المعاكس له الاستراتيجيةُ الأمريكية التي تميل للغطرسة واستعراض القوة، كما حصل في العراق مثلاً.
تفصلُ هاتين الاستراتيجيتين ولا شك بضعةُ آلاف السنين من الحكمة والتجارب.
٢) نموذج اليين واليونج
«تتلخَّص الاستراتيجيةُ بقوّتين: مرئيةٌ وغير مرئية. بينهما تداخلات متنوعة لا حصر لها، لا تستطيع الروح البشرية سبر أغوارها تماماً»، يقول سان تزو.
لكلِّ شيء وجهان في الفكر الصيني، يُرمَز لهما بـ «اليين واليونج»: الظل والضوء، الذكر والأنثى، المرئي وغير المرئي...
يسكن اليين في اليونج والعكس صحيح. كلاهما وجهٌ لِنفس الكينونة المركّبة. يحاول كل منهما أن يستحوذ على الآخر ويهيمن عليه!...
تعارض هذه الفلسفة بشدّة السعي لطمس وإنهاء أحد الوجهين تماماً. توصي بدل ذلك بتطويعِه وتكييفه لِخدمة الوجه الآخر. لذلك لا يحث «فن الحرب» على التفكير بإبادة العدو أو تدميره والنيل منه، بل ينصُّ على أن فن الانتصار يكمن في السيطرة على العدو دون خسائر، في مغنطسته وتحويله إلى موردٍ يخدمك ويتعاونُ معك!... ما لم فإن طاقة اليأس وحقد العدو ورغبته العنيفة بالانتقام قد تقود إلى النيل منك وانتصاره لاحقاً!
جليٌّ أن ذلك يختلف تماماً عمّا مارسته وتمارسه السياسة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية اللتان لم تتوقفا عن استعراضات القوة المجنونة والضرب الإجرامي العنيف المتواتر لسحق عدوِّهم ومحق بنيتهِ الاقتصادية، مما يؤدي دوماً بالضرورة إلى ازدهار التطرُّف وروح الانتقام...
منهجية التفاعل بين اليين واليونج فنٌّ صينيٌّ عريق. أتذكَّر هذه العبارة التي أذهلتني لِطالبٍ صينيٍّ سعدتُ بالإشراف على أطروحة دكتوراه قبل عامين:
«عندما طلب الأمريكان منا في نهاية النصف الأخير من القرن الماضي التغيير الجذري لِنظامنا الاقتصادي والسياسي معاً، قلنا لهم: لا! الاقتصادُ: يونج، والسياسةُ: يين. تغييرهما معاً يؤدي إلى السقوط والانهيار، كما برهنت الأحداث بعد ذلك في الإتحاد السوفيتي الذي حاول تغييرهما معاً. يمكن أن يُطوِّع أحدُهما الآخر، لا غير. لذلك غيَّرنا الاقتصاد أوَّلاً فقط ليصير أكثر رأسماليةً من الاقتصاد الغربي، وحافظنا على السياسة وقواعد حياتنا اليومية، كما هي!...»
لعل أكثر ما نرفز الغرب وأثارَ حفيظتهُ فعلاً هي هذه الفلسفة التي لا يستطيع الغربُ القبضَ عليها أو إدراك كنهها: عندما أطلق الصينيون شعار «اقتصاد السوق الإشتراكي» الذي أسَّس للصين اقتصاداً رأسمالياً يسثمرُ العولَمة ليغزو العالم، وأبقى في نفس الوقت النظام السياسي الشيوعي بكل بلاغته التقليدية، لاسيما صور ماو تسي تونج التي تعلو «المدينة الممنوعة» في قلب بكين، رأى الغرب (الذي اعتاد على الثنائيات المتضادة، وليس على الثنائيات المتوحّدة) في ذلك قمة الكيد والنفاق، «لعبٌ سيء»!...
طبيعيٌّ أن لا يستوعب الغرب ذلك: الفلسفةُ الصينية تجاوزته في هذا المجال بقرون. منهجُها ما قاله سان تزو:
«من يجيد فن فتح وغلق صمّامات الروح يصبح مثل التاو (أي: القوة الاصلية، الرُّحم الذي يتشكَّل فيه اليين واليونج، في الفلسفة الصينية): لا نهائي الصغر لا يتغلغله أحد، ولا نهائي الكبر لا يحتويه أحد».
وطبيعيٌّ جداً أن لا نستوعبه نحن أيضاً، عرَبُ اليوم الذين صار منهجهم في خوض الحروب يتلخّص بالحكمة اليمانية الغبيّة جداً: «الهنجمة» (أي: التهديد والوعيد الحامي الوطيس) نصف القتال!...
عربُ اليوم الذين نمثِّلُ العكسَ النموذجي لِصين اليوم التي تغزو العالم بالصمت والذكاء المطلق، فيما نملأهُ ضجيجاً وغيبيات وحروبَ أهليّة وهزائمَ وهرولةً إلى الجحيم!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق