رواية تكشف عن ألوان طيف المجتمع الإسرائيلي المعاصر
حبيب سروري
شمويل مايير (٥٥ سنة) روائيٌّ إسرائيليٌّ يكتب بالفرنسية، يعيش منذ بضعة سنوات في جنيف، له ٣ مجموعات قصصيّة نُشِرت في دار جاليمار. تلتها روايةٌ طريّة: «عام حجارةٍ جديد» (جاليمار، ٢٠١٣).
تتمحور روايته حول شخصيّة مثيرةٍ للجدل: دوف شاتز، كاتب إسرائيلي كبير، كان مرشّحاً لنوبل للآداب، أثار في إسرائيل خلافاً حادّاً وردود فعل عنيفة جدّاً بسبب إداناته للدّولة العبريّة، وصُوَرِه الإعلامية مع رموزٍ معادية للصهيونية.
بنيةُ الرواية تتشكّلُ من عدّة فصولٍ صغيرة يتحدّث فيها شاتز حيناً؛ زوجتَه لافانا التي هجرتهُ كليّةً بطريقةٍ ساديّةٍ فظّة (بعد ثلاثة عقودٍ من حبٍّ كبير وحياةٍ عائليةٍ سعيدة)؛ ابنتهُ لِيا التي أهملَها كليّةً بطريقةٍ تعذيبيّةٍ بعد أن تديّنت وتحوّلت إلى أصوليّة؛ آلون شفوت: المتطرّف القاتم الذي يتابع بعداء شديد حركات شاتز، والذي كان حاضراً عندما اعْتُدِيَ على الكاتب جسديّاً في السوق بسببِ مواقفه؛ ريفيتال، ابنة آلون، التي هاجرت إلى لندن بسبب زيادة تطرّف والدها وانغلاقه وحقده؛ وشخوصٌ أخرى تتناوب في سرد فصول الرواية وتطوّرِ أحداثها، كلٌّ من منظوره الخاص المختلف تماماً عن البقيّة...
عدسات الساردين تتباعد وتتناقض غالباً في رؤيتها للواقع، لِتعكسَ في شتاتها العميق ألوان طيفِ المجتمع الإسرائيلي المعاصر الذي يبدو من خلال شبكةِ مرايا أعين الساردين: لوحةً فسيفسائية شديدة التنافر والتشظّي والمرارة. مجتمعٌ يلتهمه التوغّل في التديّن والأصولية («التوراة هي الحل») التي تقوده لمزيدٍ من العنصريّة والعدوانيّة... تُعِيدُ جميعها إلى الذاكرة عبارة الشاعر العلماني الإسرائيلي ناتان زاش: «على المدى البعيد بلدنا بدون أفق، يؤول إلى فتاتٍ من زمرات متناحرة لا يجمعها شيء».
لعلّ شخصية شاتز التي يصعب سبرُ أغوارِها هي ما تمنح الروايةَ سمكَها العميق. صنعَ لِنفسه سيرةً توهيمية استحوذَت، فيمن استحوذت، لجنةَ نوبل للآداب: طفلٌ تمرّد على الكيبوتس (التعاونيات الاجتماعية اليهودية)، كان جنديّاً ثم ضابطا، تعلّم وبنى نفسَهُ لِوحدِه، زوجٌ وأبٌ نموذجي...
يجهلُ الجميع (عدا زوجته لافانا التي هجرتهُ) أنه وُلِد في عائلةٍ أصوليّة في حيّ «البيوت المجرية» في القدس. نشأ على ثقافةٍ توراتيةٍ صارمة منغلقة. كانت له حتّى الرابعة عشرة سنة هيئة الأصوليين وزنانيرهم...
بعد وفاة والدته في الرابعة عشرة، وانغلاق والده على نفسه، هرب شاتز من المنزل. غيّرَ اسمه القديم: زيف بنيامين كاتز، إلى دوف شاتز (دوف: ذئب، بالعبريّة). قطع علاقته بماضيه، واختلق حياةً جديدة. عرف خبرَ وفاة والده وهو يسافر في الطائرة في إحدى دعواته الدوليّة الكثيرة، لكنه لم يزر يوماً قبره.
ثمّة أيضاً شخصٌ قاتم يعرف جيّداً شاتز ويتابع تطوّر سيرته الذاتية التي اختلقها لِتُضفي عليه «عبقريةً وإنسانيّةً وجمالية»: آلون شفوت، توأمه العكسيّ. خاض نفس الحروب، وله نفس العمر. أُعجِبَ آلون بشدّة برواياتِ شاتز الأولى: «سفْر تكوينِ إبداعه»، بِعشقِها العنيف لإسرائيل...
أضحى آلون شديد الحقد والكراهية لشاتز مع تطوّر مواقف الأخير المعادية للصهيونية. ثم، بعد أن فقد آلون زوجته رونيت (التي كانت من نفس بيئتة الثقافية) في عمليّة انتحارية فلسطينية داخل باص، لم يعد بإمكان أية قوة في الأرض أن تطفئ آلامه ورغبته في الانتقام.
يقول آلون: «شاتز يكرهني ويريد أن يقتل اليهودي الذي يتجرأ على التنفس في أعماقه. أنا ذلك اليهودي». «أنا عقلاني، بارد، صامت». «الحب قرار معاكسٌ لمبادئنا. أنا لا أحب. أتضامن بشكلٍ طبيعي مع ذوي دمي. أنا شرير بسبب آلامي، كريمٌ بفضل آمالي».
ثمّة، في مواقف شاتز المعاديةِ للصهيونيةِ في عقر دارها، مزيجٌ من الجرأة والصدق والشجاعة، والانتهازية والغش والحسابات الشخصيّة لمغازلة لجنة نوبل للآداب أيضاً!... دفع شاتز ثمن مواقفهِ غالياً: يعيش عزلةً اجتماعية قاتلة. يشتمُهُ الأصوليون على الدوام، هنا وهناك: «إسرائيل تتقيؤك». يستلم إس إم إسات إهانات من أقرب الناس إليه. اعتُدِي عليه في السوق من قبل شابٍّ متديّنٍ متطرف ردّدَ لِتبريرِ عدوانه: «هذا نازيّ، يسبّ إسرائيل»...
لا تخلو مواقف شاتز المؤيّدة للقضية الفلسطينية من تناقضٍ جذريٍّ لاحظه آلون وهو يقول: «أعترفُ أني غرقتُ في ضحكٍ جنوني هيستيري كاد يلتهمني: يعيش هذا الواعظ الأخلاقي في بيتٍ عربيٍّ فلسطيني! بيتٌ رائع من حجارةٍ بيضاء سميكة، نُهِبَ من عائلةٍ عربيّة مسيحيّة. ربما هو بيت الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يحب شاتز أن يأخذ صورَاً حميميةً معه أمام أعمدة بهو جامعة كولمبيا!»
مصير الجيل الجديد من أبناء أبطال هذه الرواية مثيرٌ للتأمّل: ريتيفال، ابنة آلون، تهاجر إلى لندن، لتحيا حياةً مدنيّةً طبيعيةً حرّة، بعيداً عن أب يتوغّل في التطرف والجنون. لا تضع صورةً واحدة على جدران شقّتها اللندنية لأمٍّ اغتيلت في عمليّةٍ انتحاريّة.
يفتقد الأبُ ريتيفالَ كثيراً: بعدما هربت من المنزل ذهب إلى قبر «القدّيس» باروش جولدشتاي (الأصولي المتطرِّف الذي اغتال ٢٩ فلسطينيّاً وجرح ١٢٥ في الخليل في ١٩٩٤، أمام «ضريح إبراهيم») يتوسّله أن يطلب من الله أن يعيد ابنته!...
استغربَ آلون دوماً أنها لم تعد من لندن لزيارة قبر أمّها. بعث لها برسالةٍ من مائة صفحة. مزّقَتها نتفاً ميكروسكوبية، بتلذّذٍ خالص...
عبارةٌ صاعقة تمزجُ تراجيديات الماضي بالحاضر، قالتها ريتيفال:
«لو كانت لأبي، أو لباروش جولدشتاين، أو لحاخامات المدارس التلموذيّة، السلطةُ المطلقة، لأبادوا الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه بنفس طريقة هامان، وزير الملك أسيريوس، الذي جعل الملك يصدرُ أمراً بإبادة بني إسرائيل».
لِيا، ابنة شاتز، تتّخِذ طريقاً معاكساً تماماً لِريتيفال: تلجأ للتديّن المنغلق. «لم تعد تنطق عبارةً دون أن تردّد: إن شاء الله». أمامها على زجاج سيّارتها: «دعاء السفر». لها هيئة الأصوليين...
يقطع شاتز علاقته بها ببرودة وعدم اكتراث. لا يتذكّر حتّى أسماء أولادها، فيما تقرأ نصوصَهُ دوماً بإعجاب وحب، تستعيد ذكرياته دائما. تستحضر غالباً يوم رأته يبكي بحرارة بعد مقتل اسحاق رابين. (لعلّه، كما يبدو، كفرَ بإسرائيل تماماً بعد ذلك اليوم!)...
ذهبتْ لِيا لزيارته، للمنزل العائلي القديم، بعد أن اعتُديَ عليه في السوق. قابلها ببرود. انتهى اللقاء بهذه الكلمات المؤثرة:
«لم ألمْهُ على شيء. لم أسأله لماذا تمتلئ جدران البيت بِصور أمّي، وليس لي صورة واحدة. تجرأتُ أن أسأله بدل ذلك:
ـ أبي، أتشعر بالعذاب لو أحببتني؟...
رفع وجهاً أبيض كدجاجة مسلوقة، قائلاً:
ـ لا تعنيكِ هذه العبارة. أبي من قال لأمِّي إنه يتعذّب لو أحبّني!...
صعدَتْ أدمعي وأنا أرى غضَبَه. أغلقتُ الباب وأنا أتمتم كصلاة: كان أبوكَ على حق!»
لافانا، التي أحبّتْ زوجَها «كُلّاً» خلال ثلاثين عاماً، صارت تكرهه «كُلّاً» أيضاً فيما ظلّ متيّماً بها رغم أنها تزوّجت بآخر. «شاتز أنانيٌّ نرجسيٌّ وشديدُ الذكاء أيضاً»، تقول.
لامتْهُ يوماً لأنه لم يتذكَّر تاريخَ عيد ميلاد لِيا وهي في الخامسة. برّر ذلك قائلاً إن التقاليد التوراتية تُفضِّل تذكَّر تاريخ الممات على تاريخ الميلاد. لعلّه «سقط من عينيها» وهي تلاحظهُ بِذهول «يُبرِّرُ نفسه توراتيّاً، هو الذي قطع تماماً حبل السرّة بالدين والآلهة».
لم تتحمّل لافانا تعليقاته المعادية لإسرائيل في مقابلاته الإعلامية الجدالية، ولم يتراجع عن مشاكساته، لاسيّما أنها «ترفع مبيعات الكتب» وتُضفي على شخصهِ صفةَ «الإسرائيلي التقدمي» أمام العالَم.
بعثتْ لافانا له إس إم إسات إهانات بذيئة لأنها تعرف كم «لا يُهمُّه قط ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلّة. لا يكنّ أية عاطفةٍ للانتحاريين الفلسطينيين، ناهيك عن غطرفات الفرح في رام الله وغزّة ونابلس بعد مجزرة باصٍ فُجِّر في تل أبيب».
أبشعُ من ذلك: لعلّها كانت أيضاً في السوق يوم أعتديَ عليه، وشاهدت ذلك من بعيد... لم تبعث له تهنئةً يوم حصوله على نوبل للآداب. بالعكس، سخرت من ذلك!...
بعد حصوله على نوبل للآداب حدث تطوّرٌ غريبٌ مفاجئ: عادت علاقته بابنته الأصولية من جديد!... طلب منها أن تقوده بسيّارتها إلى الخليل، في الأراضي المحتلّة. استغربتْ كثيراً لأنه قال سابقاً إنه «لن يضع قدماً في الأراضي المحتّلة!»...
يفتح تأويل عودة علاقتهما أسئلةً عدّة: أيعني أنه تخلّى عن قناعٍ كان يلبسه؟ أم أن ذلك يعني أن «الصهيونيّة الدينيّة» (هذا التحالف المعاصر بين الصهيونيّة ذات المرجعيّة غير الدينيّة، والأصوليّة الدينيّة المتصاعدة) هو مستقبل إسرائيل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق