رواية «قطة شرودنجر» أنموذجاً: الروايةُ أيديولوجيةُ العِلم؟
حبيب سروري
جليٌّ اليوم أن «الرواية مرآةُ المجتمع»، «العِلم روح المجتمع»، و«التكنولوجيا طوطم المجتمع»، كما يقال دائماً في مجتمعات عصر الحداثة...
حضورُ العِلمِ الحديثِ والتكنولوجيا في مرآة الرواية الغربية، لاسيما الفرنسية، يعكسُ دورهما الرئيس في حياة الناس، ويتّخذُ أشكالاً عديدةً متجدّدة، معظمها غائبٌ أو باهتٌ تماماً في الرواية العربية.
فالعِلم اليوم، منذ عصر الأنوار ثم الحداثة، خلق تحوّلاً جذريّاً كليّاً في حياة المجتمع الغربي، هيمنَ على الاقتصاد والسياسة والتعليم والعلاقات الاجتماعيّة والقيم الجماليّة أيضاً، وعلى رؤيةِ الأغلبيّة الساحقة من الناس للحياة والعالَم .
استولى في كلّ ذلك على نفس الموقع الذي احتلّته قبلَه الديانةُ المسيحية، عقب دخولها الامبراطورية الرومانية.
ليس غريباً في مجتمعٍ تتوالى فيه الاكتشافات العلمية؛ يسيطر فيه العِلم على التعليم كليّةً؛ تتواترُ فيه في كلّ المدن المحاضرات الشعبية العامة لِكبار العلماء، والفعاليات العلمية السنوية: أسبوع الدماغ، عيد العِلم... التي تحضرها جميعاً أفواجٌ كبيرة من السكّان؛ ليس غريباً فيه مثلاً أن يكون اختيار الناس لأهمِّ أحداث العام، أثناء الاستفتاء السنويّ الذي تنظّمه الصحف في نهاية العام، مُكرّساً دائماً لأحداث علميّةٍ جوهريّة (تجهل مدلولَها الأغلبيةُ الساحقة في بلداننا العربية).
فقد كانت نتائج الاستفتاءات الشعبيّة في بداية عام ٢٠١٣، عن أهمّ أحداث عام ٢٠١٢، على سبيل المثال: اكتشاف بوززن دو هيجز (الجُسيم الأوليّ الذي كلّف البحث عنه 40 مليار دولار ونصف قرنٍ من التجارب)، ووصول سفينة الفضاء كريوزيتي بمعدّاتها وروباتوتاتها المذهلة إلى المريخ للتأكّد من فرضيّة نشوء الحياة فيه قبل 4,2 مليار سنة!...
طبيعيٌّ أن الإنتاج الأدبي، لاسيما الرواية، لا يمكنه أن يغضّ النظر عن الدور المهيمن للعِلم في حياة الناس اليومية. فمنذ جول فيرن، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والروايةُ تعكس بِطرقٍ شتّى المعارفَ العلميّة واكتشافاتها الصاعقة المتتالية:
ليس فقط لأنها تحكي روائيّاً قصص الأفكار العلميّة واصطدامها بالأفكار السائدة وتفاعلاتها مع المجتمع، وليس فقط لأنها تسرد روائيّاً حياة الباحث العلمي العامة والخاصة، لكن لأنها تقدّم دوماً، في أنحاء مختلفة من النص الروائي، تأملاتَ الكاتب الكونيّة والفلسفيّة من وحي الأفكار العلمية...
ناهيك عن أن ثمّة نوعاً أدبيّاً قائماً بِحدّ ذاته يستثمرُ العِلم والخيال معاً: روايات الخيال العلمي...
غير أن اكتساح العِلم لرؤية الناس للواقع والحياة دخل اليوم مرحلةً أرقى منذ بدء اكتشافات الميكانيكا الكونتية (علم الجسيمات اللانهائية الصغر)، مروراً بالاكتشافات الفضائيّة والبيولوجيّة الحديثة وآخر تطورات علوم الدماغ، وانتهاءً بالعالَم الرقميّ الجديد الذي صار شِعاره: «وحيثما تولّوا ثمّة وجه التكنولوجيا» لِدرجةٍ لم يعد فيها ممكناً التمييز أحياناً بين الافتراضيّ والواقعيّ في حياتنا اليوميّة...
تعكسُ الروايةُ الغربيّة الحديثة هذا الاكتساحَ الجديد وتحاول أن ترتفعَ لِمستواه.
اللافتُ للنظر هنا هو أن الرواية الفرنسية الحديثة التي استوعبتْ وصهرتْ الأنماط الأدبيّة التقليدية كالشِّعر، ومارست أحياناً دوراً متعالياً عليها، لم تتوقف عن الانحناء المتواضع الدائم أمام العِلم الحديث، واعتبار نفسِها غالباً مجرّد أصدائه اللغوية لا غير!...
عبَّر عن ذلك جليّاً موقفُ مجموعة مجلة «تِلْ كِلْ» الشهيرة: «العِلمُ يُعيد صياغة الواقع، والأدبُ يُدخِل هذه الصياغة في اللغة، يلعبُ دور أيديولوجيتها»...
لعلّ هذا هو الرأيّ السائد الذي نجده اليوم في رؤية أهم الروائيين الفرنسيين. فعلى سبيل المثال يقول ميشيل أولبيك، أكثر الروائيين الفرنسين انتشاراً خارج فرنسا: «وحدهُ العِلم من يقول الحقيقة، وهذه الحقيقة تفرض نفسها على الأدب».
البطل الرئيس في روايته الثانية، «الجسيمات الأولية»، باحثٌ بيولوجيّ غيّرَ مجرى عصره.
كرّرَ هولبيك في روايتهِ الرابعة، «احتمال جزيرة»، التي تُعتبر امتداداً للثانية، رؤيتَهُ قائلاً في مقابلةٍ معه: «البيولوجيا مستقبل الإنسان» و«كلّ ما يسمح به العِلم سيتحقّق. حتى لو يعني ذلك التغييرَ البيولوجي لِما نسمّيهِ اليوم: الجنس البشري».
وعندما سُئِل: «لماذا تستمر إذن في كتابة الروايات بدلاً من العمل في مختبر أبحاث؟» ردّ: «أعمل ما تقدر عليه موهبتي. يؤسفني أن أقول إن الفن يُقدِّمُ صيغةً جماليّة للحياة، لا أكثر!».
من يقرأُ روايات جون دورميسون، رئيس الأكاديمية الفرنسية، يجد أنها غالباً إعادةُ صياغةٍ دائمة في قالبٍ شِعريٍّ فلسفيٍّ جميل لِشغفهِ الرئيس الثابت: تأمّلاته في نشوء العالَم منذ الإنفجار الكوني الكبير: «بيج بونج»، مفهومِ الزمن، الإله، التطورات البيولوجية للإنسان، اللانهائي الصغر واللانهائي الكبر...
تأمّلاتٌ فنيّةٌ أخرى حول نفس هذه المواضيع نجدها في معظم روايات فيليب سوليرس، أحد أهم الأدباء الفرنسيين المعاصرين، ولو في شذراتٍ أصغر حجماً من تأمّلات دورميسون، لكن بطريقةِ سوليرس الارستقراطية والخاصّة جداً...
بيد أن حصيلة روايات عام ٢٠١٢، كمثل، عجّتْ برواياتٍ كثيرة كان العِلم فيها شديدَ الحضور بأشكالٍ جديدة مختلفة. منها، على سبيل المثال فقط، رواية «نظرية المعلومات» (جاليمار، ٢٠١٢، الرواية الأولى لأوريليان بيلانجيه. لَخّصت، في ٤٩٦ صفحة، تاريخ المعلوماتية في الأربعة العقود الأخيرة في قالبٍ روائي مثير، قدَّمها للترشيح لجائزة الجونكور الشهيرة)، و«قطة شرودنجور»، الرواية السادسة للروائي الفرنسي المرموق فيليب فوريست (جاليمار، ٢٠١٣) التي تستحق عرضاً خاصّاً هنا لِموضوعها الفريد وأسلوبها الروائي الخالص في التعامل معه، الذي لا يحتاج من القارئ لأية ثقافةٍ علميّة خاصّة.
يلزم هنا توضيح إشكالية هذه القطة بكلمتين، قبل الحديث عن الرواية (وإن لا يحتاج قارئ الرواية لمعرفة تفاصيل هذه الإشكالية بالضرورة):
مثل تفاحة نيوتن وحمار جحا، قطةُ شرودنجر «تجربةٌ ذهنية» اخترعها عالِم الفيزياء الكونتيّة النمساوي الشهير إروين شرودنجر، ليجلي بشكلٍ مجازيٍّ بعض المفاهيم الجوهريّة في هذا العِلم الذي يخالف ويصدم غالباً توقّعاتنا الحدسيّة.
فالجسيم الأوليّ، كما اكتشف هذا العِلم، موجودٌ في نفس الوقت في حالاتٍ مختلفة، وباحتمالاتٍ رقميّة خاصّةٍ بكل حالة.
يُخالف ذلك الواقعَ الفيزيائي التقليدي الذي يوجد فيه الجسم في حالةٍ واحدة فقط: إما أن يكون المرءُ مثلاً داخل الغرفة المغلقة أو خارجها، وليس في الوضعين معاً...
تقتضي تجربةُ شرودنجر وضعَ القطّة في قفصٍ مغلقٍ لايمكن رؤية ما بداخله، وبجانِبها كميّةٌ ضئيلةٌ من مادّةٍ مشعّة، بحيث يمكن أن تتحلّل منها ذرّةٌ واحدةٌ خلال فترةٍ محدّدةٍ من الزمن.
تَحلُّلُ تلك الذرّة يقود، عبر جهازٍ خاصٍّ داخل الصندوق، إلى سقوط مطرقة على زجاجةٍ تحتوي على مادّةٍ سامة تخرج من الزجاجة وتؤدّي إلى موت القطة مباشرة!...
المهم هنا: القطة، من وجهة نظر الفيزياء الكونتيّة، في حالةٍ مركّبة من الحياة والموت خلال تلك الفترة الزمنية المحدّدة. لا يمكن تحديد مصيرها إلا بعد فتح المراقب للقفص ورؤية القطّة.
مربطُ فرسِ رواية فيليب فوريست: مفارقةُ هذه الحالة المركبّة من الحياة والموت، غير الممكنة في واقعنا الفيزيائي التقليدي...
في هذيانٍ روائيًّ بديعٍ حول هذه التجربة (لا يحتاج إلى أي ثقافة كونتيّة خاصّة)، يدوم ٣٣٠ صفحة، يتأمّل ساردُ الرواية في الحياة الإنسانية من وجهة نظر أن كلّ شيء فيها موجودٌ بأشكال متناقضةٍ ومتوحّدةٍ في نفس الوقت...
يدخل السارد في مغامرةِ بحثٍ روائيّ يُشبِهُ البحثَ عن قطّةٍ سوداء في ليلٍ حالكِ الظلمة. «ليس هناك أصعب من البحث عن قطّةٍ سوداء في ليلٍ بهيم»، كما قالت عبارة شهيرة لكونفوشيوس. «لا سيّما إذا كانت القطة غير موجودةٍ أساساً»، كما أضاف داروين!...
يقدِّمُ السارد أثناء هذيانهِ اللذيذ أشكالاً مختلفة من الثنائيات المتّحدة والمتناقضة معاً في لغتنا وحياتنا اليومية. يخترعُ أيضاً مرادفات بسيكولوجية وحياتيّة عديدة من نفس القبيل. يُعِيدُ رؤيةَ الحياة عبر «المنشور الضوئي» لِمفارقةِ هذه القطة وبالاستناد على مفهوم «الأكوان المتوازية» أيضاً...
يدخل السارد أيضاً في دماغ هذه القطة المسكينة، يتوغّل في «ميتافيزيقيا شوارب القطط»... يسرد أساطير القطط الصينية، يخترع أساطير صينية جديدة!...
لا ينسى أيضاً سردَ بعض جوانب حياة إروين شرودنجر الذي اشتهر بإدمانه العلاقات الغرامية الساخنة، والذي كتب «معادلة الموجة» الشهيرة، الجوهريّة جداً، في عطلة كريسميس عام ١٩٢٥، أثناء أيامٍ غراميّةٍ قضّاها في فندق تيرول بالنمسا...
لم يتوقف مؤرخو العِلم عن الهمز واللمز حول تلك الأيام حتى الآن، لِدرجةِ قولِ الكثيرين منهم إن الميكانيكا الكونتية (التي غزت اليوم جلّ أمتعتنا اليومية، من الهاتف المحمول إلى طابعة الليزر، مروراً بجهاز تنظيف الملابس) خرجَتْ من بين ملايات غرفةِ فندق، بعد علاقةٍ غراميةٍ فاجرة!...
خلاصة القول: حضور العِلم في نسيج الرواية الحديثة الغربية، لا سيّما الفرنسية، واسعٌ ومتعاظمٌ بأشكال مختلفة متجدّدة. في حين أن حضوره في الرواية العربية نادرٌ جدّاً، إن لم يبدُ في منظور الكثيرين جسماً غريباً لا محلّ له من الإعراب في الرواية.
حاولنا هنا عرض تجربةٍ روائيّة تنطلق من التأمّل الأدبي الخالص في تجربةٍ كونتيّة. لِتقودَ الروائي إلى عوالم شتّى تتداخلُ فيها مغامرات وأسرار اللغة اليومية، بأساطير القطط، «بميتافيزيقيا شوارب القطط»، بحياة السارد اليومية، والحياة الغرامية لِمخترع التجربة الكونتيّة: إروين شرودنجر...
كلّ ذلك في مغامرةٍ روائيةٍ ساحرةٍ (لا تحتاج من القارئ لأية ثقافة علميّة خاصّة) تؤكّدُ أن الروايةَ أيديولوجيا العِلم فعلاً، كونها قبل هذا وذاك: مرآة المجتمع. وأن التخييل الروائي كونٌ بلا حدود، يتّسعُ للعِلم والميتافيزيقيا والأساطير والحيوات اليوميّة في نفس الوقت...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق