الربع الأول من رواية: تقرير الهدهد
تقريرُ الهُدهد
رواية
حبيب عبدالرب سروري
لِنبيل سليمان
عيناه، مثل أشعة رونتجن، تخترقان الملابسَ، شعرَ البشرة، الجلدَ، الأنسجةَ والعضلات، لِتصلا إلى قعرِ كلِّ إشكالية...
ستيفان زفايج
اقترحتُ «للأعلى جدّاً» إرسالَ أبي العلاءِ للأرضِ، لِكتابةِ «تقرير الهدهد»، لِسببٍ يشرحُ نفسَه: اختزلَ أبو العلاء «هكذا تكلّمَ زرادشت»، قبل تسعة قرونٍ من نيتشه، بِبَيتين جذريّين، شديدَي الجوهريّة والنورانيّة، لا مراوغةَ فيهما أو غموض:
ولا تحسبْ مقالَ الرُّسلِ حقّاً ولكن قولُ زُورٍ سطَّروهُ
وكان الناسُ في عيشٍ رغيدٍ فجاؤوا بالمحالِ فكدَّروهُ
وكثَّفَ، بِنفسِ حدسِهِ العبقريّ الواحدِ الأحد، جوهرَ «أصلَ الأنواع»، قبل ثمانيةِ قرونٍ ونصف من داروين، بهذه الثلاثة أبيات ذات البصيرةِ الثاقبة:
1) والذي حارتِ البريّةُ فيهِ حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ
2) أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي بأنواعهِ، لا بوركَ النوعُ والجِنس!
3) جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!
من المذكرات الشخصيّة لأمينيائيل، مدير مكتب «الأعلى جدّاً»
الباب الأول
مقهى الكوكبة، السماء 77، 31 كانون الأول 2008
1
أبو العلاء 007
أمام أهمِّ وأكبرِ متاحفِ السماءِ السابعةِ والسبعين يقع أشهرُ مقهى!... يُسمِّيهِ أهلُ تلك الديار: «مقهى الكوكبة»!...
السبب: ستّةٌ من أعظمِ مُبدعي وعباقرةِ كوكبِ الأرض يرتادونه كلّ يوم: داروين، اينشتاين، كارل ماركس، فرويد، بيكاسو، وأبو العلاء المعرّي!...
أخيرُهم هذا (الذي عاش قبلهم بأكثر من 800 سنة) وُلِد لسوءِ الحظِّ في أمّةٍ غافلة، لم تُدرِّس كتبَهُ في مدارسِها وجامعاتِها، لم تحتفلْ به، لم تُشيّد تماثيلَهُ في أبواب الجامعات، وفي أعلى الهضاب...
لم تلتفِت لِمشروعهِ لحظةً واحدةً على الأقل!...
ما أحمقها: لو صعدَتْ على كتفيهِ السامقين لَرَأتْ أبعدَ وأفضل... لَشاهدَتْ ما وراء السياج، ما وراء الأفق!...
يرتادهُ آخرون أيضا بين الحين والحين، بينهم أرسطو، نيوتن، جاليلو، نيتشه، ماري كوري، هوميروس، كونفيشيوس، شكسبير، ديكارت، طاغور، مفكريّ عصر التنوير الفرنسيين، عمر الخيام، فيكتور هيجو، بيتهوفن، ابن رشد، المهاتما غاندي، فيثاغورس، أراجون، ابن المقفع، افلاطون، رامبو، أنديرا غاندي، سلفادور اليندي، سن تزو، باتريس لوممبا، اقليدس، سلفادور دالي، بوشكين، كافكا، موزار، تشي جيفارا، ابن عربي، أرخميدس الإسكندراني، هيجل، كوبكرنيكس، آلان تورنج، هيراكليت، جودل، باخ، بابلو نيرودا، أروين شرودنجِر، ابن سيناء، ستيفان زفايج، دانتي، كانت، روزا لوكسمبورج... وكثيرٌ من كبار عظماء الأرض الذين يعبرون الزّمن باتجاه الأبديّة!...
غير أن داروين (مكتشفَ أصل الأنواع)، اينشتاين (مكتشفَ طبيعة الزّمن وعلاقة المادة بالطاقة)، ماركس (مكتشفَ دور المال في حياة البشر، صاحب الماديّة الديالكتيكية و«مهمة الفلسفة تغيير العالم بدلاً من الاكتفاءِ بتفسيره»)، فرويد (مكتشف خبايا النفس)، بيكاسو (محرّرَ اللوحة من سجن الواقع)، وأبا العلاء (فيلسوفَ الشعراء وشاعر الفلاسفة) هم أكثرُ من يحجُّ في المقهى بانتظام، كلّ عصر! لهم طاولةٌ خاصةٌ محجوزةٌ باسمائهم في بلكونتهِ على الدوام!...
«ستّة قتلة»، كما يُسمِّيهم سكان السماء 77: داروين (قاتل الميتافيزيقيا)، اينشتاين (قاتل الزّمن المطلق)، ماركس (قاتل نوم الفلاسفة)، فرويد (الذي أطلق النار على القفل الذي يغلق اللاوعي)، أبو العلاء (مفجّر الديناميت في أرضِ اللاعقل والأكاذيب الكبرى)، بيكاسو (مدمّر سجن الواقع في الفنّ التشكيلي)!...
يا لِجلالِ مقهىً كهذا ترتادهُ أرهبُ عقولِ البشريّة من فجر التاريخ، زبدةُ الفكرِ والعِلمِ والفنِّ، يتحدّثون في كلِّ شيء ولا شيء، بتلقائيةٍ وحيويّةٍ وتفاعلٍ جماعي، بلا عُقَد، بلا ترسيمات، لا يلتزمون لأحدٍ أو لشيء بعد أن أداروا أظهُرَهم لِكثيبِ الحياة!...
ذات عصرٍ بهيّ، قبل وصولِ أبي العلاء لِيتناول مع بقية شُلّةِ الكوكبة كأساً من أعتق الخمر الشعشعاني ذي الشذى العسجدي، الذي ينسابُ أنهاراً وجداول في كل شوارع وشعاب السماء 77، كان أروين شرودنجِر (الذي عاش عاشقاً محموماً، مهووساً بالحمّالات) يحكي أسرار تفاصيل عطلة كريسميس عام 1925 التي قضّاها في فندق تيرول في النمسا، والتي لم يتوقّف بعض المؤرّخين حتى اليوم عن «الهمز واللمز» حول يوميّاتها!...
ما لا يجهلهُ أحدٌ تقريباً: قضّى مجنونُ الحمّالات في الفندقِ أياماً غراميّةً ملتهبةً جدّاً، خرجَ منها لِيكتبَ معادلةَ الموجات الشهيرة (إحدى أهمِّ معادلات الفيزياء وأكثرِها جوهريّةً وتعقيداً) بكلِّ تفاضلاتِها ومؤشراتِها ومتغيّراتِ دالّاتها التي تكشف العلاقةَ بين الطابع الماديّ والموجيّ، في ثنائيتهما المزدوجة، لالكترونات الذرّة!...
ما لا يعرفهُ إلا روّاد «مقهى الكوكبة» فقط: تفاصيل يوميات تلك العطلة التي أوحتْ له بتلك المعادلةِ الرهيبةِ العميقة، وكيف امتلأ قبلها جسدُهُ بالموجاتِ الناعمةِ العميقةِ الرهيبةِ أيضاً، التي استطاعت أن تجعلَ رأسَ سنة 1925 عيداً خالداً أبديّاً للفيزياءِ الكونتية والعِلمِ الحديث، والعشقِ المحمومِ في نفس الوقت!...
عيد الموجات!...
اختتم شرودنجِر فضفضتَهُ قبل أن يُطلَّ أبو العلاء على المقهى. وصلها الأخير ليُلاحظَ أن الكوكبة ليست أكثر من شُلّةِ مراهقين جرَّتْهم حكاياتُ أروين شرودنجِر لبعض الانزياحات الذكورية الطائشة!...
ما إن وصلَ أبو العلاء، إلا ورأى على تلفونه اسم امينيائيل!...
فتح رسالة الإس إم إس التي فاجأتْهُ في الصميم:
((عزيزي أبا العلاء! نحتاجك في مهمَّةٍ عاجلة: السفرُ إلى الدار الفانية، للحياةِ فيها عمراً جديداً، ولِكتابة تقريرٍ عن أوضاعها الراهنة، لاسيما عمّا يدور في بلاد العرب التي لا يفهم أحدٌ هنا كيف وإلى أين تسير!...
سيكون اسمهُ التقني «تقرير الهدهد»...
ما رأيك؟
لك أفضل الشكر والأمنيات بالتوفيق والسعادة!
أمينيائيل))...
نظر أبو العلاء إلى تلفونه ليتأكد أن تاريخ اليوم (31 ديسمبر، كانون الأول، 2008) ليس الفاتح من إبريل بتقويم الأرض!... ضحك ساخراً!...
ثم دوَّتْ قهقهتُهُ وهو يستوعبُ أخيراً أنه لم يستلم أقلّ من طلبٍ بالسفر إلى كوكبٍ مات فيه قبل حوالي ألف سنة، يبعد عنه مليارات السنين الضوئية، لبدء حياةٍ جديدةٍ هناك!...
أثارتْ جلجلةُ نوبةِ ضحكهِ رفاقَه وهم في اصطخابِ فرفشتِهم التي ألهبتْها قصصُ شرودنجِر!... حاولوا تهدئة أبي العلاء بكلِّ الوسائل، عبثاً!... أقلقهم طولُ نوبتهِ غير الاعتيادي، وتطوُّرها المتصاعد...
لجؤوا للحلِّ القيصري: عضّ فرويد واينشتاين الأذنَ اليسرى واليمنى لأبي العلاء، عطَف ماركس يدَ أبي العلاء اليُمْنى، شدَّ داروين لحيتَهُ، فيما تنحّى بيكاسو لِيرسمَ المنظر بمتعةٍ هائلة!...
هدأ أبو العلاء أخيراً، سوّى شعرَه الطويل ورتّبَ لحيتَهُ المدعوكة، استعادَ هدوءه شيئاً فشيئاً، تمتم: «مداعباتُ أهل السماء تختلف كثيراً عن مداعبات أهل الأرض!»...
عندما سأله رفاقه في الكوكبة أن يشرحَ عِلّةَ قهقهته المفاجئة، ويُفسِّرَ عبارتهُ التي تسخرُ من مداعبات السماء 77، قرأ لهم إس إم إس أمينيائيل!...
لم يشاركه سخريّتَهُ من هذه المهمة أحدٌ!... بدا على ملامحهم جميعاً تفهّمٌ شديدٌ لهذا المقترح الربّاني الحكيم، وإعجابٌ صامتٌ أيضاً!...
زاد استغرابُهُ وخيبتُهُ عندما عبّروا له عن نوعٍ من الغِيرة «الايجابية» (على حدّ تعبير فرويد)، لأنهم يحترقون شوقاً لمعرفة أخبار «القرية» كما يُسمُّونَ كوكبَ الأرض الذي يقضّون معظم وقتهم في لوكِ ذكرياتِهِ والتنظيرِ لمستقبلِه في كل المجالات، باستثناء ماركس الذي لا يفكّر إلا بتغييره!...
ترتبطُ تلفونات السماء 77 بالدماغ مباشرة عبر «بلوتوث 77»: ثمّة في كل هاتف برنامجٌ يجيد تشفيرَ التيارات الكهروكيميائية في عصبونات الدماغ، وقراءةَ الأفكار والعبارات التي تتكوّن فيها، ثمّ نقلَها كإس إم إسات إلى الهاتف مباشرة!... يكفي أن يصيغ المرءُ في دماغِهِ عبارةً ما، لِيجدها حالاً مكتوبةً في شاشةِ الهاتف!...
بعث أبو العلاء لأمينيائيل، عبر بلوتوث 77: «هل تسخر مني عزيزي أمينيائيل؟»...
- لماذا تقول ذلك، حبيبي؟، ردّ أمينيائيل بالإس إم إس حالاً!...
- أنت أكثر من يعرف أني جرجرتُ ثمانين عاماً في «وادي الدموع» أشتاقُ للموت، أنتظر «وصول عزرائيل» بباقةِ وردٍ كبيرة، فتحتُ له ذراعي بِفارغِ اللهفةِ والصبر! حلمتُ منذ طفولتي في الحقيقة أن أغادرَ «الفانيةَ» دون رجعة، بأسرعِ ما يمكن!... كان الخلاص منها حلمي الأوّل!... ثمّ تطلب منّي اليوم، بكلِّ برودةٍ وجَدّ، أن أعود إليها لبدءِ حياةٍ جديدة!...
تنفَّس أبو العلاء عميقاً جدّاً، ثم أضاف:
- «ذا كلام؟، عزيزي الغالي أمينيائيل!»...
ردّ أمينيائيل سريعاً:
- أعرف ذلك، لكنك لن تعود إليها ضريراً هذه المرّة! ستكون سعيداً برؤيةِ ضوئها الذي طالما افتقدته! ستشعر ببهجةٍ لا حدّ لها وأنت ترى الألوان والحياة والبشر!...
- لا أفهمك عزيزي أمينيائيل!... أنت أكثر من يعرف أني لم أخضع لأحد عندما كنتُ في أرض البوار! دفعتُ حينها ثمن حريّتي: انعزلتُ نصف قرن كي أعيش حرّاً في «سجني الثالث»!... لكني متُّ حرّاً أيضاً: لم أمدح سلطاناً أو أتقرّبَ لِحاكم، لم أنافق، ليس عليّ فيها دَينٌ لأحد!...
واليوم تطلب منّى أن أضع حريّتي في جيبي، أن أنفِّذَ أمراً عسكريّاً أو تكليفاً حزبيّاً: كتابة تقرير استقصاء حقائق، أو شيء من هذا القبيل، عن شعوبٍ عربيّةٍ تغرقُ في وحلِ الجهلِ والظلمات، داخل كرةٍ أرضيةٍ تهرول نحو المجهول!...
عفواً عزيزي قائد جيش الملائكة: ابحثْ لكَ عن فدائيٍّ آخر! لستُ أبا العلاء 007 الذي تحتاجه!...
- لعلي لم أشرح نفسي كما ينبغي حبيبي أبا العلاء: لا نودُّ أن تكتب تقريراً حزبيّاً، وليس في الأمر تكليفٌ عسكري!... هذه مهمّةٌ أدبيةٌ بحتةٌ في الأساس! مغامرةٌ أدبية لا غير!...
- أدبيّة؟ أتسخرُ منّي؟... ردَّ أبو العلاء في إس إم إسٍ مارقٍ وصل أمينيائيل في لَمحة بصر!
- نعم، هي أشبه بكتابة «رسالة الغفران» التي سردتَ فيها رحلة إبن القارح إلى الجنة والنار وتحاورتَ خلالها عبرهُ مع كوكبةٍ من نجوم الأدب الجاهليّ والإسلامي (والتي حاكاها دانتي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، واعٍ أو غير واع، عندما كتب «الكوميديا الإلهية» وهو يصفُ رحلتَهُ إلى الجنة والجحيم مع الشاعر اللاتيني فيرجيل، الذي رأى خلالها شخصيّات ميثولوجية وتاريخية شهيرة)! لكنها رحلةٌ عكسيّة هذه المرة، من السماء إلى الأرض!...
ألا يناسبك هذا التميّزُ الجديد؟...
- تريد أن تقول: «من دنيا الخلود إلى المقبرة»، من «عوالم الحرية إلى المستنقع»، من «السناءِ الأبديّ إلى "أمِّ دفر"»؟...
لا، ثمّ لا!...
لا يناسبني ذلك، عزيزي أمينيائيل!...
تعرف أني إنسانٌ حرٌّ، يكتب ما يحب! لا تهمني في الكتابة إلا المواضيع التي أعشقها: التأملُ في الدهر، البحثُ عن أصل الحياة، تفكيكُ أكاذيب الأديان، الاحتفالُ بالعقل وحده لا شريك له، اقتراحُ نموذجٍ أخلاقيٍّ راقٍ للإنسان، نَقْشُ عرجنات الطبيعة الإنسانية...
لا تُهِمُّني قبل هذا وذاك إلا الكلمات: أنا صيّادُ كلمات، نحّاتُ كلمات، بائعُ كلمات، مجنونُ قوافٍ وإيقاعاتٍ جديدة!...
كيف تطلب مني مع ذلك تقريراً تجسُّسيّاً عن أوضاع الأرض عامة، وبلاد العرب خاصة؟...
- اكتبْ ما تحب، كيفما تحب!... تعرف أن «الأعلى جدّاً» ينبوعُ الحريّة والأنوار!... سنقرؤك بطريقتنا، هذا ليس من اختصاصك!... يكفي أن تبعثَ يوميات حياتِك هناك، أن تسردَ آراءك في كل شيء ولا شيء، كما تخطر ببالك! وعلينا ما تبقّى!... لدينا في السماء السابعة والسبعين دواوينُ ومكاتبُ دراساتٍ وأبحاثٍ وتفسيرٍ متخصِّصةٌ ناجعة!...
إعلم عزيزي أبا العلاء: اقترحتُكَ لأنك مهووسٌ دوماً بالبحث عن الجذر، تتّجِهُ مَطْرَقيّاً نحو العِلّةِ والباطن، نحو سبرِ الأغوار دون مواربة، تستخدمُ بذكاء، في كلّ ما تقول، العقلَ والتساؤلَ والشكَّ والتجريد! لهذا اقترحتُك!... يكفي أن تظلّ في حياتك الجديدة أبا العلاء الحرّ، كما أنت دوماً، أن تحيا وتكتب كيفما تريد!...
لم يرُد أبو العلاء مباشرةً، كعادتِه! شعرَ أمينيائيل أن كلماته تفعلُ فعلَها في وجدانِ أبي العلاء. أراد ساعي بريدِ «الأعلى جدّاً» أن «يضرب الحديدَ وهو ساخن»، واصلَ على نفس الإيقاع:
- اعتبرْ عُمرَك الثاني هذا «لَحْقَةً» حرَّةً على هامشِ الحياة: حياتُكَ الأولى كافيةٌ لعبورك الزّمن. قبرُكَ في الأرضِ مفتوحٌ على الأبديّة!... التزمتَ في عُمرِكَ الأوّلِ بما لا يلزم، وربما تقرر أن لا تلتزم في الثاني بما يلزم، أنت الذي تهوى تجريب كل قوافي الشعر وإيقاعاته!...
ثمّ ألا تجد، عزيزي أبا العلاء، في هذه المهمة بُعْداً أدبيّاً نادراً تتحققُ فيه رغبتُكَ (بطريقةٍ فنيّةٍ لم تخطرْ ببالك) في أن يسميك الناس: «أبا النزول»، أنت الذي قلتَ:
دُعيتُ «أبا العلاءِ» وذاك مَينٌ ولكن الصحيحَ «أبو النزول»!
أُفضِّلُكَ شخصيّاً في تواضع هذا البيت وخفّة روحِه على شطحاتِ أبيات ريعانِ شبابك التفخيمية (مثل «وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانهُ/ لآتٍ بما لا تستطيعُ الأوائلُ»، أو ذلك الذي «افترشتَ فيه الجوزاء بساطاً لك»)...
قاطعهُ أبو العلاء (الذي لا يُحبُّ أن يُتَّهمَ بالغرور) باعثاً له هذه العبارة التي قالها نيتشه، على لسانِ زرادشت، بعد تسعِة قرون من أبي العلاء:
«أمّا أنتَ يا زرادشت، فإذا ما كنتَ تريدُ أن ترى علّةَ الأشياءِ وباطنَها، فعليك أن تتسلّق مُرتَقياً فوق نفسك، قُدُماً، صعوداً، إلى أن تغدو نجومك ذاتها تحت منزلتِك!»
- آه، عفواً، ربما لم تكن شطحات، كما قلتُ! (كم تجيدون معشر الشعراء إخراج أنفسكم من المآزق!)... لا يهمّ كلّ ذلك الآن!...
إليك الأهم عزيزي أبا العلاء: أمام أبي النزول عمرٌ جديدٌ يستطيع أن يحياه كما يهوى!...
حكى أبو العلاء لِشُلَّةِ الكوكبة حوارَهُ مع أمينيائيل. ثمّ تنحّى قليلاً، ومكث يفكّر وحدَهُ بصمت!...
همس فرويد في أذن بيكاسو: «ما أدهى ساعي بريدِ الأعلى جدّاً وهو يستشهدُ بأبيات أبي العلاء أمامه! يحتفلُ بِخلوده، يُدغدِغُ نرجسيّتهُ وينتقدُهُ بودّ! يُغازِلُهُ بلقب "أبي النزول"، بمدلولٍ حَرْفيٍّ جديدٍ فاجأ أبا العلاء!...»
همسَ داروين في أذنِ اينشتاين:
«كم يعرف قائدُ جيش الملائكة ومديرُ مكتبِ الأعلى جدّاً نقاطَ ضعف الطبيعة الإنسانية، وكم يُبرِعُ في فنِّ المفاوضة!...»
علّق كارل ماركس في آذان رفاقِهِ الأربعة (لم يصغِ أبو العلاء لأحاديثهم):
«ما أبرعَهُ في فنّ العلاقة الديالكتيكية بين الإستراتيجية والتكتيك!... كم يجيدُ الوصول خطوةً خطوة، إلى تحقيق هدفه بانتهازيّة وذكاء! لا يألو جهداً لذلك في مداعبةِ مُحاورِه، في أن يشتريه بلُعْبَةِ الكلماتِ كما يهوى، في أن يستولي على وجدانه!...»
ثمّ دخل أبو العلاء في حوارٍ طويلٍ مع رفاقِ الكوكبة الذين شجّعوه على تنفيذ هذه المهمة الاستثنائية جدّاً، «المثيرة» كما قال اينشتاين، «الممتعة» كما قال بيكاسو، التي «تحتاج إلى استعدادٍ بسيكولوجيٍّ خاص» كما قال الدكتور فرويد بنظراتٍ تُجسِّمُ قلقَها عدساتُ نظّارتهِ الدائريةِ السوداء...
ينتظرون جميعاً نتائجَها بفارغ الصبر، كما قالوا معاً!...
طلب كلُّ واحدٍ منهم من أبي العلاء أن يعود له بإجاباتٍ على أسئلةٍ محدّدة، وبأشياءَ خاصةٍ كثيرة!...
«احمل لي عند عودتك من هناك عيّنات من الأنواع البيولوجية الجديدة، وقائمةً من الفراشات التي كُنتُ أهوى جمعَها في فجر شبابي!»، طلبَ داروين...
«احمل لي آخر أبحاث توحيد النظرية النسبية بالميكانيكا الكونتية، وَكُلّ سيدي رومات فيفالدي»، قال اينشتاين!...
طلب فرويد قائمةً طويلةً من الأشياء الصغيرة، لاسيّما أنواعاً من السيجار الذي يحبُّه، وتماثيلَ أركيولوجية قديمة كَتِلكَ التي كان يهوى تجميعها في الأرض!...
أما بابلو بيكاسو فقد طلب منه صوراً كثيرة لبعض مقاهيهِ المفضّلة، الشوارع التي عاش فيها في باريس، القصرَ الذي اختتم به حياتَه أسفل جبل سانت فيكتوار بفرنسا، وصوراً لِبعضِ اللوحات الانطباعية لِسيزان، عن جبل سانت فيكتوار، اقتناها هواةٌ روس في بداية القرن العشرين ولم يرها بيكاسو حتّى اللحظة!...
ماركس، الذي يسمّي أبا العلاء: «الرفيق أحمد»، ويعتبر أن أفضل ما قاله هو:
تشابهتِ الخلائقُ والبرايا وإن مازتْهمُ صورٌ رَكِسنَهْ
و «جَرْمٌ» في الحقيقةِ مثل «جَمْرٍ» ولكنَ الحروفَ بهِ عُكسنَهْ
غِنى زيدٍ يكونُ لِفقرِ عَمْرٍ وأحكامُ الحوادثِ لا يُقسْنَهْ
وهذا البيت أيضاً (الذي لو كان يعرفهُ في حياتِهِ الأرضيّةِ الأولى لاقترحَهُ شعاراً لمؤتمرِ الأمّميّةِ الأولى):
لو كان لي أو لغيري قيدُ أنملةٍ فوق التراب لكان الأمرُ مشتركا!
قال له: «أبعث لي من هناك أخباراً تفصيليةً عاجلةً عن تطوّرات أوضاعِ الرأسمالية وأزماتها، عن استراتيجيات وبرامج قوى الشغيلة في مطلع الألفية الثالثة، عن تقارير المؤتمرات الأخيرة لكلّ الأحزاب الشيوعيّة والعمالية والتقدميّة في العالم!»...
ردّ أبو العلاء عليهم جميعاً: اللعنة! قلتُ لكم قبل قليل: «لن أذهب!... لن أذهب!»...
ثمّ أرسل لأمينيائيل ردَّهُ النهائي:
«ردّي القاطع لمقترحكم، عزيزي أمينيائيل: لا!
لاءٌ مربّعةٌ صريحةٌ لا تقبلُ التفاوض!...
أرجوكم قبولَ عُذري، وعدمَ إزعاجي مجدّداً بمثلِ هذه الدعوة!...»
ليس أمينيائيل من النوع الذي ينهزم بسهولة!...
يمتلك دوماً أوراقاً رابحةً خفيّة!...
الباب الثاني
أبو العلاء وهند يلعبان الشطرنجَ في جهنم بِقِطَعٍ من جَمْر!
2
هند وأبو العلاء في مباراةِ شطرنج
في حنايا إحدى تلميذاتهِ أودعَ الشاعرُ الضريرُ الذي قِيلَ إنه قال:
هذا جناهُ أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد
جنيناً صغيراً في غاية الحسنِ والعذوبة، اسمهُ: نُور، جدّتي الثانيةَ والثلاثين (عطّرَ اللهُ ثراها، وأسكنَها قصراً يُطِلُّ على أسنى حدائقِ جنّاتِه!)...
كانت هِنْدُ أذكى وأجملَ تلاميذ «فيلسوفِ الشعراء وشاعرِ الفلاسفة» أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي، المُكنّى بأبي العلاء المعري، وأكثرهم جدلاً وخلافاً معه. أكثرهم عشقاً له بالتأكيد، وأقربهم إلى قلبِ أمِّه!...
قبل توجُّهِها لمجلسهِ الدراسي تبدأُ هِنْدُ دوماً بتقبيلِ يدِ أمِّ أبي العلاء ورُكبتِها، تودِّعُها بقُبلةٍ على جبينها قبل المغادرة. تأتي لزيارتِها بين الحين والحين، لمساعدتِها في الشئون اليومية الصغيرة، لتبادلِ البوحِ معها، ولما تيسّرَ من الشجونِ والثرثرة...
كانت هِنْدُ تجيدُ انتقاءَ اللحظةِ المناسبة، وهي بصحبةِ أمِّ أبي العلاء، لِتتحدّى أستاذَها خوضَ مباراة شطرنج!...
اشتهر الشاعرُ الضرير بأنه «لا ينهزم في الشطرنج من بصير»، و «لا يوجد ضريرٌ في عصر العباسيين يلعبُ الشطرنج عداه»!... يترنَّحُ أمامه الجميعُ بسرعةٍ غير طبيعية، ينكسرون بسهولةٍ مقرفةٍ (تناسبُ مزاجَهُ تماماً)!...
تحبُّ هِنْدُ طقوسَ معركتِها مع أبي العلاء على رقعة الشطرنج. تجدُ لذّةً عنيفةً وهي تراهُ يرصُّ قطعَ الشطرنج الافتراضي على طاولة دماغه، يراقب ذهنيّاً حركات وسكنات بيادق وضباط جيشَيْه فرداً فردا!...
تعرف أنه لا يستطيعُ تمثُّلَ هيئةِ قطعِ الشطرنج، مثلما لا يستطيعُ تمثُّلَ كلِّ الأشياءِ والألوان تقريباً: أصابهُ مرضٌ في صباه، وهو في نهاية الثالثة من العمر، وأطاح بنظره. لم يبق في دماغِهِ من ذاكرةِ الأشياء إلا اللونُ الأحمر: لونُ قميصِهِ الزعفرانيّ الذي كان يلبسه أثناء مرضه، قبل أن يغرق في بحر الظلمات!...
يستبدلُ كلَّ قطعةِ شطرنج في دماغه بِكَلمة، يستبدلُ كلَّ مربعٍ على رقعة الشطرنج بِكَلمة! المباراةُ قصيدةٌ ديناميكيةٌ مُربّعة، تتحرّكُ كلماتُها على أرضٍ من الكلمات، تتقاتلُ وتتساقطُ في ليل الكلمات!... ربما لذلك يجدُ سهولةً خاصة، تثيرُ إعجابَ معارفه، بِتذكُّرِ «نصِّ» كلِّ نقلاتِ مبارياته مع هِنْدَ أو مع غيرها (بعد أيامٍ من المباراة!) نقلةً نقلة، بيتاً بيتا!...
الأشياءُ، كلُّ الأشياءِ، تتماهى في فضاءِ دماغِهِ مع الكلمات. لا توجدُ فيهِ إلا ككلمات. كلماتٌ بعضُها فوق بعض، تتناثرُ، تضيءُ وتتغامزُ كنجوم!...
لا يختلفُ في ليلِ دِماغِهِ «الدُّجى» عن «الصبح»، «الشمسُ» عن «السّها»، «الشهبُ» عن «الحصا»، إلا اختلافَ أحرفهما... ومع ذلك لا يفوتُهُ تضادُّ هذه الثنائيات، هو الذي يقول:
فوا عجباً كم يُدَّعى الفضلُ ناقصٌ ووا أسفاً كم يظهرِ النقصُ فاضلُ!
وقال السّها للشمسِ: «أنتِ ضئيلةٌ!» وقال الدُّجى للصبحِ: «لونكَ حائل!»
وقال السّها للشمسِ: «أنتِ ضئيلةٌ!» وقال الدُّجى للصبحِ: «لونكَ حائل!»
وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً وجاوزتِ الشهبُ الحصى والجنادلُ
فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ!
فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ!
فيما انقلبَتْ هذه الثنائيات رأساً على عقِب في أعينِ المُبصِرين الذين شوَّشهم أو أعماهم بريقُ الواقعِ والتماعاته، وغشاهم سرابُه وأضاليلُ فخاخِه!...
لا شيء في الوجود يستحوذُ عليهِ مثل الكلمة! وأهمُّ كلمةٍ بالنسبة له كلمةُ: «كلمة»!... تليها كلمة: «كابوس»، التي تعني في قاموسهِ بكلِّ بساطة: «أمّ دفر» (أمّ النتانة)، أي: «الدنيا»، وادي الدموع!...
أمّا أجملُ كلمةٍ في ناظريه فهي قطعاً: «نور»!...
*****
تُحدِّقُ هِنْدُ بتأمّلٍ عميق في لِحيتهِ الكثّة الملساء، في قامتهِ النحيفةِ السامقة، في شَعرِهِ الفضّي السلِسِ الطويلِ المنفوش (الذي لم يره، بسبب العمامة، أحدٌ عدا أمَّه وهند، وكاتبَهُ بين الحين والحين)، في جبينهِ المضيء، وفي جمالِ قسماتهِ المفعَمَةِ بِسمُوٍّ وكياسةٍ وفطنةٍ ونُبلٍ يتناسبُ ومقامه!...
عيناهُ صامتتان تماماً، يطمسهُما إلى الأبد حزنٌ رماديٌّ لا يتزحزح، وظلالُ مرضٍ غادرٍ سحيق!... يعلمُ الله كم تشتاقُ هِنْدُ دوماً لتقبيلهما!...
تعتقدُ أحياناً أنه يلزمُ أن تُقبِّلَهما دون توقّف، برقّةٍ شديدةٍ، سنةً كاملة، ليعودَ إليهما النظر، كما فعلَ قميصُ يوسف عندما رُمِيَ على عينَي أبيهِ يعقوب «فارتدّ بصيرا»!... (يشاركُها نفس الاعتقادِ وإن تمنّى أن يلتصقَ قميصُ قبلاتها بِعينيهِ زمناً أطولَ بكثير!)...
تُحدِّقُ به، تُحدِّقُ حدّ الذوبان! تجيد الإصغاء لِصمتِه. تلتقطُ، تقرأُ، تُفسِّرُ كلَّ نبراته. تشربُ كل عباراته، وتدوِّخُ عند أي مزحةٍ ساخرةٍ لطيفةٍ، أو تعليقٍ رقيقٍ يفوحُ منه...
تعشَقُهُ بالجملةِ والتفاصيل!...
يقول لها وهو ينظر باتجاهها كما لو كان يراها:
- فضلاً دعي، لو سمحتِ، الفارسَ الأسود ينتقلُ من موضعهِ في ثالثِ أعمدةِ الخط الرابعِ ليقفَ خلف القلعةِ البيضاء، «خلفَها تماماً»!...
تفلتُ منها أنّةُ ضحكةٍ بريئة، خجولةٍ وصغيرةٍ جدّاً، وهي تسمعه يقول «خلفها تماماً»!...
تتساءل، وهو «ينظر» باتجاهها: كيفَ يراها؟ كيف تروق له؟ أهي أيضا بالنسبة له كلماتٌ لا غير، «قلعةٌ بيضاء» يُسقِطُ قلبَها ألف مرةٍ كلّ يوم، لا يجدُ سعادتَه إلا عندما تختفي في أحضانه. عندما تمسُّ أطرافُ أصابِعِهِ خصرَها الرشيق الذي يُفَجِّرُ كلَّ رغباته. عندما تُقبِّلُ شفتاهُ كلَّ تماوجات عمودِها الفقري، فقرةً فقرة. عندما تهيمُ في كلِّ قامتِها الهيفاء بِبطءٍ ونعومةٍ وتقديس. عندما يشربُ أنفاسَها، عندما يكون أمامها تماماً، فوقها تماماً، تحتها تماماً، داخلها تماماً، خلفها تماماً؟...
تعرف هِنْدُ، مثل والدتِه، كم يحبُّ الجمال، وكم لن تطيب له في الحياة إلا أحضان جميلة!... تُدركُ أنه يعرفُ تماماً أنها جميلة جداً!... لكن ماذا تعني كلمة «جميلة» لِضرير؟... ماذا تعني، بحقِّ السماء، هذه الكلمة؟... أيُحِبُّ أن تكون فتاتُهُ شديدةَ الجَمال، فاتنةً جدّاً، لمجرّدِ اشتهاءِ ما يشتهي الآخرون، دون أن يدرك ما تعني تلك الكلمة؟...
طالما رسمَتْ له أمُّهُ هِنْدَ بالألوان (تعرفُ حساسيَتهُ لأسماء الألوان، وفرطَ حزنِهِ لِعدم تذكُّرِ لونٍ آخر غير الأحمر):
- هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!...
- صِفي لي، أمّاهُ، لونَ العسل؟، يقاطعها...
يُهمُّهُ لونُ العينين والأسنان كثيراً! يفتقدُ رؤيةَ الألوان والنورِ (منبعِ الألوان) أكثر ما يفتقدُ في هذه الحياة!... طعنَتْهُ الحياةُ في الظَّهر عندما حرمتهُ من النور! يشعر أن لا أحد في الوجود يعرفُ مثله قيمة هذه الكلمة: «نور»!...
يشعرُ بنوعٍ من القهر عندما يراها تُلفَظُ بابتذال في أحاديث عابرة. ناهيك عندما يسمعُ «نورٌ على نور» تُردَّدُ بسطحيّة، هو الذي يُدركُ بِعمقٍ ما تعني «ظلماتٌ بعضُها فوق بعض»!...
كم سأل أمّهُ في طفولتهِ كثيراً عن أصناف الألوان وتنوّعِها!... إجابتها لا تُفارقُ وجدانَه لحظةً واحدة، يُسمِّيها «سورة الألوان»:
- الألوانُ تكسو الكونَ يا ولدي، تمنحهُ جمالَه! لو كان للكونِ لونٌ واحد لكان قاحلاً حزيناً جدّاً، بِلونِ الموت!...
لِلورودِ والأزهارِ ألوانها. لِفقاعةِ الماء، لِعُنِقِ الببغاء، لِريشِ الطاؤوس، لِلْحيّةِ المُرقَّطة ألوانها!...
لِجناحِ الفراشة، لِلسمَك، لِشُعَبِ المرجان، للقشريّات الملتمعة، لِمساحيق الخضاب، لِلأفق عند الغروب، لِقوسِ قزح ألوانُها الخاصة!...
هاهي أمُّهُ، بعد ربعِ قرنٍ تقريباً من «سورة الألوان»، تضيفُ لها آيات جديدةً اسمها هند، تنقشُها بألوان ساحرةٍ متألقة، تحفرُها في مركزِ دماغه وهي تقول:
- هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!...
آه، كم تعرفُ أمُّهُ كيف تشعلُ بالألوان أحاسيسَه ورغباته، كيف تشتريه بها!...
*****
«هِنْدُ ذات جَمالٍ جهنميّ!»، قالت لأبي العلاء ذات يوم أمُّهُ التي تعرف كم يسخرُ من جَمال حوريات الجنّة، كما سرَّبهُ بذكاءٍ في «رسالة الغفران»، لاسيّما عندما صوَّر، في فصل «شجر الحور»، شهوةَ أحد ساكني الجنة (ابن القارح) وهو يفاوض الباري عزّ وجل، بين سجدتين، على حجم مؤخرةِ الحوريّة!... يتوسّلهُ أوّلاً أن يُكبّرَ دبرَها الضاوي قليلاً عندما رآها هزيلةَ الدّبر. ثمّ يعود لِيدعوهُ من جديد، بعد أن كبر دبرُها أكثر من اللازم، أن يُصغِّرَهُ «سنتمتراً سنتمتراً» حتّى يصِلَ للحجمِ الذي يروق لِمزاجهِ ومُناه!:
((ويمرُّ ملَكٌ من الملائكة فيقول ابن القارح: يا عبد الله! أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: «إنا أنشأناهنّ إنشاءً، فجعلناهنّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً، لأصحاب اليمين» فيقول الملَك: هنّ على ضرْبين: ضرْبٌ خلقهُ الله في الجنّة لم يعرف غيرها، وضرْبٌ نقلهُ الله من الدار العاجلة لمّا عمل الأعمال الصالحة.
فيقول، وقد هكِرَ عجباً مما سمع: فأين اللواتي لم يكنّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميّزن عن غيرهن؟ فيقول الملَك: اقفُ أثري لترى البديءَ من قدرة الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهَها إلا الله، فيقول الملَك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور!
فيأخذ سفرجلةً أو رمّانةً أو تفاحةً أو ما شاءَ الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحُسنِها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبدالله؟ فيقول: أنا فلان بن فلان. فتقول: إني أُمْنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة ألف سنة!...
فعند ذلك يسجدُ إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعدَدتُ لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعتْ!...
ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أن تلك الجاريةَ على حسنها ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج (رمالٌ على الطريق إلى مكّة) فيهال من قدرة الله اللطيف الخبير، ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، أسألك أن تقصِّر بوص هذه الحورية على ميلٍ في ميل، فيقال له: أنت مخيّرٌ في تكوين هذا الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الإرادة!...))
تهمس له أمُّهُ كلَّ مساء:
- حان موعد زواجك يا بني، وقد تجاوزتَ الثلاثين! لا توجد في هذه الدنيا فتاتان مثل هند! هِنْدُ واحدةٌ إحدى!... ثم هي تُحبُّكَ وتُريدك!...
يتسارعُ شهيقُهُ وزفيرُه، تغيبُ «نظراته» في العدَم عند سماع أمِّهِ تحثُّهُ على الزواج!... يرفض ذلك تماماً خوفاً من الإنجاب! لا تروقُ لهُ فكرةُ الزواج إطلاقاً: لا ينسجمُ وفلسفتَهُ هذا التقليدُ الثقيلُ الذي فرضتْهُ العادات والتقاليد، وخضّبتْهُ الأديان بطقوسٍ وسلاسل ثقيلة!...
أبو العلاء يحبُّ العشقَ الهوائي، الحُرّ، المجاني، الذي ينتهي بالضرورة بأصدق وأقدس ارتباط: توحّدٌ طوعيٌّ يتجدّدُ تعاقدُهُ بِحُريّةٍ وقناعةٍ يوماً بعد يوم، بتشبُّثٍ وولعٍ حقيقيٍّ أكبر فأكبر!...
حبُّ «الإنسان الأعلى»؟ حبُّ القرن الواحد والعشرين؟ الواحد والثلاثين؟ الواحد والتسعين؟...
ثمّ هو يدركُ أنه سيكون عبئاً على من تتزوجه، في كلِّ لحظة. يلزمها أن تكون عكازَهُ الثاني!... يرفضُ أن يتوكأ على أحد: لا يريد أن يكون أكثر من نسمةٍ رقيقةٍ لمن تحبُّه!... يقبل أن يكون الكونُ عبئاً عليه خلال حياةٍ تدوم أربعة وثمانين عاماً، لكن لا يقبل أن يكون، هو، عبئاً على أحدٍ ثانيةً واحدة!...
*****
تحتدمُ المباراة، تزدادُ رغباتُ هِنْدَ عنفاً بمن تُحدِّقُ به دون كلل، بِصاحبِ هذه الكلمات الذي قال في أوجِ شبابِه (دون الشعور بِوَجَعٍ في كُوعِ الرِّجل، دون عُقَد!):
وإني وإن كنتُ الأخير زمانهُ لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائل!
لكنها تطيلُ المباراة مع ذلك! تستفزُّ ذاكرتَهُ وبصيرتَهُ الأسطوريّتين، تُنهكُ بدهاء دماغَه العبقري الذي يظلّ متوتراً طوال المباراة. تُجبرُهُ في كلّ مرة على البحث عن إستراتيجيةِ نصرٍ جديدة يَستنفذُ بها أقصى طاقاته الذهنية...
لا تشعرُ بِنَوعٍ من الراحة إلا عندما ترى صدغَهُ يتكئ على كفِّهِ الأيمن: تقبضُ سبّابتُهُ وإبهامُه على خصلةٍ في أطرافِ شَعرِهِ الفضّي المنسابِ على عنقِه، تعبثان وتلعبانِ بها بحركةٍ لولبيّةٍ لا تتوقّف!...
الحيوانُ في أوجِ تفكيره!
يعتوِرُهُ قلَقٌ حلزونيٌّ ما؟
نوعٌ أنيقٌ من النرفزة؟...
يشعر فجأة أن ثوراً يستيقظُ في أعماقه، يريدُ أن يفترسَ هذه اللبوة الصغيرة التي تعرف كيف ترهقهُ أبداً، كيف تجعلهُ يُعطي أعظمَ ما لديه، كيف تعتصرُ كلَّ ملكاتِهِ وتشعلُ طاقاته الدفينة!... كيف تجعلهُ ينتظر، رغم أنها تحترقُ شوقاً مثله لأن تحومَ أطرافُ أصابعها كظبيٍ في بستان صدرِهِ وغابةِ لِحيَتِه. تموتُ رغبةً في أن تكون جوزاءَهُ، هو الذي قال أيضاً (وهو في معمعان شبابِهِ وهيجان خيلائه):
أفوق البدرِ يوضعُ لي مهادٌ أم الجوزاءُ تحت يدي وسادُ؟
3
«الأعلى جدّاً» يُحيّي أمجادَ الكربون والجرانيت
ذات ليلةٍ قارسةِ الكآبة من شتاء عام 2008 (بعد ألف عامٍ من ميلاد نور ابنة أبي العلاء المعرّي) اجتاحَ «الأعلى جدّاً»، وهو في عرشهِ في السماءِ السابعةِ والسبعين، حنينٌ مفاجئ لِمعرفةِ أخبارِ كونِهِ السحيق.
نساهُ تماماً منذ أن خلقَهُ قبل 13 مليار و700 مليون سنة!...
بدأ كلُّ شيءٍ آنذاك، في لحظةٍ لا تماثلها لحظة، عندما انتزع من كينونتهِ اللانهائيةِ السامية جُسَيماً لانهائيَّ الصغر (حجمُ حبةِ الرمل بالنسبة له أكبرُ من حجمِ الكرةِ الأرضيةِ بالنسبةِ لحبةِ الرمل، وإن كانت كثافتُهُ تساوي كثافةَ هذا الكونِ الشاسعِ من أقصاه إلى أقصاه)، وقال له: «انفجر!» فانفجر!...
تشكّلَ بعد هذا «الانفجار الكونيّ الكبير» (البيج بونج) الزمانُ والمكان، أو الزمكان، أي: هذا الكونُ الشاسعُ الذي ينتفخُ كبالونةٍ وهو يعبرُ الزّمن!...
غادر الأعلى جدّاً المشهدَ بعد ذلك. انسحبَ بكلِّ سموِّهِ وجلالِهِ من هذه الأزِقَّةِ الصغيرة. تركَ كونَهُ الرّضيعَ (بِكلِّ مليارات مجرّاتِه التي تحوي كلُّ مجرّةٍ منها عشرات آلاف ملياراتِ النجومِ والكواكبِ والأجرام المتنوعة) يخوضُ حياتَهُ وحيداً، يسرحُ ويمرح، ينسجُ يومياته على سجيّته، تحكمهُ قوانينُ الضرورةِ والصُّدفة، لا سلطةَ عليه غير سلطةِ فيزياءِ السببِ والنتيجة!...
انشغل الأعلى جدّاً بخلقِ ملياراتِ الملياراتِ من أكوان أخرى لا يراها أحدٌ ولا يمتلك أدنى فكرةٍ عن طبيعتها، عن نوعيّةِ وعدَدِ أبعادِها (إن كان وعاؤها المكان والزمان، هي الأخرى)، وعن قوانين نشوئها وتطوّرها...
لا يستطيع، في كل الأحوال، حتى تمثُّلَها أو إدراكَها، لأن دماغَ الإنسانِ مقنّنٌ بالزمكان، معجونٌ به، لا يستطيع رؤيةَ أو فهمَ ما يتنافرُ جِينيَّاً مع بُنيَتِه!...
ثم ذات يوم، في لحظةِ شجنٍ واسترخاءٍ لذيذَين، أراد الأعلى جدّاً أن يجوبَ بِنظرهِ مليارات أكوانه!...
لم يلفت نظرَ الأعظم جدّاً شيءٌ يستحقُّ العجبَ والإطراءَ في كلِّ أكوانه الزاخرة!... لم يتوقّف إلا برهةً صغيرة عند كونٍ (مغمورٍ كَحبَّةِ رملٍ في صحراءِ أكوانه) رأى فيه مجرّةً ضائعةً اسمها «درب اللبانة»، صغيرةً نسبيّاً: تحتوي على مائةِ مليارِ شمسٍ فقط، يختفي في ثنايا إحدى مجموعاتها الشمسية كوكبٌ ضئيلٌ أستحوذَ على انتباهِه قليلاً!...
أثارهُ قليلاً هذا الكوكبُ المسكين (الذي تشكّل قبل خمسة مليار سنةٍ تقريباً فقط، أي بعد حوالي تسعة مليار سنةٍ من البيج بونج) لسببٍ يشرحُ نفسه:
تفجَّرَتْ في أعطافِهِ ظاهرةٌ نادرةٌ جدّاً اسمها: الحياة (أغنى كلمةٍ في أيِّ قاموس) بعد تشكُّلهِ بمليار عامٍ: طرأَتْ فيه تشابكاتُ ظروفٍ كيميائيةٍ وبيئيةٍ فريدةٍ، يعرفُ العِلمُ اليوم كلَّ معادلاتِها، انبثقتْ جرّاءها الموادُ العضويّة (طوباتُ الخلايا الحيّة) من المواد الأوليّةِ غير العضويّة الموجودة حينذاك: كربون، هيدروجين، ميثان...
حيّا الأقدسُ جدّاً بحرارة أمجادَ الكربونِ والجرانيت!...
أمتعَتِ الأعظمَ جدّاً قوانينُ الضرورةِ والصدفةِ وهي تكتب ملحمةَ هذه الظاهرة العبقرية المفاجئة!... لم يتوقّع، رغم لانهائيةِ بصرِهِ وبصيرتِه، أن أكوانَهُ الجرداء التي اندلعت من انفجاراته الكونيّة سيُمكنُها أن تقودَ يوماً إلى هذه المعجزة التي لا تماثلها في الحقيقةِ معجزة!...
تجلّى أمامه كلُّ شيء وهو يشاهدُ السيرةَ الذاتيةَ للحياة على الأرض: رآها تفترشُ وتكتسي رويداً رويداً بالورودِ والغاباتِ والمروج. شُعَبٌ مرجانيةٌ وحيواناتٌ بَحْريّةٌ تأسرُ العين. صقورٌ وفراشاتٌ تبهتُ النّظر!...
جذبتْهُ أكثر فأكثر أوديسةُ الحياة بكلِّ تفاصيلها الصغيرة!...
تمتمَ الأعلى جدّاً شيئاً ما يُشبِهُ: «لا بأسَ، لا بأس!...»
ثمّ أضاف بدون غلوٍّ أو حماسٍ متوهّجٍ، بدون جذلٍ وابتهاجٍ عامر: «بوووووووف!... نتيجةٌ متوسّطة بشكلٍ عام!... لا ضرر ولا مضرّة!...»
قبل أن يُردّد بإعجابٍ نصف فاتر: «حسناً، حسناً!... لا بأس، لا بأس!... جيّدٌ، جيّد، في آخر التحليل!...»
4
الشاعرُ الذي يجيدُ الإصغاءَ لِنموِّ الأعشاب!
ينتصر أبو العلاء في نهاية كل مباراة بصعوبةٍ أكبر، وإن كانت تلميذته هي «المنتصرة» في آخر المطاف!...
هِنْدُ (التي لم يهزمها في الشطرنج إلا أستاذُها الضرير، والتي تستحقُّ لِوحدِها روايةً منفصلَةً خاصّةً بها) لا تقبل الهزيمة إلا منه فقط! تستلِذُّ بها في الحقيقة: يكفيها أنها الوحيدة التي تنهكهُ أثناء لعبة الشطرنج أيّما إنهاك! مثلما تنهكُهُ في نقاشات المجالس الدراسية بسبب تعصُّبِها لأفكار المعتزلة، في حين بَلْوَرَ أبو العلاء «نظريةً» للعقل أكثر تقدّماً ونقاءً وعقلانيّةً ممن سبقه أو لحق خلال عدّة قرون!...
لِنهاياتِ مبارياتهما تقليدٌ غريب، لا يعرف أسرارَه إلا الخصمان العاشقان، وربما ثالثهما: أمّ أبي العلاء التي تتابعُ المباراة ثانيةً ثانية، قبل أن تتركهما في غمرةِ احتدامِها، معتذرةً بأن عليها أداء بعض الصلوات في الحجرة المجاورة!...
في نفاقٍ دينيٍّ جميلٍ وتواطؤٍ إنسانيٍّ مهذّب، تغادرُ أم أبي العلاء لأداء ركعات سُنَنٍ قَبليّةٍ وبَعديّةٍ لصلواتٍ افتراضية طويلة، تكرِّرها دون توقف، تسجدُ أثناءها بإسهاب، تتلو خلالها بِتَرَف لفيفاً لا ينتهي من آياتِ سورةِ البقرةِ وآل عمران...
تليها سلسلةُ صلوات الضحى والوتْر للأيام الماضية، التي تعيدُ تكرارها قضاءً، بكلِّ طولِها البلاستيكيِّ المفتوح، عشرات المرات، وكأنها لم تؤدّيها في وقتها المحدّد!...
يليها حشدٌ من ركعاتٍ أخرى، بلا عنوان، تُهدي ثوابَها لِحسابِ كلِّ أقربائها وأحبّائها، وأمة محمد أجمعين... لكنها تهدي ثوابَ معظمِها لابنِها الذي تجاوزَ الثلاثين من العُمر، ولِتلميذتِهِ الصغيرة التي تقترب من الثامنة عشرة، وهما يستعدّان لتلاوةِ ما تيسّرَ من شهقاتِهما الصغيرة، في خلوتهما الحميميّة في الغرفة المجاورة، بعد أن أعلنت هند استسلامها في المباراة، قبل أن تلوحَ بوادرُ الهزيمة حقّاً بكثير!...
يستغربُ أبو العلاء من استسلامِ هند في النقلةِ الحاديةِ والثلاثين. لم تكن هزيمتُها أكيدةً قط!... يُسعِدُهُ مع ذلك بالتأكيد (رغم يقينِهِ بِخَلَلٍ ما في نتيجة المباراة، وعدمِ رضاهِ الصامت بانتصاره)، لأنه كان سيضطرُّ للاستسلام قبلَها هذه المرة من فرط شوقهِ لها!...
*****
تشربُ لُعابَهُ ومناجاته... تغمضُ عينيها لِتراهُ كما يراها!...
تنهمرُ مناجاتُهُ أكثر فأكثر، دون توقّف، تُحاصِرُها من كلِّ مكان...
تُصغي له بقدسيّة!... كلماتهُ نظراتٌ تُفجِّرُ رغباتِها، جمرٌ يُشعِلُها حدّ اللهيب!...
يتغزّلُ بها كأنه يراها!...
تثقُ هِنْدُ أنه يراها أفضل من بصير! (يُهمُّهُ ذلك جدّاً!... لا يشعرُ في الحقيقةِ بالاستقرارِ النفسيِّ قبل أن يُلاحظَ أنها متأكِّدةٌ أنهُ يراها!)...
يشعرُ أخيراً أنّها كما يهوى وأكثر من ذلك، محمومةٌ حقّاً، في أوجِ رغبتِها. تتفاعلُ معهُ بشدّةٍ وبمبادراتٍ شخصيّةٍ تُفاجِئهُ، تسيلُ لذّةً حقيقيّةً دافقةً بين أصابعِه! ذلك ما يبحثُ عنه أوّلاً لأن عقدتَهُ السوداءَ هي أن يَضْمُرَ حضورُها بين أحضانِه لِمجرّدِ أن تتذكّرَ في لحظةٍ ما أنها في حضنِ ضرير!...
يكتنفهُ ألَمٌ خفيٌّ لا يبوحُ به، لأنهُ لا يشتاقُ لِرؤيةِ الضوءِ إلا لكي يراها بِعينيهِ في هذه اللحظةِ بالذات، عندما تغادرُها أوَّلُ الأنّاتِ التلقائيةِ الرقيقة!...
ثمّ يهربُ من كل حنين: يغرقُ في ألوانِها التي وصفتْها أمُّه، يعانقُ قوسَ قزح. يشربُ رضابَها، صوتَها الساحر، يشربُها، يتنفّسُها!...
تضيءُ كلُّ نهاراتِهِ وليالِيه!...
تسحرهُ رائحتُها، تُجنِّنُ به. تعلَّمَ كيف يرى هِنْدَهُ (بكلِّ أصغرِ تفاصيل قسماتِها) في تلك الرائحة!...
تعرفُ حبيبتُهُ كم يهوى بإدمان نسغَ مساماتِها، كم تُثيره!
أيقنَتْ من فرطِ إيمانِهِ بِدِينِ رائحَتِها (يُسمِّيها «عطرَ العطر»، «عرَقَ الآلهة». كم تعشقُ هِنْدُ هذه التسمية!) أن لها رائحةً خاصّةً عبِقةً بالفطرة، بِفطرةِ كيمياء البيولوجيا الجينيّة!...
يستعيدُ بَصرَهُ كاملاً عندما يستنشِقُها وهي تتلوّى في أحضانِه الآن، عاريةً أسِيلة!...
يراها فعلاً. عواصفُ قُبَل، توحُّدٌ كثيفٌ، طويلٌ جدّاً، محاصَرٌ بالحذَر، يتخلّلُ سجدات السُّنَنِ القَبْليّةِ والبَعديَّةِ التي تنهمرُ هي الأخرى في الحُجرةِ المجاورة!...
يجيدُ الإصغاءَ لِشهقاتِها الصغيرة، هو الذي يجيدُ الإصغاءَ لِنُموِّ الأعشاب.
شهقاتُها فضاء. الفضاءُ شهقات...
لم يعد يُميّزُ بين المبتدأِ والخبر، ملكُ النحوِ والصرفِ والكلمات. بين الوصفِ والموصوف، بين الصِّلةِ والموصول، بين العائدِ والضمير، بينها وبينه، بينه وبينه!...
يُغمِضُ عينيهِ وقت اللذّة! (أيحتاجُ لِذلكَ من طمَسَ القدَرُ بصرَه؟)، يغمضُهما لِيراها أفضل!...
يتذبذبُ فجأةً بِصمت، منفعلاً كوحْشٍ مقيّدٍ بِسلاسل: اللعنة، لا يكفيهِ الإصغاءُ لِشهقاتِها الصغيرة!...
يريدُ أن يرى حبيبتَهُ الآن، أثناء رفرفةِ هذه الشهقات وتسارعِ وتيرتِها!... هذه الشهقات التي يعبدُها عبادة. يعرفُ كم تنبثِقُ بِتلقائيّةٍ وصدقٍ من قعرِ أحاسيسها ومراكز غُدَدِها!...
يريدُ أن يراها أثناءَ اتّسَاعِ سُمكِ هذه الشهقات (أذناهُ مملوءتانِ باللاقطاتِ الإلكترونية، بالرّاداراتِ الصوتيّةِ والترمومترات الحسيّةِ الدقيقة)، أثناءَ تماوجِ بلاستيكيّةِ تلك الشهقات (أبو العلاء متخصّصٌ في قوانينِ فيزياءِ الشهقة، خياشيمُهُ وأليافُه العصبيّةُ مفعمةٌ بِباروماتٍ زئبقُها شديدُ الحساسية)، أثناءَ انزياحاتِ تلك الشهقاتِ وانسيابِ أجملِ كلماتِ العشقِ في أعطافِها!...
يا للظّلم، أين رحمة السماء؟ لا يكفيه الإصغاء فقط!...
حتى وإن كانت أذناه مُدجّجتين بالحواس السادسة والسابعة والثامنة!...
حتّى وإن كانت «عبقريّتهُ في فَتْحَتَي أنفه»، مثلما قال أحدُهم!...
يدركُ الشاعرُ المطعون في الظَّهر بأسىً أنه يستطيعُ أن يتخيّلَ كلّ شيءٍ في الوجودِ ببصيرتهِ الثاقبة، إلا قسمات وجهِ حبيبتهِ في هذه اللحظات المترنِّحةِ بالذّات!...
يحاولُ مع ذلك أن يستشفَّ (داخل منطقةِ تقاطعِ رائحتِها مع صوتِها) شدّةَ بريقِ عينيها الثاقبتين، المفتوحتين بِنَهم، المسلَّطتينِ على قسماتِ حبيبها كَبُؤرٍ ضوئية!...
يلعنُ بصمتٍ مكبوت، وهو يتخبّطُ معها في لُجِّ اللذّة، مرَضاً مجرِماً أطاح ببصرِهِ وهو في نعومةِ طفولتِه، وعينَيْن مصلوبَتين تخوناه في أقدس اللحظات!...
تنسابُ قرب صدغِهِ همساتٌ رقيقةٌ خافتة:
- ألا ترغبُ في أن يكونَ لنا طفلٌ ذات يوم؟...
يداعب خدّيها بأطراف أصابعه. يكتنفه حزنٌ ميتافيزيقيٌّ أصم، صمتٌ قارص!... تدركُ تماماً أنها جرحَتهُ دون قصد!... تعتذرُ منه بطريقتها!... تعتذرُ منه بمهنيّةٍ وعشقٍ صادقٍ وعطاءٍ وضراوة!...
ينسى الحذرَ والحذرَ من الحذر. يسترجعُ «سورة الألوان». بها يبدأ صلواته من جديد!...
5
رقصٌ في عِلّيين
تفجّرتْ جميعُ الأكوان غبطةً وحبوراً (وهي ترى نظرَة الأعلى جدّاً التي منّها بها تتوسَّدُها بِوداعةٍ إلهيةٍ لا نظير لها، خلال لمحةِ بصرٍ طفيفةٍ عابِرة):
تماوجَ طرَبٌ راقصٌ في كلِّ الموجات الكهرومغناطيسية: هبطَتْ أو علَتْ إلكتروناتُ كلِّ ذرّاتِ الكون من مداراتها النووية إلى مدارات أقلِّ أو أكثر طاقة، لِتنسابَ جرّاء ذلك الهبوطِ أو الصعود موجاتٌ ضوئيةٌ ذات ألوانٍ غير أليفة، مدهشةٍ جدّاً:
صار الكونُ في لمعةِ برق مهرجانَ ألوان جديدة: الأفقُ مذهلُ الزرقة، الشمسُ بنفسجيّةٌ ناعمةٌ تنسلُّ منها أضواءٌ برتقاليةٌ دافئة. الصحراءُ لازورديّةٌ تخلبُ اللب. لِلسماءِ بياضٌ خالصٌ كَقلبِ الأقدسِ جدّاً. احمرَّتْ بعضُ سفوحِ جبال الثلوج وتوشَّحتْ قمَمُها ببريقٍ ذهبيٍّ نقيٍّ لامع.
تفتّحتْ عوراتُ الورودِ على مصراعيها، وتفجَّرتْ في الأعشاب والأشجار روائح شذيّةٌ دافقةٌ مسكرة، وألوانٌ قوسُ قزَحِيّةٍ ساحرة!... انبعثَتْ سيمفونياتُ فرحٍ من كل أجرامِ المجرّاتِ، دندَنتْ فيها السهولُ والبحار، وزغردَت الهضابُ والجبال!...
توقّفَتْ كلُّ العصافير في الجوِّ مبهوتةً من جلالِ نظرةِ الأعلى جدّاً للكون، ثمّ تناثرَتْ في تشكيلاتٍ فنيّةٍ متداخلة تلعبُ رقصات باليْه فريدةً في مسرح الفضاء!...
لم تجذب تلك الاحتفالات الكرنفالية انتباهَ الأعلى جداً... لم تستحوذ عليه، بدهشةٍ حقيقيّةٍ غمرتِ الكونَ بروقاً وأقواسَ قزح، إلا لحظةٌ مفصليّةٌ من سِفْرِ تكوينِ أحدِ حيوانات شجرةِ الكائنات الحيّة، امتلكَ إثرَها دماغَ نصفِ إله، يعلو الجسدَ كتاج!...
راقب الأعلى جدّا ما حدث بِتمعُّنٍ ملحوظ: تطوّرَ دماغُ هذا الحيوان، خلال ملايين من السنين، في ظروفٍ بيئيّةٍ وتاريخيّةٍ خاصة (عندما كان يحيى في عالمهِ الأفريقي، مهدِ البشرية) أدّتْ لأن يصلَ دماغُه، قبل حوالي خمسين ألف سنة من الآن، إلى هيئتهِ الحاليةِ الراقيةِ جدّاً...
دوّى الأعلى جدّاً: «واااااااو!» وهو يخترق بنظرتهِ في لمحةِ بصر، جمجمةَ ذلك الحيوان!...
تعرّتْ لِلأقدسِ جدّاً كلُّ أسرارِ آلاف ملياراتِ عصبوناتِ الدماغ التي يتفاعلُ كلٌّ منها مع عشرةِ ألف عصبونٍ في الوقت نفسه: «منظومةُ منظوماتٍ» عصبونيّة لا يمتلكُ ثراءَ تفاعلاتِها وتعدُّدَ عوالمِها حيوانٌ آخر (قارّاتُ عصبونات اللغة، محيطاتُ ذاكرةٍ متراميةِ الأطراف، غاباتُ انسكلوبيدياتٍ ذهنيّة متخصصة في كلّ النشاطات والمجالات الحيوية والاجتماعية...)
قرّر هذا الحيوانُ بعد ذلك أن يتكبَّرَ ويتعالى عن حيوانيّته، ويُطلقَ على نفسِه اسْماً ارستقراطيّاً متغطرساً جدّاً: إنسان!...
سمحت تلك الجمجمة له في الحقيقة أن يستوعبَ العلاقات التي تحكمُ زمكانه (منذ أن أجلاها اينشتاين قبل حوالي قرن)، أن يُدرِكَ أصلَ الأنواعِ البيولوجية وآلِيّة تطوُّرِها (منذ أن فصّلَها داروين قبل 150 عاماً، وأجلى قوانين نموِّ «شجرةِ أنواعِها»)، وأن يبتكرَ الكتابةَ، البوصلة، رقمَ الصفر، الأهرام، الإلياذة، ألفَ ليلةٍ وليلة، الكمبيوتر، السيمفونيةَ الخامسة لبيتهوفن، إنترنت، اللزوميات، لوحةَ جارنيكا، تلسكوب هوبل، تنويعات جولدبيرج ليوهان ساباستيان باخ، «هكذا تكلَّمَ زرادشت!»، تاجَ مَحَل، وبيتَ أبي العلاء المعرّي:
والذي حارتِ البريّةُ فيهِ حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ
6
نور، 31 كانون الأوّل 1008 م
- استشتاقُ لي إن غبتُ يوماً عنك؟، سألتْهُ هند...
- لا أعرف كيف أشتاقُ إليك!...
- ماذا؟
- أيشتاقُ الإنسانُ لِرئتيه، لِدماغه؟...
(«أتشتاق الخليّة لِنواتها؟»، كان سيقولُ حتماً أبو العلاء لو كان مفهومُ الخليّةِ الحيّةِ ونواتُها معروفاً حينذاك!)
أحسَّ أنّها ستغيبُ عنهُ بالفعلِ، لسببٍ هام. لم يحب تكديرها بطلبِ الإفصاح عنه... داهمهُ قلقٌ مباغت!... لاحظتْ ذلك، سَألتْهُ:
- ما الذي يقلقك إذن إذا لن تشتاق لي يوماً ما؟
- يقلقني أني لن أعود قادراً على التفكير والخيال والشِّعر! لأني لا أفكّر إلا لأثير إعجابك! لا أتخيّل إلا لأجلك! لا أقول الشِّعرَ إلا لِتسمعيه!...
- لكني سأعود!...
- كرّري ما قلتِ من جديد!، ردّ الشاعر الأعمى الذي أراد سماع هذه الجملة مرّتين، مليون مرّة!...
- سأعود حبيبي!... سأقرأُ (بعيدةً كنتُ أو قريبةً عنك) كلَّ ما تقوله، سأحتفظ في ذاكرتي بكلّ فكرةٍ أو بنتِ خيال راودَتْك وستراودك!...
ثمّ هامسته في أذنه: «اعتبرْ، فؤادي، كلَّ ما تجودُ وستجودُ به قريحتُك وعقلُك غذاءً لِروحي!... لا تعرفُ كم أحتاجُ لهذا الغذاء، أعشقهُ عشقاً، فأكرمني به فَدَيْتُكَ بعمري!»...
قبل أن تضيف:
- أريد أن أكرّر من جديد عبارةً أخرى، لِنُسمّي هذا الحديث بعد ذلك «حديثَ التكرارين»!...
- ما هي؟
- اعتبرْ، فؤادي، كلَّ ما تجودُ وستجودُ به قريحتُك وعقلُك غذاءً لِروحي!... لا تعرفُ كم أحتاجُ لهذا الغذاء، أعشقهُ عشقاً، فأكرمني به فَدَيْتُكَ بعمري!...
بكي أبو العلاء بحرارة، اختلطت دموعها بدموعه بعد «حديث التكرارين»!... راودهُ شعورٌ غامضٌ أن آلهةً ما اتّخذت في تلك اللحظة بالذات قراراً أعوج!...
أعوج؟... ربما!...
لكنّهُ ضريبةٌ طبيعية لِقرارٍ سليم،
سليمٍ جدّاً،
قرارٍ مقدَّسٍ اندلعَ قبيل أسابيعَ قليلة من صُلبهِ وترائبِ معشوقته،
بين سجدتين صغيرتين لِأمِّه، كان يتلو خلالهما ما تيسَّرَ من «سورة الألوان»!...
*****
بين ركعَتين صغيرتين لأمِّ أبي العلاء، تسلّلتْ خارج السرب إحدى الشظايا المباركة لِفيلسوفِ الشعراء وشاعر الفلاسفة، تبرعَمَتْ إثرها جدّتي الثانية والثلاثين، نور!...
أماطَتْ أُمّي، في صباحِ عيدِ ميلادي الرابع عشر في حَلَب، خبايا ولادةِ نور، وكأنها تكشفُ لي أهمَّ سرٍّ في الكون: فرشتْ أمامي مخطوطةً رماديّةً ملفوفةً طويلة (لها رائحةٌ خانقةٌ قادرةٌ على تفتييتِ أعتى زكام: مزيجٌ عويصٌ من النفتالين ورائحة الأكفان!) تحافظُ عليها كبؤرةِ عينها، نُقِشتْ عليها، بحبرٍ باهتٍ وأسطرٍ أفقيّةٍ وعموديّةٍ ومائلةٍ متضاربة، تفاصيل شجرةِ سلالةِ عائلتنا!...
أمامَ اسمِ نور وجدتُ، على حاشيةٍ داخل حاشية، هذا التاريخ: 31 كانون الأوّل 1008 م.
أمامَ اسمِ أبيها (جذرِ الشجرة، بجانب هند) وجدتُ هذه الكلمات: «27 كانون الأوّل 973 م، قبيل غروب الشمس، وُلِد أبو العلاء!»...
لم أر في ذلك أمراً ذا أهميّةٍ تستحقُّ كتماناً وطقوساً باطنيّة تُُتَوارَثُ من جِيلٍ لِجيل!... كانت تشغلني قضيّةٌ أساسيّةٌ جوهريّةٌ أكبر بكثير: هل سيكونُ بين هدايا عيد ميلادي «أكورديونٌ» صغير؟...
لم أرد، لم أعلّق!... لم أسأل أمّي كيف عرفَتْ تفاصيلَ مبارياتِ شطرنجِ أبي العلاء وهند، وقصّةَ ولادةِ نور، وكيف اكتشفَتْ دقائق سِيرتها الذاتيّة التي تستطيع حكايتها، كما يبدو، بإسهابٍ مثير!...
عاهدتُها (بِهزّةِ رأسٍ مُبْهمةٍ وابتسامةٍ داكنة، وانزعاجٍ صامت) أن لا أبوحَ بالسرِّ لأحد، كما طلبَتْ، إلا لأبنائي فقط!...
أخفيتُ ضيقي من كلِّ ذلك وشعوري بالانحشار في مواضيع تتجاوزني (لعلّهُ لا يحِقُّ للآباءِ أن ينتزعوا وعوداً من أطفالِهم، مهما كان نبلُها أو أهمِّيِتُها!).
لكنني لم استطع كبحَ جماح نخوةٍ نرجسيّةٍ عابرة، وفخرٍ فضفاضٍ في الإنتماءِ لِسُلالةِ أبي العلاء... وقليلٍ من البهجةِ الماكرة أيضاً!...
لاحظتُ سعادةً كثيفةً في بريقِ عينَي أمّي حينها!... ثمَّ صمتٌ غامضٌ طويل!...
خانت أمّي بعد ذلك هذه الكلماتُ التي لا تليقُ بِعِيدِ ميلادِ صبيٍّ توفّى والدهُ قبل أشهر: «بعد وفاتي لن يبقى في شجرةِ سلالةِ أبي العلاء الضاوية غصنٌ آخر عداك، حبيبي»!...
عبارةٌ ثقيلةٌ على كُوْعِي هي الأخرى، أفرجَتْ بها أمِّي، دون شك، عن وزرٍ يؤرقُها غيرِ خفيف...
لمحتْ اضطرابي حال سماع «بعد وفاتي»! شعرَتْ بامتعاضي من هذه الآفاقِ السوداء والعهودِ الخانقة، فيما كنتُ أحلمُ حينها، بكلِّ بساطة، ب «الأكورديون» الصغير!...
احتضَنَتني كعادتها بكلِّ حبٍّ وتلقائية. قبّلتْني بِلُطف، هنّأتْني بِعيدِ ميلادي، ودَعَتْ الله عزَّ وجل أن يرزقَني ذُريّةً نجيبة، ويُجيرَنا جميعاً من كلِّ شرٍّ أو مكروه!... دعوتُه، وأنا أغرقُ في أحضانِها، أن يرزقني الأكورديون!...
ثمّ سحبَتْني لِتُريني ما تبقّى من مخطوطاتٍ ملفوفةٍ أو مُجلّدةٍ تحتفظُ بها بعنايةٍ خاصّة، في صندوقٍ صغيرٍ مُحْكَمِ الإغلاق في دولابها الخاص، وعدَتْني أن تترك مفاتيحه لي يوماً أمانةً في عنقي!... قالت:
- أهمُّ ما فيه رسائل كتبَتْها هند، ونصوصٌ طويلة كتبَتْها نور!...
- أمّاه، سأقرأُ ذلك عندما أكبر!...
- ألا يُهمُّكَ ذلك؟
- سيُهمُّني، عندما أكبرُ أماه!...
(يُهمّني حاليّاً الأكورديون الصغير!)...
سألتُ أمي ذات يوم:
- سرٌّ عبثيّ هذا الذي نتوارثُ الإصرارَ على عدمِ البوحِ به!... لماذا كتمانُه؟ وكأنَّ أبا العلاء عيبٌ على أحفادِهِ وخلَفِه!...
ردّتْ بهدوءٍ وكلماتٍ حذرةٍ خافتة ورثَتْها من أبويها:
- قرّةَ عيني: سيضرُّ ذلك الخَبرُ بِسُمعةِ أبي العلاء! سيحوِّلُ بيتَ شِعرِهِ الذي يُردِّدهُ القاصي والداني: «هذا جناهُ أبي عليّ...» إلى مهزلة، حتى وإن لم يكن يعرفُ، رحمه الله، أن هِنْدَ أنجبَتْ منه طفلاً!...
لم تُعبِّرْ أمّي بالطبع، بشكلٍ صريح، عن إحساسِها المتوارثِ، أباً عن جدّ و وأمّاً عن جدّة، بأن الحكم الدينيّ: «الزاني والزانية وأبناؤهما (وسلالتُهما ربّما؟) حَطبُ جهنم، وبئس المصير!» لن يترك انطباعاتٍ حسنة عن مآل جذرِ سلالتنا في الآخرة، وربّما عن مصيرِ كلِّ شجرة العائلة!...
هاأنذا اليوم، أنا، نبيل بدر سليمان التنوخي الذي لا يجيد كتمان سر، أخُونُ عهدي لأمي، وأفشي السرَّ الذي ظلّ مكتوماً ألف عام!...
رفضتِ الحياةُ (التي حرمَتني من أبي منذ طفولتي، وأنا في الرابعة عشرة، بِسنِّ أبي العلاء عندما توفّى والِدُه) أن تمنحني طفلاً (أحكي له سرّاً صغيراً، يعاهدني بكتمانه!) يَخرجُ من ترائب معشوقتي لمياء
التي تغادرني هي الأخرى على حين غرّة
من شُقَّتِنا الباريسيّة في الحيّ الخامس عشر،
لا أدري إلى أين،
في فجر أوّل يومٍ من عام 2010!...
كلّ شيءٍ في حياتي ينتهي في هذا الفجر الخائن، وكلّ شيءٍ في هذه الرواية يبدأُ من ذلك الفجرِ الخائن!...
ثمّ لماذا يلزمني إخفاءُ هذا السر؟
ألم يكن أبو العلاء ألدَّ أعداء الكذبِ والزيفِ والنفاق، باستثناء نفاقِ صلوات ما قبل انتهاء مباريات الشطرنج الذي مارس شعائرَهُ بِقدسيّة وإدمان، مع بقية الثالوث الحميم: أمِّهِ الحبيبة، ومعشوقتهِ الأبديّة!...
ثمّ من قال إن ذلك البيت مكتوبٌ على قبره؟ لم أره شخصيّاً عليه في معرَّةِ النعمان التي أضحتْ هي الأخرى قبراً لِقَبر!...
اشكُّ شخصيّاً أن أبا العلاء (الذي يَعتبرُ أن الإنسان «ابن أنثى»، كما يقول في قصائده) هو من قال هذا البيت الذكوريّ المتطرِّف!... إذا كان هو صاحبَهُ فما كان لِيقولَ إلا: «هذا جَنَتهُ أُمّي عليّ!» الذي قالها، بالحرفِ الواحدِ بعده بحوالي ثمانية قرون، العاشقُ المتسكّعُ المبدعُ شاتوبريان!...
*****
أمّي، نوال التنوخي، أستاذةٌ متقاعدةٌ درَّستِ الأدبَ العربي في جامعة اللاذقية. تعرفُ تفاصيل يوميّات أبي العلاء في المعرّة بدقّةٍ مثيرة، تتحدّث عنها بِشغفٍ دائم.
سألتُها ذات يوم:
- حدّثيني قليلاً عن هِند!
(أسعدَها سؤالي غير الأليف!... لامتْني دوماً على عدم اهتمامي بالصندوق السريّ الذي تحتفظ فيه بكل وثائق سلالتنا، وعلى تأجيلِ رغبتي، من عامٍ لعام، في الإصغاء لِكلِّ ما تعرفهُ عن تاريخ عائلتنا، والدخولِ معها بنقاشٍ شغوفٍ حول كلِّ تفاصيلها الخفيّة)...
أجابتْ بخطابٍ شبهِ أيديولوجي، ثقيلٍ على ابنِها الصغير!... خطابِ أستاذةٍ في جامعة، لها انتماءاتُها الفكريّةُ «العروبيّة» (تحبُّ أمّي هذه الكلمة التي أوشكتِ اليوم على الاختفاء!)، وآراؤها الاجتماعية الخاصّة التي لا تتردّدُ في إشهارِها بفخر!...
ليس في ردِّها الفضفاض، في كلِّ الأحوال، شيئاً مما أردتُ معرفتهُ عن هند!:
((كانت هِنْدُ أكثرَ تلاميذ خصمِها الحميم، وأكثرَ مُعاصريه أيضاً، إدراكاً بأنه إنسانٌ لا يتكرّر، وأعمقهم إيماناً بأن مجد أمَّته لن يتأتى إلا يوم دراستها الجادة لأفكاره، واستلهامها في بناء مشروعِ حضارةٍ سامقة، رسمَ لها أبو العلاء، أفضل مما رسمه أيُّ إنسانٍ آخر، معالمَ مجتمع «لا إمامَ سوى العقل»، وأُسُسَ علاقتهِ الراقيةِ مع الكونِ والحياة، مع الأسئلةِ الوجوديةِ المفتوحة، مع المجهولِ والسرّ، مع الدِّينِ والغيبِ والآلهة، هو الذي قال:
يَرْتَجي الناسُ أن يقومَ إمامٌ ناطقٌ في الكتيبةِ الخرساءِ
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقلِ مشيراً في صبحهِ والمساءِ
صاغ لها أيضاً مشروعاً أخلاقياً للحياةِ الخاصةِ والعامة، حضاريّاً وطليعيّاً جدّاً، يسمو بها لِأعلى قِممِ النبلِ والفضيلة!...
لم تكن هِنْدُ تعرف حينها بالتأكيد أن أمّةَ أبي العلاء ستكون اليوم (بعد عدَّةِ قرونٍ من رحيل حبيبها) أحوج، أكثر من أي وقتٍ مضى، لاستلهام روحهِ النقديّةِ المتينةِ وصرامةِ منهجهِ العقلي، في نهايةِ هذه الألفية الثانية التي لم يخرج العقلُ العربي فيها من غيبوبةٍ تعبرُ القرون.
أو لعلّهُ (يا لِأُمِّ الكوارث!) وصل الآن (من يدري؟) إلى مقبرَةِ «النقطةِ الثابتة»: تمكّنَ بنجاحٍ منقطعِ النظير من خَلْقِ شروطِ وظروفِ تأبيدِ غيبوبتهِ وإعادةِ إنتاجِها على الدوام!...))
تسترسلُ أمّي، بدونِ فرامل، خطابَها اليائسَ الساخطَ الذي كان يُرهقني في صِغَري، وإن صرتُ بعد أن كبرتُ، أكرِّرُ فحواه بلا وعي، مضيفاً لهُ أحياناً قليلاً من الضجيج:
((كانت هِنْدُ تتأرجحُ في حياتِها بين التشاؤمِ المطلق، والتفاؤلِ المتواضعِ الحكيم!...
لعلّها، لو عاشت اليوم، كانت ستشعرُ (وهي متشائمة) أن أبا العلاء قال للعرب «ما يكفي من الرعودِ لتتعلّمَ القبورُ الإصغاء»، لكنهم لسوءِ الحظِّ أكثرُ صمماً من القبور!...
وربّما كانت ستشعرُ (وهي متفائلة) أن لأبي العلاء موعداً قدَريّاً معهم قد يأتي متأخراً أكثر من اللازم: بِضياءِ كلماتهِ وحدِها ستتمزّقُ العتمةُ التي تغمدُ بصيرتهم وتطمسُها منذ قرون!...))
حالما أكملتْ أمّي ردَّها القاصف، علّقتُ عليه:
- ليس هذا ما أريدُ معرفتهُ أمّاه!... ماذا حدث لِهنْد بعد أن حمِلَتْ مِمّن ظنّ أنهُ لم يجنِ على أحَد؟...
7
اثنانُ أهلُ الأرض
حيّا الأعلى جدّاً وباركَ بِحماس هذا الكائنَ الصغير الذي امتلك بِفضلِ دماغهِ أعظمَ وأهمَّ وأخطرَ وأقوى الملَكاتِ التي أكسبَتْهُ سلطتَهُ الهائلةَ على الأرض: الخيال!...
وجد الأقدسُ جدّاً أن لهذه الكلمة أحرفاً من أبجديتهِ الخاصة، نوتاتٍ من سيمفونيتهِ الحميمة، شذىً من ضوعِهِ الذي يغمرُ عبقُهُ الأكوانَ والأبديّة!...
دوّى بذهول: «يا للعجب! ما أروع روايةَ الحياة، أمّ الروايات!... صدقَ اينشتاين إذ قال: "الخيالُ أهمُّ من المعرفة"!»...
لاحظ الأعظمُ جداً أن الخيالَ سيفٌ جبّارٌ ذو حدّين، أنجب عملاقين هائلين يسيطران على رؤيةِ الإنسانِ للكونِ والحياة، وعلى طرائق فهمهِ وتفكيرهِ ومعيشتهِ: العِلمُ والدِّين!...
أجاد شاعرٌ عربيٌّ ضرير، عاش في معرّة النعمان قبل ألف عام، تصويرَ ذلك عندما قال:
اثنانُ أهلُ الأرضِ: ذو عَقلٍ بلا دِينٍ، وآخرُ ديِّنٌ لا عقلَ له
الدِّينُ والعِلمُ أخوان شقيقان، بكْرُهما الدِّين: كاهلٌ كسولٌ كثيرُ الادّعاء، لا يجيدُ أية حرفةٍ عمليّةٍ مفيدة!... نال مع ذلك كلَّ تدليلِ الإنسان واهتمامِه منذ عشرات آلاف السنين. منحهُ كلَّ السلطات والحقوق المطْلَقة، تركَ له الحقَّ في قول الكلمة الأخيرة في كل شيء. الزمكانُ ملكُه هو وحده، العوالمُ الميتافيزيقية أيضاً!...
وصغيرُهما العِلم: مراهقٌ متوقّدُ النشاط والألمعية! وُلِد متأخراً جدّاً، وأدرك مُذّاك أن عليه لإثباتِ وجودِهِ على أي مترٍ مربّعٍ أن يزيحَ منهُ أخاه الأكبر، شديدَ الحضورِ والتسلّطِ والسطوة!...
أراد منذ البدء أن يُحدِّدَ أراضيه. اقترحَ بلا هوادة: «ليَ الزمكان فقط، والعوالمُ الميتافيزيقية، كلُّ العوالمِ الميتافيزيقية، لأخي الأكبر!»...
يا لهُ من ماكرٍ أريبٍ عندما كرّرَ: «كلُّ العوالمِ الميتافيزيقية» وهو يقصدُ في قرارة نفسه: «المجموعة الرياضية الفارغة»، العدَم!...
يا لهُ من متواضعٍ كاذب عندما قال: «لي الزمكان فقط» مشدِّداً على كلمة «فقط»، هو الذي لا يمنعُ نفسَهُ من وضعِ أنفِهِ خارج الزمكان، عندما قال على لسان أبي العلاء:
قلتم «لنا خالقٌ حكيمٌ» قلنا: «صدقتُمْ، كذا نقولُ!»
زعمتموهُ بلا مكانٍ ولا زمانٍ، ألا فقولوا
هذا كلامٌ لهُ خبيءٌ معناهُ ليست لنا عقولُ!...
- لماذا العوالمُ الميتافيزيقية لأخيك وحدِه؟
- هذه عوالمُهُ الذي يعرفُ وحدهُ كيف يملؤها سماوات وجهنمات وجنّات وآلهة وشياطين وعفاريت وأم الصبيان! عوالمهُ لا تطيق وجودي، تعتبرني عدوَّها المطلق، حافرَ قبرِها (مثل الضوء الذي يبتلع الظلمات)، وإن كنتُ لا أحبُّ أن أتدخّلَ في شئونها!...
- لماذا الزمكانُ لكَ وحدك؟
- أحيى فيه مثل السمكةِ في الماء، لا أستطيعُ أن أتنفّسَ خارجه! أشيّدهُ وأدرسهُ على الدوام، هو لا شيء تقريباً بِدوني!...
- ولماذا تريدُ أن تطردَ أخاك منه؟
- الزمكانُ لا يحتاج لأخي، يحيى سعيداً بِدونه! أخي يملؤهُ معابد مطرّزةً بتماثيلِ ثعابين وشياطين وتنّينات تنفثُ النار، يصرخُ الأطفالُ هلعاً عند رؤيتها!...
يملؤهُ هياكلَ وجدرانَ غفران وضرائح أولياء لِرطم الرأس ولكزِ الجسد، ومحاريبَ تُدوِّي ميكرفوناتها بفجائعِ عذابِ القبر وأهوالِ ليالي جهنمَ الساهرة...
يملؤه قصصاً تُجرجَرُ من شَعرِها، لا أميّزُ بين رأسِها وأرجلِها!...
- تطردُ منهُ أخاك الأكبر إذَن؟
- لا!... أموضِعهُ بشكلٍ عقلانيٍّ رشيد!
- أين تُموضِعهُ؟
- «ليس لِلعدَمِ وسط، لا حدود لِلعدَمِ إلا مع العدَم!»، كما قال ليناردو دافينشي...
- لا مكان لأخيكَ إذن في هذا الكون؟
- لا مكانَ له في الكونِ الماديِّ فقط، كونِ ميكروسكوباتي وتيلسكوباتي!...
- لن يتبقى له شيءٌ إذن؟
- كلّا!
- ماذا يتبقّى له؟
- كلُّ شيءٍ تقريباً!...
- لا أفهم، ماذا تقصد؟
- الأدب، أخي نجمُ الأدبِ الساطع!... الفكرُ والفلسفة، أخي موضوعهما الأثير!... العقيدةُ والإيمانُ لمن يريدُ بِحُريّة، أخي يعرفُ كيف يكتسحُهُما بِثوان!...
- يا لهذا الكرَم!...
- شُكراً! (ردّ هذا «الصعلوكُ» الصغير كما لو لم يَلمَح سخريّةً من أحد!)...
8
رحلةُ الأهوال
ردّتْ أمِّي:
((لم تحضر هِنْدُ مجالس أبي العلاء يوم شعرَتْ أن شيئاً ما يتكوّرُ أعلى خاصرتِها!... لم تخبر أحداً بما يعتمل في أحشائها، عدا خالتها السيّدة رقية بنت عبدالملك!...
غادرت المعرّة سرّاً، دون أن تذهب لِوداعِ أمِّ أبي العلاء!...
توجّهتْ لِتعيشَ في ضيعةٍ قريبةٍ من اللاذقية، في بيت خالتها، السيّدة رقية: امرأةُ عِلْمٍ ضليعةٌ بالفلسفة وبمؤلفات «إخوان الصفاء» وعلومِهم الباطنية، ميسورةُ الحال، تحفظُ شعرَ أبي العلاء، وتحبُّ هِنْدَ كثيراً!...
احتارت هِنْدُ في تسميةِ ابنتها: «نور»، أم «كلمة»؟ اختارت الأول فيما كانت تُفضِّلُ الثاني، لأن أبا العلاء، الذي عاش حينها ثلاثة عقود من الشوقِ الجريحِ لِرؤيةِ النور، «النور الشعشعاني» الذي لا يملُّ الحديث عنه، باح لها ذات يوم أنه يحب اسم «نور» كثيراً!...
كانت هِنْدُ تخاف أن يدرك أبو العلاء أنه «جَنَى» على طفلٍ ما كان له إلا أن يكتشفَ، منذ نعومةِ أظافِرِه، أن أباه لا يتفاعل مع ابتسامته. لا يرى حُزنَهُ ودموعَه. وأنَّ عليهِ أن يقودَ خطى أبيهِ أثناء المشي أحياناً، أن يكون بوصلته ليل نهار!...
تعرف كم هو حسّاسٌ رقيقٌ مثل كأسِ كريستال، وكم هو أرضٌ خصبةٌ للأحزان والآلام!... تدركُ أن ذلك الخبر كفيلٌ بتدميرِهِ والإطاحةِ بحياته، وإنهاءِ مشروعِهِ الأدبيِّ والفكريّ الذي لم يكن حينها إلا في إرهاصاتهِ واعتمالاتهِ الأولى!...
ناهيك أن هذا الجنين سيُسبِّبُ مشاكل إضافيّة، لأنه ليس «ابن حلال» في نظرِ الشرعِ، وإن لا يُكِنُّ أبو العلاء لِلشرعِ تقديراً عالياً!...
خالتُها رُقيّة كانت تدركُ ذلك مثلها على الأقل، وتوافقُها عليه تماماً!... ثمَّ هو يرفضُ الزواج، وهي لا تريدُ من أستاذِها إلا طفلاً بِأيِّ ثمَن!...))
استأنفتْ أمي التي عرفَتْ من أمِّها، ومن صندوقِ مخطوطاتها الصغير، تفاصيلَ حياة هِنْدَ وأسرارها الحميمة:
((كانت هِنْدُ تشعر (وكأنَّ ذلك واجباً دينيّاً مقدّساً) بأن عليها أن تحافظ بِعنايةٍ شديدة، بعيداً عن القيل والقال ومتطرفي الحديث عن أطفالِ الزنا والفحشاء والمنكر، على ثمرةِ عشقِها لِأستاذها الحبيب، نور، ميراثِ أبي العلاء الجينيّ وذاكرتِهِ البيولوجية، وأن تهتمَّ بعطائهِ الجسديِّ الأوحد، لاسيما وأن دماغَهُ كان منشرحاً جدّاً حينها، عقب أوجِ تلظِّيهِ في معمعان مباراة شطرنجٍ عنيفة لو لم تستسلم فيها هِنْدُ قبل الأوان لهزَمتْ أبا العلاء في أغلب الظن!...
هزمتْهُ في كلِّ الأحوال وهي تنتزعُ منه نورَهما بضراوة، مُخلِّدةً بذلك أكثف وأحلى توحّداتهما، وأعمقها قاطبة:
يكفي رؤيةُ عينَي نور العسليّتين الواسعَتَين اللتين ورثتْهما من هند، وقامتَها الهيفاء التي ورثتْها من أبي العلاء، وسناءَها وألمعيتَها اللتين ورَثتْهُما من أبويها معاً، لإدراكِ جلالِ تلك الهزيمة!...))
أردفَتْ أمي:
((بعد غياب هِنْدَ المفاجئ، لم يستقر ورَكُ أبي العلاء على كرسيه في محرابِ مجلسهِ الذي يأتي للتعلُّمِ فيه بشرٌ من أقصى المعمورة... جُنّ جنونُهُ عندما سمع أنها غادرت المعرّة دون أن يعرف أحدٌ في أيِّ اتجاه!...
لم يعد يطيق هذه المجالس، ملَّ المحاضرات والردَّ على الأسئلة، وكأنه لا يتحدّثُ فيها إلا لِيثيرَ إعجاب هند!... كمدَتْ رغبتُهُ في قولِ الشِّعر، وكأنه لا ينسابُ من ثغرهِ إلا لتسمعَهُ طالبتُهُ الحبيبة!... سئمَ الفلسفةَ التي لم تكن إلا وسيلتَهُ لإشعال إعجابِ هند والجدلِ معها!... فقد الرغبة في كل شيء إلا في أن يطوي البيد والقفار بحثاً عنها!...
لا يدري العاشقُ المكفوف أين يتّجِه: حلب، إنطاكيّة، دمشق، اللاذقية، طرابلس الشام، أرض العراق؟...
خرج، ذات يومٍ، كإعصار!... أهناك شجاعةٌ وجبروتٌ بمقامِ شجاعةِ وجبروتِ إنسانٍ قرَّرَ السفر واقتحام جدرانِ العالَمِ بِعينَين مطموستين؟...
خرج الشاعر الضرير بمطيّتهِ وعكازِهِ بحثاً عن هند. ظلماتُ نظرِهِ تخترقُ ظلمات الليل. يحاولُ في كلِّ لحظةٍ يصعدُ فيها جبلاً أو يعبرُ شارعاً أن يستشعرَ من همساتِ الريح ورائحةِ الضوء إن كان يواجهُ مليحةً ذات خمارٍ أسودِ، أم شدقَ ذئبٍ جائع!...
خوفٌ دائم!...
خرجَ مع ذلك، يُرافقه كاتبهُ وبوصلةُ خطاه، الذي يقرأُ له ما تيسّرَ من نصوص العرب، وينسخُ شعرَهُ كلّما تفجّرت قريحته (يعني: معظم الوقت)!...
تعرّض لِلُصوصٍ وقطاع الطرق، لمغامرات غير حميدة!... ذئابٌ، قلقٌ لا يتوقّف!... تعثّر هنا وهناك، لم يطب له مكان في ما أسماها «رحلة الأهوال»!...))
تسترسلُ أمّي بابتسامةٍ ماكرة:
((أجمع المؤرخون على أنه سافر للاحتكاك بالعلماء والشعراء ومجالس المعرفة!... ربما كان كذلك، ربما أتاحت تلك الرحلةُ له فعلاً لقاءَ رهبان في طرابلس أو اللاذقية تعلَّمَ منهم كثيراً من علوم الإغريق وتفاصيل الأديان، ربما أتاحت له معرفةَ تراثِ الهند وفارس والصين عندما كان في بغداد، ربما سمحت له بحضور مجالس أدبية شهيرة، لاسيما في بغداد، مدينة السلام...
لكنه في الحقيقة لم يكن يريد من رحلته تلك (وخبرُ إطلالتهِ على أيةِ مدينةٍ ينتشرُ فيها قبل وصولِهِ بأيام) إلا أن تعرفَ هِنْدُ أن عاشقها الضرير جاء يبحثُ عنها، لا غير!...
عَبَثاً!...
وصلَهُ ذات يوم وهو في بغداد، بعد سنةٍ وسبعة أشهر من سفره، خبرُ مرضِ أمه! هرع للعودةِ للمعرّة آملاً أن تكون هِنْدُ قرب مخدعِ «ستِّ الحبايب» وأغلاهم!...
تحطَّمَتْ آمالُه سريعاً: ماتتْ صاحبةُ «سورةِ الألوان» وهو في طريق العودة!...
سألَ على التو:
- «هل كانت هِنْدُ قربها؟»
– «كلا!»...
سقط هذا الردُّ على جمجمتهِ كمطرقة. تضاعفتْ صدمتُهُ، انكسر إلى الأبد!...))
تسترسلُ أمّي وهي تحاول أن تخفي دمعتين على وجنتيها الضامرتين:
((قرّر حينها أن يحاول لملمةَ كلّ انكساراته، ويتصومع في بيته حال وصوله المعرّة، وحتى نهاية العمر!...
كتب، وهو في طريق العودة، رسالتَهُ الشهيرة لأهل المعرّة التي قال فيها إنه سينعزلُ في بيتهِ ولن يغادره لأي سبب، راجياً منهم احترامَ رغبتهِ وعدمَ مؤاخذتهِ على ذلك القرار، هم الذين يتنافسون، حاكماً أم محكوماً، عالِماً أم جاهلاً، غنيّاً أم فقيراً، على دعوةِ جلالتهِ لمجالسِهم والتباهي بحضوره!...))
*****
تصومعَ الشاعرُ الضريرُ في عشٍّ بدونِ شمسٍ وهواء، بِدون أمِّهِ وهند، اسماه السِّجن الثالث!...
أو بالأحرى، دخل في غيبوبةٍ دامتْ شهراً كاملاً من البكاء المتواصل، والألم والانعزال الكامل... بدونِ أمٍّ كانت تحتضنهُ ككتكوت، وتجعلهُ يشعرُ أن الدنيا تستحقُّ الحياةَ، حتّى لو كانت ظلماتٍ بعضها فوق بعض... وبدون هندٍ كانت تضيء ليلَ حياتهِ البهيم!...
شهرٌ كاملٌ من البكاء المتواصل قبل أن يتذكّر أخيراً أن عليه أن ينضحَ شِعرَه، أي: غذاءه الروحي لمن قالت له إنّها تحتاجُه، تريدُه، «تعشقُهُ عشقاً»، وسترجع بحثاً عنه حتماً ذات يوم!...
صاحبةُ حديثِ التكرارين!...
لا طريق أمامهُ إذن إلا أن يتشبّثَ بخيط دخان!...
تستأنفُ أمّي:
((لم يعزل نفسه عن الكون مع ذلك: ظلَّ بيتُهُ مفتوحاً لمن جاء لِطلبِ المعرفةِ والأدبِ والحكمة، أو لزيارتهِ وتحيّتهِ وتقبيلِ يدِه! لم يتلكأ عن الردِّ دوماً على الرسائلِ الكثيرةِ التي كانت تنهالُ عليه!... لكنه ظلَّ فعلاً حبيسَ بيتِهِ نصف قرن، كَيُونُس في بطنِ الحوتِ، ولو بقرارٍ شخصي!...
لم يتوقّف طوال وُحدَتِهِ عن التسلُّقِ نحو قِمَمٍ أدبيّةٍ إنسانيةٍ خالدة، أعلاها دون شك: «لزوم ما لا يلزم»، 1578 قصيدة، 10649 بيتاً، إعجازٌ أدبيٌّ وفلسفيٌّ فريد! و «رسالة الغفران»، نصٌّ سردِيٌّ مدهشٌ خالد، دون الحديث عمّا كتبه قبل وُحْدتِه، مثل ديوان «سقط الزند» الذي تشرئبُ منه قصيدةٌ شهيرةٌ مذهلة، مطلعها:
غير مُجدٍ في ملّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنّمُ شادي!
أو عن كل ما اختفى من مؤلفاته ورسائله، إثر دخول الصليبيين المعرّة، والتي تُقدّرُ بأربعة أضعاف ما وصلنا منه!))
*****
الشاعرُ الأعمى أضاع عصاه! لذلك قرّر أن لا يُغادر محبسَهُ الثالث!...
عصاه: هند. محبسُه الثالث: كَونٌ من حُجْرتين.
حُجْرةٌ دخل فيها في جدلٍ فكريٍّ مع هند. وحُجْرةٌ دخل فيها في جدلٍ جسديٍّ معها...
قطبٌ سلبيٌّ وآخرُ موجب: كهرباءٌ تملأُ الأحاسيسَ والكلمات!...
لا يستطيع الابتعادَ عن هاتين الحُجْرتين إلا إذا استطاع الإنسان أن ينتزع كُرَتي دماغِهِ اليُمنى واليسرى من جمجمته، أن يضعهما على طاولةٍ أمامه، ويبتعد عنهما وهو ينظر باتجاههما مؤشراً بيديه: «باي باي، إلى اللقاء قريباً!»...
في حُجْرتَي منزلِهِ التي تنفّسَتْ فيهما هند يستطيعُ أن يتنفَّس، يُفكِّر. لا يستطيع ذلك خارجهما. إذا غادرهما فهو سيغادر رئتيه!...
هو لا يفكّر، لا يتخيّل، لا ينبضُ الشِّعرَ إلا عندما يتذكَّرها، لذلك هو يفكّر ويتخيّل وينبض الشِّعر دون توقّف. ولذلك يصنعُ لها على الدوام غذاءً روحيّاً عامراً بالهرمونات والفيتامينات، قالت له كم تُحِبُّه، كم «تعشقه عشقاً» حسب تعبيرها المفضّل!...
لكنه مع ذلك أضاع عصاه!... لذلك قرّر العاشقُ الحزين أن لا يُغادِر محبسَهُ الثالث!...
طنّتْ في ذاكرته للمرة المليار عبارةٌ تربطه بالحياة، كأنبوبةِ أوكسجين محشورةٍ في منخار مريض:
- لكني أعِدُك أني سأقرأُ كلَّ ما تقوله، سأحتفظ في ذاكرتي بكلّ فكرةٍ أو بنتِ خيال راودتَك وستراودك!... سأعود!...
وظّفَ، بعد عودتِهِ من «رحلة الأهوال» بِشهْرٍ قَضّاهُ بكاءً وحسرات على أمِّهِ ومعشوقتِهِ الضائعتين، كاتباً جديداً يقرأُ له ما يريد من الكتب والمخطوطات، ويكتب ما تجود به قريحته...
استهلَّ كاتبُه عملَه الجديد بقراءةِ كومٍ من الرسائل التي وصلتْ أبا العلاء من مُحبّيهِ ومُحاوريهِ في بلدان شتّى، أثناء غيابه في رحلة الأهوال... لم تثرهُ واحدةٌ منها، اللهمّ إلا رسالتين صغيرتين من سيِّدةٍ تُسمِّي نفسها «صاحبة حديث التكرارين» لم يفهم الكاتبُ منهما حرفاً واحداً، فيما اقتلعتا قلبَ أبي العلاء من جوانحه!...
في الرسالة الأولى (التي كتبَتْها بِضميرِ الغائب) اعتذرَتْ عن مغادرتها ديار معشوقها. «كان ذلك مُستحسَناً ولازماً في كلِّ الأحوال»! لم تُعلِّل ذلك أكثر، لكنها أضافت: «تشتاقُ صاحبةُ حديثِ التكرارين لِمعشوقِها وتتذكّرهُ في كلِّ لحظةٍ وسَكنْة!»...
وفي الرسالة الثانية تقول إنها تابعت كل أخبارِ رحلةِ معشوقِها وأسفارِه، كلّ ما حدث له في مجالس مدينة السلام، كلّ «غذائه الروحيّ» الذي أنعمَها به، هنا وهناك، مُعلِّقةً: «تشتاق صاحبة حديث التكرارين لِمعشوقِها وتعشقهُ أكثر من أي وقتٍ مضى، كما لم يشتق إنسانٌ أو يعشق آخر!»...
حكّ كاتبُ أبي العلاء رأسه. لم يفهم شيئاً، أو كأنّهُ كذلك!...
تضيءُ الدنيا في عيني أبي العلاء بعد هاتين الرسالتين! تمتلئُ روحُهُ آمالاً وأشواقاً (وإن لا يشتاقُ المرءُ لِرئتيهِ كما قال!)...
أوكسجينٌ نقيٌّ عامرٌ يتدفّقُ في كلِّ جوانحِ وحنايا السجنِ الثالث!...
*****
أمّي، نوال التنوّخي، مُنهمِكةٌ في دراسةِ حياةِ أبي العلاء، ممحونةٌ بها. سافرت مرّاتٍ عديدة لِمدينة السلام (وإن لم يعد هذا الاسمُ يناسبُ بغدادَ كثيراً) لِتقتفي آثار أبي العلاء، ولِتُنقِّبَ عن كلِّ ما يرتبطُ بِرحلتِهِ من مخطوطات وآثار.
تخفي في صندوقِها السريّ الصغير مخطوطات وأسرار كثيرة، تساورني الرغبة في معرفة تفاصيلِها أحياناً، لكني لا أحب رائحة النفتالين والأكفان! لا أحبُّ أن أتدخّل في هذه الشؤون التاريخية، وأتحمّل مسئوليات تكسرُ كوعَ رِجلي!...
حوارٌ قديمٌ معها تَكرَّر أكثر من مرّةٍ في صباي:
- يلزمكَ أن تعرف أن هِنْدَ بعثتْ ابنتها نور عندما تجاوَزتْ العشرين، من اللاذقية إلى المعرّة، لحضور مجالس أبي العلاء الذي بدأ إثر وصولِها (أو بفضلِ وصولِها، في الحقيقة!) «كتابةَ» روايةِ «رسالةِ الغفران»: «روايةِ الغفران»!... ألا يهمّك معرفةُ تفاصيل لقاءِ نور بأبي العلاء، التي لم تكن تعرفُ أنها ابنته؟... أمعقولٌ أن لا يُهِمُّكَ ذلك؟...
- سيُهمُّني، عندما أكبرُ أماه!...
(يُهمُّني أبداً الأكورديون الصغير!)...
9
حربٌ روحيّةٌ ضروس
أدرك الأعلى جدّاً، بعبقريتهِ التي لا حدودَ لألمعيّتها، منذ أن رأى هاذين الشقيقين، أن «حرباً روحيّةً» ضروس، ظاهرةً وباطنة، ستندلعُ بينهما ولن يخمد رحاها يوماً!... كفاهُ مجرَّدُ رؤيتهما ليستشفَّ ذلك:
الأخُ الأكبرُ (بعمامتهِ أو قلنسوته، بقميصِ الراهبِ الذي لا يفارقه، بشمعدانهِ أو عصاه وهو يصعدُ المنبر...) بطئُ الخطوات، له نظراتٌ تُشبِهُ السلاسل، صوتٌ صارخٌ يأمر وينهى بقساوة. يُقَضّي وقتَهُ راكعاً أمام التماثيل والقِبْلات، في حينِ لا يركعُ في حقيقتهِ إلا لِلحاكم!...
الأخُ الأصغر (بِشَعرهِ المنفوشِ على طريقةِ إروين شرودينجير، بنظّاراتهِ الدائرية وقامتِهِ الفرويدية، بلِسانهِ «المُلاوِقة» على طريقة اينشتاين، بغمزةِ عينيهِ على طريقة كارل ماركس) شاعرٌ تائهٌ لا أكثر ولا أقل، يكتبُ شِعرَهُ بالأرقام والصيغِ والمعادلاتِ والأمواجِ الكهرومغناطيسية وأشعةِ الليزر، لأنهُ فشل ذات يومٍ في كتابتِهِ بالكلمات!...
لم يتوقّف، كما لاحظ الأعظم جدّاً، تنازعُ الأخوين على نفس الأرض منذ بدءِ حياتهما المشتركة. كيف يمكن غير ذلك، ووسيلتاهما في التفكير تقعان في أقصى طرفي قُطرِ دائرة؟:
وسيلةُ الأخِ الأكبر: الآلهة!... خلقَها وكيّفَها مع حاجاتهِ الاجتماعية، ومع بُنيةِ دماغِه، وجعلها تسيطرُ أكثر فأكثر على مركزِ حياته!... أعطاها بسخاء كلَّ القدرات الخارقة. أثّثَ لها عالَماً لا حدّ له، خارج عالَمِ البشرِ المرئي، شحَنَهُ بشياطين وملائكة وجِنٍّ وعفاريت وأم الصبيان...
دعاها جميعاً من هناك لِتسكنَ هذا العالَم المرئي الصغير، لِتتدخّلَ في كلِّ حركاتهِ وسكناتِه، لِتلِجَ في جماجمِ أناسِه، في أحشاءِ أجسادِهم وقرارةِ أنفسهم. لِدرجة أنه ألصق إثنين منهما: رقيب (مُسجّل الحسنات) وعتيد (مُسجّل السيئات) على الكتف الأيمن والأيسر لكلّ إنسان، مثل الثعبانَين الملتصقَين بِكتفَي الملِك الظالم سرجون في الأساطير الفارسيّة والكرديّة، الذي يُحتفَلُ كلّ عامٍ بموتِه على يدّ الحدّاد الأسطوري كاوا، في عيد النيروز الشهير، عيد الربيع!...
لاحظ الأعلى جدّاً أن إجابات آلهةِ الأخِ الأكبر نهائيةٌ قاطعة، لا يستطيع تخطيئها أحد!... العلاقةُ معها تتطلّبُ نَعَمَاً صريحاً خالصاً، إيماناً مطلقاً وعبادةً دائمة!... بعبارةٍ بسيطة، لغةُ الأخِ الكبير تتلخصُ بِكلمةٍ واحدة: «نعم»، كلمةِ القطيع، كلمةِ العبيد، كلمةِ الجسدِ الخاضع!... آمين!...
وسيلةُ الأخ الأصغر: المختبرات، البرهان العلمي، التجريب العملي... سنواتٌ وحيواتٌ من التفكير والمكابدة، من «التغذّي من جذورِ وعروقِ المعرفة» لِبرهنةِ هذه النظرية الرياضية أو تلك، لصنعِ هذا الجهاز أو ذاك!...
أقوالهُ ومداخلاته، كما رأى الأعلى جدّاً بإعجابٍ خاص، غيرُ قاطعة، تبدأ غالباً بِ: «لا أعرف بعد!...»، «يبدو لي أنّ...»، «من المحتملِ أنْ...»، «لكن يحتاج ذلك للبرهنةِ أوّلاً!...» يقولُ ذلك وهو يحكُّ ببطء ذقنَهُ العشوائي، مُبتسماً لِلعدَمِ بفتور، قبل أن يتثاءب بدون كياسةٍ مفرطة!...
لا تحتاجُ أطروحاتهُ لأية فرضيّةٍ أو وسيطٍ ميتافيزيقيين. يرفضُ أيَّة مسلّماتٍ مُسبَقةٍ لم يُبرهنْها هو نفسه مختبريّاً. تَقبَلُ فرضيّاتُه النقاشَ والدحض، تتجاوزُ نفسها يوماً بعد يوم، قبل أن تُقرَّ كمعارف يُسلِّمُ بها الجميع!...
من يستطيعُ، مؤمناً كان أم ملحداً، الطعنَ بنظريات فيثاغورس، نيوتن، داروين، اينشتاين، معادلة شرودنجِر؟...
(بما في أولئك الكنيسة الكاثوليكية: القلعةُ التاريخية التي ناهضتِ العِلمَ في أوربا طوال قرون!...
وإن احتاجت لِقرنٍ ونصفٍ من العداء الشّرسِ لِنظريّة داروين، قبل أن تعترفَ بها رسميّاً في عام 1996، على لِسانِ البابا يوحنا بطرس الثاني وهو يُدلي بهذا التصريحِ التاريخيِّ المكثّفِ الذي يشرحُ نفسه:
«نظريّة داروين أكبرُ من فرضيّة!»...
«أن تصلَ متأخراً أفضلُ من أن لا تصلَ أبداً!» كما يُقال، لأن العلومَ الجينيّة التي نشأتْ في الخمسيناتِ من القرنِ المنصرم أضافتْ حينها آخر البراهين العلميّة الساطعة لهذه النظريّة التي يتأسّسُ عليها علمُ الأحياء الحديث!...)
إجاباتُ الأخِ الأصغرِ دقيقةٌ مُرقَّمَة، لكنها مرهِقةٌ جدّاً في الغالب: يلزمُ لابتكارِها وقبولِها نزعُ مسلماتٍ وقناعاتٍ فَرَضَتْها آلافُ السنين من إجاباتِ الأخِ الأكبر، يلزمُ استيعابُ كلِّ تاريخ وتفاصيل تلك المسلمات والقناعات، كيف، لماذا، ومتى جاءت...
شفق الأعلى جدّاً على الأخ الأصغر عندما رأى أن ذلك مجهودٌ خارقٌ لا حدّ لِصعوبتِه!...
يلزم، في الحقيقة، إجادةُ الردِّ على خطابِ أساطين كهنةٍ عباقرةٍ في الميديولوجيا، عرفوا كيف يُكيّفون خطابهم منذ فجر التاريخ ويطوّرونه، كيف يستولون به على دماغِ الإنسان الذي يعرفون خارطةَ قلقهِ واحتياجاتهِ أكثر من غيرهم، كيف يُضرِمونَ دمَهُ هلعاً بتهديداتِهم له بالتعذيب والقتل والصَّلبِ في الدنيا إذا كفر بخطابهم، قبل «يومِ حشرٍ» و «جهنم» تتجاوزُ أهوالُها كل الأوصاف، تنتظرهُ عقاباً لِكُفرِه، في «آخِرَةٍ» صمّموها له أرهبَ وأدقَّ تصميم!...
لعلّ حكيم المعرّة قال أشياء كثيرة جدّاً عن ذلك منها:
طلب الخسائسَ وارتقى في منبرٍ يصفُ الحسابَ لأمّةٍ ليهولها
ويكونُ غيرَ مصدِّقٍ بقيامةٍ أمسى يُمثِّل في النفوسِ ذهولَها
فخُذِ الذي قال اللبيبُ وعشْ به ودعِ الغواةَ كذوبَها وجهولَها!
لم يكتف هؤلاء الكهنة بذلك!... عرفوا بِمهنيّةٍ فريدةٍ كيف يحشرون إجاباتهم في نسيج الرموز الأثيرةِ في حياة الإنسان اليومية لاسيما تلك التي ترتبطُ بعاداتِهِ وتقاليده، وكيف يجعلونها «اسمنت المجتمع»، كما يقولون!...
تمتمَ الأقدسُ جدّاً: «يا لِمشقّةِ مسعاه: يلزمُ على الأخ الأصغر دحضُ خطابٍ عملاقٍ التصقتْ كلماتُهُ بكرويات الدمِّ الحمراء للإنسان، وأكْسدَتْ مسلّماته عصبونات الدماغ البشري منذ آلاف السنين!...»
لاحظ الأعلى جدّاً: لغةُ الأخِ الصغير تتلخصُ بِكلمةٍ واحدةٍ ارستقراطيةٍ جدّاً: «لا»، أصعبُ الكلمات، كلمةُ الروح، كلمةُ عظماءِ التاريخ وثُوارِهِ وأنبيائهِ وعلمائهِ وفلاسفتِه!... بارك الأعلى جدّاً ميولَ هذا المتمرّدِ الدائمِ للرفضِ والقطيعةِ وتجاوزِ الذات! كم أحبَّهُ وهو يقولُ مثلاً: «لو اكتفيتُ بِتطويرِ الشموعِ وعربات الأحصنة، لما اخترعتُ الكهرباءَ والطائرات!»...
رأى الأعلى جدّاً أن للأخوَين منهجَين مختلفَين: كي يصلَ الأخُ الصغيرُ إلى أعلى العمارة يلزمُهُ أن يبني، بِجهدٍ جهيد، مصعداً كهربائياً أو سُلّماً متيناً. كي يصل إلى القمر يلزمُهُ ابتكارُ سفينةٍ فضائية...
فيما يكتفي الأخُ الكبيرُ بالوصول إلى قمة العمارةِ، والقمرِ، والسماءِ السابعةِ والسبعين، عبر معراجٍ هوائيٍّ اسمهُ أجنحة الآلهة، وهو نائمٌ في فراشه يرتِّلُ: «إن الله على كلِّ شيءٍ قدير» متوسِّلاً جلَّ جلاله، بكلِّ استجداءٍ وأمل: «آمين، يا ربّ العالَمين!»...
10
طفولةُ النور
وُلِدتْ نورُ في رحابِ دارِ السيّدة رقيّة بنت عبد الملك، خالةِ أمِّها: سيّدةٌ فاضلة، تمتلكُ عقاراتٍ وتجارةً رابحةً يُديرها وكلاءٌ لها وموظَّفون، فيما لا تهتمُّ هي إلا بِعقاراتِ الرّوحِ من أدبٍ وفلسفةٍ وموسيقى!...
إمرأةٌ فريدةٌ تحيى خارج السرب: لها آراؤها الخاصّة التي تخالفُ، في كلِّ شيءٍ تقريباً، العادات والتقاليد السائدة، وإن كانت تجيدُ التعاملَ مع أعرافِ زمانها وموازينِ قواه واتجاهاتِ تيّاراته بمرونةٍ وحكمة، وعدمِ اكتراثٍ أيضاً!...
تعتبرُ السيّدة رقية، التي لم ترزق طفلاً رغم زواجِها مرّتين، هِنْدَ ابنتها، بل أكثر من ذلك بكثير! ليس فقط لأنها بحاجةٍ لِممارسة أمومتها بشكلٍ أو بآخر فحسب، بل لأن في دارِها الرّحبِ، الرابضِ في علياء ضيعةٍ على مشارفِ اللاذقية، ترعرعتْ هند، قبل سفرِها بعد ذلك إلى المعرّة لِطلبِ الحكمةِ والأدبِ والمعرفةِ...
تربّتْ هِنْدُ على يدِ السيّدةِ رقيّة وارتبطتْ بها مُذّاك بحميميةٍ خاصّةٍ جدّاً... تبوحُ منذ طفولتها بِكلِّ ما يدور بخاطرها لِخالتِها رقيّة، ولها وحدها فقط. فيما تعتبر الأخيرةُ هِنْدَ أجملَ مشاريعِها وأعظمَ نجاحاتِها: علّمتْها الجرأةَ والوفاءَ لأحاسيسها، باحتْ لها بأسرارِها الخاصةِ وبواطنِ آراءِها الوجوديّة المُغلّفةِ غالباً، أذكَتْ فيها التفكيرَ العقلانيّ وحبَّ المعرفة... شاطرَتْها، دون أدنى غيرَة، حبَّ أبي العلاء (التي وُلِدتْ مثلهُ في عام 973 م) وإن لم تقابلْهُ يوماً إلا في الأحلام!...
ناهيك أنها سافرت هي نفسها إلى المعرّة، حالما وصلتْها من هِنْدَ رسالةٌ تبوح فيها بأنها حبلى من أستاذها الحبيب، لتأخذَها لِلحياةِ معها من جديد في دارِها الفاره: مسقطِ رأسِ هِنْدَ الأثير، أأمنِ بيتٍ لإنجابٍ هادئٍ سعيد، وأفضلِ مأوىً وحضانةٍ ومرتعٍ وقصر لِجنينِ «ابنتِها» هند، بكلِّ تأكيد!...
لعلّ السيدة رقية كانت تنتمي لِطائفةٍ غيرِ رسميّة تميلُ للتفكيرِ الحر، للقراءة النقديّة للكتب الدينية، لوَحدة الإنسان بكلِّ أطيافِ معتقداتهِ وألوانِ ثقافاتِه... طائفةٍ تعتبرُ صاحبَ «لا إمام سوى العقل» و «لا تحسب مقال الرُّسلِ حقّاً» أيقونةً لا يجود بمثلها الزمان إلا مرّةً كلّ عدَّةِ قرون...
ما هو مؤكّدٌ في كلِّ الأحوال: شرحتْ السيّدةُ رقيّة لِهند، قبل أيٍّ كان، أفكارَ المعتزلةِ وإخوان الصفا، أُسُسَ الفلسفات الشرقيّة والإغريقية...
أرسلتْها للتعلُّمِ في مجالسِ أبي العلاء، وأغدقتْ عليها بمصاريف حياةٍ لائقة، وهداياً كانت تبعثُها عبر هِنْدَ لِسيّدِ المعرّة الذي اشتهر بأنه كان يوزِّعُ كل ما تصلُهُ من هدايا للفقراء والمحتاجين!...
بعدما وصلت هِنْدُ القصرَ وهي حبلى بمضغةٍ في أسابيعها الجنينيّة الأولى، أقامتْ السيّدة رقيّة صلاةَ الميّتِ الغائب وحدادَ بضعةِ أيام لموظَّفٍ عندها اخترعتْ سيرتَهُ الذاتيّة وفصّلتها بما يلزمُ من المقاييس:
قالت للملإ إنه زوج بنتِ أختِها. وأنّها رتّبَتْ هي نفسها زواجَهُ بِهند، قبل بضعة أشهر...
مات، رحمهُ الله، في سفينةٍ تجاريّة غرقت في طريقها إلى شواطئ الهند!...
كان رجلاً فاضلاً، صالحاً، صادقاً، يشتغل منذ سنين في تجاراتها بأمانةٍ وذكاءٍ وإخلاص...
مشكلتُه، سامحهُ الله: يحبُّ الأسفار كثيراً، لا يقرُّ له قرار إلا عندما يستعدُّ لِسفرٍ جديد... لكنّ البحرَ غدّار لا يرحم، يلقفُ من يريد، لا يقرُّ لها قرارٌ أيضاً!...
يرحمه أرحم الراحمين!...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!...
أرادتْ هكذا أن تُجير هِنْدَ من كلِّ قيلٍ وقال يوشكُ أن يعكِّرَ ولادتَها، لِتنام قريرةَ العين، ولِتتمتّع بما تبقّى من أشهر الحمل... ناهيك أن السيدة رقية تعتبرُ هذا الجنينَ، الذي يُجسِّدُ ويُخلِّدُ عشقَ أبي العلاء وهند، أنبلَ وأقدسَ هديّةٍ يمكنُ لِلسماءِ أن تمنحها لِعاشِقَين!...
ما إن بلغَتْ نورُ السابعةَ من العمر إلا وصارت بؤرةَ الدّار، فرّاشتَهُ وجذوتَه!... يتحدّثُ الجميع فيه عن ذكائها المبكِّر، قاموسِها الرحب، تفاعُلِها مع كلِّ ما يحيطُها بِحبّ استطلاعٍ وتلقائيةٍ وديناميكيّةٍ جذّابةٍ مثيرة... يُردِّدُ الجميعُ عباراتها الأثيرة، تركيباتها اللغوية الطفوليّة المدهشة، يميلون للدردشة معها حالما تُطِلُّ هنا أو هناك!...
لِعينيها لمعةٌ راقصةٌ أدهشتْ محيطَها، تطفحُ حذقاً وفطنةً وحيويّة!...
لها جَمالٌ يتجذَّرُ يوماً بعد يوم. يُنذِرُ، بعد سنواتٍ، بصاعقة!...
انتشر خبرٌ فحواه أن موظفاً أخرس يعمل في قصر السيّدة رقيّة نطق عند رؤيتها قائلاً: «لم أر في حياتي طفلاً بهذه التلقائية والألمعيّة!»...
لم يكن أخرس في الحقيقة، كما تقولُ الروايات التي تميل دائماً للمغالاة عند الحديث عن نور. امتنع عن الكلام فقط منذ 15 عاماً، بعد أن فقد طفلَهُ الصغيرَ الذي خرج معه ذات يومٍ إلى السوق لشراء بعض الحاجات، ثمّ غاب عن مرآه عندما كان مستغرقاً بالحديث مع تاجر، قبل أن يختفي عن الأبصار كليّة، رغم تفتيش الجميع عنه في أزقّةِ وحوانيت السوق!...
من يدري، لعلّه سقطَ في بئرٍ بلا قاع، أو اُختُطِفَ من رَجُلٍ أو امرأةٍ بدون بنين، أو من سارق أطفالٍ متخصِّص هربَ بهِ لِديارٍ بعيدة... لم يسمع عنه بعد ذلك أحد، كما قيل!...
عندما يئس الأب من العثور على ابنه أقسم أن يمتنع عن الكلام حتى الموت، إذا قُدِّر له أن لا يرى ابنه قبل ذلك!...
*****
غرست السيّدةُ رقيّةُ حبَّ الموسيقى في جينات نور، مثلما أشعلتْ هِنْدُ فيها حبّ الشِّعرِ والأدبِ والكلمات!... لجأت الأولى لأسلوبٍ «عسكريٍّ» حميد للوصول إلى مأربِها، والثانية لِ «مؤامرةٍ» مباركة لِتحقيقِ هدفِها!...
بدأت المؤامرةُ المباركة منذ زمنٍ مبكِّرٍ جدّاً: كانت هِنْدُ تضمُّ نورَ كلّ يوم وهي في أشهرها الأولى إلى صدرهِا بِرديف، ثمّ تخرج ملتصقةً بها سويعات في البساتين المجاورة لِقصرِ خالتها، أو في السهول والأودية القريبة، على الأعشاب أو قرب السواقي، أو في شواطئ اللاذقية أحياناً... تُقضّيها في المشي محتضنةً صغيرتَها، تثرثرُ وتلعبُ معها بحميميّة!...
تختلي بها كليّةً خلال تلك السويعات، «رأساً برأس» بكلِّ ما في الحبِّ الأمويّ الجارف من حميميّةٍ وتفانٍ، تُرتِّلُ لها الشِّعرَ أو تُغنِّيه بِسعادةٍ وتوحُّدٍ خالص، لاسيما شِعر معشوقِها الذي يتلَظّى من الضنك، ويموتُ وُجداً منذ أن حرمتْهُ من كلماتِها، صوتِها، عِناقِها، رائحةِ مساماتِها، عبقِ رضابِها... وتركتهُ وحيداً في محبسِهِ الثالث في المعرّة، مُداناً بالنزيفِ الإبداعيّ المؤبد الذي «تعشقهُ عشقاً»، كما قالت!...
أين آلهةُ الشفقة، يا أعدل العادِلين!...
أين ملائكةُ الرحمة، يا أرحم الراحمين!...
لم تتوقّف هند، خلال سنواتٍ طويلة، عن هذه الطقوس التي كانت تمارسُها في الصباحات الباكرة حيناً، وفي لحظات الغروب حيناً آخر، والتي تجدُ فيها سعادةً خالصة، متعةً وراحةً كبيرة، وتصالُحاً مع أشياء كثيرة:
تذوبُ أثناءها في بوتقةِ ثالوثٍ طرفاهُ: ابنتُها الملتصقةُ بصدرها، ومعشوقُها البعيدُ الملتصقُ بقلبِها والتي تشتاقُ له حدّ الجنون، وإن لا يعرفُ هو كيف يشتاقُ لها، لأن «المرءَ لا يشتاق لِقلبهِ ورئتيه»، حسب تعبيرهِ الزائف، المتعالي جدّاً، لأنه في واقعِ الحال يبكي رطلَ دموعٍ كلَّ يومٍ شوقاً لِصوتِها ورائحتِها ونقاشاتِها ونهاياتِ مباريات شطرنجاتِها!...
نجحت المؤامرة: امتلأتْ آذانُ نور هكذا بإيقاعات الكلمات منذ أن وُلِدت تقريباً. ذاب موسيقاها في خلايا نور، مُبلَّلاً بِصوتِ أمِّها، منذ أن كانت تَرضعُ حليبَ هِنْدَ الشهيَّ الدافئ!...
اعتجن مسمعُها وتشرّبتْ أليافُها العصبيّةُ بالشِّعر، لاسيما شِعر حكيم المعرّة، التي لاحظت منذ وقتٍ مبكِّر أن عَيْنَي أمِّها تغرورقان بالدموع عند تلحينهِ وغنائه!...
تسأل نورُ أّمَّها أحياناً:
- أين أبي؟ حدّثيني عنه!...
- توفّى رحمه الله غرقاً في سفينةٍ تجاريّةٍ قرب شواطئ الهند!...
ثمّ تتركُ هِنْدُ سفينةَ «زوجِها» السكرانة تغرقُ بِهدوءٍ في محيطٍ بلا قاع، لِتستغرق في الحديث عن أستاذها القديم، شِعرِه، عاداتِه، ضحكِه، مبارياته في الشطرنج والنرد، نكاتِه، وطقوسِ مجالسِه في المعرّة...
- لماذا تحدّثيني عن أستاذكِ القديمِ دائماً؟...
- لأنك ستدرسينَ في مجلسهِ عندما تكبرين أنتِ أيضاً!...
- وأبي، هل كان ينظمُ الشِّعر؟
تبتسم هند... تُقبِّلُ نورَ بحرارة، تحتَضِنُها...
دمعتان من جديد!...
لاحظت نور أن أمّها ماكينةُ بكاء، تسيل دموعها على وجنتيها على الدوام!... لكنها لا تسيل فقط إلا عند تذكُّرِ أستاذِها القديم (أي معظم الوقت!)...
- هل تألّمَ أبي عندما مات في السفينة؟...
- لا... الله أعلم!... رحمه الله!...
ثمّ تدور هِنْدُ 180 درجة في الاتجاه المعاكس، تُغنّي لها أبا العلاء:
غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنّم شاذِ
ثمّ:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلٌ عفافٌ وإقدامٌ وحزمٌ ونائلُ
دمعتان ولهانتان من جديد!...
*****
ترعرتْ نور هكذا في أحضان مُربِّيَتين إلهيّتين: هند ورقية. رافقهما، بعد أن كبرتْ قليلاً، مدرِّسون يجيئون إلى دارِها لِتدريسها الشِّعرَ والبلاغةَ والموسيقى والعلوم!...
عاشتْ صباها بِحيويّةٍ وشغفٍ وتفجُّرٍ وحريّة: ربطتْها بِصبيّات أهل الضيعة والأقارب صداقاتٌ وثرثراتٌ دائمة... تحبُّ الحديثَ المتنوّعَ المملوءَ بالجديد المدهش مع محيطها، صغاراً وكباراً...
أصبحتْ أيضاً تخوضُ النقاش، بِتمكُّنٍ أكبر كلّما مرّت الأيام، في شئون الساعة ويوميّات الناس، في أمورِ الشِّعرِ والبلاغةِ وأخبارِ الأقدمين، في الصراعات المذهبيّة والخلافات الطاحنة والحروب التي تعمُّ ديارَ المسلمين!...
لِنور صوتٌ سماويٌّ لا تخونهُ الكلمات: تهبطُ نحوهُ عموديّاً من عليّين، تنسابُ في نبراتِهِ مذهلةً نقيّةً طازجةً رقراقة...
تجيدُ الغناءَ أيضاً أيّما إجادة. الموسيقى والشِّعرُ بالنسبة لها شغفٌ جينيٌّ وراثيّ، حاجةٌ عضويّةٌ يوميّة ماسّة، وليسا مجرّد ترف: لا تنام في غرفتها مثلاً قبل أن تغنّي لِوحدِها بصوتٍ مسموع...
تصغي لها هِنْدُ ورقيّةُ من غرفتين مجاورتين وهي تشدو ذات مساء:
ألا هبّي بصحنكِ فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
تخضلُّ عيناهما بِدموعِ الإعجاب والدهشة والطرب في نفس الوقت، عند سماع صاحبة الصوت السماوي تغرِّد:
كأنَّ متونهنَّ مُتون غُدرٍ تُصفِّقُها الرياحُ إذا جرَيْنا
تضطجعُ هكذا نور على متون غديرِ نبراتِها الوثيرة التي تُصفِّقُها رياح الموسيقى. تَثقُلُ جفونُها رويداً رويداً على إيقاع تجاعيد ذلك الغدير الرقراق، لِتهيمَ بعد ذلك في أرخبيل جزرٍ بعيدة لا تغرقُ السفن قرب شواطئها إطلاقاً!...
11
«زرقاءُ يمامةِ» الفكر
تابع الأعلى جدّاً سِفْرَ تكوينِ دماغِ هذا المخلوق العجيب الذي لم يكتفِ خيالُهُ بخلقِ آلهتهِ فقط، بل تماهى معها أيضاً، افترستهُ الرغبةُ بمنافستها!... صارَتْ عُقدةَ حياته!... لا يفكرُ إلا بسرقةِ أسرارِها، مثلما سرق بروميثيوس النار من أيديها!... لا يحلم إلا بقضم التفاحة المحرّمة التي تكشف له ينابيع أسرارها وتمنحهُ صفاتها!...
تمتمَ الأقدسُ جدّاً: «مسكينٌ هذا المخلوقُ المسكون بِعُقدةِ الآلهة!»...
لاحظَ الأجلُّ جدّاً أن «الأخَ البكر» يبحثُ عن الاقتراب منها بِطقوسهِ وصلواته!... فيما يعتقدُ أصغر الأخوين أن كلَّ نظرياته وقوانينه، من صغيرِها وقديمِها (كنظرية فيثاغورس) لكبيرِها وحديثِها (كنظرية النسبية، النشوء والارتقاء، الميكانيكا الكونتية، الهندسة الجينية، الذكاء الاصطناعي...) اكتشافاتٌ تُقلِّلُ المسافةَ التي تفصلهُ عنها!...
يشعرُ في أعماقهِ أن كلَّ اختراعاته خطواتٌ تُقرِّبهُ من مصاف الآلهة: الأدوية، اللقاح وحبوب منع الحمل، الكهرباء، الموتورات، الإذاعة والتلفزيون، هذا الآيفون الصغير الذي يحمله والذي يرى فيه التلفزيون، يتّصلُ به بمن يريد في طرف الكون، يرتبطُ به في شبكة إنترنت، يستلمُ عبرهُ من الأقمار الاصطناعية خارطةَ المكان الذي يسير به، ويصغي فيه لِصوتٍ رشيقٍ يقودُهُ في الطريق حيثما يريد، يشحنُ ويقرأُ في شاشتهِ ما يشاءُ من الصحف وملايين الكتب المنصوصةِ في رفوف المكتبات الرقمية العملاقة!...
كلما كبر الأخُ الصغيرُ يوماً بعد يوم، ظنَّ أنه يخلعُ الآلهةَ من عرشِها رويداً رويداً، وهو يغزو مناطقَ جديدة من ملكوتِ أسرارِها: خارطةَ الدماغ وفهمَ خفاياه وآلياته، خارطةَ الجينومِ وتفكيكَ ألغازِه، رؤيةَ حركةِ المجرّات وتباعدِها المتواصل، الوصولَ إلى القمر والكواكبِ المجاورة، استنساخَ الكائنات الحية، برمجيات الكمبيوتر التي تهزمُ الإنسان بالشطرنج، أبحاثَ تطويلِ الحياة (أو تأجيلِ الموت)، تعديلَ خلقِ المولودِ قبل ولادته!...
أحبَّ الأعلى جدّاً الأخَ الصغير، سقطَ في غرامه!... لم يحقد على الأخ الكبير أو يُفكّر بالانتقام منه عندما لاحظ أنه ينتحلُ اسمه على الدوام، فيما هو نقيضٌ له في كل شيء: الحقدُ والكراهيةُ والانتقامُ ومكرُ الماكرين من صفات «أخلاق العبيد»، بالمدلولِ النيتشويِّ لهذا المفهوم، والأعلى جدّاً أسمى وأنزهُ من أن تلتصقَ بهِ صفاتٌ دنيئةٌ كهذه!...
استدعى الأعلى جدّاً أمينيائيل: ملاكَهُ المطيع، مديرَ مكتبهِ الأسمى، ساعي بريدهِ الأثير!...
مثلُ كلِّ مرّةٍ يقتربُ فيها من عرشِ الأعلى جدّاً، يسجدُ ملاكُه الأمين سبعة وسبعين سجدةً تتكهرَبُ من شُحنةِ خشوعِها كلُّ المجرات!...
قال الأعلى جدّاً لِملاكِه الأمين:
- أريد، عزيزي أمينيائيل، تخليدَ هذا الكون العبقري بمتحفٍ هائل في السماء 77، أكرِّمُ به هذا المخلوقَ الصغيرَ المدهش الذي يبتكر آلهته بنفسه، يخلعها من عرشها، لينتصّ محلّها!... أرأيتَ، عزيزي أمينيائيل، منذ فجر الأبديّة، أعجبَ من ذلك؟...
لم يُذهِل الملاكَ شيءٌ في الحقيقة: يعرفُ كوكبَ الإنسان عن ظهرِ قلب، لأنه مديرُ مكتبِ الأعلى جدّاً المختصُّ بِملفاتِ كلِّ أكوانِه، وساعي بريدِهِ الخاصّ إليها!... لذلك تمتمَ في أعماقِه: «لم يرَ الأقدسُ جدّاً من الجَمَلِ إلا أذنَه!»...
أعطاهُ الأعلى جدّاً كل الصلاحيات، تركهُ وطاقمَهُ المجرار يتابعون أوّلاً بأوّل شئون وأحوال حياة كوكبٍ لا أهمية له، في كونٍ لا أهمية له... فيما يقضي الأجلُّ جدّاً وقتَهُ الثمين يغمِرُ سماءَ الأبديّة بألعابٍ ناريّة من البيج بونجاتِ الكونيّةِ العملاقة...
ردّ الملاك الأمين:
- سمعاً وطاعة أيها الأجّلُ جدّاً، الأعلى جدّاً، الأعظمُ جدّاً!... أعرف ذلك الكوكب عن ظهر قلب، وإن لا أفهم شيئاً من شعبكات وخربطات ما يدور به! اسألني ما تشاء عن أخبارِه، سأجيبك حالاً! لم أحب ضيعةً أو قريةً في أكوانك العملاقة، مثلما أحببتُ ذلك الكوكب، ولم أفكّر بِخنقِ رقابِ سكانِ كوكبٍ أشعلوا شعرَ رأسي شيباً إلا سكان ذلك الكوكب!...
ثمّ انصرف الملاكُ العظيم لِيعودَ بعد لمحة بصر بِمخطّطٍ معماريٍّ دقيقٍ للمتحفِ الذي أمر الأجّلُّ جدّاً ببنائه!... اقترحَ للأعظمِ جدّاً بُنيةً دائرية قطرها آلاف الكيلومترات. على جدارها الأسطواني شاشاتٌ عملاقة تنقلُ كلَّ أفلامِ مراحل أوديسة الكوكبِ والحياة لحظةً لحظة، كما حصلتْ فعلاً!...
للمتحف بابان متجاوران. اقترح الملاكُ السَّنِيُّ أن يسمّى الباب الأول «باب داروين» تخليداً لِصاحبِ نظرية النشوء والارتقاء، وأن يسمّى الباب الثاني «باب اينشتاين» تخليداً لِصاحب نظرية النسبية!...
يمكن عبورُ المتحف من باب داروين، باتجاه عقارب الساعة، لرؤيةِ تاريخِ الكون والحياة أوّلاً بأوَّل منذ الانفجار الكوني الكبير. ويمكن عبوره من باب اينشتاين، في الاتجاه المعاكس، لرؤيةِ التاريخ بشكلٍ تنازليّ من الحاضر حتى بداية البدايات!...
اقترح أن يكون للبابين مدخلٌ واحد، تعلوه لوحةٌ طولها بضعة كيلومترات، منحوتٌ عليها، بالأحجارِ الكريمةِ المنتقاةِ من أفضل جواهر كواكبِ دربِ اللبانة، بيتُ شعرٍ خالد:
والذي حارتِ البرية فيهِ حيوانٌ مستحدَثٌ من جماد!
علّق أمينيائيل على البيت:
((قال هذا البيت، أيّها الأعلى جدّاً، قبل ألف عام شاعرٌ عربيٌّ لم يَطُف الأرضَ خمس سنوات بسفينة بيجل (كما فعل داروين) كي يدرك أصولَ الأنواعِ البيولوجية وشجرتها السلالية التي يسكنُ الإنسانُ أحدَ فروعِها الحيوانية، على مقربةٍ شديدةٍ من شقيقهِ العزيز قردِ الشمبانزي... ولم تعتورهُ الحاجةُ لاكتشافاتِ العِلمِ الحديثِ ليُدركَ أن الحياةَ اندلعت من الجماد، أو «استُحدِثت»، كما يقول ببلاغته الحصيفة!...
ما أبدعهُ وأكثفهُ وهو يستخدمُ معا هاذين التعبيرين: «حيوانٌ» و «مستحدَثٌ من جماد» في نفس الشطر!... ما أروعَ روحهُ البلوريّة وهو يُلخِّصُ نصف العِلْمِ الحديث في نصف بيتِ شعر!... ناهيك أن ذلك الشاعر العبقريَّ كانَ...
كانَ...
كانَ...
ضريراً منذ فجرِ طفولته!...))
وافق الأعلى جدّاً، دون تردّد، على المخطط المعماري لملاكهِ الرائع!... لاحظَ أنه استشهدَ في مخطَّطِه أكثر من مرة بأبي العلاء، وفي مواقع حسّاسةٍ جدّاً:
ثمة مثلاً لوحةٌ فوق بابِ داروين مباشرة مكتوبٌ عليها:
أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي بأنواعهِ، لا بوركَ النوعُ والجِنس!
علّق أمينيائيل على اللوحة قائلا:
((لا أعرفُ من أهلِ البشرِ واحداً، قبل أبي العلاء، شعَر بِحَدسٍ إلهيٍّ ثاقب أن كلَّ الأنواعِ الحيّة، حيوانات ونباتات وطحالب وبكتيريات وغيرها، تُشكِّلُ شجرةً تطوُّريَّةً واحدة، انبثقتْ من نفسِ الجذر!...
أي: جنسٌ واحد، كما قال الشاعر!...
أليس ذلك فحوى نظريّة داروين؟))
ثمة أيضاً لوحةٌ مذهلةٌ جدّاً، تُكمِّلُ اللوحة السابقة، مكتوبٌ عليها:
جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!
تقعُ بعد بابِ داروين، في علياءِ قسمٍ تنقلُ شاشاتُه صوراً حيّةً لِتطوُّرِ الجنس البشريّ، منذ فجرِ الحياةِ إلى الآن!...
علّق أمينيائيل على اللوحةِ بِحماسٍ محموم:
((ما أدهى كلمة: «جائز» في هذا البيت! ماكرةٌ عبقرية!...
يالِجبرّوتِها: تُفجِّرُ كعُبْوةِ ديناميت عمارةً ضخمةً من العقائد العتيقة الصماء، تطيح بها بقوّةٍ هادئة!...
من خطر له، قبل عشرة قرون، أن الإنسانَ جذعٌ في شجرةِ الأنواعِ الحيّة، انتقلَتْ فروعُ أغصانِهِ من نوعٍ إنسانيٍّ إلى نوع، من «آدمٍ لآدم» كما يقولُ الشاعرُ بألمعيتهِ الفريدية، قبل أن يصلَ إلى صيغتِهِ الحالية: هومو سابيانس، الإنسان الحديث!...
بين «آدمِ ابن آدمِ» الذي درستْهُ وبرهنتْ على سلسلةِ تطوّراتِهِ البيولوجية حفريّاتُ ومختبراتُ الأخِ الأصغر، و «آدمِ ابنِ النفخةِ في الصلصال» الذي يُلوِّحُ به الأخ الأكبرُ في بيارقِهِ ويُحرِقُ حيّاً من يرفضُ الإيمان بها، تكمنُ وتنطوي كلُّ الحروب الروحيّة الخفية!))...
ثمّة أيضاً هذا الشطر: «يرى الفكرُ أن النورَ في الكونِ مُحدَثٌ» يقعُ في قسم «ولادة الضوء» الخاص بتشكُّلِ فوتونات الضوء بعد 380000 عاماً من البيج بونج، قريباً من باب اينشتاين!...
علّق عليه أمينيائيل قائلاً:
- إلهي، كيف شعر هذا الأعمى أن ثمّة لحظةً محدّدةً وُلِدَ فيها الضوء في كونٍ كان يسبح قبل ذلك في بحر الظلمات؟...
ثمّ أردف (حتّى لا يدعكَ مزاجَ الأعلى جدّاً وإعجابَهُ الأثير بعبارة: «الضوءُ ظلُّ الله») قائلاً:
- لا ينفي ذلك، أيّها الأعلى جدّاً الأقدس جدّاً، عبقريةَ وروعةَ عبارة الشاعر جوزيف جوبير: «الضوءُ ظلُّ الله» التي لا أملُّ ترديدَها، بل يفتكُ بي جمالُها فتكاً كلّما استذكرتُها (يعني معظم الوقت)!...
ثمّة أيضاً هذا الشطر: «وزمانٌ على الأنامِ تقادمْ!» في القسم الخاص بالزمان (الذي وُلِدَ مع البيج بونج)، قرب «بابِ اينشتاين» مباشرة، تخليداً لمن أدرك ببصيرتهِ أن الزمانَ سبقَ ظهورَ الحياةِ والأنام، «تقادمَ عليها» (بحوالي تسعة مليار سنة، كما سيُحدِّدُ العلمُ بعد موتِ أبي العلاء بحوالي تسعة قرون!)...
عبّر أمينيائيل ببراءته الشهيرة وصدق أحاسيسه عمّا يختلجُ في مشاعرهِ قائلاً:
- ما أغرب بشر ذلك الكوكب: أبصرُهم أعمى! لعلَّ فقدان البصرِ بصيرةٌ فعلاً، وتَحرُّرٌ من سرابِ مرايا الواقعِ وخداعِ بريقِه الوهمي!... ربما تمكّن تيريزياس الأعمى، بسببِ ذلك، من التنبؤ بأن أوديب سيقتلُ أباه ويتزوّجُ أمّه!...
أُعجِب الأعلى جدّاً بأبي العلاء («زرقاءُ يمامةِ الفكر»، كما يسميه أمينيائيل) الذي لم تَنْحَنِ البشريةُ بعدُ إجلالاً له!... أمر ملاكَهُ الحبيب، بِوُدِّه الربّانيِّ الغامر:
- لا تنس، عزيزي أمينيائيل، أن تكتب تحت أبيات شِعرِه: «أبو العلاء المعرّي (شاعرٌ ضرير، وُلِدَ بمعرَّةِ النعمان في عام 973، ومات في عام 1058!)»...
علّق أمينيائيل (الذي لا يستطيعُ منعَ نفسهِ عن التعليقِ على كلّ شيءٍ ولا شيء، لاسيما في حضرةِ حبيبهِ الأكبر، الأعلى جدّاً):
- مات قبل ألف عامٍ وعامٍ بالضبط من نشرِ كتاب «أصل الأنواع»!...
12
أصفادُ السجنِ الثالث
شاركتْ أمّي ذات يوم، دون أن يعرف أحدٌ أنها سليلةُ أبي العلاء، في ندوةٍ خجولةٍ (لم يسمع بها أحدٌ تقريبا) عن مرور ألف عامٍ على ميلاد أبي العلاء!...
قالت في مداخلتها ما يلي عن سنوات عزلةِ سلَفِها في قضبان بيتهِ لِمُدّةِ خمسين عاماً:
((خمسون عاماً من التصومعِ والزهدِ في أصفادِ محبسِهِ الثالث الذي يقبعُ داخله محبسُهُ الثاني: الجسد، الذي يقبعُ داخله محبسُهُ الأول: العمى:
أراني في الثلاثةِ من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لِفقدي ناظري ولزومِ بيتي وكَونِ النفسِ في الجسدِ الخبيثِ
مارس خلالها طقوسَ التأمُّلِ والبحثِ والمكابدةِ والخلق، بعيداً عن لغطِ الغوغاء وبريقِ الزيفِ اليومي.
خمسونَ عاماً توالتْ ببطء، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، لِيسيلَ من تعاقبِ دقائقِها وساعاتِها، شهيقِها وزفيرِها، عسلُ الحكمةِ الصافي الذي صبَّ نهرُهُ في صحراءِ أمّةٍ جاحدةٍ صمّاء، انقطعَ عِرْقُ الذوقِ من جبينها!...
وأنفقتُ بالأنفاسِ عمري مجزئاً بها اليومَ، ثمّ الشهرَ، يتبعهُ الشّهرُ
يسيراً يسيراً مثلما أخذ المدى على النأي ماشٍ في جوانحهِ بُهرُ
كَذَرٍّ على ظهرِ الكثيبِ فلم يزل به السيرُ حتّى صار من خلفِهِ الظّهرُ
شِعْرٌ رهيفٌ كَسَيرِ الذرِّ على ظهرِ الكثيب، لَدُنِّيٌّ خالص!...
قطعةٌ سيمفونيّةٌ جنائزية بإيقاعِ عُمْرٍ طويلٍ يُنفَقُ شهيقاً وزفيراً، مثلُ شطرِ بيتِ شِعرٍ يتلوهُ شطرٌ آخر، خلال حياةٍ كلّها شِعر... يُنفَقُ شمعةً تتقدّمُ وراء شمعة، في ظلامٍ سرمديٍّ لِلَيلٍ بهيم...
يصعبُ أن يكونَ الشِّعرُ أكثر شِعْراً من هذه الأبيات!...
خمسون عاماً «أدار ظهرَهُ بعدها للكثيب» كما يقول بأجملِ الكلمات، أثْرَتِ الأدبَ والفلسفةَ الإنسانيين أيّما إثراء، كتب خلالها «رهين المحبَسَين» (كمّا سمى نفسه) أهمَّ أعمالهِ العظيمةِ الفريدة، لاسيما ديوانَهُ الإنسكلوبيديَّ الخالد: «لزوم ما لا يلزم»، ونصَّهُ السرديَّ العبقري: «رسالة الغفران»))
لم تضف أمي هذه العبارة السريّةَ للغاية، المكتوبةَ في إحدى أوراقها، في ملفٍّ مُحصّنٍ في صندوقِها السريّ: «غايتهُ في كلِّ ذلك أن تقرأهُ هِنْدُ ذات يوم!»...
لم تضف أيضاً عبارةً أخرى في مداخلتها كان سيمنعها سيفُ الرقابةِ السوريّ: «سجنهُ الثالثُ يقبعُ اليوم قرب سجنِهِ الرابع: القبر، الذي يقبعُ داخل سجنِه الخامس: المعرّة (التي أصبحت اليوم قبراً يرتعُ فيه الفقرُ والبؤس) يقبعُ هو الآخر داخل سجنٍ سادسٍ...»
لكنها أضافت في مداخلتها للندوة:
((عاش أبو العلاء فعلاً نصف قرن في «ماتريوشكا» سجونِهِ الثلاثة، لكن كلماته رحالةٌ تعبرُ الزّمن، خيولٌ جائلةٌ تسافرُ بِنعالِ الريح نحو المستقبل، تخترقُ القرون. يهوي جسدُ الفارس ويذوي، «ينقلهُ الحتفُ عن عاداتِه» كما يقول أبو العلاء، فيما تواصلُ خيول الكلماتِ، مشرئبةَ الأعناق، رحلتَها الأبديّة في دنيا الخلود:
لا خيلَ مثل قوافي الشعرِ جائلةً أبقى على الدّهرِ أعناقاً وآطالا
إن ينقُلِ الحتفُ عن عاداتهِ بطلاً فما تزالُ معانيهنّ أبطالا
))
ثم اختتمَتْ أمِّي مداخلتَها بهذه العبارة (التي يعرفُ مدلولَها من قرأ زرادشت!):
«هكذا تحدّثَ أبو العلاء!»، وإن لم يكن هناك أجمل وأقوى من خَيْلَي ذلكما البيتين الشعريّين وهما يعبران الدّهر بأعناق مشرئّبة، لاختتامِ أجملِ مداخلة!...
أحيّيكِ يا من تدمعُ عيناها دوماً عند قراءةِ الكلماتِ الأدبيّة الجميلة، نوال التنوخي، أمِّي!...
لم يبقَ لي الآن إلا أن أحيّيَ تلك التي بدأ كلُّ شيءٍ في هذه الرواية عشيّة اختفائها، في فجر رأس عام 2010، لمياء!...
*****
لمياءُ ترتدي فستاناً حريريّاً خفيفاً يمتزجُ فيه الأزرقُ بالأبيض. أزهارهُ رهيفةٌ سائلة، زرقاءُ جدّاً بِلونِ البحر الأحمر في الصيف، لونِ عالَمِها المفضّل: لمياء باحثةٌ متخصّصةٌ بِشُعَبِ البحر الأحمر المرجانية. تغادرُ باريس عدّة مرات سنويّاً باتجاهِ البحرِ الأحمر وخليج عدن وخليج سيناء لمُهمّاتٍ علميّة.
الفستانُ ناصعُ البياض، له لونُ قلبِها، لونُ بشرتِها الأسيلةِ النقيّةِ الناعمة!...
شقّةُ أصدقائنا في الحيِّ السادسِ من باريس، التي أصِلُها مع لمياء، جاهزةٌ لِحفلَةِ استقبالِ عام 2010.
اعتدنا، وأصدقاءَ آخرين، التحضيرَ جميعاً لِحفلات رأسِ السنة بِحُبٍّ وتأنٍّ وشغَف: كافيار، كبد البطّ المسمّن وسلمون مدخّن يصنعهما لنا متخصِّصٌ في مطعمٍ باريسيّ، قواقع وفواكه البحار والمحيطات، صوصات ومشويّات، كلّ ما ندر وطاب من الوجبات الغريبة اللذيذة والحلويات المختارة بعناية... بعض أرقى مشروبات النبيذ والشمبانيا... هدايا، سيجار فاخر، مفاجآت، موسيقى تختلطُ فيها «قُلْ لِلمليحةِ ذي الخمارِ الأسودِ» لصباح فخري، بِفالس رافِل، بِسيمفونيات أنتونان دفوراك التي تعشقُها لمياءُ عشقاً!...
أسمحُ لنفسي في رأس السنة بأن أتجاوز حدودي الدينيّة الصمّاء (كأسا نبيذٍ لا غير، في بعضِ الأيام فقط) من المشروبات الروحية، داعياً المولى عزّ وجل، على غرارِ أحدِ أحبِّ أصدقائي، أن «يخصم ما أشربه من مستحقّاتي من أنهار الجنة»!...
لكني أجد هذه المرّة بهجةً حقيقيّةً غيرَ اعتيادية في تذوُّقِ ألوانِ المشروبات بدون حساب، وكأني أريدُ تخديرَ شجونٍ ما، أو كأني أبحثُ عن «اللجوءِ الكحوليّ» للهروبِ من ظلال أشباحٍ غامضة تحتشدُ وتتناسلُ على جدران كهوف روحي. قرّرتْ، كما يبدو، أن يكونَ لها موعدٌ انفجاريٌّ معي في نهاية هذا العام الذي سال بين أصابعي بِسرعةٍ مارقة!...
13
سخطٌ ربّانيٌّ صامت
اختطف كوكبُ الأرضِ وجدانَ الأعلى جدّاً في آخر المطاف: لم تَعُد تُهِمُّهُ، كعادتِهِ، هوايةُ تفجيرِ البيج بونجات وصناعة الأكوان! شعر بنوعٍ من الضجرِ من ممارسة هذه الهواية التي تُسبِّبُ له الصداع، منذ مليارات السنين!...
لم يعد يمرُّ أسبوعٌ دون أن يَخْلُدَ للراحةِ بُرهَةً لانهائيةَ الصغر لمُراقبةِ ما يدور في ذلك الكوكبِ الضائعِ في مجرّةٍ صغيرةٍ في كونٍ مغمورٍ داخل محيطِ أكوانهِ اللانهائي!...
صار كوكبُ الأرضِ الضئيلُ ملاذَهُ اللذيذ من السأم، طفلَهُ المُدلَّل!...
استوعب معظمَ ما دار فيهِ، منذ تشكُّلِه، في أقلِّ من واحدٍ على مليارِ مليارِ مليارِ لمحةِ بصر. عرف خلالها سيرةَ حياةِ ملياراتِ ملياراتِ ملياراتِ البشرِ والحيوانات والنباتاتِ والبكتيريا والجماد في أقلِّ من واحدٍ على مليارِ مليارِ مليارِ ثانية. أجادَ خلالها لغاتَ كلِّ البشر (بما فيها اللغات المنقرِضة) أفضلَ من ناطقيها في أقلِّ من واحدٍ على مليارِ مليارِ مليارِ ثانية!...
غير أن الأعلى جدّاً، تألَّمَ وهو يُلاحظ أن الشرّ والآلام تغمرُ هذا الكوكبَ من طرفهِ إلى طرفه، منذ فجرِ التاريخ إلى الآن. الفقرُ والظلم والمجاعات تطحنُ معظمَ سكانه، الحروبُ ثابتٌ أزليٌّ فيه!...
يتغيّرُ ديكورُ المسرحِ الأرضيِّ من زمنٍ لِزمن لكن المسرحية نفسَها تتكرَّرُ على الدوام: عنفٌ ودمار، صراعٌ دامٍ للاستيلاء على السلطة والموارد، نهبٌ لا يتوقّف، خرابٌ وموت!...
ما أبشع هذا الكائن وهو يُحرِق مُدنَ جيرانه، يغتصبُ نساءَها وأطفالَها، يصنعُ أحقر المنكرات: النازيّة، الفصل العنصريّ (الأبارتايد)... يرتكبُ أحطَّ المجازر: الحروبَ الصليبية، الحربين العالميتين، تدمير هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرّية، المحرقة (الأولوكوست)، حرب فيتنام، احتلالَ فلسطين وتشريدَ شعبِه، جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، البوسنة، صبرا وشاتيلا، حَلْبَجَة... وعدداً هائلاً من أقذر الجرائم!...
ما أظلمَهُ مثلاً وهو يصلُ في سفينةِ كريستوفر كولمبس لِعالَمٍ جديد، يبحثُ فيه عن معدنٍ سخيفٍ أصفر! تتعانقُ أمامه قارتان مدهشتان، تسيلان أمامه. لا يُهِمُّهُ ذلك، بقدرِ ما يُهمُّهُ ويُسيلُ لعابَه بريقُ ذلك المعدن!... يُدرِّبُ أحصنتهُ وكلابَه لإبادة مليون هنديٍّ أحمر بهمجيّةٍ ووحشيةٍ بحثاً عن الذهب، في أرضٍ بلا ذهب (لم يتبق منهم إلا عشرون ألفاً بعدَ ذلك)!...
ما أقربه للجنون وهو يُلوِّثُ كوكبَهُ بنفايات المصانع وغازات الاحتباس الحراري التي تُذيبُ جليدَ المحيطات الثلجيّةِ والجبالِ الشاهقة، موشكةً أن تُفجِّرَ غضبَ الكوكب وتطيحَ بِتوازنِ منظومتهِ البيئية!...
تأوّهَ الأعلى جدّاً حسراتٍ ارتجّتْ لها «الثقوبُ السوداء» والمجرّات:
((آه، هذا المخلوق الصغير الذي استطاع معرفةَ التركيبِ الحميميِّ للذرَّة، الذي فكّ أسرارَ أصلِ الحياة، الذي صنعَ الكمبيوترَ وسكانيرَ قراءةِ الدماغ، هو نفسُهُ المخلوقُ الدمويُّ الناهبُ المُخرِّبُ المغتصبُ المجنون الذي اخترعَ القنبلة الذريّة، الأسلحة الكيماوية، الجحيم، الأسلاك الشائكة، الحدودَ الجغرافية وتأشيرات السفر...
هو نفسُه، يا للمأساة، من قال عنه أبو العلاء:
شرُّ أشجارٍ علمتُ بها شجراتٍ أنبتتْ ناسا
كلّهم أخفتْ جوانحهُ مارداً في الصدر خنّاسا
هو نفسُه، يا للكارثة، من قال عنه زرادشتُ نيتشه، رفيقُ أبي العلاء الذي لا تفصله عنه إلا تسعة قرون:
«في مسرحيات المآسي وفي مصارعة الثيران وأعمال الصَّلب كان يجدُ دوماً أكثر ما يغمرُهُ سعادةً على وجهِ الأرض. وعندما أخترعَ الجحيم كان ذلك جنّتهُ على الأرض!»...
ثمّة في هذا الكوكب، يا لِخيبتي، درَنٌ جذريٌّ يشتاقُ لِطوفان، كما قال أبو العلاء:
والأرضُ لِلطوفانِ مشتاقةٌ لعلّها من درَنٍ تُغسَلُ
))
تنحنحَ الأقدسُ جدّاً!
حكَّ رأسه بقلقٍ (لا يخلو من طوفانِ سخطٍ ربّانيٍّ صامت)!...
شعر بإحباطٍ مفاجئ، بِقَرف!...
راوَدتْهُ فكرةٌ قاسيةٌ جدّاً!...
14
لمياء
لا جديد في حفلةِ رأسِ عام 2010، اللهمّ أن أحدَ أصدقائنا حضر برفقةِ شاعرٍ كان يعبرُ باريس في طريقه للمغرب. اقترح صديقُنا عليه في الحادية عشرة والنصف بأن يقرأ بعض أعماله!...
كان الشاعرُ قد أعدّ سيناريو عرضهِ الشعريِّ بِشغَفٍ وأناقةٍ ومهارةٍ وعنايةٍ بالتفاصيل! شِعْرٌ مُكثّف، مغامراتٌ أدبيّة شديدةُ التنوّع والعَصْرِيّة، إلقاءٌ جذّاب، جنونٌ عنيف، كلماتٌ نقيّة تسيلُ على إيقاعِ موسيقىً وصوَرٍ تتناغمُ وكلَّ قصيدة، تتماوجُ على شاشةٍ كريستاليةٍ سائلة متّصِلةٍ بالكمبيوتر!...
كان العامُ الجديد قد بدأ قبل 35 دقيقة!... لم نلاحظ ذلك، نحن الذين اعتدنا التحديقَ في ساعاتنا قبل بدء العام بعشر دقائق، بانتظار ثانيةِ منتصفِ الليل القَدَريّة، كي نمارس طقوسَنا الوثنيّة:
نتعانقُ ونهنئُ بعضَنا ببدءِ عامٍ سعيد، بنفس دقّةِ توقيتِ قطيعٍ من أجدادِنا البدائيين في غابات أفريقيا، وهي تُباغتُ فِيلَ ماموت، تهجمُ عليه بالمشاعل من كلِّ الجهات، في نفس الثانيةِ كبرقٍ خاطف، تنقضُّ عليه، ثمّ تبدأُ أسبوعاً من الولائمِ والإجازاتِ الجماعيّة، تمارِسُ فيه العشقَ حتى الثمالة، وكثيراً من الرقصِ الجماعيِّ الليلي، والفنونِ الميتافيزيقيةِ التي تنقشُها في جدرانِ مغارةِ الجبل المجاور!...
انتصرَ شاعرُنا المغربي على طقوسِنا الوثنيّة، مثلما انتصرَتْ شهرزاد في ألفِ ليلةٍ وليلة، مثلما تنتصرُ الكلمةُ دائماً في آخر كل مطاف!...
كانت لمياء كعادتها جذوةَ الحفلة، نبراسَ الليلة، إلهتي الصغيرةَ التي أنتصرُ بها كلّ ثانيةٍ على الزّمن!...
عشرون عاماً من الحياةِ المشتركة معها مرّت كخمس دقائق! فتاةٌ في الأربعين برقَّتِها وذكائها وروعةِ مهنتِها وشغفِها في أن نعيش الحياةَ بالطولِ والعرض، بِجسدِها البديعِ وجمالِها الخالص (لستُ منافقاً كي أمنعَ نفسي من الاعتراف بذلك، ومن التلويحِ به بِفخْر: لمياءُ حسناء، مذهلةُ الجمال!)، تملأ كلَّ فضاءِ من يعشقها!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق