"بلكونة" جون جينيه تكشفُ حاضر اليمن ومستقبله
حبيب عبدالرب سروري
جون جينيه أحد أكبر أسماء أدباء القرن العشرين.
"البلكونة" إحدى أهم مسرحيّاته. درسها، فيمن درسها، الفيلسوفُ المعروف آلان باديو في كتابه "بورنوجرافيا الحاضر"، وقبلَهُ عالمُ النفس الكبير لاكان في دراسة طويلة في كتابه "تشكّلات اللاوعي".
"مثل فرويد الذي استمدّ جزءاً من نظريّته من مسرحيات سوفوكل الإغريقية، اشتغل لاكان على المسرحية"، كما يقول آلان باديو...
بُنيةُ ونتائج مسرحية "البلكونة" تُلخِّصُ، بشكلٍ مثيرٍ مذهل، كما سأشرح لاحقاً، واقعَ اليمن الحالي وسيرورته القادمة. أي:
الثورةُ التي "عطّفَتْ"، مؤتمرُ الحوار الوطني في فندق الموفمبيك، الشعبُ المقهور خارج الفندق، إعادةُ ترتيب موازين قوى السلطة بعد الثورة...
لِأُلخِّص مسرحيّة جينيه بِكلمتيتن أوّلاً:
ثمّة أربع قوى تتقاسم المسرحيّة، كما يلاحظ الفيلسوف آلان باديو:
١) ثورة شعبيّة تلفظُ أنفاسها الأخيرة.
٢) قائدُ الشرطة، الشخصيّة الجوهريّة في المسرحية.
٣) بيت دعارةٍ أرستقراطية: يلتقي فيه الجنرال، القاضي، أسقف الكنيسة، الملِكَة، قائدُ الشرطة، ولاحقاً واجهة الثورة الشعبية: روجيه.
بيتُ الدعارة هنا رمزٌ مجازيٌّ لِموقعٍ تُمَارَسُ فيه لُعبة مرايا وكاميرات تُثيرُ الرغبة، تصنعُ اللذّةَ والوهم. مبنيٌّ على الدعاية والتحريض التجاري. يُصلِّي فيه الأسقف "أمام الله وعدسة الكاميرا".
تقودُ بيت الدعارة الشخصيّةُ الجوهريّة الثانيّة في المسرحية، إرما.
٤) "السلطة العارية" التي تُحرِّكُ كلَّ شيء في الخفاء ولا تبدو في السطح.
إشكاليةُ المسرحية هي العلاقة العميقة والمعقّدة بين السلطة، الديمقراطية، الصور الإعلامية وصناعة الوهم في واقعٍ مُنكسر، بلا بوصلة، خرج للتوّ من انتفاضةٍ ثورية!...
خلاصةُ المسرحيّة: ما إن تقع الثورةُ الشعبية في فخِّ لُعبةِ بيت الدعارة إلا "وتكتبُ نهايتَها، تصلبُ نفسَها"، "تسيرُ نحو مقبرةِ الحلم"، كما يقول آلان باديو.
قائدُ عمليّة صلبِ الثورة في المسرحيّة هو قائدُ الشرطة، جورج.
هو وإرما، رئيسة بيت الدعارة، يمثّلان واجهة "السلطة العارية".
ينتصران في نهاية المطاف.
البعدُ الهام، الرائعُ المبدعُ الفريد، في المسرحيّة هو:
رغم أن قائد الشرطة هو من يمتلك زمام النصر إلا أن صورته الشعبية لا تثيرُ إعجاب أحد، بعكس بقيّة رموزِ بيتِ الدعارة!
يُقرِّرُ قائد الشرطة حينها أن يُخرِج هيئتَهُ الجديدة على شكلِ قضيبِ ذَكرٍ هائل، يستحوذُ الجميع!
هنا تبدأ اللعبة الكبرى:
في حوارٍ له مع بعضِ رموزِ بيت الدعارة يقول قائد الشرطة:
ــ بعد كلّ هذا، أريد الآن أن أخوض معركة الأفكار الجريئة. ثمّة من نصحني أن أبدو على شكلِ قضيبِ ذَكَرٍ هائل!
الملكة: جورج!... كيف تتجرأُ قولَ ذلك؟...
قائدُ الشرطة: عليَّ أن أعمل ذلك إذا أردتُ أن أكون رمزَ الأمة، رمزَ جبرّوتكِ!...
يخاطب أحدُ رموزِ بيت الدعارة الملِكةَ حينها:
ــ أتركيه سيّدتي. هذه لغة الزمن المعاصر!...
أختتمُ هذا العرض السريع لمسرحية جينيه بهذا الحوار شديد التعبيرية، حول النفوذ والسلطة:
يخاطبُ قائدُ الشرطة القاضي:
ــ فوقك، أعظم منك، ثمّة الملكة. منها تستمدُّ سلطتَك وحقوقَك حاليّاً. أعلى من الملِكة، مرجعُها: العلَم الوطني الذي وضعتُ عليه صورةَ شهيدة الثورة: شانتال، قدّيستنا!
الأسقف: أعلى من ملِكتِنا (التي نُقدِّسها)، وأعلى من العلَم، هناك الله الذي يتحدّثُ بصوتي!...
قائد الشرطة: ومن أعلى من الله؟... إنه أنتم أيّها السادة لأنه بدونكم لا وجود له. وأعلى منكم: أنا الذي بدوني...
القاضي: والشعب؟ ورجال الإعلام؟...
قائد الشرطة (ساخراً):
ــ لِنركع أمام الشعب، الذي يركع أمام الله!... ذلك يعني:... (ينفجر الجميع ضحكاً!)
*****
لن يجد القارئ صعوبةً في ملاحظة أن التطابق بين واقع اليمن اليوم والمسرحية يفقعُ النظر:
على سبيل المثال: كَثَمنٍ للانتفاضة الثورية لم يعد، في نهاية المسرحية، للملِكة وجودٌ ذو أهميّة، شأن ما حصل لِعلي عبدالله صالح وذويه.
تأخذ إرما موقعها رويداً رويداً...
مثل اليمن، صارت السلطةُ الحقيقية بيد قائدِ الشرطة ورئيسةِ بيت الدعارة، أهمِّ القوى الحيّة التي لعبت دوراً رئيساً قبل الثورة، بالتحالف مع الملكة.
السؤالُ المفصلي الكبير الذي انفتح بعد انتهاء الثورة هو:
كيف يُخرِجُ قائدُ الشرطة نفسَه الآن بِهيئةٍ جديدةٍ قويّةٍ جذّابة تناسب المرحلة القادمة؟
أي: كيف تظهرُ صورتُهُ الجديدة بِ" لغة الزمن المعاصر"، كما يقول الحوار أعلاه؟...
لعلّ "مؤتمر الحوار الوطني" الذي ينعقدُ اليوم في اليمن، يحضره حوالي ستمائة عضو، وسط لُعبةٍ إعلاميّةٍ ذات سيناريو دعائيٍّ رهيب، هو هذا الإطار الجديدُ الذي يُخرِجُ فيه قائدُ الشرطة نفسَه بـ"لغة الزمن المعاصر".
رسمَت "السلطةُ العارية" في اليمن تفاصيلَ هذا الحوار الوطني بِشكلٍ يتجاوزُ كل التوقّعات.
يُهِمُّها أوّلاً أن يستمرَّ مؤتمرُ الحوار الوطني فترةً طويلةً خياليّة: ستة أشهر، بأيّ ثمن. وأن يمتلئ بالآليات الطويلة المتداخلة المعقّدة: اجتماعات فنية، نظام داخلي، نقاشات لوائح تنفيذية وتفاصيل لا حدَّ لها، ضجيجٌ وشدٌّ وجذب ومظاهر إعلامية استعراضية لا نهاية لها!...
يُهمُّها أن يفقد الواقعُ والناسُ كل أملٍ أثناءه، أن يتركّز نظرُهم حوله لا غير ك" حلٍّ أوحد"، أن لا يثيرَهم أيّ إعجابٍ إلا بِشكلِهِ المبالغِ به، (الموازي لِقضيب الذّكر المبالغِ بِتضخيمهِ في المسرحية)، أن يستحوِذَ رغباتهم ونزواتهم، أن يتمنّونه ويحلمون به، ويندمون إذا لم يشاركوا به، وكأنّه قد "فاتهم القطار" إذا لم يكونوا ضمن أعضاء ذلك المؤتمر...
ليس غريباً إذن، كما يبدو من مسرحية جون جينيه، أن يكون قائد الشرطة حريصاً بشكلٍ لا حدَّ له على أن يكون الإخراجُ الجديد لموقعهِ في السلطة بعد الثورة مركزَ استقطابِ اليمنيّين ورغباتهم وآمالهم.
لا حلّ لِلمستقبلِ الشرعيّ الجذّاب لِقائد الشرطة إلا في هذا المؤتمر المبالغ بِطولِه، بضجيجه، بقيمتِه، بأهميّتِه، بِالدعاية الإعلاميّة له، وبخلطِهِ الكيمائيّ للضحيّة والجلّاد معاً، للمجرمِ والبريئ معاً... في أوبرا يُجيد قائد الشرطة عزفها كما يشتهي.
لِضمانِ ذلك، لِضمان نجاح المؤتمر وحضورِ أعضائه كلَّ الجلسات خلال ستة أشهر، لم تبخل "السلطة العارية" بشيء!
ثمّة، على سبيل المثال، آليّةٌ لم تُمارَس في أيِّ مؤتمرٍ في العالَم:
ضرورةُ "توقيع حضور" عضو المؤتمر يوميّاً، واستلامه مقابل ذلك مبلغاً هامّاً يثيرُ لعابَ الشعبِ المقهورِ الجائع الذي لا يفهمُ ما هي معايير دفع ذلك المبلغ، لا سيّما في وطنٍ يستلمُ فيه المواطنُ راتباً شهريّاً لا يتجاوزُ غالباً مبلغَ حضورِ نصفِ يومٍ واحد لِعضو المؤتمر!
ناهيك عن أن ما يتقاضاه الموظّفون في العالم الخارجي، اثناء حضورهم أي مؤتمر، هو صرفيات مواصلاتِهم وغذائِهم وسكنِهم أثناء المؤتمر، وليس ثمناً يوميّاً لحضور الجلسات!...
كلُّ شيءٍ مُبالغٌ به في هذا المؤتمر، بِشكلٍ مرسومٍ بِعناية، لِيكونَ موقعُهُ في الحياة اليمنيّة مثل قضيب ذَكَر قائدِ الشرطة في مسرحيّة جون جينيه.
لا أستطيعُ أن أصف كم تتفِقُ، بشكلٍ بديعٍ مذهل، تفاصيلُ مسرحية جون جينيه مع واقع اليمن اليوم!...
لعلّ نتائجَ المسرحية أيضاً تستشرفُ ما سيحصل في اليمن قريباً:
سينجحُ مؤتمرُ الحوار الوطني بالتأكيد، بعد هذا الثمن الباهض الذي تدفعه "السلطة العارية" لِنجاحه.
أي: سيتجذّرُ تحالفُ قائدِ الشرطة ورئيسةِ بيت الدعارة وستنتصرُ شرعيّتهما المطلقة في اليمن القادم!
(أي: ستنهزم الثورة وأحلامها بالإطاحة بهما وبناء يمنٍ جديدٍ على أنقاضهما!)...
خلاصة القول: ليس لنا، إذا ما أردنا التشبُّثَ بالثورة وأحلامِها، إلا النهج الذي مارستهُ كل شعوب العالم التي دخلت العصر الحديث:
النقدُ الحيّ الدائم لِلُعبة تحالف قائد الشرطة ورئيسةِ بيت الدعارة، والرفض الإيجابيُّ البنّاءُ لِكلِّ سيناريو يحافظُ على بقائهما.
لا سبيل لنا إلا بفكرٍ قويٍّ منظّمٍ شعبي، ورفضٍ عمليٍّ ثائرٍ فعّال، كما يقول آلان باديو.
ما لم سنظلُّ خدَم رئيسة بيت الدعارة وقائد الشرطة و"السلطة العارية"!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق