من الميكانيكا الكونتية إلى السيرة النبوية لابن هشام
حبيب عبدالرب سروري
(١) عندما أشتاقُ لِوجعِ الرأس...
عندما أشتاقُ لأن يوجعَني رأسي بِشدّة، أفتحُ كتاباً في الميكانيكا الكونتية!:
عِلمٌ استثنائيٌّ غامضٌ مزعج، مدهشٌ جدّاً، يُخالف كلَّ توقُعاتنا الحدسية على الدوام.
لا "يستوعبهُ" مؤسسوه وكبار المتخصصين فيه، كما يقولون أنفسهم. ومع ذلك:
عِلمٌ يُفسِّرُ الطبيعةَ والواقع أدقّ وأعمق وأدهش تفسير.
تتكئُ عليه أهمُّ مخترعات القرن العشرين وانجازاته العلمية، من جهاز الغسيل إلى الأسلحة الذريّة مروراً بالكمبيوتر وأجهزة الليزر والتلفون الجوّال.
وعندما يوجعني رأسي (لِنَقُل: عندما أشعر بالدوخة اللذيذة، وبنوعٍ من "التلخيج" والانسطال والسقوط في الهاوية) أتذكّر:
"وداوني بالتي كانت هي الداء!".
أي: أشعر بالحاجة لوجعِ رأسٍ يَطمُّ وجع الرأسِ الكونتيّ.
وجع رأسٍ حقيقي جبّار، يبتلع الأخضر واليابس!...
أتجّه عندها مباشرة لكتاب "سيرة ابن هشام"!:
http://www.al-eman.com/الكتب/سيرة%20ابن%20هشام%20المسمى%20بـ%20«السيرة%20النبوية»%20**/i109&d1408&p1
خمس دقائق من هذا الكتاب يوميّاً تنسيني كل تعقيدات الميكانيكا الكونتية، وتمنحني وجع الرأس الحميد الناجع الذي أبحث عنه.
تكفيني مثلاً هذه الفقرة السيريالية العجيبة، اللذيذة جدّاً، لأنسى الميكانيكا الكونتية، لأنسى كل شيء، ولأبحث عن قراءة رواية صغيرة تافهة جدّاً، بدون فوتونات، بدون كونتات، بدون علقات سوداء في القلب، بدون رَجُلين بثياب بيض وطست من ذهب مملؤة ثلجاً:
((
((
قال ابن إسحاق : وحدثني ثور بن يزيد ، عن بعض أهل العلم ، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي :
أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك ؟ قال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا ، ثم أخذاني فشقا بطني ، واستخرجا قلبي فشقاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ، ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، فقال : دعه عنك ، فوالله لو وزنه بأمته لوزنها .
))
(٢) الله لا يُحِبّ اللعب بالزهر! ـ البرت اينشتاين ـ
الدخول في تفاصيل عِلم الميكانيكا الكونتية يوجع الرأس فعلاً.
لكن قراءة تاريخ الميكانيكا الكونتية كَرِوايةٍ أدبيّة (أقصد: سيرة حيوات علمائه، الرسمية أو الحميمية جدّاً؛ فرضياتهم الخاطئة أو الصحيحة؛ جدلهم وصراعاتهم؛ تقدّم اكتشافاتهم ونتائجهم المتوالية المذهلة...) هي في نظري أعجب وأروع روايات القرن العشرين!...
تبدأ رواية نشوء وتطوّر الميكانيكا الكونتية في مطلع القرن العشرين، في فجرِهِ تماماً، عند اكتشاف ماكس بلانك للمعادلة التي تُهيكل مستويات الإشعاعات المنبعثة من جسم أسود.
لن أتعب أحداً بالتفاصيل هنا، لا يهم ذلك!...
كان ذلك في عام ١٩٠٠. تفجّرتِ الثورةُ الكونتية يومذاك...
ثمّ دخل على الخط أيقونةُ القرن العشرين: البرت اينشتاين، معيداً صياغة معادلة بلانك، ومؤسّساً للرؤية العلميّة الجديدة لماهية وطبيعة الضوء:
أعاد كتابة تلك المعادلة جذريّاً، ومن منطلقاتٍ أخرى، بعد أن أدخل عليها مفهوم: كوانتم الضوء...
لعل أحد أروع فصول هذ الرواية الخالدة (رواية سيرة الميكانيكا الكونتية) هو مؤتمر بروكسل بين ٢٤ و ٢٧ أكتوبر ١٩٢٧ وصراعاته الشهيرة.
٢٩ مشتركاً بينهم ١٧ ممن حازوا على جائزة نوبل في الفيزياء.
في الصفّ الأول ثمانية رجال وامرأة، في وسطهم البرت اينشتاين.
ستة منهم حازوا على جائزة نوبل في الفيزياء.
المرأة، على يمين البرت اينشتاين، ماري كوري، حازت عليها مرّتين، في الفيزياء مرّة، وفي الكيمياء مرّة أخرى.
على يمينها: ماكس بلانك...
على يمينها: ماكس بلانك...
في طرف الصف الثاني: الدنماركي الشهير نايل بوهر يُخفي بصعوبة نصفَ ابتسامة ماكرة.
سيقول الكثيرون إنه، في الأخير، أهمُّ علماء القرن العشرين، وليس اينشتاين.
لا يهم ذلك، في كلِّ الأحوال!...
هو، بوهر، المنتصر الأول في هذا المؤتمر!
نحو أطروحاته وآرائه تتجّهُ الأغلبية، بما فيهم أقرب وأعز زملاء وأصدقاء اينشتاين: بول اهرينفيست، في الصف الثالث، الذي سيعترف بذلك بعد قليل...
(لم يتوقّف عن قضم أظافره، ونزع قبعته ليحكَّ شعره وهو منحنٍ إلى الخلف ينظر لسقف القاعة!)...
الأكثر ارتباكاً والأقل ثقةً بنفسه، "الخاسر" ربّما: العبقري النادر اينشتاين، الذي سيلفظ لاحقاً عبارته التاريخية الشهيرة:
"العجوز لا يحبّ اللعب بالزهر!"...
(استدراك: يحضر جميع هؤلاء العباقرة، كلّ عصر، لقاءات "مقهى الكوكبة" الشهير، الموجود في السماء ٧٧، والذي تحدّثتُ عنه في رواية "تقرير الهدهد"!
أحدُ نجوم المقهى: أروين شرودنجرح، الذي روى بعض أسراره الحميمية جدّاً في الصفحة الأولى من "تقرير الهدهد"، كان يومذاك في الصف الأول من قاعة مؤتمر بروكسل!).
(٣) خمس دقائق مع الصفحة ١٥ من سيرة ابن هشام:
مقاطع من سيرة ابن هشام، اخترتها مما قرأتهُ قبل قليل خلال الخمس دقائق اليومية التي أعيد خلالها عبور السيرة (ص ١٥ من الرابط أعلاه):
((
قال ابن إسحاق : وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير : أنه حُدث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي ابن عم ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم ؛ قالت : فإذا جاءك فأخبرني به .
قال ابن إسحاق : وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير : أنه حُدث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي ابن عم ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم ؛ قالت : فإذا جاءك فأخبرني به .
فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة : يا خديجة ، هذا جبريل قد جاءني ؛ قالت : قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى ؛ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها ؛ قالت : هل تراه ؟ قال : نعم ؛ قالت : فتحولْ فاجلس على فخذي اليمنى ؛ قال : فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى ؛ فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم . قالت : فتحول فاجلس في حجري ؛ قالت : فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها ؛ قالت : هل تراه ؟ قال : نعم ؛ قال : فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ، ثم قالت له : هل تراه ؟ قال : لا ؛ قالت : يا ابن عم ، اُُثبت وأبشر ، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان .
((
=====
))
=====
))
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي ، وكان واعية ، عن بعض أهل العلم :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته ، وابتدأه بالنبوة ، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها ، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله .
قال : فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه ، فلا يرى إلا الشجر والحجارة .
((
(٤) بماذا كانت اليمن مشغولة في ٤ يوليو ٢٠١٢؟
تنتهي رواية "سيرة الميكانيكا الكونتية" في ٤ يوليو ٢٠١٢، يوم اكتشاف: بوزون هيغز!...
يعتبر معظم الفيزيائين هذا الاكتشاف أهم أحداث عام ٢٠١٢، إن لم يكن أهم أحداث العِلم قاطبة...
بهِ انتهى، في الحقيقة، الجزءُ الأول فقط من هذه الرواية الخالدة، ليبدأَ الجزءُ الثاني: فيزياءٌ جديدة انفتحت جرّاء هذا الاكتشاف الرهيب...
يلزم القول إن "النموذج الأساسي" للذرّة (الذي كان الشغل الشاغل لكلِّ العلماء الذين كتبوا الجزءَ الأول من تلك الرواية الخالدة، طوال أكثر من قرن) ينصُّ على تكوينها من ١٢ جسيماً.
أي أن كلّ هذا الكون مكتوبٌ من أبجديّةٍ تتكوّن من ١٢ حرفاً، لا غير!...
السؤال المركزيّ الذي شغل العلماء طوال أكثر من نصف قرن: من أين جاءت كتلة المادة؟ أي: كيف اكتسبت هذه الجسيمات كتلَها؟
لأن معادلات "النموذج الأساسي" تنصُّ على أن كتلة كل جسيم تساوي صفراً، وكل جسيمات الكون، بعد تشكُّلِها إثر "البيج بونج" (الإنفجار الكوني الكبير، الذي حدث قبل قبل ١٣,٧ مليار عامٍ)، لم يكن لها كُتل!...
ظلّ ذلك السؤال الجوهريّ جدّاً يؤرِّقُ العلماء عدّة عقود.
للإجابة عليه قدّم ثلاثة علماء (بينهم الإنجليزي: هيغز)، في ١٩٦٤، فرضيّةً شهيرة، في مقالٍ تاريخيٍّ من ورقتين، تقترح أن الكتلة ليست خاصيّةً جوهريّةً مكنونة في المادة، أي في الجسيمات الإثني عشر، لكنها تنتجُ من تفاعلها مع الحقلِ المحيطِ بجسيم (أو بوزون) اسمه: بوزون هيغز!...
لعلّ أجمل استعارة لاستيعاب ذلك هي: أحذية المتزحلق على الجليد!...
ثمّة، في الواقع، أنواعٌ مختلفة من هذه الأحذية تجعل مقاومة الجليد لحركة المتزحلق أكثر أو أقل صلابة.
كذلك حال مفهوم الكتلة:
تُشبِهُ الكتلةُ تلك المقاومة: تنتجُ الكتلةُ من تفاعل كل جسيم (حذاء المتزحلق) مع حقل بوزون هيغز (الجليد)، وتختلفُ من جسيم لآخر اختلافَ تلك الأحذية!...
كلُّ ذلك جميلٌ جدّاً، لكن العِلم لا يكتفي بالفرضيات الأنيقة.
لزم نصفُ قرنٍ من البحث العمليّ، وأربعين مليار دولار، وآلاف الباحثين لملاحقة ذلك البوزون والقبض عليه!...
لزمت كاتدرائيات تحت أرضية من المعامل الضخمة (محيط أنابيبها ٢٧ كيلومتر!) في مختبر ال"سيرن" الأوربي (على الحدود السويسرية الفرنسية)، ترتبط بمختبرات في إيطاليا...
لزم ٦٠٠ مليون مليار تصادم جسيمات في تلك المعامل ليتم "إعتقال ٤٠٠ بوزون"، يعتقد العلماء (باحتمال ٩٩,٩٩٩٩ أنها بوزون هيغز!).
الجواب النهائي القاطع، الذي لا يشك فيه أحد مسبقاً، سيكون في ربيع ٢٠١٣.
في ٤ يوليو ٢٠١٢، كنت في طريقي إلى جنوب صقلية لمؤتمر علمي.
كل صحف العالم وافتتاحياتها تركّزت حول ذلك الخبر الذي أرتجّ له العالم رجّا!...
حاولتُ حينها أن "أتخاوص" (أتلصّص من نافذةٍ خبيّة)، وأنا أتنقّل بين شرق وجنوب صقلية، على ما تقوله صحف اليمن عن ذلك الخبر: لا شيء...
بماذا كانت اليمن مشغولة في ٤ يوليو ٢٠١٢؟
بما هي مشغولةٌ عليه اليوم: هيكلة الجيش، نسبة التمثيل في الحوار الوطني، تدمير أسلاك الكهرباء، مغادرة المخلوع أم عدم مغادرته...
بماذا كانت مشغولة "علميّاً" في ٤ يوليو ٢٠١٢؟
بخبر اكتشاف "أبو خلطة جنان"، الزنداني (صاحب اكتشاف "خلطة" علاج الإيدز بالأعشاب، ورئيس جامعة الإيمان، والأب الروحي للجيل الأول من قادة منظمة القاعدة)، لِعلاج جديد لحلِّ مشكلة الفقر في اليمن!...
====
(بقية أجزاء هذا المقال تتبع لاحقاً)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق