هذه فحوى الكلمات الأربع، عزيزي الغالي
حبيب عبدالرب سروري
أودّ أن أعبر عن إعجابي أوّلاً بتعليقات الأستاذ العزيز أحمد عمر بن فريد على مقالٍ سابق لي في القدس العربي في مايو ٢٠٠٩، وعلى مقالي الأخير (الانفصال الحميد، والانفصال البليد) في "عدن الغد"، لأنها جميعا تعليقاتٌ مهذّبة، مدنيّة، لا تنحرف عن ذلك قليلاً إلا عندما يُخطئ في استيعاب مدلول هذه العبارة أو تلك...
سأبدأ بالتذكير ب "الكلمات الأربع" التي استخدمتها في مقالي: "انتماء ثقافيّ، وليس عرقيّاً!" والتي أثارت حفيظته لِيتمحور حولها عنوان مقاله: "قضايا الشعوب لا تختزل في كلماتٍ أربع، يا عزيزي".
جاءت الكلمات الأربع في مقالي في السياق التالي:
((تذكّروا أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن الإنتماء فيه لأي مجتمعٍ مدنيّ هو: انتماءٌ ثقافي وليس عرقيّاً!
إلهي، كم يلزمني أن أكرِّر هذه الكلمات الأربع ليستوعبها البعض!))
هذه الكلمات الأربع ليست ملكي. هي ما تُلخِّص وتختزل وتُمَيّز الانتماء للمجتمع المدنيّ الحديث عن مجتمعات ما قبل الحداثة.
بإمكان رئيس جمهورية أي مجتمعٍ مدنيٍّ حديث مثلاً، أو أي مسئولٍ فيه، أن ينتمي عرقيّاً لأصولٍ لا علاقة لها بالأصول الجغرافية أو العرقية لذلك المجتمع المدنيّ، دون أن يزعج ذلك أحد.
وعدَن طفولتي التي أعشقها وأعرفها، قبل أن تُبَثَّ فيها سموم ثقافة علي عبدالله صالح وعصابته المنتصرة في عام ١٩٩٤، كانت كذلك: مدنيّة كوسمبوليتية. الانتماء لها ثقافيٌّ وليس عرقيّاً.
لن أكرر هنا طويلاً حديثنا عن التسميات الجديدة المقترحة لجنوب اليمن، لأنها في السياق الحالي من الاحتقان السياسي الذي نمرّ به، ليست مجديةً في نظري.
تحدّثتُ سابقاً عن التسمية القاصرة: "دولة الجنوب" التي لو ترجمت إلى "State of the South"، أو "Etat du Sud" فلن يفهمها أحد في العالم، بأية لغةٍ كانت، لأن كلمة "الجنوب" في القاموس الجيوبوليتكي الذي يستخدمه كل سكّان الكرة الأرضية، كاسم علَم، تعني: الدول التي تعيش أسفل خطّ الإستواء.
سيسأل لذلك من يسمع هذا الاسم: "جنوب ماذا؟"، لاسيّما أنه ليس بمقدورنا، كما أعتقد وكما قلتُ سابقاً، تغيير موقع خطّ الاستواء في خارطة الكرة الأرضية...
"الجنوب العربي" ليست تسميّة مناسبة في رأيي: من يستطيع أن ينكر أن تهامة، نجران، مأرب، عمان... ليست في الجنوب العربي، كما يستخدم مدلولَه كلُّ الباحثين والكتاب والمؤرخين في كلّ أنحاء العالم، منذ قرون القرون؟
أعشق شخصيّاً حضرموت بشكلٍ لا حدّ له كما يعرف كل من يعرفني، لكني لا أعتقد مناسباً إطلاق اسمها (أو اسم أي منطقة أخرى في الجنوب) على كل "اليمن الديمقراطي"، كردّ فعلٍ على كونِ اسم "اليمن" قد تحوّل كابوساً في أذهان الكثيرين، لاسيّما بسبب عبارة الشيخ الأحمر القرصانيّة: "عودة الفرع إلى الأصل"، أي الجنوب إلى الشمال، التي تلخّص التراجيدية التي يعيشها الجنوب اليوم، والزخم العارم لحراكه السلمي!...
سأعود لجوهر الكلمات الأربع لأشرح لماذا هي جوهريّة جدّاً لاسيما في واقعنا اليوم، ولماذا يلزم التذكير بها أكثر من أي وقتٍ مضى!
يلزم أن لا ننسى أن ثقافة التصنيف العرقيّ والإقصاء أقدم من ثقافة المدنيّة والحب.
مداميك ثقافة التصنيف والتكتّل العرقي راسيةٌ عميقةٌ في أغوار دماغ الإنسان. تأثيرها عليه فتّاكٌ، سريعٌ، جذريٌّ، لا رجعة فيه...
الدماغُ البشري سريع الوقوع في مطبّاتها، بسبب التاريخ الاجتماعي للإنسان، منذ أن بدأ يصارع من أجل البقاء في تجمعاتٍ أسريّة وعشائرية صغيرة ضد الآخر (أي منذ بضعة ملايين السنين).
أما ثقافة المجتمع المدنيّ فهي حديثةٌ جدّاً: لم يتم إلغاء العبوديّة من الكرة الأرضية إلا في القرن التاسع عشر فقط (وإن ما زالت تُمارَسُ في بعض المجتمعات العربيّة بشكلٍ خفيّ)، ولم يتم إعلان مبادئ "حقوق الإنسان"، وتساوي البشر باختلاف معتقداتهم وألوانهم وبلدانهم إلا مؤخّراً جدّاً...
ما إن يتم الترويج لثقافة التصنيف والانتماء العرقيّ حتّى تستيقظ كل شياطين "الهويات القاتلة" النائمة في ثقافة الإنسان منذ ملايين السنين، والتي يحاول المجتمع المدنيّ بصعوبة كبحَ جماحها: يمنعُ القانون المدنيّ استخدام أي تمييز عنصري أو تحقير عرقي، ويدين مرتكبه بالسجن.
ثمّة ثابتٌ في تاريخ البشرية: ما إن تبدأ ثقافة التصنيف والانتماء العرقيّ والمناطقيّ بالازدهار، ويزداد الحديث عن الهويات، حتّى يبدأ ثالوث الكوابيس المدمّرة: الاعتداءات والحروب والتشرذم (الذي أخشى أن يدمّر مستقبلنا القريب في جنوب وشمال اليمن معاً).
كلّ الخرائب البشرية تبدأ عندما يستيقظ الحديث المتأزم عن الهويات!...
الحديث المضطرب عنها اليوم، لاسيما في الجنوب، مُدوٍّ وينذر بخطر جسيم. ضجيجُها المرعوش يملأ الساحة. لم نعد نسمع غير ذلك تقريباً.
من كان يُصدّق أن عدَن الكوسموبوليتية، التي عاش فيها الجميع بمختلف تنوّعهم وألوانهم وأصولهم، سينتهي بها المطاف بالدخول بدوّامة أحاديث ونقاشات ومقالات التصنيف العرقي الذي زرعت بذرتَهُ السامّة عصابةُ علي عبدالله صالح، غداة انتصارها في حرب ١٩٩٤؟
من كان يصدّق أن مدينة زكي بركات (الذي سخر كثيراً من ثقافة الطوائف بكلِّ أنواعها، وردّد يوماً: "يا جماعة، ممكن تقولوا لي: ما هي طائفتي؟")، ثريا منقوش، عمر الجاوي، القرشي عبدالرحيم سلّام، أبوبكر السقّاف، لطفي جعفر أمان، عبدالله باذيب، عبدالله فاضل فارع، هشام باشراحيل، خولة شرف، نجيب يابلي... ستصير اليوم مرتع أسئلة ونقاشات عرقيّة عنصريّة، لا تنتمي لثقافة القرن الواحد والعشرين؟
من كان يصدّق أننا سنصل إلى يومٍ يمرُّ فيه الجميع بهدوء أمام كل الأراضي التي نهبتها عائلة الأحمر وبقية عصابة علي عبدالله صالح الكبرى، في جولد مور وكريتر، ويشاهدون فيلات العسكر المنتصرين في حرب ٩٤ تُرفرف فوق مشارف المعلا والتواهي، وكأنَّ ذلك جزءٌ من خارطة عدن، فيما يُقضّون وقتهم باستخدام الميكروسكوب لفحص الأصول المناطقيّة أو العرقيّة لزملاء عملهم أو جيرانهم، لتحديد نسبة جنوبيّتهم، أو نسبة عدنيّتهم ذات الأصول الريفية، أو جنوبيتهم ذات الأصول الشمالية؟...
من كان يصدَّقُ أننا سنصل ليومٍ نقرأ فيه هنا وهناك تعليقات حول نغمات اسماء الناس وانحداراتها الجغرافية، أو مقالات وتعليقات عنصرية أو ظلامية منذرة بالشر عن الهويّات والأصول والأعراق، وذلك بنفس اللغة والعقلية التي يستخدمها اليمين المتطرف العنصري، شديد البشاعة، في الغرب؟...
تلك فحوى الكلمات الأربع ليس إلا، عزيزي الغالي أحمد عمر بن فريد!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق