وادي الجن والشياطين!
حبيب سروري
يكاد يكون البيان (أي: ملَكة التعبير وفنّ القول) "الألفا والأوميجا"، في التراث العربي. ولعلّ آية "خلقَ الإنسانَ، علّمَهُ البيان" تُجلي أهميّتَه المركزية في الثقافة الإسلامية التي ترفعه هكذا إلى مصاف الخلق البيولوجي!
للفصاحة وحسن السرد في ذهن أجدادنا نفسُ المقام الملَكي لِلعِلمِ في حضارة اليوم. في منظورهم: لأكاديميةِ كبار نجوم البيان: إمرؤ القيس، المتنبي، أبو نوّاس، الجاحظ... مرتبةُ كوكبة كبار علماء اليوم: آينشتاين، داروين، نيوتن، جاليلو...
لذلك، لا يختلف مرور مرشّحٍ لامتحان القبول أمام تلك الأكاديمية عن مرور المسابقات النوبلية اليوم، بكلِّ صعوباتها الاصطفائية وشروطها النخبوية...
في كتابه: "رسالة التوابع والزوابع" (التي ترجمت للفرنسية مؤخراً)، يغامر ابن شُهيد الأندلسي لعبور امتحانات الأكاديمية!
لا يمكن استيعاب يوميات مغامرتهِ، قبل الإجابة على هذا السؤال: كيف يتفجّر البيانُ في ملكات الأديب، من منظور تراثنا؟
إجابة التراث غامضة: الخلق والفطرة. يرافقها في ميثولوجيانا العربية تفسيرٌ إضافي:
ثمّة جنيٌّ (من قبيلة بني الشيصبان!) يتبعُ كل أديب كظلِّه، يمدّه بالكلمات والأفكار والصيغ التعبيرية!...
ألم يقل شاعرٌ عربيٌّ عن تابعهِ:
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان فطوراً أقولُ وطوراً هوَ
من الطبيعيّ، إثرُ هذا الاعتقادِ أن يتصوّرَ دماغٌ عربيٌّ ويؤثثَ عالَمَ هؤلاء الجن الذين يمدّون للأديب يد الإلهام، مثلما تصوّر الإنسان الأوّلُ حياةَ الأرواح (التي اعتبرها نفخات تغادر الجسد بعد الموت) وأثَّثَ عالَمهَا الآخر بمختلف أصناف الجنّات والجحيم.
ابن شُهيد الأندلسي شاعرٌ موهوبٌ من أسرة قرطبية نبيلة. في "رسالة التوابع والزوابع" يسرد يوميّاته وهو يعبر وادي جنّ تابعي الأدباء، برفقة تابعهِ: زهير بن نمير الذي تجلّى "على فرسٍ أدهم متكيءٍ بِرمح" ذات يومٍ للشاعر وهو مرتبكٌ "استغلق عليه البيان"، لا يستطيع مواصلة قصيدته. فأنقذهُ زهير بالبيت الشعري الذي سمح له بالاسترسال!
يرتبطان بعدها بعلاقةٍ وديّة رقيقةٍ رقّةَ ابن شُهيد. ثمّ يعطيه زهير "كلمة السر" التي تسمح باستحضاره في أيّة لحظة (والتي لا علاقة لها بصيغة "افتح الباب يا سمسم" الجرداء):
ثلاثة أبيات شعرية كلّها عشقٌ ورقّة، يقول فيها إنه "إذا ذكرَتُهُ الذاكرات أتاها". يُحدِّدُ: ذاكراتُ من "يهوى الهوى" بالطبع، كابن شُهيد الذي بمجرد تمتمةِ هذه الأبيات، يخيّل لزهير أنه "يُقبِّلُ فاها"!...
يبدأ ابن شُهيد رحلته مع زهير بأقاليم توابع الشعراء من الجن، ثمّ أدباء النثر. يسأله زهير من يريد أن يرى كل مرّة. ما إن يجيب الشاعر حتّى يقوده زهير في أفياء الوادي الساحر نحو ديار وقصور تابعِ من يصبو لرؤيته، أو إلى حارات يجتمع فيها ويثرثر مع صحبٍ لهُ من توابع أدباء العرب.
يستهل عبور إقليم الشعراء بتوابع فحول الجاهلية: الجنّي عتيبة بن نوفل (تابع إمرئ القيس). ثمّ الشيطان (الزوبعة) عنتر بن العجلان (تابع طرفة بن العبد). يسرد ابن شهيد جغرافية رحلته مع تابِعهِ نحو ديار العجلان الذي يناديه زهيرُ: "حلّ بك زهير وصاحبه. فبخولة، وما قطعتَ معها من ليلة، أما عرضتَ وجهكَ لنا؟... فبدا لنا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشّج السيف، فقال مرحباً بكما!"...
يسترسل الشاعر رحلته مع المجدّدين كأبي تمام والبحتري. يطلبون جميعهم منه سرد أبيات في هذا المجال أو ذاك، يناقشونه في جمالية نصِّه ومحتواه، قبل أن يجيزونه بشهادة قبوله كشاعر فذ!...
جميلةٌ بشكل خاص رحلتهُ نحو "منازل أبي نواس في دير حنّة"، ومسرح الرحلة والاستقبال قبل لقاء جلالة تابعِ أبي نوّاس: الجنّي حسين الدِّنان "وبيده طَرجهارة، وحواليه صبية تعطو إلى عرارة".
لم يكن الدنّان "صاحياً" جدّاً، كما يبدو. يقول زهير لابن شُهيد: "اقرع أذنَ نشوتهُ بإحدى خمريّاتك!"...
يستيقظ الدنّان، ويُسمِعُ أبا شهيد قليلاً من أبيات أبي نواس "تخرجني من جلدِي طرباً"، يقول الشاعر. ثمّ يبدأ الامتحان الصعب.
لم يجز تابعُ أبي نواس الشاعرَ، قائلاً: "لله أنت!" إلا بعد أن ينشدهُ الأخيرُ أبياتٍ في وصف من "شربتْ أعطافهُا خمر الصِّبا، وسقاها الحسنُ حتّى عربدا"، تنتهي ب:
أحّحتْ من عضّتي في نهدها، ثمّ عضّتْ حرّ وجهي عمدا
فأنا المجروحُ من عضَّتِها لا شفاني الله منها أبدا!
يواصل الدنّان الامتحانَ مع ذلك، طالباً من تلميذه أن ينشده بعضاً من رثائه، وجحدريّتَهُ في السجن، وقطعةً من شعر المجون... "ثمّ استدناني، فدنوت منه، فقبَّل بين عينيّ وقال: أنت مجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل"...
يختتم زيارة أقليم الشعراء بطلب زيارة "خاتمة القوم": تابعِ المتنبي. يقول زهير لمتبوعه: "اشددْ له حيازيمك، وعطِّرْ له نسمك، وانثرْ عليه نجومك!"...
لم يكن تابع المتنبي سهلاً بالطبع. يطلب من تلميذه غالباً: "انشدني أشدّ من هذا"!
شهادته (التي وجّهها عبر زهير) لم تكن صريحة: "إن امتدّ به طلق العمر، فلا بدّ أن ينفث بِدرر". ثم لجأ ابن شُهيد لِنكتةٍ لغويةٍ فنيّة جعلت ممتحنهُ يقول: "إذهب فقد أجزتك بهذه النكتة!"...
ثمّ ينتقل الشاعرُ الذي قرّر خوض امتحانات الأكاديمية إلى إقليم أدباء النثر. يقابل توابعهم الذين كانوا مستغرقين في اجتماع. قابل توابع الجاحظ وعبدالحميد والإفليلي وبديع الزمان غيرهم. قدم لهم نصوصاً تبرهن على براعة أسلوبه وموهبته في السرد والوصف والتعبير، وناقشهم بحججه الأدبية، ونال إجازتهم الأكاديمية أيضاً...
ينتقل الشاعر بعد ذلك في فصلين مدهشين من سردهِ إلى إقليم نقّاد الجنّ، ثمّ إقليم حيوانات الجنّ...
لا تُذكَرُ رسالةُ ابن شهيد غالباً دون الحديث عن "رسالة الغفران" (لا سيّما جزئها الروائي: "رواية الغفران") التي كُتِبت في نفس الفترة.
في روايتهِ هذه، يتصوّرُ أبو العلاء أن راويهِ الشهير ابن القارح قد مات ودخل الجنة. يستهلّ روايته بسرد يوميّات «نعيم» ابن القارح و«لياليه الساهرة» فيها، قبل أن يعود إلى الخلف لِيُفصِّل تجربة ابن القارح المضنية في عبور موقف الحشر، ثمّ دخوله الجنة بالوساطات...
يستأنف أبو العلاء من جديد سرد يوميّات ابن القارح في الجنّة وحواراته مع عدد من شعراء الجاهلية والإسلام، وأهل الأدب. تليها رحلة إلى جهنم لمقابلة وحوار عددٍ آخر منهم. وللقاء أبي مرّة: الشيطان، أيضاً...
ثمّ يعود ابن القارح من جديد إلى الجنة، يلتقي بآدم ويحاوره، يزور أحياء غريبةً فيها... خلال كلّ النصوص الشذراتية لحوارات وتنقّلات ابن القارح في أفياء الآخرة، يصف أبو العلاء جغرافية الجنّة والجحيم وعوالمهما، جنّات الجنّ والحيوانات، جنّات شعراء الرجز...
جليٌّ أن إشكاليات رواية الغفران ومواضيع فيلسوفها العظيم شاسعةٌ جدّاً بالمقارنة برسالة التلميذ النبيه ابن شُهيد. لا يستعرض المعري فيها مقدراته الأدبية النقدية والتخييلية العبقرية الاستثنائية فقط، لكنه يسردُ فيها روائيّاً كثيراً من تأملاته الفلسفية الزاخرة، يبسطها ويغلغلها في كل أرجاء حقول الميثولوجية الإسلامية...
لا يمكن في الأخير الحديث عن رسالة ابن شهيد دون الحديث عن ترجمة فيليب فيجرو لها إلى الفرنسية مؤخراً في دار "آكت سود"، في كتابٍ زاخرٍ بالشروحات المتعدّدة والهوامش الضرورية التي يفتقر لها النصّ العربي، وبلغةٍ فرنسيّةٍ تحاكي إيقاعَ النص وسجعَهُ بمقدرةٍ فذّة.
النتيجة: للتنقّل الزجزاجي بين النص العربي والفرنسي لذّةٌ خاصّة، وعلاقةٌ لا تقلّ حميميتها عن علاقة أدباء ابن شُهيد بندمائهم من التوابع والزوابع العجائبية المدهشة!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق